وليم سارويان :

 مسرح ترويض الحياة وجحيمها المستتر

 

 أديب كمال الدين

 

 

 

 تقدّم كتابات الكاتب الأمريكي الشهير: وليم سارويان (1908ـ 1982) في المسرح والقصة القصيرة الشيء الكثير عن هذا الشيء الغامض الذي نحياه ويسمىـ الحياة). لكنه كأيّ كاتب مبدع وشجاع وثاقب النظر يتناول الثقوب السود في لوحة الحياة، ويصف ثياب الإمبراطور ليس فقط كما صرخ الطفل في الحكاية المعروفة «الامبراطور لا يلبس شيئا أبدا»، بل يصف هذه الثياب كما كان الناس الذين أكلهم الوهم أكلا يتصورون الألوان والنقوش ولمعان الذهب في ثياب الإمبراطور.

وفي هذا امتياز خطير له فهو يصف الحقيقة عارية، عارية تماماً كما رآها الطفل، ويصف الوهم كما هو وهم يكاد يكون حقيقة كاملة كما رآها الناس.

ترجمتُ لسارويان قصتين الأولى بعنوان (ثلاث قصص). حيث تقدم القصة الأولى الإنسان الجائع المقرور الجالس في غرفته العارية الموحشة في شتاء حقيقي ينظر بعينين مليئتين بالشوق إلى مجيء الناس الممتلئين بالمال والصحة والدفء والرغبة ليستمعوا إلى موسيقى موسيقار روسي شهير جاء ليعزف في أكبر قاعات كاليفورنيا الموسيقية.

لكنه، وهو الأحق منهم كلهم بالسماع يكتفي بالحلم والامل متخيلاً سماع الموسيقى ومشاهدة أصابع العازف وهي ترقص برشاقة فوق لوحة البيانو العجيبة. هكذا عوّض بطل القصة عن افلاسه الذي منعه من الدخول بخياله الذي أنار له ما يمكن أن يحصل هناك في القاعة.

ويتناول سارويان في القصة الثانية معنى أن يستمتع الإنسان الذي هدّه الشلل بالدفء والقدرة على المشي في يوم مشمس. إنه يوم يتعرف فيه الإنسان العاجز كلياً إلى سحر الحياة.

وفي هذا العمل مثلما في قصة (عم الحلاق) يقدم سارويان شيئاً عجيباً فهو يكتب، ببساطة شديدة، ليوصل إلينا موضوعاً غاية في العمق. لقد سجل الكاتب لنفسه هنا موقفاً حقيقياً قلّ نظيره .إنه كاتب الإنسان المسحوق المعذّب الذي يحاول أن يروّض صعوبات الحياة حتى لو اضطر إلى أن يضع رأسه كلّ يوم في فم النمر ضمن عروض سيرك فرنسي جوّال، لكن مشكلة بطل قصة سارويان ـ ومشكلتنا جميعاً ـ ان النمر يمكن أن يطبق فكيه في أية لحظة لينهي وإلى الأبد هذا الشيء الذي يسمى (الحياة). وإذا كان النمر قد فعلها في (عم الحلاق) فقطع رأس بطل القصة فنزلت الدمعة من عيوننا وقلوبنا لعبثية الحياة، بل لهمجيتها التي تضطر الإنسان ليضع رأسه في فم النمر كل يوم من أجل رغيف الخبز فإنّ سارويان قد فعلها هو الآخر فصوّر بحروفه وكلماته هذه الصورة المرعبة التي لن تفارق مخيلة من يقرأ قصته العظيمة هذه أبداً.

الإنسان وغربته

 

 

  تعود هذه المعرفة الحقيقية التي يتحلّى بها هذا الكاتب عن الإنسان وغربته ومحبته في مواجهة الفقر والخيانة والتمتع والمرض واللاجدوى إلى حقيقة كونه  كاتباً صنعه الشرق والغرب معاً، وصنعته الحياة بتجاربها المريرة، مثلما صنعه الاحساس بمحنة الوجود التي حاول المفكرون والفلاسفة والشعراء والفنانون أن يجدوا لها حلاً أو على الأقل أن يخففوا من غلوائها. فوليم سارويان الذي أبصر النور عام 1908 من عائلة أرمنية مهاجرة إلى أمريكا كان قد ولد في ولاية كاليفورنيا وفيها عاش، لكن الحياة هي التي صقلت احاسيسه وهذبته وليست الجامعة وفي هذا شيء كان لصالحه فهو لم يكن، ولم يحلم يوماً ما أن يكون كاتباً نخبوياً بل على العكس من ذلك قاتل من أجل أن يكون نصه الإبداعي مرآة للإنسان البسيط المسحوق الذي تتفنن الحياة ـ برغم جمالها الخارجي الأخّاذ ـ في سحقها بأسنانها السود التي لا يعرفها إلا من تمزّق وتعذّب في خيارات الحياة بين الحق والباطل، والعري والتستر، والشهوة والتبتل، والجوع والتخمة، والأسود والأبيض. خيارات الحياة بين أن نملك كل شيء ونخسر أنفسنا أو نخسر كل شيء لنملك أنفسنا.

يقول واصفاً محنته التي هي بالتأكيد محنة جماعية: ألقي القبض عليَّ ثلاث مرات في حياتي الأولى في الميتم، والثانية في المدرسة، والثالثة في الجيش. فقضيت أربع سنوات في الميتم وسبعاً في المدرسة وثلاثاً في الجيش. وفي كلّ مرة يُلقى فيها القبض عليَّ، يبدو الزمن حينها ثقيلاً أبدياً، لكنني كنتُ مخطئاً فالحقيقة هي انني قد ألقي القبض على منذ أن ولدت، منذ أن أبصرتُ نور الحياة.

  إن هذا الصراع من أجل الحرية وكشف أسرار الحياة حقق لسارويان الأمريكي الأرمني دخولاً جريئاً في عدم الحياة السعيد وعبثها البرّاق وألوانها التي لا تكفّ عن التبدّل والنمو والسؤال. يقول: كان كل يوم جديد بمثابة مغامرة مثيرة، فاليوم في حد ذاته مغامرة بصرف النظر عن الأحزان التي تقع فيه. هذا اليوم الجديد فرصة للاقتراب من منابع الصحة الفكرية والجسدية التي تتساوى مع معاني الخلود التي يتخيلها الإنسان. في تلك اللحظة من الاتحاد مع الحياة تصل الاحاسيس إلى الذروة التي تتنفس فيها مع الكون كله سر الوجود بما يحمله من مادة ونور ونار وزمان ولا يوجد معنى آخر للحياة إلا في تلك اللحظة التي يتحدّ فيها الإنسان مع الكون. هذا الاتحاد لا يبدو فقط في الأحداث الملحمية لكن في كلّ لحظة من لحظات اليوم الذي يعيشه الإنسان العادي.

وهو حسب تعبير د. نبيل راغب في كتابه (موسوعة أدباء أمريكا) يتخذ من نفسه ميداناً لكل التجارب الفكرية والوجدانية، فطالما أن الإنسان جزء عضوي من الكون فانه من الممكن أن يدرك الكون كله من خلال نفسه، هذا لا يعني التضخم البالغ لذاته بقدر ما يعني الإدراك الحقيقي للعلاقة العضوية بين الإنسان والكون، فالإنسان ـ في نظر سارويان ـ هو ذلك الكائن الذي يعرف مكانه جيداً من العالم المحيط به، عندئذ يمكنه الانطلاق من قيود اللحظة الراهنة والخروج إلى المجال المشحون بالقوى غير المحدودة والمعجزات الباهرة. ذلك المجال الذي يفقد فيه الزمن سطوته الباهرة. ذلك المجال الذي يفقد فيه الزمن سطوته التي يفرضها على الإنسان.

بهذه الحساسية المرهفة والشمولية كتب وليم سارويان نصوصه المسرحية والقصصية، أمثال: (أهل الكهف)، (الكوميديا الإنسانية)، (قلبي في الأراضي العالية)، (زمن حياتك)، (أهلاً هيا إلى الخارج)، (اسمي آرام). ونال جائزة بوليتزر الأدبية وحقق شهرة حتى أصبح واحداً من أبرز كتاب الولايات المتحدة في القرن العشرين.

أفكار هذا الكتاب التي أشرنا إليها تجسدت مسرحياً في مسرحية (الكوميديا الإنسانية) التي كتبها عام 1943. فبطل هذه المسرحية صبي بسيط يعمل في دائرة الاتصالات. وقد عرف عن سارويان اهتمامه بالإنسان العادي وطموحاته فوق خشبة المسرح، فكان أن كتب مسرحيتين تدوران في الموضوعة ذاتها هما: (زمن حياتك)، (قلبي في الأراضي العالية).

هذا الصبي الذي يعمل في دائرة الاتصالات، بعد دوامه في المدرسة، هو صبي طيب يتيم لا يجد من يتفهّم أحاسيسه وأفكاره سوى أمه التي تتعرف بعمق إلى عذابات ابنها بين الحقيقة والوهم، الحب والمال، الحلم والواقع. المسرحية، من خلال الصبي وعمله، تكشف الكثير عن الحياة الداخلية الأمريكية وأجواء الفقراء والمهاجرين والطامحين.

وفي مسرحية (أهل الكهف) التي كتبها عام 1957 يؤكد سارويان مضمونه الإنساني، حيث الأنقياء والأبرياء يقاتلون من أجل أن يجدوا لهم مكاناً في مدينة ذات قلب فظّ وروح قاسية.

يستعرض د. نبيل راغب أجواء (أهل الكهف) قائلاً: في هذه المسرحية يتمسك بهلوان عجوز بمهنته في كبرياء، ومعه ممثلة عاطلة عن العمل وطاعنة في السن. ويأويان سوياً إلى مسرح مهجور سرعان ما تقوض أركانه فرقة من عمال الهدم. ثم ينضم إليهما في هذه المأساة ملاكم محترف سابق عجوز، يتميز بالرقة والعذوبة بقدر ما يمتلك من قوة وعنف، فقد لقبه بسبب رقته غير العادية مع متحديه. يفتح الملاكم الباب لفتاة لا بيت لها سرعان ما تظن انها وقعت في حبه، لكنها بعد بضعة ساعات تقع في حب بائع حليب يتمتع بقدر مساو من الرقة والعذوبة. فهو شاب رشيق خفيف الظل، زاده الصمم رشاقة وخفة. وتقوم امرأة عاملة وزوجها، ودبهما المدرَّب ـ الذي طالما كان جزءاً من عرضهما المسرحي ـ بغزو هذا الكهف في تلك الليلة الصاخبة التي سبقت هدم المسرح. المرأة تحمل طفلها والملاكم يسرق الحليب من اجلها بينما بائع الحليب يطارده ويقع في حب الفتاة. لا تقتصر هذه العواطف الإنسانية على هذه الشخصيات، بل تمتد أيضاً إلى شخصية رئيس فرقة عمال الهدم الذي يؤجل هدم المسرح بضعة ايام كمنحة كريمة للذين يؤويهم. لكن هذا لا ينبغي وقوع الهدم ويغادر اللاجئون الغرباء جنتهم المتهدمة البائسة حيث تنتهي مسرحية أهل الكهف التي مزج فيها سارويان العناصر الخيالية بالسريالية والرمزية لكي يجسّد فكرته عن وحدة البشرية القائمة على الحب والاتحاد والتعاطف مهما تكاثرت الضغوط المادية والمعنوية عليها.

 أما مسرحية (أهلاً هيّا إلى الخارج) التي كتبها الكاتب عام 1942 فقد نالت إعجاب النقاد البالغ واعتبروها أفضل مسرحياته فنياً لأنه تخلّى عن روح التفاؤل المبالغ فيها واستطاع من خلالها أن يبلور مضموناً إنسانياً عميقاً يتمثل في الحكم بالإعدام على إنسان لم ينل نصيبه من المحاكمة العادلة، ولم يتأكد أحد من أنه المذنب الحقيقي. هذا المضمون المأساوي استطاع سارويان أن يجسّده في مسرحية من فصل واحد فقط، ومع ذلك تمكن من أن يصل إلى أغوار انسانية عميقة قد تعجز عن الوصول إليها المآسي الكلاسيكية الصاخبة، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على الخصوبة الفنية التي يتمتع بها سارويان.

 

 

              

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

الصفحة الرئيسية