مقدمة الكتاب
"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"
الدكتور مقداد رحيم
هذه باقة من الجهود النقدية المهمة التي تضافرتْ لتشكل خلاصة نقدية مثمرة طيبة الأُكُل، ولتكون أنموذجاً نقدياً يُمكن أنْ يُحتذى، فيُصار إلى افتراع اتجاهات نقدية جديدة تأخذ على عاتقها بلورة الرؤى حول التجارب الإبداعية المائزة، ليس في مجال الشعر وحده، بل يمكن أن تُعمَّمَ لتشمل الفنون الإبداعية كلها، كتابةً ورسماً ونَحتاً وسَماعاً.
أما هذه التجربة فهي تجربة الشاعر أديب كمال الدين الذي اختطَّ لنفسه طريقاً عسيرةً تتماشى عُسرتها وما في هذه الحياة من تعقيدات وإشكاليات تتجلى عبرها أصناف لا عدَّ لها من المحن والكوارث التي ليس للبشر قِبَلٌ بتحملها، وقد رأى الشاعر أنَّ النظر إليها بالطرق المعهودة لا نفع فيه وهو يَنشُدُ الطرافة وابتداع الوسائل الكفيلة بالتغيير الذي هو سمة الحياة في كل زمان وفي كل مكان، فلفتَ إلى تجربته أنظار النقّاد فضلاً عن القرّاء ومحبي الشعر.
تتجلى هذه التجربة فريدةً ذات خصوصية تدلُّ على الشاعر وحده، وتختص به دون سواه، وقد بدا وكأنه يعمل من أجلها بإخلاص وحب شديدين، منذ زمنٍ ليس باليسير، فأخذ يُغذِّيها بكل ما استطاع مِن قوةٍ استجمعها خلال حياته كلها من مفردات التعلم والثقافة والتجارب، ولم يبخل عليها بالسهر والتجريب، حتّى شَكَّلتْ ظاهرةً في الشعر العربي الحديث، كما شكَّلتْ الظاهرةَ الكبرى في شعرهِ هو، حتّى ليكادُ المتتبعُ يُشفق عليه لظنه أن لهذه الطريق نهاية، وأن لليل أحاديث سيقطعها بزوغ الصباح، حتّى يكتشف أنْ لا صباحَ وراء ليله، ولا انقطاع لأسماره!
إنَّ خصوصية تجربة الشاعر وَلَّدتْ ما اصطلح عليه النقاد والمهتمون بأمور الشعر العربي الحديث، وشعره خاصةً، بـ(التجربة الحروفية)، حتّى أصبح لصفة (الحروفي) وقعها الخاص الذي يدلُّ على الشاعر أديب كمال الدين وحده، وحتّى صار مناسباً أن تكون هذه الصفة عنواناً لهذا الكتاب!.
تناول ثلاثة وثلاثون ناقداً تجربة الشاعر وشعره في تسع وثلاثين مقالةً تضمنها الكِتاب وتوزعت على ثمانية فصول، تناول الفصل الأول التجربة الحروفية بشكل عام، بينما توزعت الفصول الستة التالية له على مجاميع الشاعر الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) و(حاء) و(النقطة) و(أخبار المعنى) و(نون) و(جيم)، بينما اشتمل الفصل الثامن الأخير على آراء متفرقة لبعض النقاد حول الشاعر وشعره.
ففي إطار التجربة الحروفية يرى الدكتور ناظم عودة "أنّ النقطة بوصفها رمزاً تختلف ما بين الحلاج وأديب كمال الدين، لأنّ الحلاج يمتلك تجربة صوفية تتمثل في سلوكه الروحي بخاصة، وفي كلامه بعامة، في حين أن أديب كمال الدين لا يمتلك تجربة صوفية شعرية، فهو يستعير من التجربة رموزها حسب. ثمة فرق بين طبيعة النقطة ووظيفتها عند كل من الحلاج وأديب كمال الدين، الأول يدخلها في حيّزه اللساني والحدسيّ، لتكون علامة وموضوعاً في آنٍ، والثاني يدخلها في حيّزه اللساني حسب، لكنه لا يستطيع أن يموضعها في مجاله الحدسيّ، فهي تتشتت بين نوازع وجدانية مختلفة"، بينما يرى الدكتور مصطفى الكيلاني أنّ رجوع الشاعر "إلى أصل اللغة محاولة جريئة لا تخلو من أخطار لاستقراء جينالوجيا المعنى في تاريخه الأول الكامن في راهن الكلمة وسعي إلى إنشاء مستقبل لماضٍ أنتج قيمة لكائن استطاع أن يحوّل الأشياء إلى رموز دالّة بذاتها في حضور التكلّم وفي الغياب، وفرار من رعب اللحظة حيث فراغ الامتلاء الكاذب وفوضى النظام المستبد وتخبّط الفرد في الفراغ"، بينما يعد علي الفواز هذه التجربة هاجساً من طراز خاص للمغامرة ورغبة كامنة في كشف خطابه الشعري على نوع من الإباحة في التصريح والمفارقة الشاقة بين محموله اللغوي ولعبته الرمزية التي عمد فيها إلى تداول الحرف كمجسّ لحركة الرؤيا بحثاً عن أصل اللذة وتمثلها في المجال الرمزي من خلال تعدد صور الخلق في البنية النصية للغة والجسد والدين والأسطورة. فهو حريص على تشكيل علاقة بنائية في هذا المجال، يستحضر فيها الكثير من الثنائيات التي تجعل لعبته الشعرية مجذوبة إلى الاستغراق في عملية تقابل وترميز متوالية ولعبة توليد لا يجفّ فيها المعنى عن إنتاج صوره ودلالاته. وهذا التمثل الشعري يجد له نسقاً بشكل ووظيفة هما فضاؤه الاستعاري الذي يشكّل فيه هاجسه في المغامرة مثلما هو مجاله (الكنائي) الذي يعيد فيه استعادة لاشعوره وبواطنه الداخلية ليس بمواجهة المجال الاستعاري لجملته الشعرية، بقدر ما هو محاولة لتشكيل نصوص موازية في نثريتها تحيل دائماً إلى الإشارة والتأويل وطقس اللذة وروح الجسد المتمظهر بقوة الخصب. وبهذا فإنّ الشاعر يتعامل بحساسية فائقة مع دلالات الحرف وشفرته اللغوية باعتبارها المادة الحية التي تحيل الشاعر إلى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى أو الصورة. وإزاء هذا يجد الشاعر نفسه دائماً في فضاء من الدلالات التي تمارس لعبتها في تفكيك بنية الجملة الشعرية الصورية إلى بنيات ثانوية يمتزج فيها الهاجس الصوتي مع التشكيل الصوري لينسجا تشكيلاً أشبه بتشكيلات الحروفيين في الرسم، إذ يكتسب الحرف الأيقوني والحرف الموصول مع اللون والكتلة صفات حسية وذهنية مثلما يحيل نفسه إلى بنية صوتية هي في جوهرها النداء الخفي الذي يلامس المعنى والروح.
أما وديع العبيدي فيرى أن هذه التجربة هي تعبير عن العجز عن تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشرّ، وقد دفع هذا العجز إلى إيمان منقطع بالكلمة [أقرر أن أبعث كلماتي حتّى يعتدل العالم (مجموعة أخبار المعنى)] وإلى إعادة صياغة مسرح الكارثة والمأساة كما في مجموعة (نون) [ حبّكِ ناطحةُ سحاب/ حلمتُ بها/ وخططتُ لها وبنيتها طابوقةً طابوقة/ وحين أكتمل البناءُ العظيم/ نسفتُها من الأعماق.] أو الخروج من الراهن للدخول في متاهات المطلق والمغيوب التي مثلت المستوى الآخر (اللذيذ) في معالجات الشاعر للأحداث والمتوزعة في تلافيف قماشته الشعرية الواسعة وتماهياته أو تناصاته الصوفية والدينية ممثلة في قصيدة (أنا وأبي والمعنى) من مجموعة [أخبار المعنى]، كما كانت مجموعة (حاء) تمثل، من وجهة نظر العبيدي، تجاوزاً لمرحلة الخوف والحرمان والحرب والحصار، لتضمنها رؤية تأملية ذات منزع ذاتي، استعرضت ما ضاع مما بقي، وأفرغت شحنات متأخرة من ظلمات الجحيم، فهي أكثر نزوعاً بذلك إلى استلهام السيرة أو استذكارها وأكثر انفتاحاً للحبّ.
ويتناول الفصل الثاني من هذا الكتاب آراء النقّاد في تجربة الشاعر في مجموعته الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، ويستهله الدكتور عبد الإله الصائغ بدراسة معمقة، يشير فيها إلى قدرة الشاعر أديب كمال الدين على خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة! وصار الحرف لا يُقرأ حرفاً خالصاً كما يراه الآخرون، وإنما يُقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى يعسر وضع حدود بين المحدودات! ويفترع الصائغ مصطلح (الحرفنقطة) لعالم الشاعر الشعري الذي يُخلِّق منه كل مفردات القصيدة، بل كل مفردات التجربة الشعرية لديه.
وقد رأى الدكتور حاتم الصكر في تجربة الشاعر الحروفية مُراجعةًً تدرجت وتطورت من البدايات حيث الانبهار بفكرة استضافة القيم الحروفية وإنشاء ما يشبه الميتانص الأبجدي الذي يراقب فيه الشاعر وجود الحروف وهيآتها التركيبية في الكلمات والجمل منشغلاً بذلك عن معانيها ودلالاتها وما يمكن أن توصله أو تحمله من صور وأخيلة، ليستطيع من بَعد تفجير طاقاتها الجمالية الصورية والتعبيرية، مع اقتراض فرضيات صوفية ـ إشراقية غالباً ـ حول وجود الحرف في القصيدة والروحانية التي نظر بها الصوفيون للحرف والنقطة، لاسيما في المفاهيم الحلولية حيث يشبّه الصوفيون المخلوقات بالنقط الممتدة من ـ أو المنبثقة عن ـ النقطة الأولى أي الخالق الذي فاضت عنه وامتدت في خط الوجود الذي هو عبارة عن مجموعة نقاط، إذا فصلت أياً منها فلا يعني ذلك انقطاعها عن النقطة الأولى، بل هي لا تمتلك وجوداً منفصلاً خارج هذا الوجود الخطي الذي تظل تهفو للعودة إليه والاتحاد به كما تحن القطرة لبحرها الذي تبخرت من مائه.
كما وجد فيها مظاهر تشكيلية نمت في الرسم العراقي وانتباهاً للبعد الفلسفي المعمّق الذي توحي إليه هذه المظاهر، فضلاً عن المؤثرات الصوفية ولاسيما تجربة التوحيدي الإشراقية والحفرياته الجمالية والفلسفية في دلالات الحروف ووجودها الجفري والروحي، وأشار إلى انغماس الشاعر في حروفياته الشعرية دون أن يبدو ذلك مُقحماً أو غير مستساغ.
وقد حاول الناقد الدكتور مصطفى الكيلاني أن يقدم عملاً نقدياً جادّاً، من خلال تحليل مستفيض لتجربة الشاعر في هذه المجموعة، وأدار عمله حول عدة محاور تراوحت بين المشترك بين طفولة الحرف وطفولة الاسم بين الصوت والصمت، وسرد الحال وشاعرية الحدث، وموضوع الرثاء المتقرر قبل الولادة، وتخوم القصيدة لوعي الموت، وشهوة التجريب والرغبة في البوح، وتصادم الألفاظ وتداخل الحروف، والوعي بين الراهن والاستذكار، والموت بوصفه اسماً لمسميات شتى، والكسر العميق في تجربة الكتابة الشعرية، والانعتاق المؤقت من سجن الوضعية بالكتابة والسفر، والموت بوصفه يأساً قادراً على إنجاب أمل، وأخيراً: ما تحقق بالفعل من حروفية الشعر.
ثم يتحدث عيسى حسن الياسري عن تجربة الشاعر في هذه المجموعة فيؤكد إخلاصه لتجربته وملازمته لها كأيّ قدّيس لا يقدر أن يبارح صومعته تحت أكثر الفصول شراسة، فهو الذي بنى هذا التقارب الروحي بينه وبينها إلى الحد الذي جعل مغادرة مكانها أو زمنها عملية عسيرة تشبه انفصال الروح عن الجسد، ومن هنا تحوّلت حروف الشاعر إلى كنز من الأساطير والرؤى والأحلام لمواجهة فيالق الزمن وقراصنته البارعين في القتل وتدمير أغنية الحياة التي يحاول الشاعر أن يمسك بها حيث تعيد للإنسان ثقته بالحياة وبالعالم الذي يعيش.
أما عبد الرزاق الربيعي فيعمِّق النظر في تجربة الشاعر في هذه المجموعة فيتناولها من زاوية استخدامه للون ويرى أن للشاعر صلة قربى بالفنان التشكيلي من هذه الناحية، غير أن هذه القربى عمّقتْ نصوصه وأغنتها، وجعلت اللون فيها ملمحاً جمالياً من ملامحها، ويرى أن لكل لون من الألوان خصوصيته في الدلالة، وأن لكلّ حالة لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة الشاعر للعالم والوجود، فتستحيل ألوانه إلى مرايا عاكسة لذاته وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن، ومن العشق والوله إلى اللامبالاة، ومن الوطن إلى المنفى، وهكذا.
وبينما يقف خليل إبراهيم المشايخي على قدرة الشاعر على الترميز من خلال الحرف العربي لاستكناه سرّ الحرف العربي وسحريته ومدياته الدلالية، وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس، يرى زهير الجبوري أن الحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصيته لتكون مهمته وظيفية، ولذلك قد تتلاقح أدوات اللغة وحروفها تناظراً لخلق الرؤيا الشعرية، وليس الحرف جزءاً لا يتجزأ من منظومة اللغة، الحرف صفة رمزية، شكل لسحب المعنى، ويختتم صباح الأنباري الحديث عن هذه المجموعة فيؤكد أنَّ الحروف والنقاط هي امتياز أديب كمال الدين وتفرّده وواسطته للارتقاء إلى عالمية الشعر، والغور في ملكوته المقدس، فعلى الرغم من حروفية قصائده، فإنها تهتم بالمعنى وتستقري قيم الحياة الإنسانية ونفاذها إلى جوهر الوجود.
أما الفصل الثالث فقد انصبَّ الحديث فيه حول مجموعة الشاعر (حاء)، واستهله الدكتور عبد العزيز المقالح بمقالة أكَّد فيها أنَّ في جوهر قصيدة أديب كمال الدين هامشاً واسعاً من التفاؤل يكاد القارئ العادي لا يشعر به. فهو، أي الشاعر، لا يسرف مثل الآخرين في سرد مواجع الواقع ومخاوفه وإن اقترب من ذلك الواقع الذي يصعب الفرار من انعكاساته، فإنّ روح الأمل تظل نابضة حيّة ويظل الحلم حاضراً بما يكفي، ليس بالتمسك بالحياة وحسب، وإنما للوعي بأهمية تجاور ردود فعل المرحلة الصعبة ودائماً تكون الكلمة الضوء والدليل، بينما يرى الدكتور عدنان الظاهر في أديب كمال الدين مهندساً معمارياً بارعاً من حيث سيطرته على الفضاءين النفسي الشعري ثم المكاني الجغرافي، من خلال العلاقة التي تتبدى بين الشاعر وملكة مصر الفرعونية كليوبترا في قصيدته "بانتظار أن تهبط حبيبتي"، مُعرِّجاً على مسرحية (أنطونيو وكليوباترا) لشكسبير، وقصيدة (الأرض الخراب) لتوماس إليوت.
أما الدكتور محمود جابر عباس فيميط اللثام عن قدرة الشاعر على بناء قصيدته على ما يؤثثه لها من تواتر الوحدات الحرفية التي تشترك في التنسيقات الأساسية والتنويعات الصوتية التي تجعل منها ظاهرة لافتة للنظر في الشعر العربي الحديث يجب الاحتفاء بها، خاصة مع استمرار انشغال الشاعر بتكويناتها وتجانساتها الصورية المكثفة لإيصال فكرة النص التي تشكل البيئة الأساسية التي تستقطب الكلام الذي ترد فيه الحروف وتجذب دلالات الحروف لتدور حولها لأنّ الامتداد الحرفي وغواية الحروف التي استطاع الشاعر استغلال إمكاناتها صوتياً ودلالياً في خلق إيقاع يؤازر الدلالة الكلية للنص، ويحتضن الانفعالات الذاتية التي تشكل مفارقات نصية وملفوظية للأساس المنطقي الذي يكمن تحتها، حيث إن دلالة الحرف والنقطة هنا تعوض عن دلالات الكلمة والجملة والمقطع عبر التركيز الحرفي الذي يخترق من خلاله صوتية الحرف وبعده الإيقاعي للوصول إلى طريقة كتابية جديدة وخاصة به، وخلق عالم رمزي وكون تخييلي وتشكيل مغاير عبر اختراق سكونية اللغة ووظيفتها التقليدية والمعجمية إلى الحد الذي تتناص فيه خاصيات الحروف لتصل إلى الشعر الصافي، وصنع صوفيته الشعرية التي تستحيل إلى طاقة شعرية متجاوزة للزمان والمكان.
وقد نالت مجموعته الشعرية (النقطة) حظاً واسعاً من اهتمام النقّاد والكُتّاب، فقد كتب الدكتور حسن ناظم عن معاني الحروف، محاولاً وضع علاقة توحُّدية بين أنا الشاعر كذات، والحروف كذوات أخرى، فهي محاولة في أنا الشاعر، ونرجسيته الطاغية، وعلى أن هذا لا يتقاطع مع اللجوء إلى الحروف كخيار لتلغيز الوجدان والفكر لتبدو بعد ذلك الحروفية كتوجّه شعري يؤمّن هرباً من بطش الحياة، ولكنها لعبة خطرة، كما يرى الناقد، إذ تحتاج إلى إمكانية كبيرة لتحوّل التمثيلات الرمزية إلى عوالم مغلقة، فقد تفصل الواقع المعيش عن تجربة التمثيل الرمزي؛ وبذلك تعلو الرموز على الواقع، وتنفصل عن ما يجب إدراجه فيها. بينما يتحدث الدكتور عدنان الظاهر عن قدرة الشاعر على توظيف غنى الشخصيات في مسرحية شكسبير (هاملت) في شعره، ويجدُ أنه امتاز عن كل من الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي والشاعر السوري نزار قبّاني اللذين سبقاه إلى توظيف هذه الشخصيات، حيث جمع بين هاملت الذي مازال حياً، وأوفيليا التي غادرت الحياة، وبذلك كان قد رسمَ لوحة جديدة لم يكن شكسبير نفسه فكَّرَ بها، إذ جمع فيها الكثير من العِبر ورصيداً ضخماً من التفكير الذي ربما هبط على الشاعر في لحظ إلهام نادرة. فضلاً عن إيجاد علاقة بين اسم الشاعر "أديب" والبطل المسرحي الملك "أوديب" من الناحية النفسية.
أما الدكتور عبد الواحد محمد فقد تناول في مقالته الجانب اللغوي الأسلوبي في هذه المجموعة، فتركَّز كلامه على التكرار في قصائد الشاعر، وأمكنَ له تصنيفه أصنافاً عدةً منها (التكرار بالمفردات المستقلة وبالعبارات وبالجمل) و(تكرار الكلمات والعبارات الأولى في أبيات متعاقبة) و(تكرار الكلمات والعبارات الأخيرة نفسها في نهاية الأبيات) و(تكرار الكلمات والعبارات نفسها في بداية ونهاية الأبيات) و(ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها الواردة في نهاية الأبيات)، فضلاً عن التكرار النحوي، ويرى أنّ استخدام هذه التراكيب بشكل متكرر يؤلف حالة من التوازي الذي ينطوي على الإيقاع وتوكيد التنوع وتضاد الآراء. لكن نظام الألفاظ في هذه التراكيب النحوية معرض للتغير، حتّى يصير من الممكن أن تبدل هذه الوحدات اللغوية مواقعها لاسيما في الشعر، لغرض معالجة نقطة التركيز أو لكسر رتابة نموذج معين.
وينظر صالح زامل حسين في الجناس الذي يطلب التأمل في رسم الكلمة، فيرى أن قصيدة أديب خرجت من سلطة الحركة المقترحة للعين في حركة صوتية مرئية وبمرجعية تبحث عن تفرّد، وإن كانت تعود للتكثيف الصوتي من خلال مجاورة الحرف للكلمة، ولكن ليس بغير اقتران مع التأمل في تشكيل الحرف وهي القراءة التي يقترحها للحرف، وهي منهمكة في بحث الصلة بين النقطة والحرف فتتأمل في الحرف محتضناً في خانته العلوية النقطة، أو مرتكزاً عليها خانة سفلية، فتضفي للحرف المجرد بالرغم من تجريدها هي الأخرى معنى، كما ينظر في عنوان القصيدة لدى الشاعر فيرى أن لبنيته وظائف عديدة، فهو الثريا في فضاء النص، والعتبة لمساربه ورحلته، ومسيج لجغرافيته، والضلع المقترح لارتكاز النص، حيث يكف عن أن يكون حلية، بل هو التسوير الذي اعتمدت عليه عنوانات قصائد هذه المجموعة على الرغم من سيادة نسق تكراري مركب اسمي تقدم كل عنوانات القصائد هو(محاولة في ....) التي كانت بؤرة للعنوانات كافة، تتشظى عنها حالات إلى النصوص المختلفة.
ولكاتب هذه السطور نصيب من النظر في هذه المجموعة حيث رآها مرتكزةً على دلالتين هما نقطة الحروف ونقطة الدم، وكلتا الدلالتين تتسعان أحياناً وتتحدان أحياناً أخرى لِتشكِّلا معادلاً موضوعياً للشاعر نفسه، فهو النقطة في حروفه، وهو النقطة في دمه، وهو النازف دائماً، المقتول دائماً، وبين النقاط والحروف تدور ثلاثة أشياء دوراناً جليَّاً في جملته الشعرية في هذه المجموعة، هي الموت والدم والطفولة الضائعة، وهو بذلك يتخذ من نصوص الشاعر مُختبَراً لدراسة نفسيته وما يعتمل فيها، والكشف عن خباياها، ليستحيل الشعر، بعد ذلك، إلى سجلّ صادق لما دار وما يزال يدور في أعماقه. ثم يتوصلُ إلى أنّ أديب كمال الدين شاعر ذو منهج خاص به، وقد أثبتَ خلال مدة طويلة من التجريب والتعميق أنه مخلص لمنهجه هذا غايةَ الإخلاص، ذاهباً معه إلى أقصى حدّ، مستفيداً من اكتشافاته الجديدة، ويبدو أنه يقف منه على جديدٍ في كل مرّة، على الرغم مما يعتور هذا المنهج من غموض وتعميات لا يستطيع القارئ العادي ملامستها، وإدراك مجاهيلها أحياناً.
وبينما نجد هادي الربيعي مهتماً باقتناص دلالات العالم الروحاني في (النقطة)، هذا العالم الذي ينسحق تحت وطأة المعطيات الحضارية الجديدة تحت شتى الذرائع والمسميات لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تؤكد أنّ كلّ إنجازات الحضارة في شتى ميادين الحياة لم تستطع أن تتوصل إلى إسعاد البشر، فيختل التوازن بين ما هو مادي وما هو روحي، إذ يتضخّم الجانب المادي على حساب الجانب الروحي لينحسر هذا الأخير إلى الدرجة التي بدأ يفقد فاعليته في مجرى الأحداث الإنسانية، وتسعى (النقطة) إلى خلق لحظات الوجد الأسمى، حيث انهمار الحروف وتوحّدها لتكون كائناً واحداً، هو جوهر الوجود في ذروة سمّوه، والأسرار المتجمعة داخل بؤرة متوهجة واحدة، هي وضوح الوضوح وسرّ الأسرار.
أما فيصل عبد الحسن فقد بدا وكأنه يؤرخ لتجربة الشاعر من الناحية الفنية والشكلية من خلال مقدمة ضافية لحديثه عن (النقطة)، فيُحيل إلى تاريخ كتابته لقصيدة النثر وتحوله إليها، كما يتحدث بكفاية عن تاريخه الشخصي من حيث التعليم والتثقيف، ومصادر المعرفة، فيتيح لنا بذلك الكلام على أهمية أن يعرف الناقدُ الشاعرَ، وأن يكون قريباً منه، ليتوصل إلى نتائج صحيحة ونافعة في دراساته النقدية، وهكذا أفاد فيصل عبد الحسن من علاقته الخاصة بالشاعر فأضاء حديثه عن النقطة بها وأغناه، ولاسيما فيما يتعلق بإتقان الشاعر اللغة الإنجليزية والقرآن الكريم.
ويؤكد الدكتور إسماعيل نوري الربيعي، كما فعل بعض النقاد على نحو ما رأينا وكما سنرى، مسألة التشخيص التي دار عمل الشاعر حولها، أو تبناها في تعامله مع النقاط والحروف، فرآه ضخاً لجرعات الأنسنة داخل النقطة، ذلك الشيء الإتمامي الذي لا يلتصق بجنس الحروف ولا بجنس الكلمات، من خلال علاقة الربط بين (أنا) و(النقطة) التي يسعى الشاعر أديب كمال الدين إليها، حيث ربط العلاقة بالماهيات، بحثا عن تعميق التجربة الحية في الشعور، من خلال دمج النقطة في الذات الإنسانية، فيما تتشكّل رؤاه الزمانية على ملامح العلاقات المكانية، فهو يعمد إلى فرز الأبعاد الزمانية للشعور من خلال فرز عناصر (التوتر) التي يحشدها الشاعر في تفاصيل شديدة الوضوح ممثلة بالتاريخي والأيديولوجي والوجودي.
وفي إطار آخر تحاول نجاة العدواني الإبحار في عوالم الشاعر وتحاول تفسير مضامينها على الصعد المختلفة بشكل دقيق وعميق، من بُعدين أساسيين هما (الشاعر والحلم) و(الحلم والموت)، ومثلها الدكتور حسين سرمك حسن في انشغاله بتفسير مضامين النص، بينما يتجه عيسى حسن الياسري إلى تحليل ذات الشاعر ويرى أنه لم يأخذ من المدرسة الصوفية سوى تشكيلاتها الخارجية، إيماناً منه بأنه يعيش عصراً يبتعد كثيراً في إشكالاته وتعقيداته وأزماته النفسية والروحية عن العصر الذي عاشه الصوفي القديم على الرغم من تشابه النهايات التدميرية التي يشترك فيها العصران، فلم يتوقف عند الحدود الرؤيوية الصوفية المتقدمة التي اتخذت من الحرف (طلسماً) لا يتعدى كونه مفتتحاً لتعويذة سحرية أو مقابلة (رقمية) كما هو الحال في (الأبجدية الحروفية) والتي أعطت لكل حرف رقماً، وأنَّ (أنا) الشاعر ترتفع معلنة عن نفسها في أكثر من قصيدة إلا أنها تخرج من حدودها الذاتية الضيقة لتدخل في شرطها الموضوعي المتسع، بينما يرى رياض عبد الواحد أن الشاعر أراد أن تكون له لغة منظورة، أي ذات بعد فني لذلك حاول الاعتماد على المختزلات (النقطة والحرف) ليؤلف بين ما هو داخلي وما هو خارجي، ويمازج بين ما هو زماني وما هو مكاني في ما يخصّ حقيقة الوجود الإنساني الذي لا يقرّ له قرار.
وقد تضمن الفصل الخامس خمس مقالات عن مجموعة الشاعر (أخبار المعنى)، أولها لواثق الدايني الذي سعى إلى معالجة نصوصها انطلاقاً من منظور المعنى ومعنى المعنى ومدلول اللامعنى في إطار نظري تاريخي، وتحليل متعدد الأنواع على منهجي الاستقراء والاستدلال الفلسفيين مع الاستعانة بشيء من الرياضيات البيانية لتأكد بعض المدلولات أو الاستنتاجات، ثم التوصل إلى حالة استنباط رآها لتعطي أحكاماً لا مجال إلى نقضها بحدود فضائها، ولا تسمح بإغفال أهميتها في العلاقة بين النظم الحديث، والتنظير الموثق بصدد (المعنى) و(معنى المعنى) ومدلول (اللامعنى).
وثانيها دراسة ريسان الخزعلي الذي يرى أنّ القيمة التي تقوم عليها (دالة الحروف) في (أخبار المعنى) تتأسس على تلك الإشارات مضافاً إليها الاشتغال بالجهد الإبداعي الابتكاري للشاعر ذاته، حيث تستنطق محاولات الشاعر الحرفَ (قرائياً وتشكيلياً ولونياً) بتنويعات جمالية تقوم على الرنة الإيقاعية التي يشكّلها توالي الحروف، ويتوصل الدكتور محمد صابر عبيد إلى أن القصيدة لدى الشاعر تراهن على البساطة لا التعقيد، فالذي يتسامى به الحرف شعرياً هو الطفولة واليسر والسهولة والعفوية، لا التقعّر واجتلاب الغريب والناشز، في المقالة الثالثة.
أما المقالة الرابعة فقد كانت لمعين جعفر محمد، وقد انصبت على تحري عنصر الخيال في نصوص هذه المجموعة، إذ تتبلور سمة فنطازية تنشأ من حيث يتم خرق المنطق العقلي وخلق منطق بديل يعزى إلى إطلاق العنان لملكة الخيال لتفعل فعلها في خلق علاقات إسنادية بين عناصر لا تمتّ إلى اللغة إلاّ بصلات شكلية، ومن ثمَّ يحقق الشاعر استفادة واضحة من الخصائص السيميائية للحرف العربي بصفته وحدة تبين (علاماتية) دون أن يتخلّى عن ستراتيجه الثابت، حيث يبقى المعنى مغيباً عنده وراء نسيج من لعبة شكلية لكنها تدع للكلمات حرية أن تتخذ أنساقاً خاصة تنسجم مع المدلول الخاص المراد الإيحاء به.
ويختتم الدكتور مصطفى الكيلاني هذا الفصل فيؤكّد أن قصيدة أديب كمال الدين هنا تلتف حول لغتها لتؤسس لعبتها وتتفرد جمالياً بما يجعلها قادرةً على الخروج من طوق التاريخ المكشوف لتعلن زمنيتها الخاصة، وقد استطاع الشاعر في حدود المسبق أن يشدّها إلى ألوان متميزة من التناغم الخفي مروراً بإضافات إيقاعية حسية تظهر بالخصوص في تركيب الجملة الفعلية المتكرر، والتداخل بين الجمل الفعلية والجمل الاسمية الذي جعل القصيد مشدوداً إلى الحركة والسكون يتجاذبه النسيان الفاعل والذاكرة معاً.
ويختص الفصل السادس بمجموعته (نون)، ويتضمن خمس مقالات كذلك، تستهلها الدكتورة بشرى موسى صالح فتتحدث عما تسمّيه بالمحفّزات التي يحاول الشاعر أن يبوح بها ودعته إلى اقتحام نصه تحت (شروط الحرف أو طائلته) والدوران معه في دورة لامتناهية، وتنص على أن أول المحفّزات لديه يبدأ بالقرآن الكريم، والحرف جزء من أسراره، ثم بما أحسه في الحرف من قدرة على استكناه أزمنته الماضية والحاضرة وكشف المستقبلية منها وقدرته على خلق أسطورته الشخصية، ويعلن عما منحته التجربة الصوفية ومواجد المتصوفة له من مقترح حرفي وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لا تحد. كما تؤكِّد أن الحرف لديه وسيلة لاستكناه أبعاد لاتحد في طاقتها على التجدد: أبعاد شكلية ودلالية تتخذ أقنعة مختلفة وأشكالاً متغايرة، بحيث يصعب رصد شذرات من تجربته الحرفية، لأنّ التجريب الحرفي قد أخذ عنده حيزاً مفتوحاً ولانهائياً، ثم جعلت الحرف لدى الشاعر على خمسة مستويات هي المستوى الهيئي (الشكلي) والمستوى الدلالي والمستوى التحويري والمستوى الطلسمي والمستوى القناعي الذي يتفرع إلى ثلاثة أشكال رئيسة هي الصوفي والأسطوري والتراثي.
أما وديع العبيدي فقد أشار إلى تلك العلاقة الوطيدة القائمة بين الشعر والتاريخ لسعيهما جميعاً إلى تحقيق الواقع، وإضاءة الحقيقة، وإتاحة إمكانية الاستدلال والتأويل والخلاف، حيث الذاتية والموضوعية، ومن هنا ينطلق ليربط بين شعر الشاعر أديب كمال الدين وحياته الخاصة، حيث يرى أن الشاعر يلجأ إلى تقسيم مسيرته الذاتية وتجربته الأدبية إلى مراحل، ويعبر عن كلّ مرحلة بكتاب أو قصيدة، كما يفعل المؤرخ ضمن منهج معيار معينين، على أن الشعراء ليسوا جميعاً على الدرجة نفسها في فهم الحسّ التاريخي أو الانشغال به. وربما كان منهم من يلغي التاريخ ويعتمد أساليب فنية وذهنية معينة للإجهاز عليه. ومن هنا يستمد الناقد قدرته الواسعة في تحليل نصوص الشاعر من خلال معرفته بظروف الشاعر وتاريخ حياته في مراحلها جميعاً، وقد أشرنا من قبلُ إلى أهمية أن يكون الناقد عارفاً بظروف الشاعر المنقود أو قريباً منه، ليعطي نقده أحسن النتائج وأدقها، وهكذا فعل وديع العبيدي، حتّى توصل إلى أن النون هي الدالة الأكثر خصوبة في حروفية أديب كمال الدين لقدرتها على التشتت والتشظي والانفجار وتكوين مجرات جديدة، لذلك تكتسب هذه المجموعة مستويات غير منتهية من معاني ودلالات تتوزع بين الذاتي في تجربته الحسية اليومية، والعام والموضوعي في العلاقات العامة والعموم أو المجرد في التجربة الذهنية والوجودية.
ويذهبُ عيسى الصباغ إلى أن الشاعر ينهل من تراث المتصوفة المسلمين، فالنون على مايبدو في ذلك التراث هي النفس الكلية التي استعيض عنها بأول حروفها (نون) والتي تنتقش عليها جميع صور الموجودات وأحوالها وصفاتها النفس الكلية في حركتها الدائبة في سيرورتها الوجودية وفي تمخضاتها ولاداتها، بدءاً من العنوان عنوان مجموعته (نون) ثم الاقتباس – الآية – فالإهداء، ومثله في ذلك عدنان الصائغ الذي يتابع تجربة الشاعر منذ دواوينه السابقة (تفاصيل) و(جيم) وصولاً إلى ديوانه (نون) ويجد أنه يسعى إلى استلهام الحرف العربي، وتوظيفه في القصيدة توظيفاً جديداً، يأخذ من التراث جذوره الصوفية ومحاولات المتصوفة في التأكيد على بواطن الحرف وما ورائياته، كما عند ابن عربي والنفريّ والحلاج و السهروردي، ولكنه يضيف أن الشاعر يأخذ من الحداثة شكلها الجديد في رسم القصيدة صورياً، بالاعتماد على طاقة الحرف في التوصيل والإيحاء والصيرورة.
يختتم علي الفواز هذا الفصل بمقالته عن (نون)، فلا يبتعد كثيراً عما قيل في هذا المجال فيرى أن الشاعر يمارس الشعور بالوجود لتقريب اللذة والاستغراق بمكاشفة الوجد بكل ما تعنيه من انتشاء وبرهان ومبادلات كفائية بين حروف هي إشارات إلى معان و شهوات وإشراقات نجد آثارها في النص الصوفي خاصة في شطحات البسطامي الذي يقول في الإشراقات (كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى)، فإن وطأة هذا الكشف تجعل الاستعارة الشعرية هنا في موقع الاستعادة التي تحوزها ذات الشاعر وتكشف عن لذتها وأنويتها وتوحدها.
ويختص الفصل السابع بمجموعة الشاعر (جيم) وفيه مقالتان، كان أولها مقالة يوسف الحيدري الذي يرى الشاعر يعيش في عالم رهيب من الانفعالات والعذابات التي تذهلنا بصورها النادرة التي تتحدى الحدود القصوى لميتافيزيقا اللون والعلاقات اللامعقولة بين الأشياء، فكل ما تحت رؤية الشاعر من ظواهر كونية يمتزج بأحاسيسه ورؤاه الخالقة المذهلة، فهو مع الحاضر والمستقبل، وهو مع التاريخ حتّى في تراجعاته الحلمية الغريبة التي لا تتخلى عن المنطقي والواقعي وفي أقصى تلك الهيمنات الروحية العذبة.
أما ركن الدين يونس فيرى أنّ كلّ نص هو امتصاص وتحويل لكثرة من نصوص أخرى، إذ لابدّ من مقولة يتم اتخاذها مدخلاً لتحديد هدف القراءة واتجاهها، ثم لا بد من للتفريق بين قراءتين، الأولى: تراثية تعمل على رصد التضمين والاقتباس والسرقات الشعرية والتأثير والتأثر، والثانية: حديثة تستند إلى تأشير مستوى (التناص) المصطلح حديث الاستخدام نسبياً في الدراسات النقدية العربية.
وهكذا وقفنا على مجموعة كبيرة من الأعمال النقدية بمختلف اتجاهاتها وميولها، واطلعنا على جهود مجموعة من النقاد الذين تباينوا في التقاط زواياهم، واختلفوا في وجهات نظرهم وآرائهم، مع اتفاقهم جميعاً على تفرد تجربة الحروفي الشعرية، فكان هذا الكتاب أشبه بسلة من الفواكه والثمار المتنوعة، تثرى فيها الأنواع والأشكال والألوان والطعوم، وبذلك استطاع الشاعر أديب كمال الدين بإبداعه المتفرد، الذي يُعَـدُّ إضافة مثرية للشعر العربي الحديث، أن يحثَّ الخطى، ويحفز الهمم إلى تنشيط النقد الأدبي الحديث، وإثرائه كذلك.
********************************
نُشرت في كتاب "الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007- ص 9- 22