جوته ـ شيللر : صداقة فذّة
أديب كمال الدين
(1)
ثمة صداقات أدبية تحولت إلى ما يشبه الأساطير، حيث نرى فيها الأثر المتبادل ما بين الأديبين الصديقين عميقاً إلى حد أنه يثمر ثماراً خالدة لا تعرف الفناء ومتميزة بحيث لا يمكن تكرارها مهما طال الزمن، ورائعة بكل ما للكلمة من معنى. من هذه الصداقات التي يفتخر بها تاريخ الأدب العالمي تلك الصداقة البهية التي جمعت ما بين كاتبي المانيا العملاقين: جوته وشيللر.
يصف العالم اللغوي الألماني: فيلهلم فون هومبولت هذه الصداقة النادرة وتأثيرها الخطير فيقول: لقد كان التأثير المتبادل بين هذين الرجلين العظيمين أكبر تأثيراً وأبعد قيمة من كل تأثير من نوعه. فقد كان كل منهما يشعر بتحفيز قريحته وتنشيطه من قبل الآخر ويلمس نمو قوته وشد عزيمته على المضي في الطريق الخاص الذي سار فيه.. كان كل منهما يرى صورته أوضح وأدق وكيف أن الهدف الواحد قد جمع بين طرقهما المختلفة ووحدها دون أن يقوم أحدهما باجتذاب الآخرإلى طريقه.
ولد كاتب المانيا الاشهر: يوهان فولفانج جوته بمدينة فرانكفورت عام 1749 وتلقى دروسه الأولى على يد والده ثم تتلمذ على يد مجموعة من الأساتذة القديرين ليدرس اللغات الالمانية والفرنسية والانجليزية والايطالية واليونانية. وفي عام (1765) دخل جامعة لايبزغ ليدرس القانون، غير أن ميوله الأدبية سرعان ما ظهرت وبدأ جوته برفد الإنسانية بنتاجه الشعري والدرامي الخلاق، وليكون، من ثم ، واحداً من أعمدة الأدب العالمي. وهو برأي عدد كبير من النقاد الالمان قد وصل بالشعر العاطفي إلى الذروة القصوى التي لم يبلغها أحد من قبل.
أما الأديب الشهير: فريدريك فون شيللر فقد ولد عام (1759) في بلدة مارباخ بألمانيا وأراد أن يدرس اللغة اللاتينية واللاهوت لكنه لم يحقق هذه الأمنية، حيث اضطر تحت ضغط الأمير كارل أويجين ورتمبرج أن يدرس العلوم الادارية والعسكرية ثم درس الطب عام (1775) وكانت حياته الجامعية قاسية حيث لم يكن هناك من متنفس سوى التردد على دور التمثيل المسرحي وحضور الحفلات التي تقام في البلاط أحياناً. في هذا الوقت كتب شيللر قصيدة (المساء) التي أعجب بها زملاؤه أيما أعجاب كما كتب عمله الدرامي الأول وعنوانه (اللصوص). وهكذا بدأ خطواته الأدبية ليرسم لنفسه ملامح أديب خطير وشاعر متألق ودرامي له ملامحه الخاصة.
(2)
كان اللقاء الاول ما بين الأديبين قد تم عام (1788) في مدينة رودولشتات. ولم يحقق هذا اللقاء نتائج مهمة ولم يقرب ما بين الأثنين. غير أن اللقاء بينهما تم مرّة ثانية بعد ست سنوات أي عام (1794). وكان لقاء (غير متوقع) على رأي جوته الذي قال حينئذ: (يبدو لي وكأننا سنكون مرغمين على متابعة طريقنا في المستقبل جنباً إلى جنب بعد هذا اللقاء غير المتوقع). أما كلمة (الإرغام) هذه فسيتنكر لها جوته لأنه سيسعد بهذه العلاقة الرائع ويتألق من خلالها إبداعياً مثلما سيسعد بها شيللر على صعيد الابداع والحياة. وإذن كان لقاؤهما حاسماً بكل ما في الكلمة من معنى.
(3)
يقول أستاذ اللغة العربية بجامعة كولونيا: حمدي الخياط في كتابه (تاريخ الأدب الألماني منذ نشأته حتى اليوم): كان كل من جوته وشيللر يختلفان بطبيعتهما تمام الاختلاف، سواء أكان ذلك في الحياة أم في نتاجهما الأدبي. ولما كان كل من الشاعرين مكتملاً في منهجه وطريقته الخاصة به، وكل منهما يقدر طريق الثاني في الحياة والمنهج الأدبي فقد عمل ذلك على إحداث تقارب بينهما وعلى قيام كل منهما بتشجيع الآخر في المضي في طريقه ورفع انتاجه الأدبي. فاستطاع شيللر خلال السنين التي قامت خلالها صلة وثيقة بينه وبين جوته من إنتاج روائعه الدرامية. كذلك أدت هذه الصداقة الفذة إلى شحذ قريحة جوته فظهرت له العديد من الاعمال أمثال: (هيرمان ودوروتيا) و(فلهلم مايستر) و(فاوست). نعم أوحت الصداقة التي قامت بين شيللر وجوته ليضع الأخير أجمل ملاحمه وأعذبها وهي تشفّ عن روح الشعر الغنائي وتنم عنه في طياتها وثناياها فتأخذ بالسامع بما فيها من عاطفة دفينة يدعمها التركيب اللفظي القوي وتجعله وكأنه يشترك بنفسه في مجرى الأحداث التي يسردها جوته في ملاحمة مثل: (الملك تولا)، (المنشد)، (الباحثون عن الكنوز) ، (عروس كورينت)، (ايكارت الأمين).
وبموت شيللر عام (1850) فإن جوته يشعر أن الحياة كلها تتنكر له فينكمش على نفسه ليبدأ شبح الموت والحزن والكآبة بمحاصرته ومحاصرة قصائده. هكذا تتحول كلمة (الإرغام) التي وردت في كلام جوته عن لقائه الثاني بشيللر إلى (إرغام) على مفارقة بهجة الحياة حين يموت الطرف الآخر: الصديق المتألق المبدع الذي لا مثيل له ولا شبيه!
أما تأثير جوته على شيللر فقد كان بالطبع عظيماً. فلقد سعى جوته بما يمتلكه من تأثير اجتماعي وثقافي إلى تأمين العمل لشيللر ليستطيع مواجهة صعوبات الحياة المادية فكان أن أصبح الأخير أستاذاً لمادة التاريخ بدعم من جوته. كما شجع جوته صديقه الأثير على إصدار مجلته التي تحمل عنوان: (آلهة الفصول الأربعة) عام 1795 وكذلك شجعه: بشكل أو بآخر، على إكمال ملاحمه الشعرية الشهيرة: (الغطاس) و(القفاز) و(خاتم بوليكراتس) و(الكفالة) و(مكافحة التنين).
كان جوته من جانب آخر يضيء أعمال شيللر بآرائه وكلماته النقدية الرصينة. قال عام (1786) معلقاً على (نشيد الفرح) لشيللر: (لو نظرنا إلى شيللر لرأيناه في جميع ما وضع من القطع الدراسية يتناول فكرة الحرية). وقد كتب لهذا النشيد الخلود حين لحنه الموسيقار العظيم بتهوفن وتم إنشاده في السمفونية التاسعة. وقال كذلك عن عمل شيللر المسمى (فالنشتاين): (إنّ قطعة فالنشتاين لشيللر عظيمة وليس لها مثيل).
على الصعيد الفني، فإن شيللر ـ على رأي حمدي الخياط ـ لم يعتد معالجة التفصيلات والمواضيع الصغيرة كما كان يصنع ذلك جوته بل كان يعالج موضوعاً كبيراً وينظر نظرة عامة تتناول فكرة معينة ثم ينظر منها إلى التفصيلات الصغيرة الدقيقة. في حين أن جوته كان بعكسه من هذه الناحية. كان شيللر يتقن صياغة الملاحم ونظمها ولكن موضوعها وشكلها يختلفان اختلافاً جوهرياً عما هو لدى جوته. فلقد كانت تطغى عند جوته الناحية الملحمية ـ العاطفية في حين كانت تطغى عند شيللر الناحية الملحمية ـ الدرامية.
هي إذن صداقة فريدة من طراز خاص. تألق فيها جوته وشيللر تألقاً عجيباً ووصلا بنتاجهما إلى مصاف الأدب السامي العظيم الأثر على مرّ القرون. صداقة لم تكن ذات طابع احتوائي أو ذيلي أو نفعي أو انتهازي أو قمعي، ولم تكن قائمة على قواعد هشة أو ساذجة أو مؤقتة بل كانت صداقة مبدعة بكل معنى الكلمة. قاد فيها جوته صاحبه وقاد شيللر صاحبه إلى سلّم الفرادة والتميّز والمجد. لم يتبادلا الاطراء الكاذب ولا التملّق الزائف ولا المنافع الحقيرة بل مدّ كل منهما الآخر بأسباب القوة والتألق والعمق، فلا عجب أن بقي أدبهما خالداً على مرّ العصور، وظلت صداقتهما حية وفذّة ونادرة المثال.
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة