الحلم الكارثي في نصوص الشاعر أديب كمال الدين
قراءة: شاكر مجيد سيفو
يتأسس الخطاب الشعري لنصوص الشاعر أديب كمال الدين في كتابيه (ما قبل النقطة... ما بعد الحرف) و(شجرة الحروف) من فكرة النص الجسد: (الجسد - الكلمة) من خلال التماهي بين البنية الشكلانية والبنية الدلالية على مساحة النصّ، وكأنّ الحرف بنية دالّة تدخل بمنظومتها الكلية- الحروف - كعوامل بناء تشيّد هيكلية الفكرة الكليانية التي تعطي للنص وجوداً، معنىً ومبنى.
يسعى الشاعر في هذه الكتابة إلى تحقيق التواصل بالمحو والانقطاع والتواصل مع الآخر إذْ يتأسس مستوى البناء الكلي على عاملين هائلين مؤثّرين يقصد من ورائهما الشاعر التفرد في تحقيق أولا: السياق الحلمي الذي يتكّئ على رؤيا تاريخانية تأملية استبطانية، تذهب بها الذات العارفة, وثانيا إلى رؤيا تُمثلّ منظومة من الحدوس في رؤية خلاصية لاستكناه الأشياء والموجودات والوقائع.
إنّ احتفاء الشاعر بالحرف ومؤولاته هي من أوّليات الشغف التصوّفي للذات الشاعرة وهذه الرغبة العارمة من الانعتاق من الحلم الكارثي للمشهد العراقي الموبوء بميتاكارثيات الزمان والمكان. ويرى الشاعر أنّنا بالشعر ننتصر على أعداء الحياة ونحتفل بسعادة الأشياء، في هذه الآصرة الحلمية وسط لهيب الفوضى والظلم والطغيان وتنصيص عكس الرغبات الإرادية:
(تعبتْ بغداد من ثيابِ الدم
تعبتْ وبكتْ
وحين طلبتْ جرعةَ ماء
أعطوها قنبلةً للموتِ وسيفاً للذبح
وحين طلبتْ رغيفَ خبز
أعطوها رمحاً من نار
وحين طلبتْ شمساً
صادوا شمسَ الله
حتى لا تحضر يوماً ما
لشوارع بغداد.)
من نص: "بغداد بثياب الدم".
بعد مخاضات بغداد وجسامة الحوادث التاريخية التي مرت بها، يرسل الشاعر موشوراً حلمياً يبعث على الثبات والطمأنينة والإشعاع وظهور طيف الخلاص:
(نعم، يا بغداد،
ستضيئين الدنيا ثانيةً
بثيابِ الشمس
لا بثيابِ الدم،
فأنتِ العنقاءُ وأنتِ الشمس!)
يكتب الشاعر بهذه الروح الملتاعة الملدوغة بسهام الفراق والنأي من بلاد الغربة، في لحظات نادرة، لحظات انبجاس الشعري من الروحي، من الداخل الشخصي، يكتب بهذه السيميائية الدراماتيكية التي تؤسس لنص الكتلة، كما في الرسم، في قراءات الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد للحرف والكلمة والنقطة في أقطاب تتجاذب وتتنافر شكلياً ودرامياً ووجدانياً.
إنّ رؤيا الشاعر أديب كمال الدين تستعيد أنساق مرجعيات اليقين المبثوثة في التراث الميثيولوجي والروحي التصوفي، هذه الحاضنة الكثيفة في فكرانيتها ووجدها الوجودي ومخيالها الجمعي تترادف في ذاكرة الذات الشاعرة، ولا يمكن لها الإفلات منها أبداً، فالمعاني العالية في هذه التمظهرات الباطنية التي تترى في نصوصه (عصا موسى، صليب المسيح، قصص الأنبياء والأولياء والصالحين والقديسين، قصة عاد وثمود، قصة يوسف وإخوته، حادثة الطف، قطع رأس الحسين، نار إبراهيم) هذه كلّها يؤسس لها النص ذروات شعرية تُعضّد القول الشعري وتعمل على تموين الفكرة بحمولة دلالية تاريخية تتماهى مع كارثية المشهد العراقي منذ بدء الخلق وحتى هذه اللحظة. ومما يشعّ من داخلية النصوص هذه الفانتازيا التي تتصاعد ذروتها في اللاتشيّؤ وخروج الجهاز اللغوي من منطقة الإبهام إلى الإيهام والزوغان، وربط الحاضر بالماضي، يتخطّى تقليدية القصّ والروي، فالمخيال الشخصي يشتغل في منطقة الشعر ويحرث في سكونية الفعل كي يصل إلى تشعير الروي أو السرد وحدوس الذات الشاعرة المتدافعة والمتراكمة مشكلّةً فضاءً سينوغرافيا مزدحماً بالتوجع والألم والحسرات تارة وأخرى بالحكمة والعقلانية واجتراح المعاني العالية والكبيرة:
(مرّت قرون طويلة
على فراقنا.
غرق مركبُ نوح ثانيةً في الطوفان
فصارعلى الناجين
أن يجرّبوا الصبر
من دون نبيّ
واحترقت المدنُ العظيمة
خلف الجبال والزمن والأمطار
واحترقت الأحلامُ كلّها:
أحلامُ العصافير وأحلامُ الطغاة
ولم أزل أنتظر
أن ألتقي بكِ يوماً
لأستعيد معك
قصةَ رحلتنا الأولى مع نوح).
ص 52- 53
من نصه: "شجرة وحيدة".
تتمظهر أنسنة الحرف في انتقالاته النصية وما تظهره الروح الاستكشافية والاستكناهية في شعرية العبارة والجملة والكلمة، بهذه التناصية يكثف الشاعر مشهديته الشعرية التي تحتضن، بنية الحكاية والحوار والفعل الدرامي بين مخلوقاته التي تتحول إلى رموز وأيقونات تؤدّي وظيفتها الدلالية في سرد الحكاية وتواشجات الحادثة النصية:
(قالت النقطة:
مرّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربّما أربعون
لم أعد أتذكّر الرقم
لكنني أتذكّرُ أنني قدتكَ إلى الهاوية
- أيها الحرف -
قدتكَ إلى السعير، فجهنم، فَسَقر
ثم ألقيتُ بكَ في مهاوي الجحيم
أتذكّرُ أنني نسفتُ معناك
وأشعلتُ ذاكرتك
وألقيتُ القبضَ عليك
باسم الحبّ
ثم خنتكَ في أقرب فرصة!)
ص 37 - 38
إنّ الشاعر أديب كمال الدين يكتب أسطورته الشعرية التي لا تنتمي إلى أساطير الحاضر– والخلق الأول– له متنه الأسطوري الخاص جداً يؤسس له عالمين متضادين منذ الأزل هما (الحياة والموت) ويستشرف من خلال هذه العلاقة التضادية الوجودية أسطورية الزمن، وتشظّي بنية الزمكان في ديمومة هذه الرحلة الوجودية الأنطولوجية. لكن سرعان ما يغلب الموت على مشهدية الشاعر بهذه الكارثية التي تشعّ شعرية حادثتها المروية في بنية اللون الأسْود وطغيان مفردة الموت بقوة على تناصّات القول الشعري:
(قال الطبيبُ: إذن ماذا تنتظرين؟
قالت: (أنتظرُ الموتَ ليأتي
ويأخذني مرتدياُ طفولةً سوداء
وشباباً أسود
وكهولةً سوداء.)
مدّ الطبيبُ يده ذات القفاز الأبيض
إلى الضحية
فأبعدها الموتُ برفق
كان الموتُ يبكي على الضحية بدموعٍ سود.
لكنّ الضحية نفسها
وجدتْ في الأسود،
في آخرِ المطاف،
طمأنينةَ الألوانِ كلّها ).
ص 132 من نصه " ألوان"
يلحّ الشاعر في توريد كلمة الموت في معظم نصوصه فقلما نجد نصا يخلو من هذه المفردة. ومن مشهد الموت; يرسل الشاعر حشوداً من الصور المأساوية:
(كلّ يومٍ أموتُ عند الصباح
ثم أستيقظُ عند الليل
فلا أجد أمامي
على مائدتي
سوى شمعة عتيقة ذابَ نصفها.)
ص 135
ومن بنى الأدعية والطلبات يتمشهد القول الشعري في صياغات تعبّدية ذاتية:
(إلهي
أرسلْ إليّ ذئبكَ: الموت
حتّى يواجه قلبي الأعزل
ويمزّقه إرباً إرباً.)
ص122 ).
يعتمد الشاعر في تأثيث نصوصه على التشكيل الصوري في ردم الهوَة للحال الشخصي بين الداخل والخارج، بقدر ديمومة حركة الدوال وقلقها وتمظهر أسئلتها وحواراتها التي تُعزّز المواقف النفسية الضاغطة والمتكررة باتجاه نقطة علامية تمنح فضاء النص صيرورة التفاعل والتراكب والتضاد والتراسل بين محتويات الأشياء وقرائنها التي تتدخل في تحقيق الأفق الدلالي للحال الشعرية ومديات إشعاع أفعالها:
(قالت النقطةُ للحرف:
لم يكن قلبكَ مولوداً في برج الحمل
بل في برج العذاب...
قال الحرفُ للنقطة:
هل تتذكرين الجسور التي عبرناها؟
كانت جسوراً
مليئةً بالفراتِ والسمكِ اللابطِ تحت أشعة الشمس
كانت جسوراً مليئةً بالدوّي والدخان
مليئة بالعيون التي كادت أن تفترسَ جمالك
وكانت مليئة، بعدئذ،
بالخناجرالتي مزّقتْْ جسدكِ البضّ
وحلمكِ العظيم.
ياه..
هي ذي جسور علي بن الجهم
حيث لا رصافة
وجسور الرصافة
حيث الكرخ يحترق كلّ يوم
ويغرق. )
ص85 - 86 من نصه: "جسور".
تعتمد الصورة الشعرية في نصّ الشاعر على مضاعفة القول الشعري وتضاعف أنساقه اللسانية في منظومة من التداعيات التي ينسبها الشاعر إلى كائنات النص الانتقالية تتعالق فيما بينها لإضفاء قدرات التبئير الشعري وتوسيع فضاءاتهِ التشكيلية التي تكمن في إثارة عواطفنا واستجاباتنا للعاطفة الشعرية، حسب سي– دي لويس في تعليقه على قوة الصورة الشعرية وتوهجهاّ، وخصيصتها العلاقاتية وانعكاس المعاني والمداليل الجديدة التي تتمظهر في الخواص الشعرية:
( قالت النقطةُ: مَن أعطاني تاجاً
أنا الذي ادعى كينونتي الأولياءُ والصالحون؟
قال الحرفُ: مَن سرق حذاء طفولتي
أنا الذي نسف ذاكرتي الكذابون والشويعرون؟
قالت النقطة: هل يكفي أن أطلق رصاصةً
على رأس شاعري لأموت
وأريحه من عذاب الموت؟
قال الحرفُ: هل يكفي أن أباغته
بخرابِ الماءِ وفضيحةِ الماء
ليموت كاتبي
وأموت قبله فرحاً دون ذنب؟)
ص 60- 61 من نصّه: "حوارات النقطة".
تتشاكل هذه الحوارات لتشكل بنية كليّة – للنص، وتجتهد الذات الساردة في تشعير دراما الحوار عبر سلسلة من الإزاحات في التشكيل الصوري والدلالي. إن إلتماعات الصور الشعرية في نصوص الشاعر تشعّ بقوة الضربات التصويرية، وبثّها الشعري، هي في غاية الدقة والعمق والمخيال الشخصي.
**************************
شاكر مجيد سيفو- العراق- الموصل
نُشرت في ملحق أوراق الذي تصدره صحيفة المدى البغدادية ، العدد 2550 في 29 تموز 2012