"خساراتي لم تعد تُحتَمَل "
وديع العبيدي
ظاهرة الموت في الشعر العراقي الحديث
مقاربة نقدية في قصيدتين للشاعر أديب كمال الدين
رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ مَنْ تُصِبْ
تُمِتْهُ وَمَنْ تُخطِئْ يُعمِّر فيهرَم
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا
فيا موتُ زُرْ أنّ الحياة ذميمةٌ
ويا نفسُ جدّي انّ دهرَكِ هازلُ
إن يحسدوني على موتي فواعجباً
حتى على الموتِ لا أخلو من الحسَدِ
ظاهرة الموت في الأدب العربي (والعالمي) والموقف منها في أبعاده الوجودية الميثولوجية والدينية والاجتماعية محور البحث والدراسة عبر العصور، وقد صدرت دراسات عديدة في الأدب العربي في العقود الأخيرة، بيد أن هذه الظاهرة تزايدت بشكل غير اعتيادي في بعديها الاجتماعي الميداني والأدبي (الوجودي) في خضم المتغيرات السياسية والعسكرية المباشرة في بلدان الشرق الأوسط (تحديداً)، بما لذلك من تعالقات فكرية وسياسية مع (تيار) العولمة وإعادة صياغة الخريطة السياسية والاقتصادية، الأجتماعية والثقافية في العالم. وإذا اعتبرنا أن [1] الصراعات العسكرية (فلسطين/ لبنان/ عراق) و[2] بروز ظاهرة الهجرة الخارجية في بلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أبرز معالم عقدة الألفية، فأن ظاهرتي [الغربة - الموت] هي أبرز انعكاساتها الاجتماعية والذاتية وافرازاتها الأدبية والوجودية كتيارات ثقافية تحفر آثارها الراهنية والمستقبلية في أعماق الذات والعقل العربي المعاصر. وما لم يجرِ رصد ودراسة هذه الظواهر مبكراً وفي ظل ظروفها الساخنة كالوضع العراقي، فأن قراءاتها المستقبلية ستقع ضحية المواقف الأيديولوجية السياسية والدينية شأن الكثير من ظواهر الحياة العربية وبالشكل الذي يقطعها عن جذورها وآثارها ويجعلها رقماً في الرصيد التنافسي لهذه الجهة أو تلك، مما ساهمت في تمزيق الواقع مرتين. الأولى على الصعيد الواقعي الميداني والثانية في تزوير الواقع تاريخياً.
كما أن الاصطدام بمفردة الموت أو أي ظاهرة إنسانية في نص راهني تختلف عنها في نص سابق قبل قرن. النص الراهن يحمل حرارة التجربة ورعاف الجرح، ويضعنا أمام مسؤولية إنسانية للاتصال والتواصل، غير الممكن في نص قديم. لقد تنبأ أدباء كثيرون، ونضع خطين مزدوجين تحت [كثيرون]، بموتهم داخل نصوصهم الأدبية، دون أن يصار إلى أي رصد نوعي أو توقف جادّ، عنذ ذلك، وعلى غرار مآتم النساء، صدرت [تأبينات] خجولة بعد موتهم، تتضمن من النرجسية والفردانية فيها أكثر من الموقف الأدبي والمسؤولية الانسانية. ان الرثاء بحد ذاته ظاهرة اجتماعية ممجوجة إذا لم يمكن تعويضها بموقف إنساني وثقافي في حياة الأديب والانسان. ووفق تعبير بيت الشعر الشعبي [الميت اشمدريه.. باليمشي جنّاز!].
لكن الحياة الثقافية العربية جزء من واقع اجتماعي لا يزال التخلف والنفاق يهرش أوساطه، ولا يسطيع المثقف (!!) أن يتنكب مسؤولية التغيير والتحديث الجوهري في مجتمعه. لقد تنبأ حسن مطلك وعبد الأمير جرص ومؤيد سامي بموتهم المبكر، في نصوصهم الأدبية المنشورة أثناء حياتهم. فمن توقف لدى ذلك، وكيف تمّ التعامل مع هذه الإشارات الملحة. حسن مطلك أعدم ومؤيد سامي اغتيل وعبد الأمير جرص اصيب بجلطة في منفاه بعد عام من وصوله هناك. وهو ما تكرر مع جان دمو في استراليا في حدود عام من انتقاله إليها. ان ظهور هذه الإشارة في النص الأدبي ليس أمراً قصدياً مخططاً قدر خضوعه للوعي الباطن [تلك النقطة التي تلتقي فيها قوة الميتا فيزيقا مع قوة الباراسيكولوجي]، مما يدخل في باب [التنبؤ] غير المتيسر لكائن من كان. وهناك اليوم إشارات تتكرر أو ترد مرة واحدة في نصوص معينة، فما هو موقف المدونة الثقافية العراقية والمؤسسة الرسمية العراقية التي تنتظر استلام بيانات الانتخاء والاستعطاف من ذوي الفقيد والجمعيات الأدبية لاستصدار أمر نقل جثمان الكاتب الفلاني وفي (برواز) إعلامي لتبيان [مكرمة] الحكومة الجديدة. ومن هنا تتوخى هذه الدراسة السعي لتأسيس وعي اجتماعي ثقافي جديد في النظر إلى النص الأدبي وصاحبه، بعيداً عن اسلوب المنافسات والمباريات العكاظية.
ان إشكالية كثير من القراءات النقدية الاهتمام بالشكل الخارجي دون الفكر، والاحتفاء بالعموميات دون رصد التفاصيل وفرز الداخلية منها، لذلك بقي النص النقدي تابعاً للنص الأصلي ودائراً حوله دون الخروج منه إلى الواقع ومكانزماته الفاعلة في النص. ناهيك عن المقارنات الشكلية بتجارب مشهورة في التراث العربي والغربي. ويأتي في هذا الاطار انجرار كثير من الدراسات والقراءات لرصد التقنيات الاسلوبية في تجربة الشاعر أديب كمال الدين الشعرية دون التوقف لدى محطاته الفكرية ومناخاته النفسية التي ساورت أسئلته الوجودية، بيد أن اهتمام الشاعر ببواطن الابداع النفسية أكبر من اهتمامه باللعبة التقنية. بما فيها الأزمة الوجودية القائمة على الصراع بين [الذات] والآخر [العالم - الوجود] والذي تكشف في استحالات متعددة في صورة [الجندي - الجثة] والحرب، أو الطائر الأسود والطائر الأبيض أو موقف (الزهد) التوحيدي ، وصولاً إلى فكرة الموت بالمعنى الاسطوري (تموز) أو الفلسفي (الصوفي) :
أموتُ ومعي حرفي
وأبعثُ من الموت ومعي حرفي.
**
وهكذا يصغر العالم لديّ
شيئاً فشيئاً
حتى يكتمل ضياعي
ويبدأ موتي السعيد!
**
بعد جنوني بك
ليس هنالك من فرحٍ أنتظره سوى الموت.
**
أنتِ من تكونين حتى أشغل أنفاسي
وأشغل حروفي وأشغل موتي بك ؟
مجموعة ( نون )
لعلّ مفردة الموت هي المفردة الأكثر حضوراً وتكراراً في شعر أديب كمال الدين على مدى سني تجربته الطويلة، وإن اختلفت دلالاتها وتباينت وظائفها وتقنياتها. ذلك الاختلاف الذي يبقى قرين عاملين: الظروف الحياتية، والتحولات النفسية للعمر. فعلى صعيد الظروف الحياتية قياساً على الحالة العراقية منذ ثلاثة عقود، ما كنا لنجد تعاطي الموت بهذه الصورة لو كان الشاعر ربيب بيئة ثانية، وبشكل لا نجد له نظيراً في الشعر العربي أو الأوربي، لفارق ظروف الاستقرار السياسي والمادي والنفسي. بينما تختلف طريقة تعاطي الموت في حالات معينة عند سن الشيخوخة أو حتى الحرب في أوربا أو شعر الستينيات الفلسطيني (المقاومة). بينما يأتي العامل الثاني (التحول العمري) ليزيد من ضغط المعنى ويمنحه عمقاً نفسياً. ان معدل عمر الانسان العراقي لا يتعدى الأربعين، في الظروف الطبيعية. ولذلك تشكل المقاربة العمرية هذه أزمة سيكولوجية وفكرية، تدفع باتجاهات مختلفة، لعلّ منها الشعور بالفقدان أو الخسارة [الطفولة والفرح (بالمعنى الميتتافيزيقي)]، بنفس الطريقة التي يخلّف فيها فقدان الأبوين شعوراً باليتم، حتى عندما يكون (اليتيم) خارج دائرة الرعاية الأبوية، كأحد مخلفات أو انعكاسات ظروف الحياة غير الطبيعية على الانسان ومشاعره. بل أن لفقدان (الصديق) أثر نفسي مروع نادر (في الحالة العراقية) بالمقارنة ببيئة ثانية، وبشكل يوحي بـ(اليباب) مثل حزن جلجامش على انكيدو أو حالة الاستنفار التي يخلفها موت أحد الأدباء العراقيين في المنفى، وبأثر استعدى إلى بلاد أخرى مثل سوريا عقب توالي موت أربعة أدباء وفنانين بشكل متلاحق في نيسان السالف. وفي بيت الشاعر حندج ابن عمرو المعروف بأمير كندة يقول..
ألا عمْ صباحاً أيّها الطلل البالي وهل يَعِمَنْ مَنْ كان في العُصُرِ الخالي
وهل يَعِمَنْ مَنْ كان ( .. ) عمره ثلاثون حولاً في ثلاثة أحوالِ
في إشارة لبلوغه الثلاثين، وحضور شبح الموت في ثنايا كلماته. ورقم الثلاثين، كدالة على الموت أو (ناقوس وداع أبدي) تردد كثيراً في المدونة الأدبية. [سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة] دابادا حسن مطلك (ص31). [هكذا يقسم وقته إلى قرون ليموت في العقد الثالث] قصائد ضد الريح لعبد الأمير جرص. [وأمي التي تغزل الصوف.. تغزل العمر في صوفها.. ثلاثين.. خمسين عاماً.. تبعثر في يدها وانتثر] أغنية الغبار لوديع العبيدي (ص27). يقول أديب كمال الدين:
[ لا زلتُ - وقد عبرت أربعين موتاً -
طيراً لا يعرف الطيران
ولا زلتُ - وقد عبرت أربعين بحرا _
شاطئاً يبحث عن سفينة]
وفي مقطع آخر من مجموعة ( نون ) يقول أديب :
[مات حبي قبل عشرين عاماً
ولم أزل الى الآن أستقبل المعزّين].
هذا الشعور التراجيدي يعطي الحياة صفة ثانوية طارئة إزاء ثابت راسخ وخالد. بصياغة أخرى يقول الفقيد عبد الأمير جرص [الحياة شجرة.. العمر وريقات.. الخريف مدرس]. في مقاربة ميثولوجية أو ميتافيزيقية لصورة الموت كما نقلها لنا أهلونا في صغرنا [الوجود شجرة، والبشر وريقات، وكلما اصفرّت ورقة ينفخ عزرائيل فتسقط (في الموت)]، فالخريف إذن اكتمال العدّ، وخريف العمر الاقتراب من سلّم الهاوية.
لكن انتشار تعاطي مفردة (الموت) يبقى في إطاره العام أو العادي في قراءة اللغة العراقية التي تقرن الحبّ عند الغزل بالموت (أموت في حبها)، أو تقرن الضرب بمفردة (كتل) المشتقة من [قتل يقتل قتلاً = موت]. ناهيك عن أن استمرار قوافل (الموتى) اليومية في الشارع العراقي مذ بدء الثمانينيات حتى اليوم جرّد المفردة من عمقها العاطفي أو النفسي الحقيقي. ومهما تباينت دلالات التأويل ، فأن أجواء (الموت) النفسية والذاتية وليس المفردة (تحديداً) هي التي تسجّل مرحلة مختلفة في التعاطي والتعامل، في التفكير والتعبير كما في قصيدتيه الأخيرتين [خسارات / الأعزل]. إذ تكشف القراءة المشتركة قوة التداخل بينهما بحيث تمثل الأولى القاعدة التي استولدت وحملت الثانية ووجدت في موت الشاعر محمد الماغوط (3/4/06) مناسبة للانبجاس نحو الأعلى.
بهاتين القصيدتين (تحديداً) تبلغ (مسرحة) الحياة [أو الموت] قمة الدراما الممثلة بالتراجيديا أو المأساة في لغة المسرح الاغريقي ويتوج الشاعر رحلة (الخسارات) [خساراتي لم تعد تُحتَمَل.. فأنا أخرج من خسارة لأقع في أخرى.] ويعتذر بصراحته المعهودة وبلا مراوغة شعرية [إلهي.. إعذرني واعذر لغتي العارية، ذلك أن كائناً أعزل مثلي لا يستطيع أن يتحمّل كل يوم تراجيديا نوح..].
وقد وردت مفردة (الأعزل) كذلك لدى عبد الأمير جرص في مواجهة أخرى بين الفرد (العراقي) ورجال الأمن الذين وصفهم في بيت بليغ قائلاً:
وكل شعبٍ يرى في أمنِهِ أَمِناً وشعبنا من رجال الأمن يرتجفُ
ترى!
ما الذي تصنع الأسلحة
لرجل أعزل
أعزل
إلا من الأسلحة.
بينما يرتفع مستوى المواجهة في قصيدة أديب كمال الدين لحدود المطلق والميتافيزيقا، ولا تتكرر كلمة الأعزل أو تقترن بأية أسلحة أو مضادّات كما في النص المقابل. وفيما تتجلى درجة الاحساس بالألم واليأس في (خسارات) تنقلب إلى (حدّة) قاسية في القصيدة الثانية [إلهي.. أرسل إليّ ذئبك الموت حتى يواجه قلبي الأعزل ويمزقه إرباً إرباً، إلهي.. أرسله إليّ، لن أطرده، لن أقاومه، لن أهرب منه.] اننا لا نجد هنا حالة تقريع [للذات] كما في قصيدة (الوعل) لوسام هاشم [منذ ذلك اليوم تصفعني الحياة لأني أقرأ أدغار ألن بو جيداً..] ولكنها أوضح تعبيراً في وضع نهاية لـ[تراجيديا - الخسارات].
بعبارة أخرى، يمكن تقسيم ظاهرة ذكر مفردة الموت في شعر الشاعر مبدئياً إلى مرحلتين : مرحلة ما قبل (خسارات)، مرحلة ما بعد (خسارات). اتسمت في المرحلة بالربط الجمالي الفني أو الاسطوري، بينما مثل حالة شعورية ذاتية في المرحلة الثانية مقترنة بالاحباط واليأس والحدية.
أولاً: قصيدة [خسارات]
(1) خساراتي لم تعد تُحتَمَل
فأنا أخرج من خسارة لأقع في أخرى
فأنا - على سبيل المثال - متُّ
متُُّ منذ زمن طويل
وشبعتُ موتاً
وحين قررتُ أن أقوم من موتي
لابساً الأخضر بدل الأسود
وراكباً الغيمة بدل الدراجة الهوائية
صدمتُ بفسادِ الغيمة
وتمزقِ ثيابها الداخلية.
**
خساراتي لم تعد تُحتَمَل
صرتُ أقلّبُ أسماء المدن
فأجدها متشابهةً كالموت
وأقلّبُ أسماء الأزمنة والأمطار
والجروح والصواعق والنساء
فأرتبك
لأنّ جسدي الذي قام من موته عشرات المرات
وقلبي الذي قاوم العاصفة والدم والذهب
بكيا أمامي كطفلين يتيمين
واشتكيا لي من ضياع الحلم
بل صرخا من ضياع الحلم
وخرجا كمجنونين في الشوارع.. )
مجموعة ( حاء )
القراءة/ 1:
**********
ان الحياة في أبسط تعريفاتها هي (تكرار). تكرار الأيام والليالي والساعات والأشهر. تكرار وجبات الطعام والنوم والممارسات والطقوس والمواعيد. وعلى ذكر التكرار يرد للشاعر تعبير مؤثر في مجموعة : ( حاء) اذ يقول : [حبك ِخطأ يتكرر في الدقيقة ستين مرّة ]. فالتكرار في منظور الشاعر هو تكرار (الخسارات) حتى أنها لم تعد تُحتَمَل!. ولذلك فهي تعبير عن العبث واليأس من التغيير والتبدّل الذي يحدو بالشاعر نصيف الناصري أن يصرخ [بدّل حياتي يا غناء، بدّل النشيج] برماً بانكسارات الحرب وآثارها. وتظهر صورتان لحالة البرم هذه. الأولى: فقدان الرغبة والأمل في النهوض من حالة الموت (المقطع الأول)، والثانية: ان كلاً من الجسد والقلب [مركزا الحركة والشعور] هربا [إلى الشارع] احتجاحاً على ضياع الحلم، في كناية عن (الخسارة). وتقدم قصيدة [الأعزل] تفاصيل أكثر على طبيعة (الحلم) المفقود وبالتالي انعدام مبرر الاستمرار في (التكرار) أو اجتراره.
ثانياً:- قصيدة [الأعزل]
(1) إلهي
أرسل إليّ ذئبكَ (الموت)
حتى يواجه قلبي الأعزل
ويمزقه إرباً إرباً
إلهي
أرسله إليّ
لن أطرده
لن أقاومه
لن أهرب منه.
ولماذا أفعل ذلك
وقد تحولت حفلتي إلى سيركٍ من المجانين
وشمسي إلى شمعةٍ سوداء
وكينونتي إلى فرحةٍ سوداء؟
(2) إلهي
سأخرج إلى الشارع
لألتقي بذئبك
أما ملائكتك ذوات الأجنحة البيض
فأن قلبي الجريح
لم يعدْ يحسن الانصات
إلى رفيف أجنحتها.
إلهي
أعذرني
واعذر لغتي العارية
ذلك أن كائناً أعزل مثلي
لا يستطيع أن يتحمل كل يوم
تراجيديا نوح
وغرابه وحمامته وطوفانه العظيم
لا يستطيع أن يتحمل نار ابراهيم
وحفلة الرعب التي ألقاه الكفرة فيها
راقصين مبتهجين
ولا يستطيع أن يفعل كما فعل يوسف الصديق
أن يواجه إسطورة العذاب
لذلك الطفل الذي عاش في البئر
وفي القصر وفي السجن
وفي العرش.
إلهي
أرسلْ إليّ ذئبك
فربّما يجفّف الموت
مستنقع حياتي إلى الأبد
وربما يكون فم الذئب شجاعاً
بما يكفي لإنهاء
حفلة الطوفان والنار والعبودية.
مجموعة ( ماقبل الحرف .. مابعد النقطة )
القراءة/ 2:
*******
تتكون كل جملة شعرية [مقطع] من جزءين. يمثل الجزء الأول صيغة الطلب (النداء) [أرسل إليّ ذئبك..]، والجزء الثاني التبرير أو علّة الطلب متخذة عدة صيغ لغوية، كالأستفهام [ولماذا أهرب منه وقد تحولت]، أو (أما) التفصيلية والفاء الداخلة في جوابها [وأما ملائكتك ذوات الأجنحة البيض فأن قلبي..]، أو (ذلك) التبريرية [ذلك أن كائناً أعزل مثلي لا يستطيع أن يتحمل كل يوم..]، أو فاء العطف [فربما يجفف الموت مستنقع..]. وفي كل بنى الجزء الثاني نجد إشارة للتكرار وعدم احتماله الذي ورد في القصيدة الأولى [خساراتي لم تعد تُحتَمَل ]. وفي عبارة [لا يستطيع أن يتحمل كل يوم] تصريح واضح عن التكرار وعدم احتماله أو مبرره.
تتشابه القصيدتان من ناحية البناء [التقسيم المقطعي] وهي حالة شائعة في شعرية كمال الدين، إضافة إلى سلاسة التعبير ووضوح العبارة، والاشارات الصوفية أو التناصات الدينية التي سبق الاشارة اليها. وعبر بنية التناص الديني في قصيدة (الأعزل) يقدم الشاعر إضاءات نوعية عن خلفية موقفه النفسي والوجودي. وهو موقف غير منفصل عن الإطار (أو) المضمون (الوطني)، وفكرة ضياع (الوطن) عموماً على اختلاف القراءات الفكرية والأيديولوجية.
فبالامكان الادعاء أن تعابير [حفلتي/ شمسي/ كينونتي – سيرك/ شمعة/ فرحة] وعدم قدرة القلب الاستماع لرفيف أجنحة الملائكة ذات ذاتية صرفة، مع استمرار بنية التأويل؛ فأن الدخول المكثف للرموز الدينية [نوح والطوفان- ابراهيم والنار- يوسف والبئر والسجن والعرش] ذو اسقاطات سياسية واضحة، تتوجها ثلاث كلمات اختارها الشاعر بدقة في ختام القصيدة [الطوفان – النار - العبودية]. هذه الكلمات المتمفصلة مع الرموز الدينية الأخيرة في قطيعة تامة مع الشمس والكينونة وأجنحة الملائكة الواردة في البداية تقدّم القراءة السياسية على القراءة الذاتية للنص من جهة، لكنها لا تغلقه تماماً عبر استعادة مفردة (حفلة) من المقطع الأول والمقترنة بعبارة [سيرك] ، والإشارة المؤثرة [يجفف مستنقع حياتي إلى الأبد]. وهنا تجدر الإشارة إلى قصيدة سابقة للشاعر هذا العام عن بغداد عندما يستخدم في ختامها عبارة [ماتت بغداد] وهو شعور جمعي للأنتلجنسيا العراقية إزاء ما حدث لوطنهم. مما يبرر ظاهرة [تمني / دعوة] ذئب الموت الفردية أو الذاتية كرديف ونتيجة لتحقق حالة (موت) وطن غير قابل للتعويض في التاريخ أو الجغرافيا.
لقد دأب الشاعر أديب كمال الدين التعبير عن موقف واضح وثابت إزاء كل مرحلة ذاتية أو عامة، وجودية أو وطنية. وبشكل بعيد عن المراوغة واللف والدوران، وفي هذه المرحلة الصعبة، في هاتين القصيدتين، يثبت موقفه الواضح والصريح، الذي يرتفع به للمستوى الوجودي المتمفصل مع أزمات نفسية وذاتية ترسم قواسم مشتركة عراقية وعربية على أعتاب الهاوية التي ينحدر فيها العالم. وهذا يرفع القراءة من المستوى الذاتي إلى الذات الجمعية، ولا شكً أن كثيرين من القراء، يجدون أنفسهم بين [الخسارات والأعزل]، في ظل تشابه الظروف والمبررات، وهذا هو امتياز الشاعر الأول، انه ضمير الجماعة.