"شجرة الحروف" لأديب كمال الدين
النهل من أسرار حروف العربية
نصر جميل شعث
عن « دار أزمنة » صدرت، حديثًا، مَجموعة شعرية للشاعر العراقي أديب كمال الدين، وحملت عنوان « شجرة الحروف ». وقد كُتِبت قصائد المجموعة، كما يشير الشاعر، في أستراليا، في عامي 2006 و2007. وكما بات معروفًا، فأديب كمال الدين هو الشاعر أو الملك الحروفي الذي وَجَد في حروف اللغة العربية وفي النقطة كثافة وغزارة أسرارٍ ومكامنَ شعرية هائلة و فائضة، ينهل منها سعيدًا بِسعة ووفرة المعاني، غيرَ مأسور بالنمطيّة والتكرار. فليس ثمة من استنزاف للحرف والنقطة ينتهي إلى موت الخصوصية ، بل تنويع وتجديد رؤيوي وخلاق للحياة الجمالية. ويكاد يكون أديبُ الشاعرَ الوحيدَ، الآن، الذي أبدل فلسفة الشعراء بالانشغال بالذات والموضوع في إهابها الجدلي؛ بالانشغال بالحرف والنقطة في فائضها وفضفاضها الشعري والصوفي والجمالي والأسطوري والغرائبي والوجودي العميق. فكان التماهي حاضرًا، في مثل هذه الخصوصية، أمام القارئ الذي لم يستطع التمييز بين شكل الذات والموضوع لفصلهما .
فالحرف والنقطة كلاهما يَحضران، معًا، في علاقة أصيلة تحرس الذات وتُسِرّها في الموضوع, على أنها تغْمر الموضوعَ في الذات، في الوقت نفسه، كصورٍ فيها من الجواهر ما يجعل الحروف ممتدة في الغيب وموصولة بالذات وأصالتها وآمالها تمامًا. لنجد ذواتنا حول شجرة اللغة العربية بكل مستوياتها الجمالية والدلالية والإيقاعية والسماوية الخالدة التي تقاوم الموت بالخلود كـ « هوية » مُشجّرة بالمعنى المقاوم للزيف والمحل. وبالشعر الذي يأتي من نافذة التأمّل ومن باب المأساة، وراء شكل الحرف العربي الذي يكون ثابتًا، وأما التحولات، فتجريها عليه النقطة التي لها مماثلات كثيرة، في معجم الشاعر، مثل ثمرة صفراء، دمعة، نجمة، بيضة ذهبية، حبة، طائر يصير نقطة في البعيد، شمس، ونقطة دم.. وما إلى هنالك من بؤر ودوائر التوتر الصغيرة شكلا والكبيرة بتحولاتها ومعانيها وسقوطها الوجودي الأوّل؛ التي نجدها مجتمعة ومختزلة، مثلا، في قصيدة « شجرة الحروف » ذاتها، التي حملت المجموعة اسمها، بدءً بالمقطع الشعري الأوّل الذي يزرع الرؤيَا في مناخ الأسطورة الخاصة التي تشفّ عن دوخة شعرية جليلة، في حالة الشاعر والقارئ في آن. يقول الشاعر:
« ليس هناك من شجرةٍ بهذا الاسم
أو بهذا المعنى
ولذا أنبتُّ هيكليَ العظْمي في الصحراء
وألبسته قبّعةَ
الحلم
وحذاءَ طفولتي الأحمر
وعلّقتُ عليه
طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون
ثم وضعتُ عليه
بيضةً صفراء كبيرة
اسمها النقطة! ».
وقد جاءت النقطة بوصفها مماثلاً – مُحلّقا ومتحولا فوق الحرف- للبيضة بوصفها موضوعًا طبيعيّا، وخارقة من حيث هي كبيرة! إنّ البيضة كشكلٍ تحيل على التحولات في وجودها، أي حدث الانشقاق والولادة أي خروج الكائن المختزل كجوهر في الداخل إلى الظهور والحياة كمعنى. وقد عرّف الشاعر الشجرة، في المقطع الثاني من القصيدة، بقوله:
« وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جدّاً
مليئةً بالشمس
سمّيتها شجرةَ الحروف! ».
وأما أنّ البيضةَ صفراءُ كبيرة؛ فهذه صفات تَخصّ الصحراء. وكون أننا أمام تسمية أو خلق الشاعر الجديد لشجرة من العدم - إذ ليس هناك من شجرة بهذا الاسم أو بهذا المعنى - فإنّ اسم النقطة يُظهِرُ وجودَ ثمرةٍ صفراءَ ناضجة على هذه الشجرة الخضراء المثمرة، والمضيئة، التي ستشكّل إزاحة لصفات الصحراء. وقد جعل الشاعر النقطة الصفراء بما هي سرّ أو معنى جوهري داخل البيضة، صفة ًخارجية لها. وهكذا، بالطريقة الأسطورية وبالرؤيا المحاكية، في جانب وثيق الصلة منها، لبعض تصورات ومعتقدات شرقية تروي أساطيرها البدائية عن كيفية نشأة الكون وولادته من بيضة. فكما ينقل الباحث المجري مرسيا إلياد، في كتابة ( مظاهر الأسطورة ) عن تاريخ كبار العائلات والأسر المالكة في التيبت: « من جوهر العناصر الخمسة الأصيلة، طلعت بيضة كبيرة (…) ثماني عشرة بيضة خرجت من محّ ( صفار ) هذه البيضة. الوسطى بين البيضات الثماني عشرة، وهي بيضة الصَّدَف، انفصلت عن الأخريات. نَبَتَ لهذه البيضة أطرافٌ، ثم خمس حواس بالتمام والكمال. ثم أصبحت غلامًا شابًا ذا جمال خارق حتى لكأنه تحقيق لنَذْرِ ( ييدلا سمون. فسمي الملك يس – سَمون. أما الملكة تشولشاغ، وهي زوجته، فقد أنجبتْ له ابنًا قادرًا على التحول بالسحر. ومن ثمة تمضى الأسطورة في تعداد الذّرية وحكاية أصل مختلف العشائر والأسر ) .
إذن، هكذا.. بهذه الطريقة ينبت الشاعر هيكله العظمي في الصحراء محوّلاً إياه شجرة اللذة / القصيدة / الحياة / الشمس؛ في خضم واقعة الموت والليل الأسود الطويل. إنها « شجرة الحروف » قصيدة ومجموعة تَستحثّ الحياة، وتربّي أمل الشاعر الذي يحيطها بسياج من الاغتراب والأسى والذاكرة الخاصة والعامة. فنرى في بعض القصائد خطابية عالية كما هو الحال في قصيدة « بغداد بثياب الدم ». كما يختار الشاعر عناوين لقصائد متعددة بصيغة التخصيص، وهي تتمسك بمعاني ومطلب التجدد والبقاء على قيد الحياة، على نحو ما يظهر لنا في : « قصيدتي الجديدة » التي تملكها و تحتفل بها نفْسٌ خضراء ، ولكن تقتلها يد الشرطيّ. وكذلك: « قصيدتي الأزليّة »، إذ يقف العنوان، بداية، مدافعًا عن الاسم والذات أمام «شجرة الثعابين »، وفي هذه القصيدة يوظف الشاعر « شجرة الأنبياء »، لاسيما أولي العزم، أصحاب الأقدار والمصائر الجسيمة والتراجيدية؛ ليقول ما معناه: إن الشقاء والأسى أزليّ. ولكنه، بالمقابل، بوسعنا أن نقرأ العنوان من كونه مدافعًا عن الإسم والذات. وكذلك الحال في قصيدة أخرى: « قصيدتي الصبية »، فهي تعيش حيرة الكشف عن أسرارها وتتساءل: أي من الموضوعات ، أو أيّ من عناصر الوجود ستختار لتكشف عن ذاتها وتمجّد أسرارها ؟: « هل سَتُمجّد البحر؟ سوف تُتهم بالطبيعيّة! » أم : « هل سَتُمجّد النار؟سوف تُتهم بالمجوسيّة! ». أم: « هل سَتُمجّد الحبّ: أقماره وغواياته ؟ سوف تُتهم بالإباحيّة! ». أم: « هل سَتُمجّد الحرف وترقصُ في سحره كالدراويش ؟ سوف تُتهم بالحروفيّة! ». وكذلك أسئلة أخرى أمام هذه القصيدة الصبيّة: « هل سَتُمجّد الشرّ ؟ سوف تُتهم بالشذوذ! هل سَتُمجّد الله ؟ سوف تُتهم بالتصوّف! ». إذن فـ
« ما الذي ستفعله هذه الصَبيّة ؟
لم تكنْ تعرف شيئاً سوى الدمع.
وضعتْ رأسها ما بين ركبتيها
وبكتْ من جديد!
**
استمرَّ بكاءُ
القصيدةِ ألفَ عام
حتّى تحوّلتْ إلى ملاكٍ عجيب
طارَ فوقَ البحر والنار
طارَ فوقَ الحبّ: أقماره وغواياته
طارَ فوقَ الحرف راقصًا كالدراويش
طارَ فوقَ الشرّ والحقد
طارَ فوقَ المحبّة
**
استمرَّ صعود
القصيدةِ ألفَ عام
وكانَ الذي قالَ: (كنْ فيكون)
ينظرُ إليها سعيداً سعيداً تماماً
مثلما أمّ موسى
وقد رُدّ إليها ابنُها
بعدما كادَ يغيّبه البحرُ والدهر
إلى يوم يُبْعَثون! ».
وهكذا ينشغل الشاعر وقصيدته التي تخوض التحولات، بالحيرة والأسئلة التي هي بمثابة تعلّة و« ارتباك »، أمام حقيقة مطلقة نجدها في قصيدة تحمل عنوان آلة القطع الجائر: « فؤوس »، فيقول في بدايتها:
« أنا والشجرةُ سنهرم
هي ستفقد شيئاً فشيئاً
ثمارَها وأغصانها
وأنا سأفقد شيئاً فشيئاً
شعري وأسناني. ».
وثمة مشترك دلالي بين قصيدة « شجرة الحروف » وقصيدة بعنوان « الغريب»؛ نجده في وجود بيضة ذهبية، في الأخيرة. هذه البيضة الذهبية هي القصيدة، والشعر الحيوي المشرق بما هو نبع يتوقف عنده الشاعر، وقت الغروب، ويشرب وحصانَه الماءَ، التي يأنس بها كونه يرى فيها عينًا ويدًا بشريتين. أو أن تفجعه هذه الرؤية الواقعية للموت في العين واليد. لائذًا بالقصيدة والشعر كمكان ووطن مجازي مليء بالحياة والجمال الفني الذي نجده في قصيدة الشاعر العراقي أديب كمال الدين المتوقف في غربته واغترابه، عند النبع وقت الغروب، يرى عينًا بشرية ويدًا بشرية، و قناعًا من الذهب، وبيضة من الذهب، وكتابا كبيرًا !. هذه البيضة الذهبية الخيالية هي نقطة وبؤرة سعادة الشاعر في حياة الفنّ. هي الرؤيا الشعرية والقناع وكلاهما شرطان لنجاح القصيدة وخلودها في قارئ السعادة .
*********************
نُشرت في صحيفة القدس العربي 3 أيلول - سبتمبر 2007