(ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) وما بينهما
صباح الأنباري
ما قبل الحرف.. أفكار تترى ورؤى تموج وصور تتلاحق في مخياله. شخوص يرتقون زمنه الشعري وصراع يطول أحلامه. يشتتها أو يمنحها زهوها الخاص. عمر يناهز عمر الكينونة ، ويتجاوز ملكوت الدينونة مجسداً في هيئة إنسان.. امرأة من نار أو رجل من برد .. سحايا .. جنون .. صحراء .. رعب.. عذابات سود .. يتم .. ضياع .. عظام .. موت .. جماجم .. أحزان أصدقائه الأوغاد.. سذاجة زرقاء في ضجة آخر الليل.. مطر أسود أو أحمر .. باءات أوديبية.. اعترافات و أدوار.. و .. و .. و آخرة ما بعد الموت وما بعد الجحيم تطول وتطول بلا انتهاء قبل أن يمنحها صيرورتها اللغوية وصورها الشعرية وقبل أن يكتبها حرفاً بعد حرف ونقطة بعد نقطة. وإذ يكتبها ويمهرها بآخر نقاطه السود الطيعة أو تلك التي التي لا تطيع يظل ما بعدها قائما على أساس ما قبلها .
ما بعد النقطة .. مصائر غير محددة ومستقبل مبهم .. زمن يتأسس على احباطات الحاضر .. على معاناة الحروف ، واضطرابات النقاط .. على جنون اللغة وجنوحها نحو العذابات الأزليّة .. رحيل ممعن في الموت، وغياب ممهور بالاختفاء الأبدي .. دهر يعوي .. يقوم و يعوي، وشمس مثل حذاء طفل يتيم ترجع لتنام والناس مثلها الى نومهم يرجعون .. ملكوت بلاملامح ، بلا وجوه ، وصحراء تمتد الى آخر الوجود .
ما بين الحرف والنقطة .. نتحرّى منجز الشاعر الذي تميّز ، منذ وقت مبكر ، بالكشف عن هموم النقاط والحروف . لقد شغلت الحروف والنقاط ولم تزل حيزاً كبيراً في تجربة أديب كمال الدين. عليها أسس رؤياه وبوساطتها رسم صور العذابات البشرية. هي قانونه المركزي وشغله الدائم وهاجسه المستمر وما خرج عنها ليس إلاّ جزءاً يقع من تجربته موقع الضوء من القمر والماء من النهر والحزن العراقيّ من دجلة الثاكلة . فالألوان ومباهجها أو عذاباتها ، وصور الجهر الصماء وان تحدّث عنها النقاد والمتابعون لشعره ليست إلاّ ظلاً خفيفاً لقامة شعره الفرعاء لا امتيازاً له ولا تفرّداً بين من سبقوه اليها أو خصصوا ديواناً لها مثل الشاعر الجميل شيركو بيكه س في ديوانه (إناء الألوان).
الحروف والنقاط إذن هي إمتياز أديب كمال الدين وتفرّده وواسطته للارتقاء الى عالمية الشعر ، والغور في ملكوته المقدس . ولعل ما يميز قصائده ، على الرغم من ، حروفيتها ، اهتمامها بالمعنى واستقرائها لقيم الحياة الإنسانية ونفاذها الى جوهر الوجود. ما بين القبل (قبل الحرف) والبعد (بعد النقطة) يؤسطر الشاعر حاضره الدامي وشعوره الدائم بالضياع والعذاب والعزلة والموت :
كيف سأصفُ ، اللحظة ، موتي الأبدي
وضياعي في جسد من لعنة الحب
و عذابات الرغبة والـشوق ؟
في القصيدة التي تصدرتْ قريناتها تبدأ مأساة الشاعر وتراجيدية حياته وبلاياها بدمٍ مراقٍ جثة معفّرة بالدم والتراب وجهر بأزلية القتل:
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضا ؟!
وعلى الرغم من مجيئه ورحيله مقتولاً تظل أسطورة مأساته قائمة على مخاوفه التي تجاوزت لزومية موته الى مجهولية كينونته:
هل كان إلهياً أم كان خرافيا ؟
أنسيا أم جنّيا ؟!
هكذا زعم أصدقاؤه السذّج منهم والمنفيون والأوغاد وهكذا أصبح معنى الحياة قاتماً والواقع هشّاً وكينونته ملغاة. لقد افتتح أديب كمال الدين مجموعته الشعرية بهذه القصيدة وكأنّي به أراد أن يقدّم نفسه لقرائه بطريقة شعرية بحتة تنعكس على صفحتها سيرته الإنسانية و صوفيته التي استباحها الأوغاد و المنفيّون والسذّج في عالم يمتد من الموت الى الموت.
هي ثامنة المجاميع في سلسلة إصداراته الشعرية وفيها يعود ليؤكد مأساوية الحياة و ظلامية النظم واستسلامية البشر من خلال ذاته المستباحة وحروفه التي هدرتها أزمنة المنافي هنا أو هناك أو في أيّ مكان آخر. قرون مضت وهو لم يزل طفلاً انتهك حرماته الضياعُ وملاكاً مصاباً بالجذام و شيخاً منسياً في أقاصي العالم وشاعراً يشكو من وحشة الشمس و .. و .. و تمتد المأساة الى آخره فتلفّ في دوامتها حروفه الجامحة ونقاطه المستكينة وهي تثير ضجة في آخر الليل رافعة شكواها الى الكلمات بلغة لم تألفها المرافعات والادعاءات حيث يتحوّل الحرف الى دال مخصيّ والنقطة الى مهيمنة أنثذكرية وحيث تتهيكل الكلمات بهيئات بشرية لن تغير من وضع الحرف شيئاً ولن تضيف للنقطة أي شيء فتختفي النقطة في بيت خيانتها المنيف:
لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول
وسط صهيل الكلمات
أعني وسط صهيل الناس !
هكذا يصور الشاعرُ عالمه المضطرب: صراع بين حروفه التي تروم الانطلاق الى البعيد وبين نقاطه التي تكبح جماح ذلك الانطلاق. ففي كلّ سطر يبلغ الحرف أو يحاول بلوغ عالم يراه في يقينه جميلاً ومستقرّاً تأتي النقطة لتغلق أمامه الطريق في خاتمة السطر أو في خواتم الأسطر كلها لتهيمن على عالمه تشاؤمية سوداء .
النقطة عند أديب كمال الدين، إذن، تلبس لبوساً أنثوياً وفي بعض أحيانها أنثذكريا، بينما يلبس الحرف على امتداد القصائد لبوسه الذكري المعتاد وما بينهما تتجسّد الرؤيا، فتغدو النقطة امرأة مليئة بمشاعل الرغبة وأثداء الشهوة وسيقان الحلم وعذابات القبل صعوداً على تلك السيقان أو نزولاً منها الى باب الخرافة :
بما يشبه القتل الجماعي
لمئات الفاريّن من المعركة
والنقطة عنده أيضاً هي اقتراف الفعل واعتراف بذلك الاقتراف . هي الخطيئة التي ألحقت بالحرف لعنة السماء وحنق الأرض وأشعلت في ذاكرته نار اغتلامه اليها ثم قررت أن تخونه في أول الفرص . هي أسيرة الرغبة وملكة الشهوة وسيدة الاغتلام وبؤرة الخيانة . هي الجبروت والطاغوت والملاك المدجج بشياطين الأرض ومردة الجحيم . هي البحر مزنّراً بمباهج الحياة ومجنّدلاً بصخور الموت . هي البدء والخاتمة والانتهاء . وهي ، في آخر الأمر ، وعلى الرغم من هذا كله ، بعض من الحرف أو ضلع فيه :
قالت النقطة :
أيّهذا المعذّب
أنا بعض منك !
ضحك الحرف وقال :
أيّهذي المعذّبة
أنتِ بعض مني !
أما الحرف فهو عنده قتيل محكوم بالاخصاء ، وفرس جامح بعيون مسملة ، ورأس مقطوع وقلب محطّم وجسد هزيل . هو أوديب والحلاج وهاملت والحسين وابن مُقله والسياب . هو الطفل ملفوفاً بأسمال الكهولة والساحر العازف على مزمار الموت وموسيقى الفزع ومسالك الدموع ومضاجع البكاء مدفئاً بحرارة الجثث ومحفوفاً بساحرات الظلام. هو المهووس والموسوس و الضائع والمحروم والمنفيّ. هو الفرات مخموراً بموجة الحزن وهو دجلة متسترة بعري مستباح . هو العارف والجاهل والنازف والرائي والمحمول على تابوته الأسود . هو المغامر مرتحلاً من قارة الطغاة الى قارة أشدّ طغياناً وعتّوا. هو العابر من جلجلة الى جلجلة و من زلزلة الى زلزلة. هو النبيّ والشيطان واللعنة والمعجزة. وأخيراً هو الشاعر محكوماً بالصلب ومقتولاً بالحبّ :
وقال للشاعر : اخترْ حرفك !
فاختارَ الشاعرُ العينَ والياءَ والسينَ و الألف
ضحك ملكُ الحروف وقال :
لقد اخترتَ أن تُصلَب
وأن تمشي الى الجلجلة !
صراع طويل لا تتولّد عنه سوى المأساة وسوى تراجيدية القهر والدمار والاخصاء والسمل والذبح والنسف والعسف والترهيب والترغيب والتغييب والضياع. شفرات تخلّف شفرات أخر في ترتيب وتلاحق وتصفيف واتساق وتساوق تبثها إرهاصاته بيقين تام ليتسلمها قارئه باستسلام تام مشيّدة في ذهنه عالماً هشّاً قابلاً للزوال في أية لحظة تسبق النقاط. عالم مخيف حد الرعب ومرعب حد الخرافة ودمويّ حد الشعور بارتجاف الضمائر. خوف مؤسس على خوف. يتناسل ويكبر رويداً رويداً أو بقفزات تدفع متلقيه للتطهر منه جزئياً أو كليا. فبعد هذا كله ليس أمام الشاعر من وسيلة أخرى يصل بها الى غايته المثلى النبيلة الاّ أن يستخدم قوة الشعر وقدرته الهائلة على تحريك فعل التطهر بكل دراميته، وكل أسطوريته، وكل إمكانياته في انتزاع ذلك الخوف المؤدلج . لقد عاش الشاعر و مجايلوه أحداث ما قبل سقوط (الصنم) وما بعدها فخبر ما بينهما وعانى منها و ذاق الأمرّين، واحترق بنارين: نار الغربة داخل زنزانة فسيحة تدعى الوطن، ونار الغربة في قارات العالم الفسيحة حائراً ليقف ضارعاً بين يدي (سيد الملكوت) طارحاً شكوكية يقينه أو يقينية شكوكه وثوابتهما المضطربة بقداسة الصوفيّ وزمهرير إيمانه المطلق:
أنا أنتقل فيكَ وبكَ ومنك
من جلجلةٍ الى جلجلة
ومن قارةٍ الى قارة
ومن رعبٍ الى رعب
ومن زلزلةٍ الى زلزلة
ومن واقعةٍ الى واقعة
أيُعقل أن أجلس أربعين عاماً عند بابك -
وأنا الحاجب -
فلا يُفتح لي .
تساؤلات مريبة أفضت الى صحوة صوفية جديدة، الى يقين جديد، الى معقولية فجرتها لا معقولية الواقع الاستهلاكي والشكوك المهيمنة على مفاصل حياته كلها وقدرية موته وحتمية مغادرته الدنيا مقتولا وهو لهذا و ذاك أو بسببهما يعاود النظر الى نفسه فقط ليتأكد من أن حروفه ما تزال فاعلة ونقاطه ما تزال على قيد الحياة :
كلّ حين
أنظر في المرآة
لأتأكد أنني لم أمت بعد !
فالحياة بكلّ قواها الصوفية، والواقع بكل زهده و زهّاده، والشعر بكلّ قدراته وخوارقه غير قادرين على منحه ما يريد بعد أن تراكمت عليه مهيمنات الموت ومتوالياته شاغلة كلّ ثغرة وغالقة كلّ بصيص. منذ أربعين عاما ، منذ بلوغه سن الوعي المبكر وبعد مجيئه الى الدنيا بخمسة عشر عاما شغلته الحياة فاستأثر الموت بحروفه متحصناً بالنقاط السود ومتربّصاً بكل جماليات الوجود ومقيداً حركية الواقع بجمودية مقيتة وفارضاً على القصائد نواحاً وعويلاً وولولة وشجون قاتمة ، و حاشراً نفسه أو فارضاً إرادته على أغلب قصائد (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) بشكل مباشر، وعلى البقية الباقية بشكل غير مباشر . الموت إذن هو الموضوعة الرئيسة و المحورية في مجموعة أديب كمال الدين الذي تعامل معها صوفيّاً و فلسفياً ولكنها مع ذلك ظلت شائكة بسبب شيوع مجانيته وضلوعه المستبد بكلّ مفاصل الحياة ومباهجها :
عجيب
ما علاقة المرآة بالموت ؟
بل ما علاقة المرأة بالموت ؟
بل ما علاقة المرآة بالمرأة ؟
وما علاقة الموت بالموت ؟
أسئلة تفضي الى أسئلة أخرى، وهذايانات تنثال تداعياتها على امتداد المجموعة كلها لا لتوضح التباس الموت بالموت بل لتثبت اعتراف الشاعر بهيمنتها على حروف حياته القلقة :
ياالهي
لِمَ أتحدث كثيراً عن الموت
لا عن الفجر ؟
ألأنني رأيتُ التابوتَ وجلستُ فيه ؟
أم لأنني أحمل تابوتي فوق ظهري
حين يختفي الناس
وأحمله بين ضلوعي
حين أدخل الأسواق
وأصافح السوقةَ والببغاوات ؟
ياالهي
ومضةً من نقطتك تخفف من عذاب قلبي
ومضةً قبل أن نفترق
وتذهب أنتَ مضيئاً الى عرشك المضيء
وأذهب أنا مظلماً إلى تابوتي الأسود .
مستسلماً نراه داخل ذلك التابوت، ومستكيناً لاتجاه المأساة نحو المأساة بعد أن زعزعت الظروف الأمان بالخلاص، والتطهر من آثام حرق بيوت العباد والعبادة بأمر من " صاحب الجند" الذي ترك بغداد الشاعر تضيع الى أبد الآبدين وهو يصرخ ملء فيه : "سأختار لكم موتاً جديدا ".
ما بينهما إذن (بين الحرف والنقطة) موت مدخول بالموت. موت كلما غادر عالم الشاعر عاد بوجه أكثر قبحاً أو أكثر رعباً.. أو.. موت يصل البداية بالنهاية فتنغلق النقطة على الحرف، وتظلم الحياة إظلامها الأبدي الأخير ظلام لا خلاص فيه إلاّ بالتطهر منه، والتعمّد بنار الشعر الأزليّة.
**************************************
مواقع عراق الكلمة وكتابات والهدف الثقافي 11 أيلول – سبتمبر 2006
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 127 - 133