يوم في حياة
أديب كمال الدين
بدلاً من غسل الوجه والفم من رائحة كؤوس خمرة البارحة التي لا تترك سوى الصداع والغثيان كما يفعل أصدقائي الشعراء، فإني، في الفجر، أغسل وجهي لأشرب من كؤوس الخمرة الإلهية، أعني كؤوس الدعاء والابتهال للذي وسعتْ رحمته كلَّ شيء، شاكراً أفضاله عليّ: أنا الذي أوغل القدر في تعذيبي وتشريدي.
نعم، فلولاه ما كنت الذي كنته أو أكونه. لقد منَّ عليَّ بسهول المحبة حين جُبهتُ بجبال الكراهية، ومنَّ عليَّ بقدر من الهدوء حين مزّقني الدهر، وأعطاني شيئاً من الحكمة حين سَدَرَ أصدقائي في الغيّ، وعلّمني الحرف بل جعله مفتاحي الشعري - السحري حين ضيّع الآخرون مفاتيحهم وصناديقهم. وهو، قبل ذلك وبعده، قد خفف عليَّ من غلواء المنفى، بل قل المنافي "السعيدة": المنفى العراقي والأردني والأسترالي.
لكنّ صلاتي هي المحبة. ليست هي الطقس، وإن التزمتْه، بل هي لبّ الطقس. وليست هي الضيق والتضييق، بل هي الوسع والاتساع لتشمل كلّ من وجد عند الله لغةَ الإنسان مكرّماً لا مهاناً، متماسكاً لا متشظياً. وكم لامني على هذا الذين لم يدهسهم الألم، ولم تقتلعهم المعاناة، والذين اتفقوا، في سذاجة عجيبة، أن صورة الشاعر الحقيقية والوحيدة هي صورة مدمن الخمرة أو البارات، المتسوّل، رثّ الثياب والصورة والأخلاق. وهم لا يعرفون أن هذا الطقس - طقس المحبة - هو طقس غاية في الحداثة ما دام يدعو إلى تماسك الروح وتقوية عمودها الفقري في أرض اللاأرض وجدوى اللاجدوى، بدلاً من ترك الروح تستلقي على رصيف الضياع الأسود حيث الموت له هيئات وألوان وروائح ومناخ وحضور.
هذه هي البداية. والبداية مهمة جداً لليوم وساعاته، تماماً كما هي بداية القصيدة مهمة لنمو القصيدة ومعمارها وخاتمتها. ثم أبدأ بتفاصيلي الصباحية: أقرأ الرسائل الالكترونية وأردّ على مَن يستحق الإجابة السريعة مؤجّلاً الإجابة لمن يطلب مشاركة شعرية ما أو ثقافية أو يوجه أسئلة صحافية أو بحثية مفضّلاً التروّي لأجل كتابة شيء ذي شأن. ثم أقرأ الصحف اليومية العراقية والعربية على الانترنت، متابعاً من أديلايد، من جنوب أستراليا، خسارات العراق ومفخخاته البشعة وضحاياه الأبرياء. أتابع: كيف أن الطاغية الذي رحل إلى العالم الآخر فرّخ ألوفاً من الطغاة الصغار الذين لا يفهمون سوى فن التفخيخ والذبح والكذب والتدليس. الطغاة الصغار الذين يملأون الهواء صراخاً وزعيقاً عن الحق والباطل، بعضهم بلحى صغيرة، والآخر بدشاديش قصيرة، والثالث الذي يمسك القلم ليمارس فن الحقد والثأر والتزييف، والرابع الذي ينفّذ، بسرور عظيم، أجندة جيران العراق الأشرار بجيبٍ عامرٍ بالمال الوسخ وبقلبٍ يستحي الشيطان من خسّته!
ثم إذا قارب النهار الانتصاف أو كاد، وجدتني قد وصلت الى مركز المدينة (أديلايد) متجهاً إلى مكتبة الولاية (جنوب أستراليا). وهي المكتبة التي تملك من الكتب الألوف. فأجلس في مقهاها الزجاجي الجميل لأقرأ فيها ما استعرتُ من كتب شعر العالم أو أنقّح قصائدي الجديدة أو ربما يهبط عليَّ الإلهام فأكتب قصيدة جديدة. وفي هذا المقهى المجاور لمتاحف المدينة العديدة كتبتُ معظم قصائد مجموعتي الأخيرة "ما قبل الحرف... ما بعد النقطة".
إنْ لم أذهب إلى مكتبة
الولاية فسأذهب،
بالتأكيد، إلى شارع الرندلمول لأدلف في مكتبته الشهيرة "البوردرز"
التي تتيح للقارئ مطالعة الكتب والصحف والمجلات الأحدث مجاناً، رغم إنها ليست مكتبة
عامة مثل مكتبة الولاية. وفي مقهاها كذلك، أفردتُ لنفسي مكاناً خاصاً،
لأقرأ بنهمٍ
أحدث الإصدارات
الشعرية من الشعر العالمي المكتوب بالانكليزية أو المترجم إليها من
أشهر دور النشر الأميركية والانكليزية والأسترالية. الإصدارات التي تصل أسبوعياً
إلى المكتبة هذه بل تصل يومياً، لتذكّرني بشحوب مكتبات بغداد وعمّان،
حيث لا تجد،
في الغالب، من الشعر المكتوب
بالانكليزية سوى إليوت العشرينات وأودن الثلاثينات،
إضافة الى شعراء
القرن التاسع عشر!
وحين أتعبُ من القراءة، أخرج من المكتبة لأجلس بعضاً من الوقت على إحدى مصطبات شارع الرندلمول، شارع المدينة الأجمل الذي لا تدخله السيارات ولا الدراجات، لأستمع إلى الموسيقى التي يعزفها الموسيقيون الجوالون الذين جاءوا من أقاصي الأرض، أو أشاهد العرض النسائي الهائل: المئات من النساء اللواتي يتبضعن وهن يرتدين ملابسهن الفاتنة من المحال التجارية الكثيرة التي مُلئت بالملابس والساعات والمجوهرات والذهب والأدوات الموسيقية والزهور والعطور. وأشاهد، كذلك، القليل من الرجال الذين جاؤوا، غالب الأمر، كمرافقين لنسائهم ذوات الأصول الأوروبية والآسيوية والأفريقية والهندية في مهرجان التسوق اليومي البهيج في ألوانه وحقائبه وسيقانه وموسيقاه. وأُدهش: كيف يحسن الأستراليون فن الحياة فيما لا نحسن، نحن العرب، إلاّ فن الموت!
حين يهبط الليل أمارس عملي الترجمي في الشعر بخاصة
وفي المقالة أو القصة أحياناً. أمارسه بقدر معلوم حتى لا يفسد عليَّ
حياتي التي
أفسدها، من قبل، الدهرُ العراقيّ في
حروب عبثية وحصار أشد عبثاً من العبث نفسه.
كذلك، فحياتي الزاهدة جعلتني أنظر إلى
المال نظرة الارتياب، حين رأيت الجميع - إلاّ
ما رحم ربي -
ينحنون أمامه بل يركعون ويسجدون!
وفي الليل أيضاً ألتقي ابنتيّ لأساعدهما في الفروض الدراسية أو أبدي رأياً مشجعاً، في الغالب، لأحمد – ابني - حين يعرض عليّ لوحاته الجديدة.
هذه هي الخطوط العامة. لكن هناك تفاصيل أخرى أمارس من
خلالها فهم الحياة وتذوّقها. هي شديدة الخصوصية، وهي، كذلك، تغني
قصيدة الشاعر
وتمنح حروفها ونقاطها الكثير من محاولة
الاختلاف وكشف الأعماق. كان بودي أن أذكرها
لولا نفاقنا الشرقي
الفسيح!
*********************************
نُشرت في
صحيفة النهار اللبنانية -
بتأريخ 8
آيار
2007
- السنة 74 - العدد 22995
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة