(عارٍ كالتفاحة قلبي ولذيذ كالتابوت)
جدلية الجيم والحاء في شعر أديب كمال الدين
وديع العبيدي
أن تقاتل بلا أمل/ يعني أن تقاتل الحشيش. (هربرت ريد)
استغرقت ولادة مجموعة "جيم"- الصادرة عام 1989 - مدة طويلة نسبياً في مسيرة الشاعر أديب كمال الدين بعد صدور مجموعته الثانية "ديوان عربي" عام 1981. وقد حملت آثار ظروف الحرب المفاجئة وغير المعقولة في نظر الرأي العام العراقي عموماً. غير معقولة لعدم وجود مظاهر عداء حقيقية بين الطرفين: العراق وإيران، وأن حجم الدعاية الاعلامية لتجييش المشاعر كانت أكثر من مفضوحة وغير منسجمة مع تقاليد التسامح في المجتمع العراقي والمشاعر الدينية لفئة غير محدودة من العراقيين. فعوامل غير الإقناع كانت تستند إلى عدم انسجام (الحرب) مع المعيار الاجتماعي، عدم الانسجام مع المعايير الدينية، عدم الانسجام مع المعايير والقناعات السياسية داخل البلاد والمنطقة. وجاء توقيت حرب الثمانين بعد عام من التغيير السياسي (الديني) في ايران وما لحق بالمصالح الاميركية النفطية ورهائن سفارتها في طهران، ليفضح هوية حرب بالنيابة، خاضعة لاملاءات خارجية على حساب مصالح الوطن الاستراتيجية. يقول أديب :
كان غرابُ الليل
يقرأ أسماءَ الناس
في اليقظة
وغرابُ الفجر يداعبُ ألوانَ سماءٍ منقرضة
وإذ احتدّ غرابُ الليل
احتدّ غرابُ الفجر
حتى سقط الريشُ الأسود والأبيض
فوق الناس.
– الطائر الأسود - "قصيدة طيور" - (مجموعة جيم)
لم يكن العراقيون، وفي طليعتهم المثقفون، بعيدين عن هذه القناعة، وإن كانت أقلّ وضوحاً وتبلوراً. وعلى العموم، كان ولا يزال، ثمة نفور حقيقي من فكرة الحرب التي عاش العراق ويلاتها بين حروب فلسطين التمثيلية وحرب الكرد التي أودت بآلاف العراقيين، ولم تنته مجازرها حتى أواخر السبعينيات. وكان من سماجة التفكير السياسي للقائمين على الدولة تجاوز هذه البدهية ودفع الشعب في محرقة حرب غير محسوبة. لذلك اعتمدت السلطة أساليب مفضوحة تراوحت بين الاغراءات المادية وبين أنواع الضغط والتهديد والإعدامات الكيفية :
بهدوء أعمى
خرج الطائرُ من منفاه
إلى المبغى !
- طائر الشؤم - " قصيدة طيور" (مجموعة جيم)-
لم يستثنِ النظام فئة اجتماعية أو أكاديمية أو ثقافية من الانخراط في لعبة الموت المجاني. معظم الأدباء والأكادميين والفنانين المشمولة أعمارهم ضمن قوائم مواليد الحرب سيقوا اليها وتجرعوا مهاناتها ومات فيها كثيرون و لم يخطر بذهن المؤرخ العراقي أو الباحث الأدبي تحرّي بياناتهم. وبين أولئك كان الشاعر (دخل الحرب عام 1980 ضمن دفعة موليد 1953 المؤجلين، حسب مصطلحات التجنيد يومذاك ليبقى جنديا طيلة سنوات الحرب كلها). لم تكن وظيفة الجندي كتابة الشعر، ولا الحلم .الجندية حالة عبودية مطلقة لما يدعى الأوامر والقوانين العسكرية ممثلة بسلسلة المراتب والجنرالات. الجندية ليست بمعنى الحرب فقط، وانما عبودية الأوامر، وأبسط أسباب العقوبات وأتفهها هو [عدم إطاعة الأوامر/ مخالفة الأوامر] والعقوبات تتراوح من قطع الراتب، إلى الحبس إلى الاحالة للمحاكم العسكرية:
الجندي الذي لا يعرف سلاماً
الذي يقاتل من أجل كسرة خبز
الذي يموت بـ(نعم) أو (لا)..
– الشاعر الايطالي بريمو ليفي-
التزام الجندي بالانضباط والقيافة والطاعة واللياقة البدنية الدائمة، كل تلك [تفاصيل] من حياة شيء إسمه الجندي. ولا يتورّع الضباط عن استخدامه أداة للتسلية والسخرية ، فشخصية الجندي في الجيش العراقي ذات ملامح أقرب للامعقول والفنتازيا المريضة منها إلى الواقع.وقد استثارت ذهنية الشاعر وهو يجد نفسه في ملجأ ترابي لا يحميه من حرّ الصيف ولا مطر الشتاء ، لا من عواصف الرمال ولا من شظايا القصف ، أو محشوراً ضمن طائفة من الجنود في ظهر عجلة [الإيفا]، واستحقّت منه أن تكون بؤرة تأملاته وتوجعاته الانسانية والشعرية. فاستخدم الرمز/ الحرف (ج) الشائع مصطلحاً في الحياة والوقوعات العسكرية اليومية. (ج م) بمعنى جندي مكلف. (ج م ح) بمعنى جندي مكلف احتياط، وهي التسمية التي تشمل مواليد الشاعر ممن سبق لهم الخدمة في الجيش. وتعرف صفيحة قيد المساق في خدمة الجيش،بأنه: الرقم/ كذا، الرتبة: ج م ح، ثم إسمه الثلاثي، إلخ. فالـ (ج) رمز عسكري تم توظيفه شعرياً لنقل تجربة إنسانية تتمثل في انتهاك معنى الإنسان وكيانه. ما دفع شاعراً عراقياً آخر ليضع جملة غنية بالدلالات في مستهل أحد دواوينه (الانسان، بناء الله ، ملعون من هدمه!) "علي الشلاه في مجموعته (ليت المعري كان أعمى)". لم يكن الترميز(الكناية بحرف أو رمز) جديداً في الثقافة العراقية المعاصرة وانعدام الحريات، بل كان البحث جارياً عن صيغ وأساليب تعبيرية دون الوقوع تحت طائلة القصاص. فدلالة الجيم، إذن هي ليست (جيش) الذي صبغ البلاد وأحال سوادها إلى التراب والرمل والغبار، ليست شخصية الجندي الذي كان بطل مرحلة الثمانينيات وضحيتها الأول، بكل اشتقاقاته ومترادفاته وتشظياته، فقط، وانما جثة (الجندي) ولذلك دلالة عميقة عن الموقف من حرب قهرية مفروضة عليه، انه لا يشارك في تلك الحرب ولا يخدم أغراضها كما يبدو، وإنما هو فيها مجرد (جثة) :
كنّا في الدار ثلاثة
أنا وعذابي النائم كالجثّة
وسط الدار
و(كذلك شخص لا أعرفه)!
- قصيدة "جيم" - مجموعة (جيم)
فالمشاركة الفيزياوية/ الظاهرية تلغي المشاركة الوجدانية والفكرية عبر عملية إقفال ذاتي كامل تجاه الخارج، مما يمثل موقف احتجاج جذري واجه به الجندي/ الشاعر قرار الحرب التدميرية بكل المعايير. وعبارة انشطار شخصية/ كيان الشاعر إلى ثلاثة كما يؤكد في السطر الأول [كنا في الدار ثلاثة]، محاولة لإعادة تنظيم صفوفه/ وجوده بما يناسب حالة الخطر الخارجي المدمر، [أنا، وعذابي (النائم)، (وشخص لا أعرفه)]، فالأنا الشعرية لا تستسلم للطارئ ولا تستدرجها الهاوية، وانما تنشطر وتنشطر مثل الأميبا ومثل اليوغلينا ومثل الأفعى للمحافظة على الحياة وتحدي ظاهرة الموت بكل معانيه ومستوياته. ولم تكن حصة الحرب غير (جثة)/ (عذاب نائم)، وحواليها يحرس ملاكان، (أنا)/ الشاعر، والشخص الآخر المبهم، الذي يمثل العمق الاستراتيجي الروحي للذات الشاعرة والذي سوف يتبدّى في أماكن أخرى في صورة الطفل أو التوحيدي أو العاشق:
أكتشفُ اللحظة انّ الساحرَ مسحور
انّ الساحرَ يبكي كالطفل..
نظر الساحرُ لي قال : بأني الطفل
فتعجبت من القول!
– قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-
فالشخصيات هنا تتناسخ وتتناص لتحل الواحدة في الأخرى أو تتبادل الدور والهيئة، وهي صور أرواح هائمة متنقلة تكتنف اللحظة الشعرية لينظر عبرها الشاعر إلى عالم تبلّطه الكراهية والرذيلة فتنقذه من الدمار والانحراف. من خلال حرف (جثة) أنقذ الشاعرُ الإنسانَ من السقوط في مهاوي اللعبة ونزق الطواغيت، ليقول لنا أن ما أخذته الحرب أو تأخذه ليس سوى [جثث]. فدلالة الجيم، بناء على ذلك، (جثة، جندي، جيش، جحيم) الحرب، جحيم الحالة والحياة العراقية في كرنفال الموت المزوق بالتوابيت والأعلام والأعضاء المبتورة وجيش المعوّقين والمتهسترين في أسواق العراق ومستشفياته العسكرية.
في تناص حروفي جميل بين [ظالم/ظلمات] والمتناصة معنوياً ولونياً مع [الطائر الأسود/ غراب الليل/ الريش الأسود/ طائر الشؤم] في قصيدة طيور من مجموعة (جيم). ويذكر أن مترادفات اللون الأسود تتردد لدى الشاعر في غير موضع وبصور ومناسبات متباينة:
غير أنّ الله
رأى دمعتي في جوف الليل :
ليل أرض السواد.
– قصيدة "دمعة مضيئة" (مجموعة حاء)-
هوّمتُ .. أنا روح العشب
عنقُ العصفور وذاكرة التفاح
وجعُ الطين الأسود
لأمنّي الروحَ بأرضٍ تؤوي جذري المنفي.
- قصيدة "إشارات التوحيدي" (مجموعة جيم)-
أختبئ اليومَ كطفل أرنو للفجر
أقرّر أن أبعث كلماتي حتى يعتدل العالم
يذهب سيف الظالم في الظلمات.
– قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-
ونبتَ لي معنى
معنى وحشي أسود
كرمح (وحشي) الذي اغتال به سيد الشهداء.
- قصيدة "جيم شين" (مجموعة حاء)-
وتستمر حالة المطاردة والمراوغة بين الشاعر والمعنى في قصيدة الجندي/الجثة (جيم) الآنفة:
من بعد ليالٍ عامرةٍ
حضرت للدار الجثةُ قالتْ:
قالت أشجارُ الليل
(أنا عارية دثّرْني
ودمي ينزفُ.. لا تلمسْني..
أنا برجُ الشاعر
هو ذا لا يبرح قلبي
وأنا المأوى في اللا مأوى..
فتعالَ لموتي كالطعنات
وأقمْ من حولي سوراً للنسيانْ
سوراً من أحجارٍ هائلةٍ
أسلاكٍ شائكةٍ وجماجم أطفال).
فالليالي (عامرة) بالموت، الذي يجمع (الجثث) ويصفها الواحدة بجنب الأخرى مثل (أشجار الليل) ليقيم منها (سوراً من أحجار هائلة/ أسلاك شائكة وجماجم أطفال)، وهنا نتوقف مرّة ثانية ضمن دورة التناص الوجودي أو تناسخ الطبيعة، جثث تتحول إلى أشجار، أشجار تتحول إلى أحجارهائلة، ثم تتحول إلى جثث مرّة أخرى أو ما يتبقى من الجثث بعد التفسخ والاستحالة إلى تراب (أحجار) وهو (جماجم) أطفال. وفي دورة ثانية : أشجار تتحوّل إلى ليل، ليل يتحول إلى سور، سور عبارة عن أسلاك (شائكة). وهنا يتم ربط ساحة الموت (المعركة) بالمدينة النائمة خلف أسوار الليل، هناك الجثث وهنا الجماجم التي تحيل إلى معانٍ عدة. أحدها ما سبق الإشارة إليه من تحلل جثة الكائن الحي بعد الموت إلى مكوناتها الأصلية [من التراب وإليه]، والمعنى الآخر الإحالة التاريخية الدينية على قصة الطف وحمل رؤوس الثوار إلى القصر الحاكم، وهنا تدخل (جيم) الجثة في تناص تاريخي يعيد صياغة سياق الحرب من صراع سياسي مفتعل بين بلدين لأغراض أمبريالية إلى صراع بين الانسان (جندي) وسلطة الطغيان التي تسوقه إلى الموت لإشباع شهوات [الآلهة المزيّفة]، فالضحية في الطرفين هو الجندي الإنسان لا غير، وهي النتيجة التي اختتمت بها مسرحية حرب البلدين [لا غالب ولا مغلوب!] إلاّ الإنسان/ الجندي. أما المعنى الثالث والمرتبط بالاضافة إلى (أطفال)، وهو إحالة نفسية على الذات (الشاعرة) [أنا برج الشاعر] التي سبق لها أن انفصمت إلى ثلاثة [أنا وعذابي النائم وشخص لا أعرفه!]، أي العودة إلى بداية القصيدة في بناء دائري هرمي مرتفع من الداخل. ودالة الذات الشاعرة التي تتكرر في شعره تتمثل في (الطفل) وهي ظاهرة أكثر حضوراً لدى جيلي الثمانينيات وما بعدهم مما لدي السبعينيين:
أنا برج الشاعر
هو ذا لا يبرح قلبي
وأنا المأوى في اللا مأوى.
ففي غير موضع يشير الشاعر إلى نفسه في صورة الطفل كما سبق في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) وفي غير قصيدة من مجموعة (حاء). أما إذا أردنا تجاوز ذلك كله للاستقرار على تفسير واحد، نتوقف مع نظرية التطور وفسلجة النمو المشيرة إلى أن عقل الانسان يتوقف عند عمر السابعة بينما يستمر نمو بقية الجسد حتى عمر العشرين، هذا الجسد هو الذي يتحلل بينما الجمجمة التي تتكون من مادة نخاعية رقيقة تقاوم درجات الحرارة والضغط:
فتعالَ لموتي كالطعنات
وأقمْ من حولي سوراً للنسيانْ.
حيث يتكشف مدى اليأس الذي يتلبّس الذات (المأوى في اللا مأوى) المطالبة بالبقاء خارج مديات الوعي (أقمْ من حولي سوراً للنسيان) في محاولة للانقلاب على كلّ شيء واستنكاره. وكما يتمثل في طريقة بناء الحوار (إدارة الخطاب داخل النص): [حضرت للدار الجثة قالت: قالت أشجار الليل.. الجثة قالت ذلك، لكن الجثة كانت نائمة في الدار، وما نطقت أبداً!]. وفي عبارة (الجثة كانت نائمة في الدار) إحالة رجعية على عبارة (عذابي النائم كالجثة وسط الدار) في بداية القصيدة، أي نقض إثبات، وتأكيد لفكرة المراوغة والالتفاف على الرقيب التي سبق الاشارة إليها. ودلالة الجيم هي الـ(الجنة) التي وعد بها المتقون، أي أتقياء النظام وضرورته المنتهية، حسب سياسة الدعاية الحربية التي استخدمها كل من البلدين الاسلاميين ، بربط الولاء والموت في الحرب بمكافأة (جنة عرضها السماوات والأرض). وبين دوامة الاعلام الرسمي والتأويل الديني البسيط، وقفت (جيم) الشاعر، بل وقف الجيم ميم حاء، متردداً، هازئاً، يواجه قدره بنفسه، ويتساءل، عن أية قيمة، تستحق أن تكون ثمن حياته، أو تجعله قاتلاً أو مقتولاً بينما يتناكح زعماء البلدين [حسب توصيف سليم مطر في القارورة]. ولذا، فهو لا يقاتل، لأنه لا توجد قضية، ولا أمل أو هدف. انه قتال مع الحشيش، حسب تعبير هربرت ريد. ففي بعض قواطع الحرب العراقية الايرانية التي كان الطرفان قريبين من بعضهما، تبادل الجنود البسطاء من البلدين نفس الأسئلة: لماذا تقاتلوننا، هل أنتم مسلمون، هل تحبون علي والعباس؟! في الحقيقة، كان كثير منهم انما يقاتل الحشيش، أن تكون جندياً، يعني بالدرجة الأولى أن تقاتل بالنيابة، وتفعل كل شيء بالنيابة. والنيابة ، تعني بفعل الأمر القسري وليس محض الرغبة والقناعة والارادة:
عارٍ كالتفاحة قلبي وعميق كالتابوت
* *
في الفجر.. رأيتُ التفاحة
تتعرّى في بطن التابوت
في الليل رأيتُ التفاحة
تقضم رأس التابوت.
* *
عارٍ كالتفاحة قلبي ولذيذ كالتابوت.
طائر الموت - " قصيدة طيور" - ( مجموعة جيم)
بكلمة أخرى.. جاءت مجموعة (جيم) المحيلة على دلالاتها [الجنون موته أحمر/ كحرف الجيم/ كحرف الجثة والجلجلة والجمجمة]/(قصيدة جيم شين).. والمكتوبة - أي مجموعة (جيم) - خلال حرب الثمانينيات والصادرة مع نهايتها عام 1989 ترجمة هيرودوتية تضمنت قاموساً وافياً مزوداً بالشروح والهوامش، استطاعت قول ما لم يقل في كرنفالات العطايا الدموية:
آه.. يكفي
فأنا رجل أدبّتُ لساني
حتى استخفى فيّ الصمت
بقناع نبي!
- قصيدة "إشارات التوحيدي" (مجموعة جيم)-
مجموعة(جيم) ليست صورة من أدب المعركة، لا بالمعنى السلبي ولا بالمعنى الموجب، ولم تعنَ بوقائع الحرب وتواريخ المعارك. معارك (جيم) كانت تلك (الملحمة) التي جرت داخل الذات بكل ما تضمنته من أسئلة مستعصية نقلت إشكالية الحياة والانسان العراقي من مشكلة تأمين الخبز والسقف إلى أزمة الذات الإنسانية في مواجهة أضراس العالم الجهنمية، الوجه الآخر لسؤال جلجامش بين الموت والبحر والطوفان والأفعى، عين المفردات والأجواء التي ترددت في قصائد الشاعر.
إنّ العجز عن تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشرّ دفع إلى إيمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث كلماتي حتى يعتدل العالم (مجموعة أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة (نون) [ حبّكِ ناطحة سحاب/ حلمتُ بها / وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة/ وحين أكتمل البناء العظيم / نسفتـُها من الأعماق.] أو الخروج من الراهن للدخول في متاهات المطلق والمغيوب التي مثلت المستوى الآخر (اللذيذ) في معالجات الشاعر للأحداث والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]:
علينا بالرقصِ لأنّ المرأة شيء باطل
والطفل كذلك ، والسيف قويّ. والمعنى مكتنز في الرقص فارقصْ!
أخبرتُ الساحرَ أني أعمى لا أعرف إلاّ خيطاً من ذاكرةِ الفجرِ
وأخفي في كفّي وشماً لامرأةٍ عاريةٍ ماتتْ منذ سنين.
صرخ الساحرُ في وجهي أرقصْ. قلتُ بأني أعمى.
هذه الحركة الداخلية العنيفة المترجمة عبر الحوار، هي صورة الصراعات الأرضية العبثية في المستويات الجوانية المترادفة للذات الانسانية وهي تتعرض لأشرس عملية استلاب ومسخ تضطلع به قوى جبروتية داخلية وخارجية تخلخل موازين الصراع وسياقات الملحمة. إنّ أبطال الملاحم التقليديين كانوا من الآلهة ذات القوى الخارقة، بينما الملحمة العراقية العصرية أبطالها جنود مستلبون في وسط طوفان من الغول وقدرات التكنولوجيا القاهرة، فكيف يوجه الشاعر سيرورة الصراع؟ كما يستنجد جلجامش بالجد الأعلى: أوتونبشتيم ليحضر رمز الأب لانقاذ (الطفل)/ الشاعر في قصيدة مبنية على تناصات دينية جاذبة:
صرخ الساحرُ في وجهي أرقصْ.. قلتُ بأني أعمى.
ضحك الساحرُ، قهقه، ثم ارتجف حين تألق وجهُ أبي في
الغرفة. أمسكَ بالعين السوداء فأحياها، أمسكَ بالأذن الجرداء
فأسمعها، أمسكَ بي. اشتدّ المطرُ فخفتُ على ثوبِ أبي الأبيض
أن يتسخ وقال أبي لا تحزنْ انكَ في عيني. فبكيتُ. نظرتُ ،
رأيتُ الفجرَ لأول مرّة.
ووقعتُ على كفّ أبي لأقبّلها، والغيمةُ تعصفُ عصفاً.
وبدا أنّ الأرض ستغرق . قال أبي لا تحزنْ هذا مطر الفقراء ،
انظرْ فنظرتُ العشبَ بقامةِ طفل!
– قصيدة "أنا وأبي والمعنى" (مجموعة أخبار المعنى)-
وبفهم دلالات الجيم العراقية تتكشف أمامنا دلالات (حاء) المنفى، الخلاص من ربقة الجيم وكابوس البيانات العسكرية الصادرة من رئاسة الأركان العامة/ وزارة الدفاع/ دائرة السوق العام: على جميع المشمولين بالسوق في الدفعة الأولى من مواليد (كذا) والمساقين معهم من المؤجلين لأسباب صحية أو أسباب الدراسة ودافعي البدل، مراجعة مكاتب تجانيدهم في مدة أقصاها (كذا) ومن يتخلف... . أنه في لحظات معينة، في بلدان معينة، تكون الحرية أغلى من الحياة نفسها، وفي بلدان يكون الحبّ. أما عندما لا يكون ما يقلق كيان الإنسان، فانّ التعلّق بالحياة ولذائذها يكون قيمة عليا، كما في الغرب. وهذه الحاء، في اشتقاقها المباشر أو انفصامها من منظومة (ج م ح) هي عملية تفريغ لكل الترسبات والاسقاطات ومعارك النيابة والرغبات والمشاعر والأفكار والانفعالات والاحتراقات الداخلية والخارجية، انها عملية غسيل وتطهير الذات والمخ من أدران مرحلة مظلمة. يقول برتولد بريخت: في الأوقات المظلمة/ هل ثمة غناء/ نعم ثمة غناء/ عن الأوقات المظلمة. فأغاني الخارج، غير أغاني الداخل، أنها مغسولة ومعجونة ومضمخة بمياه الحرية والاندفاع، أغاني الداخل معجونة بالخوف والكوابيس والجمل غير المكتملة. وكما أن الجثة (جزء) من كيان جندي والجندي جانب من صورة الإنسان، والجثة والجندي مفردتان في قاموس الحرب/ الجيش. وإذا كانت جغرافيا الجيم محصورة داخل بقعة معينة فجغرافيا الحاء فضاء مطلق يتجاوز الكرة الأرضية إلى الوجود الأوسع، الذي لا يمكن تقدير تجلياته بسرعة. لكن تحرير الجثة من [حيز/ مساحة] الجندي، لا يعني خلاصاً من حالة الحرب التي تبقى، أو بقيت مستمرة منذ أيلول 1980، تحولت من الشرق إلى الجنوب، تغيّرت صور ودخل لاعبون جدد وفصول غرائبية جديدة، أصبحت (الرقعة) أوسع حسب التعبير العراقي الدارج، أصبح لها أسماء مثل حرب الخليج الأولى والثانية. ولم تتوقف :
كنتُ ساذجاً
لأنني منذ أن تعرفتُ إلى الوحشة
نبتتْ لي ذوائبُ وأنياب
ونبتَ لي تاريخ دمويّ وجغرافيا زرقاء
ونبتَ لي غناء سريّ عميق كالفرات
وزعيق رغبات وحشية
تحاصرني كما تحاصر الدبابة
أعمى في البرّية
ونبتَ لي أنين
طوله مليون سنة.
- قصيدة " جيم شين" (مجموعة حاء)-
الحرب ليس لها تذكرة. وليس غريباً أن تكون العلاقة الزمنية بين [جيم/ حاء] رقم النحس (13) لتجسيد دلالات النحس والدمار التي حملها غراب الحرب الأسود إلى أرض السواد. وإذ تحددت دلالة الجيم (جثة)/ موت، فأنّ دلالات (حاء) لا نهاية لها عبرها تدرجها اللوني في [ج(ح)يم] إلى حياة وحب وحرب وحرية. وكما أن المسافة بين الحياة والموت، بين النور والظلام، الوجود والغيب شعرة، فأن العلاقة بين الجيم والحاء، نقطة:
بمسمارٍ طويل
ثقبتِ قلبي
لاهيةً ، ضاحكةً ، عارية
كشمسٍ تشرقُ فوق البحر
وحين بدأ قلبي ينزف
جمعتِ قطرات قلبي
وكتبتِ بها
كتبتِ بإصبعكِ على صدري :
" الحقد ".
فاستمرّ قلبي ينزف
ثم كتبتِ :
" الحرية ".
فاستمرّ قلبي ينزف
ثم تعرّيتِ تماما
وكتبتِ :
" الحبّ ".
فتوقف قلبي عن النزيف
وتوقفتْ شفتاكِ عن الهذيان .
- قصيدة " 3 حاءات "- (مجموعة ماقبل الحرف .. مابعد النقطة)
هنا تجدر الاشارة إلى أمرين أو ظاهرتين: الأولى: ظاهرة لغوية بنيوية ممثلة في أسلوب التعبير باللغة العربية القائم على استخدام الفعل في - صيغة الغائب - بدون ذكر الفاعل (وتقديره على أنه ضمير مستتر)، أو استخدام الفعل - في صيغة المخاطب- دون وجود ما يؤكد أو يشخص طبيعة هذا الضمير وهويته. مما يمنح التأويل الشعري مديات غير متناهية، وكما يتجلى في فعل الخطاب المؤنث [ثقبتِ/ جمعتِ/ كتبتِ]. أما الظاهرة الثانية فيمثلها حضور المرأة الطاغي في التعبير اللغوي بالعربية. ما إن يستتر الفاعل أو المفعول به وتكون الدالة أنثوية [تاء التانيث، نون النسوة، التاء المربوطة] حتى ترتسم صورة المرأة وراء المعنى. ففي المقطع السابق، القائم على مخاطب مؤنث، [لاهية ضاحكة عارية] لا يترك مجالا للشك مدعوماً بكسر تاء المخاطبة، لدى القراءة السريعة أو المسطحة. بينما يمكن تمعّن صورة أخرى خلال ذلك ممثلة في عملية التحول من جمهورية (الجندي/ الجثة/ الجحيم) إلى مملكة الحاء، والدالة هنا هي الحرب التي ثقبت قلب الجندي/ الشاعر بمسمار طويل طوله ثمان سنوات أو خمسة آلاف سنة، هذه الحرب كانت هائلة وطاغية ولاهبة (كشمس فوق بحر) وهي صورة حسية عميقة لا يتصورها من لم يعشها سواء في الحرب أو البحر. والحرب بطبعها وطبيعتها لم تكن خلال ذلك غير (لاهية ضاحكة عارية). وهي التي جعلت قلب الشاعر ينزف شعراً وألماً، حتى تشبع ساديتها الهوجاء، متدرجة من الحقد إلى الحبّ إلى الحرية. ونجد هنا الوصف (ثم تعرّيتِ تماماً)، دلالة على انكشاف الغاية واستنفاد الوسائل أو استكمالها، فإذا تعرّت لم يبقَ لها ما تفعله أو تستتر به [غير أن] (توقفت شفتاكِ عن الهذيان) والهذيان هو رحى الموت والدمار أو الكارثة. والحرية بالتالي هي المرحلة التي أعقبت الجثامين والجحيمات. وإزاء أهمية وحضور هذه الأسئلة الوجودية المحيرة، تضمنت مجموعته (حاء) الصادرة بعد مغادرته العراق قصائد بيوغرافية واسترجاعات جميلة من زمان الطفولة والصبا. ففي ظروف مغادرته لوطنه، كانت أسئلة الحياة والموت والحرية والسجن والحبّ والكراهية شاغلة حيزه الوجودي والشعوري والفكري، ظهرت الحاء التي تترقرق في الحنجرة عندما تكون عوامل الخارج أعتى من عوامل الداخل. وهذه "الحاء" ، تولد عبرة، دمعة، شهقة، نغرة أو نغزة، حرقة في الحلق، انها تختلج هناك وتمكث مدة، حتى ليحسب السامع أن صاحبها مات أو شهق أو كاد، قبل أن تسمح بمرور العبارة/ الكلمة، عندها يلمس السامع حرارة الحححححياة، وحيوية الحححححبّ، وحلميّة الحححححريّة، وحرقة الحححلق. الحلق هو قنطرة الحياة، منه يمرّ الهواء والماء والغذاء فتنتشر الروح في الجسد وبدونه لا تكون. هكذا ، فالحاء قنطرة بين الحياة والروح والحرية إلى (الجانب الآخر من عدن). وسنجد أن هذه -الحاء- استحالة رجعية عن فكرة -الجيم- التي واطنت الشاعر في فترة الحرب/الثمانينيات، بعد الغاء النقطة. فهل النقطة هي الموت بالمعنى الدلالي لدى الشاعر، لتكون الحاء انتصاراً للحياة والحرية والحب:(.. فلقد عبرتُ حاجزَ الخوف/ وعبرتُ حاجزَ الحرمان/ لم يبقَ ، إذن ، غير حاجز الموت!) .
وبقدر ما تمثل مجموعة (حاء) تجاوزاً لمرحلة الخوف والحرمان والحرب والحصار، فقد تضمنت رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة من ظلمات الجحيم. فكانت أكثر نزوعاً بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها وأكثر انفتاحاً للحبّ:
هذي المرّة
لن تكوني مثل كلّ مرّة
امرأة من لحمٍ و دم
فلقد تعبتُ من دمكِ العاري وجحودكِ الأسطوري
من خيانتكِ التي تشبه مشنقةً دون حبل
وتعبتُ أكثر
من انتقالاتكِ المرّة الحامضة بين البراءة والذنب
ومن أغنيتك : أغنية الكأس والسكين
ولذا
هذي المرّة
ستكونين امرأةً من حرف
أخرجكِ متى أشاء
أمام جمع الوحوش
بيضاء من غير سوء
بيضاء لذة للناظرين.
قصيدة "غزل حروفي" - مجموعة (حاء).