الحُروفيّ
33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية
المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007
368 صفحة من القطع الكبير
إعداد وتقديم
الدكتور مقداد رحيم
ق 5
الفصل السابع: جيم
مجموعة (جيم) بغداد - دار الشؤون الثقافية العامة – 1989
يوسف الحيدري
ركن الدين يونس
قراءة في قصائد (جيم)
يوسف الحيدري
ص 339 - 345
في إشارات التوحيدي الثماني عن الفجر والشكوى والهزيمة والحريق والموت والرؤيا والختام، علامات للوصول إلى النقاء والتطهّر والتضحية في سبيل أن يكون النقاء هو شرعة المبدع الحقيقي، لذلك حين يعجز هذا النقاء عن التحقق عبر إرهاصات الشاعر: النبي، فإنّ الموت على قارعة الطريق وحيدا ً عارياً إلاًّ من غطاء الحقيقة سيكون هو الطريق إلى الخلود:
(آهٍ.. يكفي
فأنا رجلُ أدّبتُ لساني
حتّى استخفى في الصمتِ
بقناع نبيّ) ص 15
ثمة حريق قبل الموت وعلى قارعة الطريق.. قد يكون بديلا ًعنه أو مدخلا ًإليه..
(احترقي تهويمة الروح وفجرَ الكلماتْ
احترقي.. ماذا جنيتُ من هوانا الضائعِ المضطربِ
إلاّ دموعاً تغتدي كوردةٍ من لهبِ
أو حسرةٍ ما تنتهي) ص 17
ويكاد الشاعر أديب كمال الدين مرّات عديدة أن يعقد مع الحياة أكثر من وشيجة حبّ وانتماء في مجموعته (جيم).. فيطرب لبلبل ويناغي عصفوراً ويتساءل كيف يسكن الهدهد في دفء العش ويحلم بين صغاره.. في حين يضيع هو بين أوراقه الغامضة وأقنعته العديدة وفُراته المريب:
(أنتِ في عشّكِ الدافئ
وأنا في عذابي المقيمْ
أنتِ في عشّكِ الغامضِ
بين أطفالكِ البيض والسمرْ
بين أزهاركِ العاريات وأحلامكِ اللاهثةْ
وأنا بين أوراقي الغامضةْ
بين أقنعتي وفراتي المريبْ) ص 47
في (مأدبة السيّدة) انتظار لقيام المطر الوحشي حيث تهتز الأرض ويفور التنـّور.. ليحترق الشاعر أو يتحول إلى صاعقة في عرشه.. وتتوإلى الصور المتنافرة الغريبة، لتشكل اللوحة الدرامية الضاجّة باللامعقول والسحري والمتخيّل والمذهل.. فبين ضحكات النمور وبكاء القنافذ.. تبتسم الخطايا السبع في الروح.. بعد مأدبة السيّدة تواجهنا أبجدية البحر بكلّ أغاريدها وسفنها البعيدة وشمسها الغائبة وأبوّتها الحانية:
(البحرُ غرَّدَ في دمي والبحرُ يقتاتُ الحنينْ
ما لي أراكَ معذباً والموج سيّدنا الدفينْ) ص56
هل يكتب البحر أخيراً قصّة الخطيئة أو يفرّخ في الدم سرباً من الموتى.. أي تساؤل مدهش يخلق الشاعر.. في حين قد يحنّ البحر أحياناً أو يقسو مثل أب صارم يحمل السكين ليذبح ابنه في حلكة ليل بهيم:
(البحرُ فرّخَ في دمي سرباً من الموتى) ص61
(البحرُ أب يذبحني الليلة بالسكّين) ص69
أيّ عالم رهيب من الانفعالات والعذابات يعيشه الشاعر أديب كمال الدين الذي يذهلنا بصوره النادرة التي تتحدى الحدود القصوى لميتافيزيقا اللون والعلاقات اللامعقولة بين الأشياء. فكل ماتحت رؤية الشاعر من ظواهر كونية يمتزج بأحاسيسه ورؤاه الخالفة المذهلة.. فهو مع الحاضر والمستقبل.. وهو مع التاريخ حتّى في تراجعاته الحلمية الغريبة التي لا تتخلّى عن المنطقي والواقعي وفي أقصى تلك الهيمنات الروحية العذبة.. هاهو الشاعر يعانق فيلسوف المعرّة رهين المحبسين في حالة صعبة من التيه:
(باسمكَ قُدّرتِ الأقمار منازل والأيام سنينْ
ومضتْ من خلفي مئذنة
لم أرقبها والكأس تمزقني إرباً إرباً
ألأنّ الشمعة قد سقطتْ في الماءِ الآسن
أولدُ من موتي مرّاتٍ..
لأعُذّب منفياً في كلّ صباح؟) ص75
ولا يني الشاعر يؤكد ان بصيرة المعري هي الأقوى.. وحين تضيق الدنيا في صدره وتعتريه عذابات الوحدة والشعور بالانسحاق فإنه لا يلبث أن تصرخ و يرفض.. بل ويترجى وهو في أقصى دجات عذاباته كإنسان.. ويكاد النور هنا يجسد هاجسه المدمر..
(لا تتركْني للريحِ لتنبش أيامي
لا تتركْني للموتِ ليلقمني الوحشةَ والبحر ورائي
...............
لا تتركْني للطوفانْ
ودمي قد أبصر خفقَ حماماتٍ عادتْ
برحيقِ النور) ص 80
لقد انعكست عذابات المعرّي على الشاعر فغمره موج من اليأس لم يجد خلاصاً منه سوى النوم.. ولذا راح يبدي ضجره من الجري وراء السنوات.. وينكشف لديه زيف الأشياء كلما مرّ عام من عمره واقترب أكثر فأكثر من حافة العبث واللاجدوى وفقدان المعنى لكل ما كان يطمح إلى تحقيقه:
(أتعبنا الجري وراء السنوات
قد أتعبنا حرف كالثور الهائج، كيف تروّضهُ
بأظافرنا، وأظافرنا مُلئتْ بأنين الدم وأنين الراسْ
نمْ..
يا من أسقطت َالوردةَ في البئرْ
يا من أسقطتَ الوردةَ في بئر الحراسْ
نمْ..
لا عاصم، هذي اللحظة، من أمرِ الناسْ
والناسُ نيامُ... الناسْ) ص84
في قصيدة (الرجل) نداء حلاجيّ واستغاثة عميقة للخلاص من دناءة النفس وما في الصدر من غلّ ومقت إلى حد الدعوة لقيام الساعة وانهيار هذا العالم الذي طفحت القذارة فيه وانحسر النقاء والحبّ:
(أقم الساعة
سوركَ من حولي..
يا مَن باسمكَ يهتزّ القاع
وتغوص الطعنة في الأعماقْ.
امنحني عينينْ
شفةً ويدينْ
وانزعْ ما في صدري من غلّ وعذابْ
أقم الساعة
سوركَ من حولي..
يا مَن يتركني في الريبة..
أحيا وأموتُ وأبُعثُ كي أقبرَ وسط نباح الأمواتْ) ص88-89
ترى.. هل الزمن يمنح الأسماء للأيام.. أم يحدث العكس فتحدد الأيام هوية الزمن؟ هذا الهيولي واللانهائي.. وينسج الشاعر قصائده من هذه الجزئيات.. فاذا كان يوم الأربعاء مدخلاً للخميس وهو يسبق نهاية الأسبوع ...فإنّ اليوم الذي يليه إنما يشكل في فلسفة الخلق سابع أيامه.. مادام الخلق قد تم في ستة أيام. ومنذ البدء.. بدء الديوان الشعري.. نتلمس هذه الإشارات الميثولوجية القابعة في لاوعي الشاعر.. تاريخياً ووراثياً.. وتتوهج هذه القوانين والصور الدينية في أكثر من قصيدة للشاعر لتمنح شعره المزيد من العمق والأصالة والصدق، لذلك تجيء هذه المفردات والجمل القدسية كافتتاحية مشرقة لقصائده:
(لو أنزلنا هذا الفجر المحموم على جبلٍ للغيرةِ والشمسِ
لرأيتَ الماء سعيداً) ص7
*
(الرحمنُ
خلقَ الإنسان
علّمه ما لم يعلمْ) ص19
ولوغادرنا هذا العالم الناضح بالإيمان الذي يمنح القصيدة خشوعاً ورهبة.. فإننا نظل لفترة أسارى لهذه المقاطع والصور الشعرية الغريبة من قصيدة (الأربعاء - الخميس):
(الأربعاءُ تناسلتْ وتمزّقتْ قطعاً ولكنّ الخميسْ
من موته يختار موضوعاً لأرسم طعنةً في الخاصرةْ) ص97
(الأربعاء تناسلتْ جثثاً بفجر الأقحوانْ
فمضى الخميسْ
في حلمه ذكرى بحار ٍما تزالْ
تشدو قليلاً.. ثم تعوي للرمالْ) ص97
قصيدة ـ أساطير ـ تشكيل شعري من أربعة مقاطع. ففي مقطع (الأفاعي) تلوينات رمزية. فمرّة للشجر وأخرى للسنوات وثالثة للعاشق الباكي و ثمة أفعى لا اسم لها.. بينما الأفعى الأخيرة هي للنزهة.. أية سخرية معبأة بالحزن تتساقط من أنامل الشاعر وأنفاسه معاً.. في مقطع (الحصار) عوالم غريبة من الاحباط والخوف.. وكلّ الطموحات غير المتحققة:
(أتقدَّم نحوكَ يا قلبي
بأساطيلي وملائكتي وجنودي..
أتقدّمُ أحملُ سرّ الماء
وعذاب الشمس) ص102
*
(في عرشكَ أكتب: حاصرني
النمرُ الكاسرُ والليلُ الناريّ وحطّمني الزلزال) ص103
وتتنامى بقية المقاطع: ( الجبلي والهندي) و(الرواية) وبكل مقاطعها الجزئية لتشكل صوراً أخاذة:
(يا قلبي.. طفل أنت
أقلامكَ ضاعت
وحقيبتكَ الخضراء
سقطتْ في الطين) ص103ـ104
(وأجبتُ ورأسي فوق الرمح:
خذْ
ذكرى طعنات النمر الكاسر
طعنات الوحش، الإنسان) ص109
في قصيدة ـ جيم ـ التي اتخذها الشاعر عنواناً لمجموعته.. تتفتح الأزهار من جذع الليل ومن بين الرمال والحصى.. وتكبر لتصبح قصائده مليئة بالأوراق الوحشية والأثمار المرّة والأشلاء أيضا وتتحول القصيدة إلى حكاية عن ثلاثة في دار واحدة.. الشاعر وعذاباته النائمة وآخر لايعرفه.. وتبوح أشجار الليل بالأسرار:
(ماذا قالت أشجارُ الليل هناك
وبأيّ نسيج مقطوع الكفّينْ
باحتْ بالأسرار.. أية أسرار؟
ولماذا قامت تلك الجثة شقّتْ
كتّانَ الجسد الأبيضْ
ندبتْ.. وعوتْ
لم أفهم شيئاً) ص115
قصيدة ـ الثعالب ـ متفردة.. تخلق عالمها الخاص بها.. غير أنها تظل رغم ذلك واقعة في أسار التغريب والغموض إلى حد ما:
(أقفرتْ ليلةُ الحبّ
ودمي ثعلب ميّت
أترى امرأة صيغ ميسمها من حنان
ثم من رئة الكُشتبان؟) ص120
وتأتي قصيدة ـ طيور ـ حيث طائر الوهم لا يوحي إلا بحقيقة غريبة:
(بهدوءٍ أعمى
ينقر قلبي طيرُ الوهم
يوهمني أن لا معنى
إلاّ لفحيح الموتى) ص123
وحين يغيب الهدهد فإن الطائر الأسود أو غراب الليل يقرأ أسماء الناس بينما يبدو طائر الموت عارياً كالتفاحة وعميقاً كالموت.. أما طائر الشؤم فيخرج من منفاه ليحلّ في المبغى.. وفي قصيدة ـ كهيعص ـ تصدمنا صور غريبة شعرية ومطلسمة في الوقت نفسه..
(نخلة في دهاليز غامضة ظللتها السيوف
جذعها الكاف
جذرها الهاءُ والياءُ والصادْ
سعفها العينُ.. أورقتُ عينْ) ص 130
في قصيدة ـ طلسم ـ وهي آخر قصائد المجموعة تتوإلى الصور، كثيفة، ملونة.. تحمل من الترميز الشيء الكثير:
(طاءْ
طار الطائرْ
واشتاق إلى تيجانِ النخلْ،
صبواتِ الزيتون وألحاظ الماءْ
*
حام الطائر
حطَّ على قلبي الميّتِ أحياه
من كبوته وخطاياه) ص135
وأخيراً.. ومن خلال هذا النسيج الهارموني الشعري الابداعي فقد تجسّد صوت الشاعر أديب كمال الدين بين عشرات الأصوات الشعرية المتصارعة المتداخلة متميزاً قوياً وفي هذا شرفه الإبداعي الأصيل.
قراءة في قصيدة: إشارات التوحيدي(1)
النص الغائب/ الحاضر
ركن الدين يونس
ص 347 - 358
كلّ نص هو امتصاص وتحويل لكثرة من نصوص أخرى. إذ لابدّ من مقولة نتخذها مدخلاً لتحديد هدف قراءتنا واتجاهها هذا أولاً وثانياً للتفريق بين قراءتين، الأولى: تراثية تعمل على رصد التضمين والاقتباس والسرقات الشعرية والتأثير والتأثر، والثانية: حديثة تستند إلى تأشير مستوى (التناص) المصطلح الحديث الاستخدام نسبياً في الدراسات النقدية العربية، لاسيما الأكاديمية منها، وبذا نكون قد أوضحنا للقارئ المنهج الذي اخترناه لإعانتنا على إضاءة النص واكتشاف المجال الذي يشتغل فيه، فضلاً عن أننا أحلناه إلى الفضاء الذي نريد لنورد قناعاتنا وملاحظاتنا فيما يخصّ النص دون العودة إلى هوامش وشروحات.
إنّ قراءتنا لهذا النص: (إشارات التوحيدي) دون غيره من نصوص المجموعة، قد بـُنيت على ما يحمله من خصوصية، نستطيع تلمّسها على الغلاف الأول للمجموعة الشعرية (جيم). فهو النص الذي استثمر الشاعر أديب كمال الدين المقطع الأول منه في تكوين صورة الغلاف، فضلاً عن العنونة وبذلك وضعه موضع المرادف المفسر، المزدوج الفائدة، للعنونة (جيم) ولما بين الغلافين من نصوص، أي انه مفتاح لما احتوته المجموعة من نصوص، وهو مفتاح أيضاً للكشف عما أنبنت عليه تجربة الشاعر في هذه المجموعة بشكل خاص وتجربته في المجاميع الأخرى التي أنتجها الشاعر، في مستوى استعارته للصيغ الحروفية، ومستوى آخر أكثر اهمية بالنسبة لنا هنا، رغم أنّ السياق القرآني متوفرعلى الحروفيات ولكن محاولة استثمار الشاعر لها كانت في نصوص أخرى وأقصد بالمستوى الآخر: البنية القرآنية التي استثمرها الشاعر في أقصى حالاتها، مرّة لتكثيف صورته الشعرية و مرّة للتعبيرعن موقفه الوجودي ومرّة لأسباب جمالية شكلية وأخرى تشكيلية اقتضتها الضرورة لايضاح النص والكشف عن مكنوناته. لنعد إلى تعريف (التناص) الذي ثبتناه في بداية تناولنا لنكون صورة دقيقة عنه بتفكيكه وتفسيره ولنتوقف عند كلمة (امتصاص) وكلمة (تحويل) اللتين يشتغل في أراضيهما النص ونفسرهما، بتعريف أورده محمد بنيس في كتابه (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب. (فالامتصاص، يأتي كمرحلة أولى في قراءة النص الغائب. وهو القانون الذي ينطلق أساساً من الإقرار بأهمية هذا النص وقداسته فيتعامل معه كحركة وتحوّل لا ينفيان الأصل بل يساهمان في استمراره كجوهر. ومعنى الامتصاص لايجمّد النص الغائب و لاينقده بل يعيد صوغه فقط وفق متطلبات تاريخية وبذلك يستمر النص غائباً غير ممحو ويحيا بدل أن يموت). فالنص الغائب في النص المتناص يمتص و يتحول و يذوب ذوباناً كلياً ولا يعود له إلاّ وجود إيحائي فالنص الغائب إذن هو الذي دفعنا إلى قراءته بهذه الطريقة وما النص الغائب الذي انبنت عليه تجربة الشاعر أديب كمال الدين في قصيدته: (إشارات التوحيدي) إلاّ (النص القرآني) وهذا ما سنلحظه بقوة في الأمثلة التي سنورد. فقد استطاع (الشاعر) أن يتزوّد من السياق القرآني ما يساعده على الارتقاء بتجربته بتجاوزه لمشكلة التعبير والفرادة والمغايرة ليفتح لنفسه آفاقاً خاصة به يحلّق فيها متى ما أراد ذلك مرهون بمعرفته للنص الغائب (القرآن الكريم) وحبّه له وتمكنه من لغته. مما جعله يمتلك دون أقرانه أداةً يتميز بها عنهم خاصة وانّ مكونات الفرد الثقافية والنشأة والبيئة من العوامل المهمة التي تساهم بدور كبير في تكوين الصوت الشعري. فلكلّ شاعر خطابه الخاص به وأسلوبه وطريقة أدائه. فكان لما أسلفنا الفضل في إزاحة الشاعر إلى منطقة (النص الغائب/ القرآن الكريم) فهو بمعرفته لهذا النص، وحبه له استطاع استثماره بإنتاجه المبدع بالكشف لنا عن صياغات جديدة ولغة غير مستهلكة وعوالم لم نكن لنحلم بها كما في هذا المقطع من (إشارة الفجر ص 7).
لو أنزلنا هذا الفجرَ المحمومَ على جبلٍ للغيرةِ والشمسِ
لرأيتَ الماءَ سعيداً..
والطيرَ يغنّي شيئاً
عن ذاكرةِ العشب
فهي مغامرة كبرى لشاعر غيره لايمتلك أدواته التي أشرنا إليها لما للنص الغائب المتناص معه من حضور يصل حد الشيوع. وهذا أمر يُحسب له لاسيما إنه يشير بقوة إلى النص الغائب ولاينفيه، وهذه السمة ميّزت تجربته لما لهذا الشكل من خطورة تتجلّى في إمكانية تحوّل النص الشعري المتناص إلى نص تأويلي وبذلك لن يكون بينه وبين تأويل القرآن بالشكل السردي القصصي الذي حاوله المؤولون السابقون أيّ تباين. وهذا ما لا يقع تحت التعريف الذي سقناه (التناص) ومالم نعثرعليه في نص (إشارات التوحيدي) وما وجدناه فعلاً، فضلاً عما ورد، صيغةً متقدمةً بالاداء، وأشكالاً في أضعف حالاتها تصلح أن تكون تعليمية وإشارات إلى الرمز القرآني بالشكل الذي يؤكد جمالية الرؤية وتماسك البناء. وتلك لعمري نتيجة مهمة، استناداً إليها استطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يخلق رمزه الخاص به باستعارته للمفردة (الآيوية: نسبة إلى الآية) أو باستدعائه للايقاع القرآني بلغة تحاكيه وصياغة تحتفي به وإن لم تبلغه محاولةً منه لنقل أكبر قدر من الأحاسيس والمشاعر وشحن لغته بها ويظهر ذلك في مقطع ثانٍ من: إشارة الفجر ص7
لو أنزلنا هذا الفجرَ الأسودْ
وعلى وطنٍ للحبّ
لرأيتَ الزهرَ الدافئ ينمو..
يلتفُّ على الجسدين وحيداً
ويمشطُ شَعْرَ القلبْ
وهنا يمكن أن نلمس صدى الآية الكريمة: (بسم الله الرحمن الرحيم) (لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشيةِ الله) صدق الله العظيم. فقد استدعى الشاعر صيغة من الآية (لو أنزلنا) وصيغة أخرى (لرأيته) بعد حذفه الهاء لتصبح في المقطع (لرأيت) فكان المقطع يرتدي حلةً من الإيقاع القرآني لسورة الحشر مزهواً بها غير متقاطع معها مغايراً لها في المضمون غير ناقد وهو بذلك (أي الشاعر) حقق وصولاً سريعاً إلى المتلقي كون الأخير تسلّم مفتاح النص من علاقة متحققة أصلاً مع النص الغائب: الحاضر في النص الشعري. وبذلك أيضا استطاع الشاعر بثّ ما يريد بثه من خلال الصيغ التي استعارها معتمداً في ذلك على نفس العلاقة التي أصبحت في ما بعد عاملاً مشتركاً بين طرفي القراءة/ المنتج/ والمتلقي.
ولننظر إلى مقطع (إشارة الرؤيا) ص 18 من المجموعة:
الرحمن
خلقَ الإنسان
علّمه ما لم يعلم
علّمه ما كان يكون
ما لم يكُ في الحسبان.
يحيلنا هذا المقطع منذ ابتدائه باسم من أسماء الله الحسنى (الرحمن) إلى ملاحظتين مهمتين أولاهما وبشكل لا يقبل الشك أنه مبني على تناصه مع (سورة الرحمن ـ الآية رقم 1) وهو ما يثبت ملاحظاتنا بشأن إعلان الشاعر عن مصادره المتناصص معها وابتداء من غلاف المجموعة (جيم). والملاحظة الثانية إن الشاعر في هذا المقطع متوافق تماماً مع ماجاء بنص (سورة الرحمن). حتّى كاد يخرج بشعريته إلى دائرة التأويل لولا أن ذلك منفي بالسطر الذي يلي هذا المقطع مباشرة بقوله (المأساةُ اتسعتْ، مَن لي يا ذاكرةً خربة) وهو هنا في (إشارة الرؤيا) اذ يستدعي صيغتين من صيغ النص الغائب (فضلاً عن لفظ الرحمن)، صيغة (خلق الإنسان وعلّمه البيان) والأخيرة هي التي يحاول تأويلها لنا بـ(علّمه ما لم يعلم.. علّمه ما كان يكون.. ما لم يك في الحسبان) والعبارة الأخيرة من المقطع حملت معها صيغة رابعة على شكل مفردة لا يمكن ارجاعها من خلال السياق الذي وردت فيه إلاّ إلى (سورة الرحمن ـ قرآن كريم) وبالتحديد الآية القرآنية (الشمس والقمر بحسبان) وكما نرى هنا جاءت الاستعارة محاولة من الشاعر لتكثيف الصورة الشعرية باستدعائه للآية الكريمة على مستوى عال من الوعي بالحالة التي بثها النص بدوره على شكل صورة شعرية جديدة مختلفة عن ورودها داخل النص: الأصل.
من خلال قراءتنا نتوصل إلى أنّ النص الغائب يتجلى واضحاً في (إشارات التوحيدي) من خلال احتفاء الشاعر به وامتصاصه له مستعيناً به لاضاءة عتمة نصه أحياناً وأحياناً أخرى لشحنه بما هو جديد ومغاير باستدعائه مفردات وصيغ تميز بها النص الغائب ليشكل منها شذرات كان لابد من وجودها حتّى تكتمل تجربة الشاعر بتجلياتها وجمالياتها، ومن تلك الصيغ المستدعاة ( فبأي آلاء ربكما تكذبان) (آية من سورة الرحمن).
نص القصيدة : إشارات التوحيدي
شعر: أديب كمال الدين
إشارة الفجر
*********
لو أنزلنا هذا الفجرَ المحمومَ على جبلٍ للغيرةِ والشمسِ
لرأيتَ الماءَ سعيداً والطيرَ يغنّي شيئاً
عن ذاكرةِ العشب.
لو أنزلنا هذا الفجرَ الأسْوَد
وعلى وطنٍ للحُبّ
لرأيتَ الزهرَ الدافئ ينمو، يلتفُّ على الجسدين وحيداً
ويمشّط ُ شَعْرَ القلبْ
بأصابع من ندمٍ أخضر
ويمشّطُ شَعْرَ القُبُلات
بأصابع من بلّورٍ أزرق.
لو أنزلنا هذا الفجرَ المسجونَ على أرضٍ
لا تنمو فيها الخيبةُ والصحراءْ
لرأيتَ الحرفَ عجيباً يحكي برنينِ الماء
عن خفْقِ الحُبّ وفاكهةِ الله.
إشارة الشكوى
*********
ليس كَمِثلي إنْ أرادَ البكاءْ
أنهارُ بحرٍ أُطفِئتْ في رمادْ
أو شجرٌ ممتلئٌ بالثمرِ الناضجِ قد
ضُيّع وَسْطَ الوهادْ
أو وردةٌ موعودةٌ بالحُبّ قد أُحْرِقَتْ
أو قُبْلةٌ قد حُوصرتْ
مثل بريءٍ يُقادْ
بين صهيلِ الحرابْ.
ليسَ كَمِثلي إنْ أرادَ الرّحيلْ
كثبانُ رملٍ تختفي في رياحْ.
إشارة المدن
*********
مُدُنٌ: مأوى لرغيفٍ مُحْتضرٍ
ورغيفٍ مغموسٍ بالشهدْ،
مأوى للكوخِ المهدومِ، القصرِ الملآنْ
بالمرمرِ والغلمانْ،
مأوى لشوارعَ قد سُقِيتْ بالرغبةْ،
لسيوفٍ تخفي جسدَ امرأةٍ من دُرٍّ ملتهبٍ..
تترجلُّ من هودجها الأسْوَد.
مُدُنٌ: مأوى للسّراقِ، الشرطةْ
للشحّاذين، الخيلِ، البقّالينْ
مأوى لنساءٍ شَبِقاتٍ،
أطفالٍ ضاعوا، أرصفةٍ لا تحوي إلّا غُرباء.
إشارة التهويمات
***********
هَوّمتُ، إذنْ، في صحراءِ الله.
هَوّمتُ، معي خطوات دمي
وزُجاجات الفجر الثكْلى.
هَوّمتُ، أنا روحُ العشبِ
عنقُ العُصفورِ وذاكرةُ التُفّاحْ،
وجعُ الطين ِالأسْوَد
لأمنّي الروحَ بأرضٍ تُؤوي جذري المنفيّ..
لَعلّي أَلقى مَنْ سَمّاها
مَنْ قالَ لذاكرة ِالتُفّاحْ:
كوني... كانتْ شجراً محترقاً يلتفُّ على الماءْ.
لا ماءْ!
إشارة السؤال
********
قَلبٌ يُدْهُشهُ الماءُ ويغريه العُشب
قلبٌ مِن ورق الرغبةْ
يتساءلُ عن جسدِ العمر المجنونْ
لِمَ يأتي أو يرحل؟
ولماذا تبدو الدنيا عند الحُرّاس
حُلماً يهمي كالماءِ الهادئ في ساقيةٍ مُعشبةٍ
ملأى باللؤلؤ والمرجانْ؟
... تبدو عند الناس
كدراهم تُلْقى في النهرِ الجارف،
ذكرى لكؤوسٍ قد مُلِئتْ بالريحْ؟
إشارة الهزيمة
**********
(الصوت):
أأبا حيّانْ
من بعدِ ليالٍ معدودةْ
ستفارقُ هذي المعمورةْ
فَتنـّبـهْ!
فالعمرُ بهِ شيء ظلّ.
أعطهْ
ما يسكنُ فيهْ:
جسداً يطربه أو ثوباً يلتفُّ عليهْ.
صفحاتٍ تكتبُها وتنادي فيها العُقبانْ
بعصافير الغدرانْ.
أأبا حيّانْ
كنْ
رجُلَ الذهبِ المتناثرِ والغلمان المسرورينْ!
(التوحيديّ):
آهٍ يكفي
فأنا رجلٌ أدّبتُ لساني..
حتّى استخفى في الصمتِ
بقناعِ نبيّ.
إشارة الموت
********
المـوتْ!
ضيفٌ مهذارْ
ضيفٌ لم يدعَ إلى شيءٍ، لكنّي الليلةَ أدعوه
لبقايا جسدٍ معطوبٍ،
أدعوهْ
لزمان ما
عَرفتْ أشجارُ الروح ِ به إلّا
أوراق دمٍ وزعانف من ألمٍ أزرق
عرفتْ عيناي به، عبثاً، ثوبَ الملكوتْ.
فأغمغمُ محموماً من كأسٍ..
تتحدّثُ عن أزهارٍ تطلعُ صابرةً من بين القضبانْ
ويعربدُ في قلبي الجوع.
إشارة الحريق
**********
احترقي تهويمة الروح وفجر الكلماتْ.
احترقي. ماذا جنيتُ من هوانا الضائعِ المضطربِ
إلّا دموعاً تغتدي كوردةٍ من لهبِ
أو حسرةً ما تنتهي؟
غادرة أنتِ إذنْ
بل هزأة: "مستفعلن" سيّدتي!
هيّا ارقصي يا نارُ يا بحرَ الشواظْ،
أصابعي ومعصمي
في قلبكِ المقدّدِ.
هيّا ارقصي وهيّئي مائدةً بكأسها المزدهرِ
من جسدي المحترقِ.
إشارة الرؤيا
********
1.
الرحمن
خَلَقَ الإنسانْ
علّمه ما لم يعلمْ..
علّمه ما كانَ يكون
ما لم يكُ في الحسبانْ.
المأساةُ اتسعتْ، مَن لي يا ذاكرةً خَرِبةْ
أنْ أقرأ أوجاعي
والشاطئ مهجوراً يهذي بأناشيد الهمِّ.
المأساةُ اتسعتْ، فبأيّ أقترحُ الليلةْ
فرحي الربّانيّ،
أقودُ الليلَ أسيراً
والبحرَ صديقاً
والصخرَ ودوداً
والمرأة
كأساً
قد
مُلِئتْ بالفجرِ، غناءِ العشبْ،
ألقِ الأقمارْ.
الرحمن
خَلَقَ الأكوانَ وسلّمني مفتاحَ الأرضِ وبايعني.
لكنْ عذّبني الجندْ
إذ آلمني أرقُ الليلِ المطعون، فشرّدني السلطانْ.
فبأيّ أقترحُ الليلةَ معراجي..
وأقودُ مماليكي، شمسي وغيومي نحو الله؟
الرحمن
خَلَقَ الإنسانْ
آتاهُ الحكمةَ طيّعةً والبلبلَ والهدهدْ.
لكنّ الأرضَ انذهلتْ والمأساة اتسعتْ وتعرّتْ
والغربة قد كبرتْ.
فأشيري يا كلمات الرحمةِ..
إنّ الإنسانَ بحُسبانْ.
2.
كثرَ اللغطُ
وبدتْ صيحاتُ الآخر فاتنةً بعلاماتِ الإبهامْ!
فعجبتُ، دهشتُ، وقلتْ:
أوَ هذا جمركَ يا حرفي،
يا مَن تخفي ألقَ الأشياءِ وفاكهةَ الأيّامْ؟
وعجبتُ عجبتْ
حتّى أنكرني رأسي. لكنّي
في عمقِ الضجّةِ أبصرتُ طيورَ الله
تهبطُ في روحي وتذيعُ بقلبي الأثمارْ.
فنظرتُ إلى الضجّةْ
وصرختُ: سلاماً للهدأةِ إذ بزغتْ في روحي، مرحى.
وفرحتُ، بكيتْ
مثل العصفور العطشان
وَجَدَ الغدرانْ.
إشارة الختام
*********
قالَ: إليّ إليّ..
أشارَ إلى جبلِ الرؤيا فصعدتُ، إلى جذرِ الأفلاكِ قرأت
روحَ الطفلِ، عذابَ الأحفادْ
حتّى امتشقتْ كفّي السرَّ الأعظمْ،
كانت بيضاءْ.
وهبطتُ بجنحِ الطيرْ
ونسيمِ الفجرِ، رذاذ الشطآن.
***************************************
* (هو فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومُكْنة) هكذا يصف
ياقوت الحموي في كتابه (إرشاد الأديب) علي بن محمد التوحيديّ البغداديّ المعروف
بأبي حيّان التوحيديّ. وليست كلمات ياقوت هذه بجارية مجرى المبالغة أو آخذة بطريق
المجاملة، البتة. فلقد كان التوحيديّ بحقٍّ واحداً من أولئك الكتاب العظام الذين
جالوا في النفس البشرية جولةً عميقةً وكشفوا عن طبقاتها الجوّانية بشجاعة نادرة
وبطريقة العارف الخبير، المعذّب، الفصيح، المتفرّد. وكتابه (الإشارات الإلهية) أفضل
دليل على ما نقول. لقد حمل التوحيديّ خلال رحلة حياته همّ الأديب المكافح الأصيل
الذي يحافظ بقوّة، على كلمته ما استطاع من السقوط والابتذال. وقد دفع ثمن هذه
الكلمة غالياً: عذاباً يوميّاً متصلاً وفقراً مدقعاً وشظفاً وتجاهلاً. حتّى
اضطر أواخر حياته إلى إحراق كتبه بعد أن رأى أن لا طائل من ورائها. وقد قال عـن هذا
الحدث: (إني جمعتُ أكثرها للناس ولطلب المثالة بينهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمدّ
الجاه عندهم، فحرمتُ ذلك كله. ولقد اضطررتُ في أوقاتٍ كثيرة إلى أكل الخضر في
الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى
تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يُحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم، ويطرح في
قلب صاحُبّه الألم). أمّا أهمّ كتبه أو ما وصلت منها في الأدق، والتي أخرجها، أغلب
الأمر، قبل أن يحرقها فهي: الإشارات الإلهية، البصائر والذخائر، الإمتاع والمؤانسة،
الصداقة والصديق، مثالب الوزيرين، الهوامل والشوامل. توفي التوحيديّ عام 414 هجرية.
الفصل الثامن: آراء متفرِّقة
ص 359 - 367
د. جلال الخياط. إلياس لحود. عبد الجبار البصري. أحمد الشيخ. مهدي شاكر العبيدي. محمد الجزائري. حسن النواب. عادل كامل. د. قيس كاظم الجنابي. مالكة عسال. عبد اللطيف الحرز. هادي الزيادي. عبد الأمير خليل مراد. جمال جاسم أمين. فائز ناصر الكنعاني. أمير الحلاّج. حمزة مصطفى. هشام العيسى. خضير ميري. تيسير النجار. علي جبار عطية. ماجد محمد لعيبي. عبد العال مأمون. نزار جاف.
توطئة لتغيير جذري في الأساليب ينفي أديب كمال الدين أن في البدء كانت الكلمة، ويؤكّد الحرف. ليس حرفنا الذي أصابه الانكسار. وإنما تحدّي حروفياته للواقع برموزها وعرائسها وأحلامها وتصوّفها وأساطيرها. هذا الحرف/ الجزيء اتسع فصار كلمةً، جملةً، نصاً، كائناً حياً.. جريء يريد أن يبتدع الواقع/ المثال. فللنون حياة خاصة ونقطة مشعة وللباء والحاء وكلّ الحروف. إنه يبني الشعر حرفاً بسماتٍ وأشكالٍ ومعانٍ وقدرات على التكامل. إنه يكوّن العالم الشعري جزءاً جزءاً، يبدأ بالتميز ولا يتنكّب عنه، وبين الحبّ ولاجدواه وبين الحياة ونقيضها تنثلم الحروف والكلمات والقصائد وتتهاوى العوالم. ولكن يبقى الشعر، الشعر الرائع وما أقلّه، ومن هذا القليل قصائد لأديب لا تتطلع إلى حكم ولكن تفرضه، ولا إلى قيمة ولكن تتجاوزها. قصائد منه، ومن شعراء، طوقتهم العقود، بعد الرواد، تبقى تزودنا بأمل الشعر مزهواً باستقبال القرن الجديد وكلّ الأزمنة الآتية.
د. جلال الخيّاط
مجموعة (نون) – بغداد – دار الجاحظ 1993
قصيدة الشاعر العراقي أديب كمال الدين تخبر المعنى وتسعى إلى إدراكه وكلما أمسكتْ به انحرف إلى الشعر في نص مفتوح، قد يخدعنا بلولبيته الشكلية ولكنه يعلن دائماً انفتاحه. يتمرّد بالحروف فنحسبه يعيد تقصيبها ومدمكتها، لكن سرعان ما يتشظى في معنى يبحث عن ظله فيقع في الجب قبل وصول أسد القفار. لعلنا أمام علامات مورس أو شواهد فوكوية من تاريخ قيد التشريح. ورغم كل هذا لا يخسر النص شحنة معناه بسهولة، بل كثيراً ما يشي بمعنى لقلب يتعذّب أو جسد ينحلّ أو عقل يهذي بمعارف قرأها في صفحات عتم العالم. وتظهر بين الحزن والآخر، بين العرس ودمه، بين الموت الجميل والموت الآخر: بغداد المقوّسة الجميلة ترقص أحياناً بالنايات أو البنادق أو إذا شئت بالمحال.. وكلها معانٍ تسعى في ظلالها إلى أخبار يقين وتشدّ ركبتيها الملحميتين بأكثر من رواية.
إلياس لحّود
مجلة كتابات معاصرة/ العدد 29 /1997
بغض النظرعن الدوافع التي دفعت الشاعر إلى هذه الحروفية فقد توصّل إلى لون من الغزل أو النسيب الذي يمتاز بعاطفته المتدفقة وصوره الجميلة الرائعة وصياغاته الجديدة المبتكرة ورؤاه المتميزة.
عبد الجبار البصري
جريدة العراق 20 / 4 / 1996
أديب كمال الدين شاعر مثابر ومتحمس لموضوعته الشعرية التي يحاول أغناءها دائما. ومنذ مفردات تجربته التي بدأها بمجموعته الشعرية الأولى (تفاصيل) الصادرة عام1976 نلاحظ تنبهه المبكر للقصدية التي تحكم بناء التجربة الشعرية لديه. وهذا مابدا واضحاً في مجموعته الثانية (ديوان عربي) الصادرة عام 1981 حيث اشتغل على تقديم تجربة جديدة تفيد من الكيفية التي تجمع فيها الدواوين الشعرية العربية على أساس موضوعاتها. أما في مجموعتيه اللاحقتين (جيم)1989 و(نون) 1993، فقد توجّه الشاعر إلى الاعتناء بمفردة دقيقة جداً في مشغله الشعري. حيث تركّز اهتمامه على مسألة الحرف وإدامة تفعيله في القول الشعري مستنداً بذلك إلى جذور صوفية ـ سيميائية تارة وشكلية ـ جمالية تارة أخرى.
أحمد الشيخ
جريدة الجمهورية 16 / 4 / 1996
لأديب كمال الدين قدرة فائقة عجيبة على إتيان العبارات الدافقة المحمّلة بالفحاوى الرامزة إلى المفارقات والمتناقضات الغالبة على مظاهر الحياة.
مهدي شاكر العبيدي
جريدة العراق – 2 تشرين الأول 1999
لا يتعب أديب كمال الدين من ملاحقة الحروف. يستكشف طاقتها التعبيرية ويشكّلها كما المرأة- الرجل على وفق ثنائية تضاد، تقارب، تحابب، وعذابات أحياناً.
محمد الجزائري
مجموعة (نون) – بغداد – دار الجاحظ 1993
أديب كمال الدين هو الشاعر الصافي وسط زحام الشعراء، يكتب شعره بوجع لذيذ وله خطابه الشعري الواضح وهو يمارس لعبته السحرية مع الحروف، حتّى أكاد أظن أنَّ هذا الشاعر يمارس الغواية بمنتهاها مع الحرف حين يقرر كتابة قصيدة جديدة.
حسن النواب
جريدة الزمان 11 – 8 – 2001
الحرف عند أديب كمال الدين هو صياغة إشارة لجيل اكتفى بأسواره الداخلية. فالكلام هو فائض نعمة لكن الحرف، وبعد ذلك النقطة، وربما اللاكلام في هذا المعنى، خلاصة منطقية للشعر وضد الشعر. فالشاعر بالكلمات يتوخّى بلوغ السحر المقدس: سحر المعنى بالنون ذات البعد الروحي البديل للشروحات أو لما يضاف اليها. فالشاعر يضعنا في أمان التجريد، هذا الفضاء الذي هو كتلته.
عادل كامل
25 تشرين أول 1995
إنَّ تجربة أديب كمال الدين تشكّل قفزة نوعية في ميدانها، لأنها تؤسس لمعطيات جديدة تخدم مسيرة الشاعر بالرغم من كونه لا يُعد مكتشف جنس أدبي جديد أو قصيدة لها قوانينها الجديدة المبتكرة كما فعل السياب ذلك. لكنه يعد مكتشف طريقه خاصة به في كتابة القصيدة.
د . قيس كاظم الجنابي
مجلة الموقف الأدبي آب 1999
عانق الشاعرُ أديب كمال الدين الأشياءَ بسردية حكائية وصفية شعرية فريدة، مقرّباً المسافة بينه وبينها في تلاحم ممدد، ولم تنفلت من وصفه الدقيق حتّى اللحظات التي ينكبّ فيها لكتابة الشعر.
مالكة عسال
مواقع ميدوزا والمثقف وأقلام بتاريخ 26 أكتوبر – تشرين أول2006
أديب كمال الدين علامة مميزة في التجربة الكتابية لأجيال ما بعد السياب، حيث إنها تجربة نأتْ عن كتابة النص المفتوح وطلاسمه وتنحّتْ عن هلاميات انشائية راحت تدافع عن فقرها بتنظير حول قصيدة النثر كقناعٍ تستّريّ، لكن من دون أن يعني ذلك التخلص التام من كل ذلك بكل تأكيد. لكن من المؤكد أيضاً أننا مع أديب كمال الدين أمام أسلوبية خاصة تصل إلى حد الفرادة التعبيرية، رغم أن القصيدة لو أُخِذَتْ كأجزاء مثل استخدام الأسطورة الشخصية والومضات السريعة والجمل القصيرة وإدخال أسلوبية الحوار وتعدد الأصوات، لوجدناها عناصر سبق أن استخدمها ويستخدمها الكثير من الشعراء، بيد أن فرادة أديب كمال الدين هي في طريقة المزج من جهة وجعل هذه العناصر أصواتاً كاشفةً عن خبيئات الحرف والنقطة.
عبد اللطيف الحرز
جريدة العدالة العراقية 14 أكتوبر - تشرين أول 2006
إنّ قراءة النصوص الشعرية للشاعر أديب كمال الدين تبقى عملية غور ومقارنة يمكن أن تكشف أسرارها على مستويات متعددة، لأنّ الشاعر قارئ ذكي يقتنص الصورة والفكرة المدهشة ويوظفها بشكل فني ذي تكنيك عجيب. كما إن إحالاته كثيرة للموروث قد لا تفصح عن أبعادها لكل قارئ. لذا يمكنني القول: هناك ثلاثة أنواع من القراء لشعر أديب كمال الدين:
* الأول يشعر بلذة الاكتشاف ومتعة المعرفـة.
* والقارئ الثاني يقع في حيرة لقلة وضعف مساحة دائرته الثقافيـة.
* والثالث قارئ ليس له سوى المديح والثناء وإعطاء كلمات الإعجاب لئلا يقال له إنه لا يرى ملابس الإمبراطور! فهل ينام أديب كمال الدين عن (شواردها) ليسهرالخلق؟!
هادي الزيادي
جريدة العرب ـ لندن ـ 25/5/2000
لقد اعتمد الشاعر في نصوصه على المفارقة في غموض المعنى ووضوحه، ولم يجعل من الغموض في هذه التجربة جداراً سميكاً يحجب الرؤية عن قارئه أو يحول دون التسلسل أو النفاذ إلى أعماق تلك النصوص.
عبد الأمير خليل مراد
جريدة العراق 24- 1- 1999
إنّ الشاعر لا يريد أن يشخّص حرفاً بذاته بل يبحث عن حرف يوازي موته وهكذا يستمر البحث في أرض تتسع لأكثر من رحلة، فالشاعر هو الذي لا يهدأ والحروف هي الطريدة.
جمال جاسم أمين
جريدة القادسية 1 -7-1996
إنَّ الحرف لدى الشاعر أديب كمال الدين ليس مؤسسة لإجراء كيفيات شعرية متنوعة وإنما هو قدره الذي سيلازمه إلى النهاية.
فائز ناصر الكنعاني
جريدة العراق 2 – 2 – 2000
مَن يتأمل في شعر أديب كمال الدين يراه يرسم شخصيتين للذات الواحدة، الأولى ذات بناء قوامه الشكلانية في رصد الظواهر بلا استجابة لإغراءاته التجريدية البحتة، والثانية من الأحلام والعواطف المحكومة بوسائل المعرفة والأخلاق والتغنّي بالحياة التي أساسها المخيلة الخلاّقة.
أمير الحلاّج
جريدة العراق 15-3-2000
إنّ تقنية الحرف واللون أهم مايميز تجربة أديب كمال الدين فنيّاً وجمالياً.
حمزة مصطفى
مجموعة (أخبار المعنى) دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد 1996
يعمل أديب كمال الدين على خلق تجانس صوري مكثف لإيصال فكرة النص، هذا التجانس الذي يظهر مقدرته التخيلية والتي يطرحها على شكل جمل موجزة مكثفة تحمل غاية الاندهاش. إنَّ إمكانية الشاعر الفذّة تظهر من خلال محاولته في إيصال عالم منظور بعالم أخر أكثر عمقاً وجمالاً.
هشام العيسى
جريدة الزمان 11 – 2 – 2002
يشكّل الحرف، بحد ذاته، هاجساً شعرياً مركزياً بالنسبة لتجربة الشاعر أديب كمال الدين. ومبدئياً تتمثل (الحروفيات) بالنسبة إليه كدلالات زاخرة بالمعاني، وكشروع مكثف لاستقراء الجذور التكوينية لكيان اللغة.
خضير ميري
جريدة العراق- 16- تشرين الثاني 1993
أديب كمال الدين شاعر يتقلّب على الجمرات التي تسكن ما بين الحرف ونقطته، شاعر يوغل في عمق قلب الحرف ودفئه الأبدي. وما بين قول الشاعر في مجموعته "النقطة": (أنا النقطة) و(كانت النقطة دمي.. أنا تمثال الشمع) يسكن الشاعرُ أديب كمال الدين ألمَ العالم.
تيسير النجار
جريدة العرب اليوم - الأردن – 11 شباط 2001
أديب كمال الدين شاعر له بصمة شعرية واستطاع أن يصنع نصّاً مفتوحاً واسع الآفاق بلغة أنيقة وجمل شعرية مكثفة.
علي جبار عطية
جريدة عُمان ـ سلطنة عُمان ـ 12/10/2000
أديب كمال الدين واحد من الشعراء المبدعين الذين تفرّدوا في نهجهم الشعري بأسلوبية جمالية خاصة، وهو شاعر امتثل أمام نفسه طويلاً كي يستخلص عصارة فكره وأدبه ويترجمها إلى حروفٍ غزلَ من خلالها أجمل القصائد. وهو شاعر تفنّن في تقنية الحرف وجعله مرآة عاكسة لتوهجه الروحيّ ومكابداته المعرفية في عالم مليء بالنزاعات والآلام وأحلام المستحيل.
ماجد محمد لعيبي
مجلة الشباب / تموز 1998
إنّ الشهقة التي تبدأ مع عنوان قصيدة أديب تحتفظ برذاذها حتّى حرف القصيدة الأخير.
عبد العال مأمون
جريدة الجمهورية 15 / 5 / 1996
مع أديب کمال الدين، الذي تجد في شعره موسوعةً معرفيةً مترامية الأبعاد، تشعر أنك أمام حالة أخرى هي غير تلك الحالات المألوفة التي تصطف هنا وهناك تحت خيمة الشعر، إنه حالة نادرة في بحثه المستمر وغير المألوف عن ماهية الإنسان وصراعه مع دنيا الوجود ومع ذاته قبل کلّ ذلك. إنه الهادئ في ظاهره والممتلئ صخباً وضجيجاً في أغواره.
نزار جاف
صحيفة كوردستان ريبورت 11 أيلول - سبتمبر 2006
كلمة الغلاف
النصّ الشعري الذي بدأت به، وانتهت إليه، خبرة الشاعر أديب كمال الدين نصّ يقوم على ما عُرف بالحروفية. وقد كُتب عن هذه الخبرة الشيء الكثير، وأُضفيت دلالات جمّة على رمزيتها، وما هذا الاختلاف في تأويلها سوى علامة على غنى النصّ الشعري والخبرة التي تقوم دعامة لها. وضعت الحروفيةُ الشاعرَ خارج السرب، سرب جيله السبعيني المهموم بالحداثة الشعرية على الطريقة الأدونيسية، فسلك بذلك درباً خاصاً، غامر في استكشافه وحده، وانتهى إلى هذه الغابة المتشابكة من الرموز الحروفية، والسرد المشوّق، والبناء المحكم للنصّ. الحروف التي يطلقها أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي. ومن هنا تكون الحروف وجوهاً للشاعر نفسه، فهو أيضاً ذات فريدة، وتخييلي مبدع، ومحتجّ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهو حيّ وميّت، إنه التناقض المطلق أيضاً. نصوص الحروفية عالم رحبٌ وممتع، والسرد الذي يغلّفها يتماهى بها ولا يعود إطاراً خارجياً، بل يتحول السرد إلى مكوّن أساسي للشعرية الحروفية. إنها نصوص تناجي الغيب والواقع، فتبقى معلّقة بينهما، تعيش حالة المابين، ومعها يجد القارئ نفسَه سابحاً في أحلام يقظة، ونهارات غائمة، وسلام مزيّف، وهدوء يسبق العاصفة: وتلك هي شيمة الحروف المتحوّلة، والشاعر الذي يحاول ترتيبها ترتيباً جديداً كلَّ مرّة".
د. حسن ناظم
انتهى