انفتاح القصد وتأويل المعنى
د. محمد صابرعبيد
(1)
(أخبار..) في الموروث السردي العربي تنطوي على دلالة تاريخية، وتؤدي وظيفة إبلاغية ذات قابليات سردية متنوعة، تحتشد داخل انساق ملفوظها قصص وحكايات ورؤى وحكم بتنظيمها نسيج واحد، تنمو من خلاله خارطة المشهد المحكي، انسجاماً مع طبيعة المضاف اليه (المعلن) عن هوية الكتابة وكيفيتها (أخبارالـ ...) ولا تتضح صورة المشهد وحدود أنشطته وفعالياته الاّ بتدخل المضاف اليه. والمضاف اليه هنا (المعنى)، ملبس للغاية ، ومثير لإشكاليات تخرق التصوّر الأوليّ المألوف ، المشتق من آلية اشتغال الموروث ومنجزه المائل .
(المعنى) معطى نتجي يفضي اليه (المقول) بوصفه حقلاً دالاً وهذا المقول حتى يحسن الأداء بحيث ينتج (معنى) ، عليه أن ينضبط وفقاً للقواعد والقوانين التي يعترف بها السوق اللغوي، كما يقرّ لاحقاً بمنح المنتج مصطلح (معنى). ومن أبرز شروط هذا الإقرار هو الاتفاق على نسخة واحدة من المعنى، أو في أبعد الاحوال نسخ متشابهة جدا منه، وكلما ابتعدت نقاط هذا التشابه بين النسخ، زاد اللبس وتزعزع اليقين بالإتفاق على حد أدنى من الإقرار، مما يهدد بالتالي مصير مصطلح (المعنى)، ويجعله عرضة للانهيار وفقدان التماسك. ومتى ما وصل هذا التباين الى الاختلاف، وانتقل الاختلاف في مرحلة تطور لاحقة الى المغايرة، فإنّ عنصراً دخيلاً سوف يقتحم قداسة الإلفة ويشذّ عن قوانين السوق اللغوي هو (المجاز)، تلك الآلية التي تسحق المعنى بمواصفاته الصورية ذات الأبعاد الرياضية، وتفتحه على أفق جديد حتى يصبح المعنى (معنى) في العرف اللغوي السائد ويكون قابلاً للاخبار عنه (أخبار المعنى)، يتوجّب في المقياس النظري الإرسالي أن يكون عقلياً، كي تسهّل عملية إبلاغه القائمة في جزء كبير من نشاطها القولي على الإبانة والوضوح والإقناع، الاّ انه حين يتنازل عن صفته العقلية ويصبح (تخييلياً) على رأي الجرجاني ، فكيف الاخبار عنه؟ هذا مستوى إشكالي. فإذا كانت فعاليته في النسخة العقلية (فعالية دلالية منطقية) ذات محمول معجمي، فإنها في الثانية (فعالية جمالية مغايرة) ذات محمول مجازي رمزي حسب أدونيس، ويتحول المعنى بذلك من أثر ملتقط قابل للاستهلاك الى أثر معد للتجريب .من الشروط البديهية لشعرية القول، الخروج الخلاّق عن المعنى، إذ تنتقل فية سلطة وعي الكتابة الى سلطة وعي التلقي بحيث يصبح المعنى جدلاً وإشكالية، تنتج الكتابة شيئاً منه، وتنتج القراءة شيئاً آخر ويبقى ما هو قابل للإنتاج بشكل ما، ولاتتوقف مسؤلية الإنتاج في أيّ نشاط من هذه الأنشطة على عنصر معين، فكلّ بنية أو وحدة في نظام النص لها وظيفة ـ سواء أكانت فاعلة رئيسة أم خاملة ساندة ومعززة ـ تسهم في هذا الإنتاج المعقّد. الشعر كتابة بالإحساس ، إذن استجابة اللغة له غير قياسية ، ووهمية أيضاً .
(2)
(أخبار المعنى) للشاعر أديب كمال الدين هل هي قصيدة _ مجموعة قصائد ، العنوان فيها مسؤول عن المتن؟ أم انها بيان شعري تعمل فيه بنية قصد مضاعفة أبعد من ذلك؟.. سأفترض بدءاً انّ المداخلة التي تصدّرت قراءتنا (لأخبار المعنى) بما أثارته من إشكاليات، من فضائل المناسبة، حتى وان كانت الكتابة هنا غير معنية تماماً بهذه الإثارة. فالتقسيم الشكلي الذي هندس خارطة الديوان ينتمي الى بنية قصد، تتصل بمشروع ضاغط هو خارج هذه الهندسة، والعنوانات المتوزعة على الخارطة لا تعلن مسؤولية كاملة عن متنونها. المشروع الحروفي الذي كرّس له أديب كمال الدين أكثر من ديوان واعتمده مشروعاً شعرياً خاصاً يراهن على فرادته وإمكانيته تحقيق إضافة، هو مشروع ضاغط و (مهيمنة) حاجبة، إذ انّ السرد الشعري الذي حفل به ديوان (أخبار المعنى) يمكن وصفه بـ (سرد تحت الضغط)، غالبا ما يتمركز فيه الصوت السارد ويجتر خزينه، ولا يتورّع في أحيان كثيرة عن التكرار غير المؤدي الى وظيفة جديدة. (أخبار المعنى) قصيدة واحدة يشتغل عليها الشاعر اشتغالات متنوعة، مستغلاً بهاء الميراث الحرفي وتمظهراته، حشد كبير لإمكانات شعرية كثيفة وسردها مرّة واحدة، في محاولة جادّة لأسطرة الحرف وبعثه بصورة أخرى، والمراهنة فيه على شعرية (الكلي).ثمة نوع من التغمّض أو تبادل الوجوه، بين أنا السارد وأنا الحرف، من أجل إيهام المحاولة وتسهيل مهمة مواجهة إشكالية المعنى. إنّ الصلة مقطوعة بين آليات الاداء (الكلمة الفضة – الكلمات الرمل – الكلمات النار)، وملصقاتها المجاورة (لاجدوى – فلا جدوى – فلا جدوى ) وبين المعنى الهارب . انه ماثل في كلّ شيء شعريّ ، وغائب عنه في اللحظة نفسها . هل الحرف المقدس – أسطورة أديب كمال الدين – ضالع شعرياً في هذه المؤامرة ؟
(الباء فراش مكتظ بالمعنى )
الاكتظاظ حال وجودي ملبس أيضا، لاسيما إذا اتصل بمعطى مكاني (فراش)، ينطوي على أكثر من دلالة تتقدمها الدلالة الجنسية المؤدية الى فعل الحياة والخلق والتواصل . الحرف (الباء) إذن فاعل أسطوري لا يستهدف إنتاج معنى ، بل يستثمر إمكاناته ومساحة نشاطه في صياغة شبكة النسيج الشعري . وينضغط الزمن – بصرف النظر عن تنوع وحداته وتباين حدودها وامتدادها – داخل كثافة التلاحق الفعلي السريع ( أصرخ – أبكي – أتّدثر – أغفو – أقوم – أدعو- أصوم – أناشد).وهو ينمّي فكرة الصراع الشعري ، مصعّداً إياها الى أقصى حد إشكالي ممكن (باب المعنى – بكلام اللامعنى)، انّ كلام اللامعنى هو المعنى الآخر ، الذي يتحرّك بحرية خارج مسطرة القياس المعتمدة أساساً للتفاهم داخل أخلاقيات السوق اللغوي . القصيدة هنا تراهن على البساطة لا التعقيد، فالذي يتسامى به الحرف شعرياً هو الطفولة واليسر والسهولة والعفوية، لا التقعّر واجتلاب الغريب والناشز :(يالطفولة أعضائي ونعومة أغنيتي حد دخول المعنى في اللامعنى). إنّ (دخول المعنى في اللامعنى) هو درجة صفر الكتابة الشعرية ، مغادرة جدران الأسر (القصيدي) الى انفتاح فضائي لا تضبطه قواعد، ويصبح قابلاً لمتعدد التاويل. التلبّث في أرض المعنى المباح المشترك، هو إقامة في مكان عام يتوزّع حقوقه الجميع، الذين يظللهم الاطمئنان واليقين السعيد، باستثناء الشاعر القلق المتوتّر، وهو ينتظر (المعنى) الآخر الذي ينقله من أرض الواقع المعلوم الى فضاء الإيهام المجهول: (فيكون المعنى أن أنتظر اللامعنى).
ولايكتفي بالانتقال بل :
(الشعر يغنّي في فرحٍ أسطوريّ خيبته ويقومُ يقبّلُ دمعي كي نقتل شيئاً يدعى المعنى)
لينفصل كلياً عن المشاع، ويستقل استقلالاً شعرياً كاملاً، ويغادر زمنياً (الماضي) ولا يخضع بالتالي لسياسة (الاخبار) التي تعرض لها المعنى في هذا الديوان .
يختتم الشاعر سرد (أخبار المعنى) بقولبة حكائية مصنوعة بحرفية وإحكام، توهم بأنّ (كلّ) المقول كان في الأصل حكاية سردها راو متكلّم ممعن في قصديته وإثارته:
(قامَ الرأسُ إليّ أخيراً، قبّلني صاحَ بأعضائي فتنبهتُ من الموتِ إليكِ، وجدتكِ عاريةً قربي. رجعَ الرأسُ الى جسدي، قالَ: "انا المعنى" . فبكيت).
هل يرثى الشاعر هزيمته بعودة الرأس – الحرف بعد رحلة الشاقة الى الجسد – اللغة ، لتعلن أناه (معناها) فيحلو البكاء؟ أم أنه عاد مؤسطراً مخصباً بخيبات الرحلة وأوهامها، فاقداً صفاته، حدوده وانتماءه الى المعلوم؟
************************************
نُشرت في صحيفة الإعلام – العدد 11 - 20- آيار – 1998
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 281 - 284