ترميزالحرف الشعري:
اشتقاق معنى الحرف من مفردة يكون جزءاً منها
د. ناظم عودة
في مستهل مجموعته الشعرية (نون) يشعر أديب كمال الدين بحيرة القارئ أمام استغلاق رمزه الذي يأخذ شكلاً واحداً هو (الحرف) بأشكاله المختلفة، فيصوغ ذلك شعراً، يقول :
لكلِّ من لا يفهمُ في الحرفِ أقول :
النون شيء عظيم
والنون شيء صعبُ المنال
إنه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة
ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة
في حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة
ومقلوبٌ، حقاً، عن لبّ الحقيقة
وهكذا اتضحَ لكم كلُّ شيء
فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمةٍ
عن معنى النون.
أديب كمال الدين - نون - ص4 - مطبعة الجاحظ - بغداد 1993
على الرغم من أنّ التعالي على القارئ من مجلوبات الحداثة التي أقحمت عنوة في الشعر العربي، إلاّ أن أديب كمال الدين، الذي يروي سيرته من خلال رواية لسيرة الحروف، يطيب له أن لا نسأل (في بلاهةٍ عظيمةٍ عن معنى النون) كما يقول في خاتمة نصّه المقبوس أعلاه. ومن الجدير بالملاحظة أنّ علماء التفسير عندنا قد أسالوا كثيراً من تأويلاتهم على تلك الحروف لمعرفة الدلالة التي تحوط بها، واحتار بعضهم في تحديد الدلالة النهائية. فابن عباس وحده دون غيره من المفسرين يؤول (كهيعص) ستة تأويلات تختلف في كلّ مرّة عن سابقتها، لكنّ ذلك يجعلنا ذلك نزداد شغفاً لممارسة تأويل معنى الحروف مرّة أخرى دونما كلل. ويعني ذلك أنّ (البلاهة) وضعية من وضعيات الحيرة المؤدية إلى إماطة اللثام عن المعنى الكامن بطريقة رمزية في حروف أديب كمال الدين . ولا يمكن أنْ يكتسب الإقدام على ترميز الحروف قيمة جمالية دون تلك البلاهة، لأنّ الانكشاف اليسير للرمز يعني فقدان قيمته الإشارية. وعلى عكس الحلاج الذي كان يجد غبطة في فضح بعض رموزه وتفسيرها، كما يشير إلى ذلك (لوي ماسينيون) مما أثار حفيظة المتصوفين عليه، فنبذ خرقة الصوفية حتى يتكلم بحرية مع أبناء الدنيا، وبخاصة مع الكتّاب ورجال الأعمال، وهم جمهور مثقف غير أنه كليل الحدّ ميال للشكوك، فإنّ أديب كمال الدين يطلب منا أن لا نسأل في بلاهة عن معنى النون، ربما لرغبة منه في لفّ رموزه بحجاب كثيف. ولكن كيف لا نسأل ونحن نعدّ العدة لرحلة تأخذنا إلى التعرف على السيرة الدلالية لتلك الحروف؟ فالنون، في نصّ واحد لدى أديب كمال الدين، يتحول إلى أكثر من مسمّى فهو امرأة وعلاقة خاسرة، وهو ذاكرة مصابة بالعطب، وهو حادث نوني، وهو إيقاع . ستمر التحولات في نصوص أخرى، ولا تلتزم بخاصية التوحد الرمزية، فكل مرّة نتواجه مع الحرف نفسه ولكن بدلالة أخرى، مما يجعل (البلاهة) صفة مشروعة أمام هذا الزوغان الدلالي. إنّ القانون الذي غالباً ما يتحكم في استعمال أديب كمال الدين للحروف يتمثل في اشتقاق معنى الحرف من كلمة يكون جزءاً منها ذلك الحرف، يقول :
في حاءِ حبكِ التي وسعتْ كلّ شيء
ولدت الباءُ بريئةً كدمعة.
وهو هنا يضيف الحرف إلى معناه، وهذه هي الطريقة التقليدية التي فسّر بها ابن عباس(كهيعص). ولكن ليس ذلك هو القاعدة الثابتة، فمرّة يطلسم الحروف فتكون طاء اللام ولام السين وسين الميم، ومرة يجعل من الحرف صفة (سحقاً لنونك ــ ولأجل أن أنال نونك فأنا مستعدّ أن أكون الملك أو الأمير أو الشاعر أو العاشق أو الجلاد أو الخادم أو الشحّاذ أو الصعلوك أو المهرج أو البوّاب)، ومرّة ينزع عنها الصفة فيجعلها ذاتاً (يا كافي ألقي بين يديك ألفي).
على عكس ما يعتقده معظم الذين درسوا أو تأملوا شعر أديب كمال الدين وجزموا بصوفيته، أعتقد أنّ نصّه نصّ رمزي وليس نصّاً صوفياً، فالذين اعتقدوا بذلك سوّغوا اعتقادهم باستعماله الحروف رموزاً لدلالات على غرار ما كان يفعله المتصوفة، وباستعماله لأشكال التعبير القرآني، كما في مجموعة (جيم). والحقيقة أنّ النصّ الصوفي يمتاز بجملة من المحددات النوعية، فهو نصّ مكاشفات، يؤمن بقدسية الحرف إلى الحدّ الذي يجعله متحداً بالذات الإلهية، وعلى هذا الأساس فسّر ماسينيون قصة شغف الحلاج بالحروف وإعطائها دلالة حدسية، يقول ماسينيون: توسّم الحلاج منذ وقت مبكر أنّ التوحيد لا يكون حقاً إلا إذا كانت صيغته هي تلك التي نطق بها الله نفسه. ومن هنا أراد أن يشعر بالنبض القدسي للحرف. والنصّ الصوفي أيضاً نصّ ملهَم في بعض التجارب الصوفية كتجربة ابن عربي الذي يدعي أنه مؤلف ملهم وأنه يصدر فيما يكتب عن إملاء إلهي لا عن تقليد للغير أو تفكير شخصي. والنصّ الصوفي سرد لنمط من العلاقة المفارقة للواقع، فالمتصوفة يعتقدون أنّ الحقيقة محجّبة عن الواقع، وهم وحدهم القادرون على نزع ذلك التحجب عن الحقيقة، ومن ثمّ عن المعنى. النصّ الصوفي نصّ شوقيّ لعلاقة وجدٍ بين الأرض والسماء، بين الإنسان والإله. النصّ الصوفي نصّ القلق النفسي المتأزم بالمفهوم السيكولوجي، فهو يبحث عن وسيلة لتطهير النفس القلقة، يقول الحلاج: يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس (أي الله) يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه. ولكن نصّ أديب كمال الدين صوفيته صوفية شعرية، أي أنها تمتلك ذلك الإنصات المرهف لأحاسيس الأشياء والحروف، وترغب في أن تجعلهما يكتسبان خصائص الكائنات الحية، لخلق عالم رمزي متخيل له القدرة علي خلق الإيهام الذي افترضه أرسطو في قانون المحاكاة.
إنّ الحرف الذي يرمّزه أديب كمال الدين يريد من وراء ذلك أن يتقي أشياء
كثيرة، فحيثما وجدت المراقبة سوف يكون ثمة ترميز للخطاب. وقد وجد أديب كمال الدين
في الحرف قدرة على التخفي أو ممارسة (التقية) الشعرية خوفاً من الحاكم والنفس
.
وبسبب ذلك كانت اللغة ميداناً لنشاطين : نشاط ترميز الحروف وجعلها المعنى وليس
عنصراً في تكوينه، ونشاط الفهم الذي يقوم به القارئ ليكتشف طابع الترميز ودوافعه.
إن النشاطين يحركهما غرض واحد : هو الحفاظ على النوع ، نوع السلطة التي تراقب ونوع
الخطاب الذي يريد الانفلات من المراقبة. وسوف تكون العملية موسومة بطابع اللعب،
كلاهما يحتال على الآخر، كلاهما يراقب الآخر، كلاهما يختفي، ويحترز، وسوف يترك
اللعب هذا ركاماً من الكلمات.
يدّعي، دائماً، كثير من الذين يتأملون الظواهر
والأشياء تأملاً روحانياً، أو فلسفياً، أو جمالياً، أنّ (الحقيقة) تكمن هناك، وهذه
الـ (هناك) تتحقق بطرائق مختلفة، وبذرائع خاصة. وبمقتضي هذا الإدّعاء غدت تلك
الظواهر والأشياء تتشكل من خلال التمركز حول الذات الحادسة. وبسبب هذا التمركز لم
تكن الأمور تتكشف على نحو بيّنٍ. صار الالتباس جزءاً من نصّ الإدّعاء ذاك، وليس
الالتباس، هنا، غير تأليف فنيّ ووجدانيّ لذلك التأمل المشار إليه في أول الكلام
.
إنّ النقطة -المجموعة الشعرية السادسة لأديب كمال الدين - لم تكن بمنأى عن ذلك
الالتباس، فما بين نقطة الحسين بن منصور الحلاج، ونقطة الهندسيين، والنقطة في علم
الكتابة، ونقطة الحرف المعجم، والنقطة الوهمية، ونقطة أديب كمال الدين، ثمة
اختلافات في توجيه النيات الدلالية. وإذا ما قرنت تلك النقطة بنشاط من الأنشطة
الروحية، أو الفلسفية، أو الجمالية، فإنّ معضلة سوف تنشأ بمزاولة فهم الغايات
الدانية أو القاصية، المشروطة بالسياق أو المشروطة بالترميز، إنها معضلة القراءة
التي تريد أن تبحث، دائماً، عن مجال ملبسٍ يحقق ذات القراءة - أو القارئ إنْ شئت
-
مثلما يحقق النصّ المتخيّل ذات المؤلف. وحتى يفهم القارئ ما أكتبه أنا، بوصفي
قارئاً أيضاً، عن التباسات النقطة، ويفهم ما نظم من جملٍ وتراكيب وألفاظ فيها،
فإنني سوف أتحدث عن
قضية الولع الصوفي بالنقطة والحروف، وعن مغزى تحجّب الذات
بالرمز، وعن النقطة والحقيقة.
لم تكن نقطة أديب كمال الدين بعيدة عن تقليد أسلوبي في الكتابات الصوفية يخيّل الحروف ويرمّزها، غير مبالٍ بعملية تداول النصّ على وفق الأعراف المتعارف عليها في إرسال الكلام وعملية تلقيه. ولم تتكشف شفرة الكتابة الصوفية تلك إلاّ بوساطة المتصوفة أنفسهم، إذ وضعوا تفاسير لطرائقهم البيانية والاصطلاحية ليسهموا ، مع القراء الآخرين، في قراءة ذواتهم المعبّر عنها بالكلام المشفّر. ربما يكشف الولع الصوفي بتخييل الحروف عن رغبة في جعل الكلام يتكلم أيضاً عن طريق منحه قدرة الانضواء تحت جنس الكائنات. وإذا ما أردنا أن نربط السابق باللاحق فإنّ مارتن هيدجر يسبغ صفة التكلم على الكلام أيضاً، يقول: الكلام متكلّم (1). ويقول أيضاً: أنْ نفكر، إذن، في استقصائنا للكلام ، يعني : أن نصل إلى التكلم الذي هو الكلام بحيث ينبثق كما هو ويحدث بما يمنح الإقامة لوجود الكائنات الفانية (2). ويبدو أنّ المتصوفة أرادوا إظهار صفة التكلم في الكلام على نحو أكثر جلَبَةً، ليكون تعويضاً عن صفة اللاتكلم في الكلام نفسه في وجودٍ يسلب الكلام تلك الصفة التي أشار إليها هيدجر، ولذا فإنّ المتصوفة يعوّلون كثيراً على مسألتي: التخييل والترميز، بوصفهما حجابين تتحجب بهما الذات، ظنّاً منهم أنّ التحجب يرتبط أبداً بالحقيقة، ألم تكن الذات الإلهية متحجبة عن المخلوقات، وعن العالم ؟ ألم تكن الذات الإلهية ملبسة بطبيعتها ؟ بين الحضور الأبدي (لا تأخذه سنة ولا نوم) (3)، وطبيعة الذات الإلهية التي لا تدركها قوانين المعرفة المنطقية والعلمية (لم يلد ولم يولد) (4) ، والبعد اللانهائي (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) (5 )، والقرب المحاذي (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) (6) . ومن جهة أخرى ، فإنّ مسألة تخييل الكلام وترميزه حتى يمتلك صفة التكلم ليست ولعاً بهما لا طائل من ورائه، فالأمر أبعد من ذلك بكثير، تكمن هناك رغبة في إدماج صفة التكلم بالمتكلم نفسه، فهذا الإمام جعفر الصادق (الذي ينسب إليه كتاب في التصوف : الهفت والأظلّة) يقول: إنّ كلامنا صعب مستصعب، لا يدركه إلاّ ملك مقرب. فعليك، إذن، أنْ تمتلك خاصية التبتل حتى تدرك غايات الكلام. وبمقتضى ذلك الشرط الذي يسنّه الصادق، فإنّ (الحقيقة المحجّبة) لا تتكشف إلا بعد عملية ترويض الذات على تعلّم نزع الحجاب للوصول إلى الحقيقة المزعومة. ولكن علينا أن نضع في الحسبان أنّ النقطة بوصفها رمزاً تختلف ما بين الحلاج وأديب كمال الدين، لأنّ الحلاج يمتلك تجربة صوفية تتمثل في سلوكه الروحي بخاصة، وفي كلامه بعامة، في حين أن أديب كمال الدين لا يمتلك تجربة صوفية شعرية، فهو يستعير من التجربة رموزها حسب. ثمة فرق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند كل من الحلاج وأديب كمال الدين، الأول يدخلها في حيّزه اللساني والحدسيّ، لتكون علامة وموضوعاً في آنٍ، والثاني يدخلها في حيّزه اللساني حسب، لكنه لا يستطيع أن يموضعها في مجاله الحدسيّ، فهي تتشتت بين نوازع وجدانية مختلفة:
كانت النقطة ُدم َالجمال
دم َ المراهقة
دمَ اللذة
دمَ السكاكين
دمَ الدموع
دمَ الخرافة
دم َ الطائر المذبوح
كانت النقطة ُدمي
أنا تمثال الشمع.
والأول يجعلها جزءاً من نظام الكلام الصوفي المفارق لنظام الكلام العام والخاص، الكلام المؤسس على خاصية الإختلاف الذي بمقتضاه تمّ: أولاً- إقصاء الكلام نفسه، أي كلام المتصوفة (إذ عدّه ابن خلدون ضرباً من الكلام المتشابه أو الألفاظ الموهمة) (7 )، يقول: وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه (8 ). وبقول أيضاً إنّ لغتهم : لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثرها من المحسوسات فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فَهْمَ شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة.(9) ثانياً: إقصاء المتكلِّم لإقصاء كلامه. فقد" أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله" (10 ). وإن هذا الكلام خارج على أعراف الكلام الصوفي السابق، ولهذا يقول ابن خلدون إنّ" سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة... لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا (أي أن الحلاج خارج حتى على الكلام الصوفي نفسه) ومن عرض له شيء من ذلك عرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون انه من العوائق والمحن وانه إدراك من ادراكات النفس مخلوق حادث وان الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها، وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد (11 ). والثاني يجعلها رمزاً لفظياً يشير إلى أحوال مختلفة، فهي تمتاز بخواص (التحول) الأسطوري الذي شاع في التراث الميثولوجي : خرجت النقطةُ من الباب / كانت عسلاً أسود/ كانت النقطة جوهرة/ كانت النقطة حلماً مليئاً بالدفء الباذخ/ كانت النقطة طفلة، امرأة/ كانت النقطة نوراً يلفّ كلّ شيء/ كانت النقطة نقطتي/ تحوّلت النقطة إلى خرافة، ثم إلى هزأة ، ثم إلى مهرّج ، وحين عضّها الزمنُ بنابه تحوّلتْ إلى سيرك عظيم/ كانت النقطةُ كريمةً حد الجنون/ قررتْ حرقَ نفسها إن تركتها دون حروف/ كانت النقطة تمسك الشمس بيد، وتمسك الحلم بيد أخرى.
والأول يمتلك ريادة تأسيس النموذج اللساني والوجداني، يذكر ابن خلدون، نقلاً عن غيره، أن الحلاج (ومن كان على شاكلته من المتصوفة) كان يقول كلاماً لا سابق له، على النحو الذي أشرنا إليه في نصّ ابن خلدون السابق. والثاني يقتفي أثر التأسيس، وبسبب ذلك فإنّ أديب كمال الدين لم يستطع أن يخلق إيقاعاً شبيهاً بإيقاع الكلام الصوفي، ذلك الإيقاع السريع، المتولد بعضه من بعض. فهو على العكس من ذلك، يلجأ إلى تنميط نصوصه (محاولة في... + محاولة في... + محاولة في... +...)، علاوة على تكرار الصياغة اللسانية التي تحافظ على نظام الرتبة النحوية، وهذا ما يعمل على رتابة الموسيقي الشعرية ، كقوله مثلاً: الذي يظهر التراب صورته/ص8 أو كقوله: لم يكن الحلم ليأبه لصيحاتي وحشرجتي/ص8.
إنّ النقطة عند الحلاج هي رمز من رموز الحقيقة، ولذا تراه يقول: الدائرة لا باب لها، والنقطة التي في وسط الدائرة هي الحقيقة (12 ). وترتبط النقطة عنده دائماً بالدائرة وذلك لأنّ قضية النقطة أصلاً هي قضية الفهم. ولكن أيّ نوعٍ من الفهم ذاك الذي يتحدث عنه الحلاج؟ إنه الفهم الخارج عن أيّ قياس، الفهم الباطني التقشفي، الفهم الذي يعقب الرياضة الروحية. وعلى هذا الأساس فإنه على درجات مختلفة، قال: هيهات من يدخل الدائرة والطريق مسدود، والطالب مردود، ونقطة الفوقاني همته، ونقطة التحتاني رجوعه إلى أصله، ونقطة الوسطاني تحيره (13 ). فالمعرفة، هنا، ليست عقلية محضة، وإنما الحواس تتعرف أيضاً، وتلك قضية ليست بشعرية أصلاً. إنّ الحلاج يريد أنْ يكشف عن وجهٍ آخر من وجوه الحقيقة، وذلك دأبه أبداً، لأنها متحجبة بحجاب غامق، ومغلق أيضاً، ومن هنا جاء تشبيهه إياها بالنقطة والدائرة. ولذا فإنّ التشبيه ينطوي على بلاغة تأملية وروحانية. وهنا تجدر الإشارة إلى هيدجر مرّة أخرى ، فهو يعتقد أنّ الحقيقة ليست التطابق بين الفكر والواقع، وإنما هي نزع الحجاب عن الخفي وغير الظاهر. إنّ القضية الأساسية التي تكون دائماً برفقة نصٍ يخيّل أو يرمّز النقطة هي قضية الفهم المزدوج، النقطة العارفة، والآخر أو الأشياء غير العارفة، والنقطة العارفة، والقارئ غير العارف. يقول أديب:
أنا النقطة
عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي
قبلَ أنْ يصلَ الإنسانُ إلى الكلمة. ص 15 ( ديوان النقطة )
ويقول في موضع آخر من الديوان:
الأسئلة تلدُ الأسئلة
تلك حقيقة الأسئلة
لكنني لا أبحث عن حقيقة الأسئلة
أنا أبحث عن حقيقة النقطة .
ومن خلال هذا الضياع بين إدماج الذات بالنقطة وعرفان الحقيقة (لنتأمل التماهي بالعرفان من خلال الفعل والعجن والمعرفة المبكرة للحقيقة قبل معرفة الإنسان لقائمة طويلة من الحقائق)، والجهل والبحث عن حقيقة النقطة، يتبادر سؤال لماذا تتحجّب الذات أصلاً بالنقطة أو بسواها من الأقنعة والرموز؟ لكي تتولى النقطة مهمة تشويش الرؤية على عيون المعرفة ووسائلها للوصول الى حقيقة الخطاب، ومايرمي اليه، فإنها في هذا النص لاتكون على حالة واحدة، أو جنس واحد، تتعدد وتتلّون، وتخلق نوعاً من الوهم لأنها في بريق السيف، وفي الدم، وفي بقية الشيء، وفي الفرات ودجلة، وفي الجريح:
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين
أنا خرافة ُالثوراتِ و ثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى و جدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية مَن لا بقية له
أنا الفرات قتيلاً و دجلة مدججة بالإثم
أنا ألف جريح
و نون فتحتْ لبّها لمن هبّ و دبّ .
وإذا كانت تلك اللعبة هي لعبة بين المؤلف والقارىء معا، فالمؤلف في نظر التحليل النفسي مصاب برهاب أبديّ، يخشى كلّ شيء، لذلك فهو يرمّز كلّ شيء، وإن القارىء مصاب هو الآخر بعقدة أخرى هي عقدة حب الاستطلاع، فهو يريد أن يعرف كلّ شيء ليلذّ بكلّ شيء، وطبقاً لمعايير اللعب هذه فإنّ النص سيكون ميداناً مكتظاً بنيّات شتى، نيّات المؤلف والقارىء والعملية الفنية. ووفقا لهذه المعايير فإن أديب كمال الدين يرغب في أن تتولى النقطة مهمة الكلام نيابة عنه. وطبقاً لذلك فإن النقطة ستكون، هذه المرّة، ذات إيحاءات ايروسية لا تتحقق، لأنها مستباحة من الآخرين الذين يذكرون بتسميات مختلفة:
كانت النقطةُ طفلة / امرأة
خرجتْ إليّ بثديين غامضين
وعينين مفتونتين
وشفتين ذاهلتين
فتبعها كلّ وحوش المعمورة.
ص 18- ديوان النقطة
ومن خلال تلك الصور والاشكال المختلفة التي تظهر بها النقطة ، يتبيّن أنها لم تكن صوتاً واحداً، وانما طائفة من الأصوات المختلفة، وكلّ صوت يتقنّع بالنقطة، فكأنها مستقر الدلالة أو الحقيقة. بيد أن الأمر لايعدو كونه لعباً بالكلمات فالصوت – وإنْ تعدد – يتقمّص تلك الذات التي تختفي وتروي عن لسان النقطة كلّ تلك الصفات أو الأفعال. فالراوي لا يريد أن يكون موضوع السرد الظاهر، لكنه يرغب في التحجّب، فالراوي، هنا،لا يريد أن يقول: أنا ألف جريح، لكنه يروي عن النقطة قولها: أنا ألف جريح، لكي يتمتع أو يتألم برؤية هذه المسافة الجمالية التي خلقها بنفسه، وهاهي تتكلم نيابة عنه. إنّ هذا اللعب في الفن (وأسميه لعباً لأنّ فيه تمويهاً على العقل الصارم الذي يدرك الأشياء والظواهر باليقين المحدد الذي لا لبس فيه) يختزل السيرة الداخلية المقموعة للجنس البشري:
كانت النقطةُ كريمة ًحد الجنون
(أذكرُ أنها قررتْ حرقَ نفسها
إنْ تركتها دون حرف)
لكني تركتها كأيّ مجنون
لم يستطع أن يسيطر على ضربات قلبه
وهو يتلمّس صندوق الليرات العظيم .
وحين تحوّل ندمي إلى أسطورة
لم أجد ما أحرق به نفسي
سوى حروفي الباردة.
والآن مامعنى النقطة؟ وأية دلالات تلمح إليها؟ من الناحية المفهومية، تعني النقطة في علم الكتابة: نهاية الخط الذي هو تصوير اللفظ بحروف هجائية. ويقول الحكماء: إنّ النقطة عرض غير مستقل الوجود، لأنها نهايات وأطراف للمقادير، وهي نهاية الخط وهو نهاية السطح. وفي اصطلاح علماء الهندسة أن النقطة هي قلب الدائرة، وكلّ الخطوط المستقيمة الخارجة منها اليها متساوية. وبإزاء ذلك فإنّ النقطة، أعني نقطة أديب كمال الدين، لا يمكن أن تكون مستقلة الوجود عن طائفة من العلاقات:
1 – المؤلف بوصفه إنساناً ذا تجربة روحية تحدث في زمان ومكان معينين، فهو يريد أن ينقل هذه التجربة الى حيز آخر، هو حيز التأليف، ويعني ذلك أن الحيز الحقيقي يتحول الى الحيز الرمزي، ويتحول المؤلف من حيز الإنسان التلقائي الى حيز الفنان المعقد، والرهابي معاً. وعلى هذا فنقطة أديب كمال الدين هي تجربة ذات امتداد في التاريخ، لأنها وعاء لتجربة روحية وواقعية، وذات امتداد في لعب الفن تارة أخرى.
2- القارىء بوصفه طالب متعة في الكلمات والجمل والعبارات، فهو يريد أن يوهم نفسه بتجربة التأليف الأصلية، لأنه يريد أن يتقمّص، وأن يمارس الكذب المرح. لكنه من جهة أخرى يريد أن يفكك سنن الرسالة الجمالية في الأعمال الفنية. إنّ لبّ العملية الترميزية هو خلق مجالات غير مملؤة الدلالة تنشىء تواتراً إدراكياً، فالرمز لا يريد أن يبوح بالمعنى، لأنه لا يهدف الى إغلاق الدلالة وتفسيراتها. وفي ضوء ذلك يريد القارىء أن يدرك الرسالة المشفّرة القابعة في أعماق النص، وربما أراد أديب كمال الدين أن يجعل من النقطة والحرف رسالة جمالية مضمّنة في نصه الشعري، حتى يضمن الحضور الأبدي للفحوى الشعري، لا من خلال الصورة الصوتية لمستويات اللغة وتحولاتها، ومستويات الموسيقى الشعرية كذلك، وإنما من خلال خلق مجال وهمي لتشكيل الحروف، لكي تكون الصورة البصرية أكثر حضوراً وأكثر قدرة على رسم المعنى.
3 – النص بوصفه مكان اللقيا، لقيا المؤلف والقارىء في مكان زائف ، متخيّل ، مشيد باللغة حسب، إذ لا إمارات سوى الكلمات وحدها. وعلى هذا الأساس فإنّ النقطة التي هي نهاية كلّ شيء، تريد أن تكون بداية كلّ شيء، وأن تكون معنى مستقلاً مكتفياً بإشاراته، وربما كانت تلك رغبة النقطة نفسها، النقطة المنسية والمهمّشة، فالمعنى يغري الأشياء في أن تكون موجودة، ويعني ذلك أن النقطة ترغب في تحقيق ذلك الوجود، ولكي تتم تلك الرغبة كان أديب كمال الدين يخيّل النقطة حتى يجعل لها خصائص الكائن المتحرك الحيّ في الزمان والمكان.
**********************************
( 1 ) مارتن هيدجر– إنشاد المنادى، قراءة في شعر هولدرن وتراكل– تلخيص وترجمة بسام حجار ص 10 – المركز الثقافي العربي – ط1 – 1994- بيروت
( 2 ) المصدر نفسه - ص 9
( 3 ) البقرة - 255
( 4 ) الإخلاص – 3
( 5) الأنعام – 103
( 6 ) الواقعة – 85
( 7 ) القنوحي - أبجد العلوم- ج2 – ص 163- تحقيق عبد الجبار رزكار – دار الكتب العلمية – بيروت – 1978
( 8 ) المصدر نفسه – ص 163
( 9 ) المصدر نفسه – ص 163
( 10 ) المصدر نفسه – ص 164
( 11 ) المصدر نفسه – ص 164
( 12 ) الحلاج – الطواسين – ص 32 – منشورات دار الأمد – بغداد 1991
( 13 ) المصدر نفسه – ص 32.
***************************************************
نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية – العدد1519 - الأول من حزيران 2003
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 25 - 36