نورالحق إبراهيم
من ألوان الحُبّ لون لم يعرفه الناس إلا قليلا، إلى أن جاء الشاعر العراقي أديب كمال الدين فأظهره وركّز عليه وتخصص فيه، ألا وهو الحُبّ الحروفي القائم على مغازلة الحرف للنقطة، فالنون عنده نون النسوة أو امرأة معينة يهيم الألف أو ميم المحب بنقطتها، والحاء حُبّ لم يستوف شروطه ولوازمه، وهكذا.
يدور شعر أديب كمال الدين حول هذا الحُبّ ملامساً الهم الإنساني، فهو لم يكتب الشعر عبثا ولم ينطلق في إبداعه من منطلق مفهوم الفن للفن، بل كل قصائده تحمل في طياتها رسالة ما، هي رسالة الحُبّ بمعناه الكبير أو رسالة مواساة لهذا الإنسان الذي يتلقى ضربات الزمن، فينتقل من منفى إلى منفى ومن حرف إلى حرف، بحثا عن معنى أو شبه معنى، كما يقول الشاعر في حوار معه. لا غرابة أن يتخذ من الشعر وسيلة لفهم العالم ومعاناة الإنسان وتضميد جراحه، وهو القادر أكثر من غيره على المواساة بوصفه عراقيا، فالعراقي "يجيد الإبداع لأنّ حجم حريقه الروحي والجسدي هائل" ولذا أحب أدباء أستراليا شعره، حيث وجدوا فيه حسا تراجيديا يفتقدوه، وخلاصة إنسانية مرت بحرائق حتى صفا جوهرها.
للمرأة حضور كبير في شعر أديب كمال الدين، بوصفها كائن لا يمكن أن يستغني عنه الرجل، فهي خلاصته وتفاصيله، ماضيه وحاضره، "تصوّر معي عالماً ليس فيه إلاّ الرجال. أيّ عالم ممل هذا يا إلهي!" المرأة وحدها تستطيع أن تكسر حاجز الملل وحاجز الصوت أيضا. لكن علاقة الشاعر بالمرأة، كما يعترف بصدق يتجلّى في نصوصه، لا يسودها الانسجام، فقصائده تكافح من أجل أن يسود بينهما نوع من السلام الداخلي ولو سلام بالاسم فقط. ومن حسن حظه أو سوء حظه أن الجمال كله في جسد المرأة وليس في أي شيء آخر في العالم، وأن الرجل في نفس الوقت لا يستطيع الفكاك منه أبدا، رغم انغلاق صاحبته على نفسها واختلاف تفكيرها عن تفكيره بحيث يستعصي عليها استيعابه كما استعصى عليه استيعابها.
يتميز شعر أديب كمال الدين، باستنطاق الحرف العربي واستلهام أسراره واستكشاف طاقاته التعبيرية وإيحاءاته الجمالية، وللحرف أسرار في القرآن الكريم وإشارات عند المتصوفة العارفين، وله إيحاءات جمالية عند شعراء العرب وبلغائهم وقدرات خفية عند الكهنة والسحرة والعرافين، والشاعر قد اتكأ على هذه الأبعاد كلها، ومزج بينها بطريقة عبقرية، فاستخلص لنفسه أبعادا شعرية جديدة، دلالية وتراثية وأسطورية، غنية باللوحات المبتكرة والصور الخلاقة وانفتاح النص على آفاق رحبة، مع عمق في المعنى وجمال في الأسلوب وكثافة في العبارة. لذا لقبه النقاد بالحروفي لأنه استطاع أن يتعامل مع الحروف كشاعر ملهم.
ومن دلائل إلهامه أن الشاعر قد بدأ مشواره الشعري بفكرة واضحة في ذهنه تقريبا، من ناحية إرادة التجديد في الشعر على نحو مخالف عن نهج معاصريه، وسابقيه أيضا. يذكرني في ذلك بالشاعر الفرنسي بودلير الذي أرسل "سأم باريس" إلى ناشره مشفوعا برسالة يخبره فيها بمثل هذه الإرادة متأثرا بكتاب قرأه عشرين مرة، وعندما أراد أن يقلد المؤلف في أسلوبه وجد نفسه يتفوق عليه بشعره النثري المعروف. وقد بدأ كمال الدين تجربته الجديدة بديوان "تفاصيل" ثم "ديوان عربي" وفيهما ملامح التجربة أو إرهاصاتها، ولم يلبث أن تحدد منهجه بديوانه الثالث "جيم" وتعزز بالرابع "نون" وأكمل تفاصيله بـ"النقطة" لتزخرفه بقية الأعمال متوالية على ذات النسق.
اهتمّ كثير من النقاد بتجربة الشاعر لما وجدوا فيها من خروج عن المألوف، من حيث الرمز الحرفي والشجن الإنساني العميق، محاولين بدورهم استكشاف عالم الحرف والنقطة، فغرقوا في هذا العالم الذي تربع الشاعر على عرشه، مفككا اللغة إلى حروف وعلامات قد يهتدي بها المسافرون.
*
ولد الشاعر أديب كمال الدين في بابل بالعراق سنة 1953، تخرج من كلية الإدارة والاقتصاد بجامعة بغداد سنة 1976، وحصل على بكالوريوس الأدب الإنجليزي من نفس الجامعة سنة 1999، ودبلوم الترجمة الفورية من المعهد التقني لولاية جنوب أستراليا، أديلايد، سنة 2005. عمل في الصحافة منذ عام 1975 وشارك في تأسيس مجلة أسفار وأعدّ للإذاعة العراقية العديد من البرامج. عضو في عدد من الجمعيات المتعلقة بالصحافة والكتابة والترجمة في العراق وأستراليا حيث يقيم.
أصدر، خلال ثلاثين سنة، المجاميع التالية: تفاصيل 1976، ديوان عربي 1981، جيم 1989، نون 1993، أخبار المعنى 1996، النقطة 1999، حاء 2002، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة 2006، شجرة الحروف 2007. ترجم إلى العربية قصصاً وقصائد ومقالات مركزا على الثيمات التي لا تتأثر عند النقل، وترجمت قصائده إلى عدة لغات، وفاز بجائزة الإبداع الكبرى للشعر 1999.
*
فيما يلي قصيدتان من آخر ديوان للشاعر، صدر بعدما تجاوز الخمسين من عمره، فجَرت على لسانه حكمة السنين، عاكسة تجربته المميزة مع الحرف والنقطة حول عاطفة الحُبّ وعلاقته المتوترة بالمرأة ومشاكله مع الحرية ومآسي الحياة في تصاعد دراماتيكي.
في القصيدة الأولى حوار فريد من نوعه، بينه وبين الحرف، وكلّ منهما مراوغ ماكر، يستنطق الحرف بكلمة أثيرة لديه، بكلمة الحُبّ الذي يحلم به منذ الطفولة، يداعب الحرف ويقبل شفته السفلى لكي ينطق بالحُبّ، لكن الحرف طفل شقي يأبى إلا ينطق- بدلا من الحُبّ- بكلمة حرية التي افتقدها الشاعر دهرا وتغرّب بسبب افتقاده لها سنين طويلة. ثم بدا له يوما أن يعاود المحاولة، قل يا حُبّ، قال حماقة، فضاع سنين أخرى في أوديتها مهووسا بحكايات العشاق، ولما آنس من الحرف نضجا، وجد من المناسب أن يطالبه بتحقيق حلمه الكبير، قل يا حُبّ، فقال على الفور حرب، فدخل في حروب لا تنتهي مع الأجداد والأوغاد والأحقاد. ماتت في نفسه الرغبة بعد ذلك في مزيد من الطلب، لكنه في لحظة عبث طالبه بأن يقول حُبّ فقال هذه المرة حقد، عندها ضحك حتى اخضلت لحيته بالدموع وبقي يصرخ في وجهه حد الموت، قل حُبّ، حُبّ، حُبّ، فلا يسمع سوى الصدى!
في القصيدة الثانية ما يؤكد أن قصيدته رسالة حُبّ حروفية، إذ يبعث الحرف إلى حبيبته النقطة رسالة يخاطبها فيها بشتى الأوصاف المتناقضة التي تمثل أوصاف المرأة بباطنه في نفس الوقت، وردة صخرة، بسمة دمعة، حمامة نقطة، ليتساءل أين يجدها الليلة، فقد بحث عنها في كل مكان، في الكتب والشوارع والشواطئ وعند الأطباء، حتى وهن عظمه واشتعلت روحه، ولم يبق إلا أن يعيش على الأمل رغم كثرة ما يدعو إلى التشاؤم. وهكذا قضى الشاعر حياته بين السؤال الحائر والأمل الضائع وأحلام المستحيل.
حُبّ
*****
(1)
حلمي كان الحُبّ
ولذا أردتُ لحرفي أن ينطق كلمةَ: حُبّ.
قبّلتُ شفته السفلى
كانَ الحرفُ صغيراً وجميلاً
وللتوّ عادَ من طفولته المليئةِ بالجمر
قلتُ له: قلْ حُبّ.
فقالَ على الفور: حرّية!
ولذا ضعتُ لسنين لا حصر لها
أتجلّى في طوفان الحرّية وزلازلها.
ثم قلتُ له: قلْ حُبّ.
فقالَ على الفور: حماقة!
ولذا ضعتُ لسنين لا حصر لها
أتجلّى في كأسِ حماقاتِ الدنيا
درويشاً مهووساً بقصصِ العشق
وملاكاً مصاباً بجذامِ الرغبة.
ثم قلتُ لحرفي:
ها قد أصبحتَ كبيراً
أعني أصبحتَ من النضجِ بما يكفي
لتقول: حُبّ.
فقالَ على الفور: حرب!
ولذا ضعتُ ضياعاً أسودَ أغبر
في حربِ الأجداد
وحربِ الأوغاد
وحربِ الأحقاد.
(2)
حين خرجتُ من الحرب
أجرّ هزيمتي النكراء
كانت سنواتي قد تجاوزت السبعين
ولم تعد عندي الرغبة أبداً
أن أسأل حرفي شيئاً.
ومع ذلك،
قلتُ في لحظةِ عبثٍ ومجون:
قلْ حُبّ.
فقالَ على الفور: حقد!
فضحكتُ حتـّى اخضلّتْ لحيتي بالدموع
ومن جديد: قلْ حُبّ.
أرجوك
تعبتُ حد اللعنة
من الحرّيةِ والحماقةِ والحرب
يا حرفي..
يا هذا..
هيّا..
قلْ حُبّ.
وبقيتُ كمجنونٍ أصرخُ في وجهه
حتّى متّ: قلْ حُبّ
حُبّ
حُبّ!
رسالة الحرف إلى حبيبته النقطة
**************************************
حبيبتي
أيتها النقطة
أيتها الحمامة
أيتها الصخرة الملقاة على حافةِ النهر
أيتها الوردة الطيّبة
أيتها الابتسامة اللذيذة كقيمرِ الصباح
أيتها الدمعة: اللؤلؤة
كيف أجدكِ الليلة؟
بحثتُ عنكِ طويلاً طويلاً
في كتبِ اللغة
ودواوين العشقِ والوصال
وفي معجزاتِ الأنبياء والأولياء
وفي قصصِ الغرقى والمشرّدين والأدعياء
بحثتُ عنكِ في الشوارعِ الخلفيّة
والبيوتِ المظلمة
وعلى موائد الضائعاتِ واللئامِ والأيتام
بحثتُ عنكِ
في شواطئ البحرِ الأسودِ والأصفرِ والأحمر
وضفافِ الأنهارِ الحيّةِ والمنقرضة
وفي أجنحةِ الملائكةِ المُنزَلين
وفي قماقم الجنِّ المحبوسين
وفي وحشةِ الجبالِ والعزلةِ والينابيع
بحثتُ عنك
في أدويةِ الأطبّاء
وإشاراتِ السحرة
وطلاسم المشعوذين
بحثتُ عنك
في أمواجِ اللوحات
وفي زرقةِ المعابدِ والجسورِ والحانات
وفي وجعِ الليلِ والفجرِ والنهار.
نعم،
يا حبيبتي
بحثتُ حتـّى وهنَ العظمُ منـّي
واشتعلت الروح
لكنّ الأملَ لم يزلْ على قيد الأمل
رغم بريق الصواعق
وزلزلة الأمطار
وصيحات السكاكين
الأمل الذي يغنّي لي كلّ ليلة:
ربّما سأجدكِ أيتها النقطة
ذات ليلة
ربّما سأجد أثرك
وربّما ستجدين بقاياي!
**********************
أديب كمال الدين - شجرة الحروف، دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان- الأردن 2007
*
نور الحق إبراهيم- شاعر وكاتب وإعلامي. من مواليد المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية عام 1964م. حاصل على الماجستير في الإعلام من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1992م. أصدر ديوانه الأول "اعتراف" عام 2003م. فاز بجائزة الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المسابقة الثقافية المفتوحة للبحث والتأليف حول "أثر وسائل الإعلام في توجيه الشباب" سنة 1987م. أصدر كتابين في المجال الإعلامي سنة 1989م. عمل في حقل التعليم مديرا ومعلما خلال الفترة 1987- 2007م وكان عضوا بلجنة الإعلام التربوي بمنطقته لبعض الوقت. ساهم في الكتابة الصحفية ونشر بعض أعماله على الشبكة العنكبوتية.