الحُروفيّ
33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية
المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007
368 صفحة من القطع الكبير
إعداد وتقديم
الدكتور مقداد رحيم
ق 2
الفصل الثاني
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة
أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان- الأردن 2006
ص 61
أ. د. عبد الإله الصائغ
د. حاتم الصكر
د. مصطفى الكيلاني
عيسى حسن الياسري
عبد الرزاق الربيعي
خليل إبراهيم المشايخي
زهير الجبوري
صباح الأنباري
أديب كمال الدين ومشاغله العتيدة
أ . د. عبد الإله الصائغ
ص 63 - 71
يا بائي وبوابتي
(شعر: أديب كمال الدين)
نقطة1
******
مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء
ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة
(بعد أن قيل لي انّ كلّ الباء في النقطة)
فإنني لم أشفَ بعد من جراحي التي سببتها
سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك.
نعم، لم أشف َ
مع انني كتبت
سبعين ملحمة في ذكراك
وسبعين قصيدة لتمجيدك
وسبعين بيتاً لعدّ دموعي المتساقطة
في الطرقاتِ من أجلك
وسبعين، سبعين
نعم،
فلقد سطا عليك الزمان
وتناهبتك اللذةُ ذات اليمين وذات الشمال
وحين كنتِ بين ذراعيّ
تلثغين بمفاتن نهديكِ وساقيك
سطا خدم العرش ليسرقوكِ منيّ
ونهبوا عرشَ ذهبكِ ومفاتنكِ وملابسكِ الداخلية.
نقطة 2
******
كان المشهد أكثر كابوسية مما أحتمل
إذ كان يتطلّب أن أقلع عينيّ
كما فعل أوديب
وأن أقطع رأسَ الحروف
وأعلّقها على بواباتِ العبث
ولم تكن لديّ حروف بالمرّة.
وكان المشهد يتطلّب أن أخرج
إلى الشارع عارياً
عارياً تماماً
وما كان هناك من شارعٍ في الأرض
يمكن أن أمشي عليه
بقدميّ الملتصقتين ببطني
يا ملكة العري والفجيعة
يا بائي وبوّابتي
يا بليـّتي وبـَلبـَلتي.
نقطة 3
*******
كان خروجي مدوّياً
لأنني كنتُ مَن يحمل رأسه بنفسه
فوق رمح عظيم
وكانت النسوةُ والملائكةُ تهرب مني
وهي تحمل طبولها وأبواقها الكبيرة
خرجتُ
لم أجد مَن يقول نعم
لرأسٍ محمولٍ على رمحٍ عظيم
كانت الطرقات جافّة
والشمس ساطعة
والغرباء يتلعثمون
وهم ينظرون إليّ:
ما هذا؟
أهو جنّي أم أنسي؟
أهو صوفي أم ملحد؟
أهو قربان أم خرافة؟
نقطة 4
********
وخرجت
عبرتُ الأسلاكَ والحدود
عبرتُ المعنى والكلمات المتقاطعة
عبرتُ النقطةَ والوحشةَ والحلم
عبرتُ الأحشاء الداخلية والأعضاء التناسلية
عبرتُ الذي خرّب البلاد
وباعها من أجل حفنة من الجراثيم
وعبرتُ الذين باعوا كلّ شيء
من أجل حفنة من الشتائم
واللواتي بعن أجسادهن في سرير الدنانير
وعبرتُ، عبرت
حتّى لم يعد هناك من شيء أعبره
يا فجيعتي
يا مَن قتلتني في سن العشرين
وظلّت تلاحقني حتّى السبعين
أما من راحة؟
أما من هدنة؟
أما من صواب
لهذا الخطأ الذي يحتاط لكلّ شيء،
لهذا الخطأ الذي يقودني من خطأ
إلى آخر أكثر فتنة وصوابا؟!
نقطة 5
********
انظري
لقد تركت
- من أجل أن أنساك –
الفرحَ الذي يتصاعد من دربكة الخيول
والحمامَ الذي يتصاعد من حمحمةِ الرغبة
وتركتُ الأنهارَ المقدسة وغير المقدسة
والجبالَ التي يقفز عليها السكارى
وتنام عليها الوحوش
تركتُ – من أجل أن أنساك –
حتّى ما لا ينبغي تركه لأيّ عاقل أو مجنون
دون أن أنال ما أريد
يا كَرَبي وبلائي
يا بهائي ولوائي
يا شبابي المدمّى
وموتي الأبله الذي ينتظرني
ساهماً في آخر قارات العالم.
إ. هـ
استطاع الشاعر أديب كمال الدين خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة! فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وانما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحيانا والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتّى يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ ديوان عربي! يمكن للقصيدة هنا أن تطوِّع عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كل مفردات القصيدة وأعني كل مفردات التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن بطقوس الرؤية لدى الرائي! الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار الموت والحياة الإبداع والاتباع حرف! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!! أن تتصبب عرقاً وأنت تكابد موسيقا الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك وأن تدخل وعيك بمجذوبيتك! هذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن الانتماءات المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لاشيء يشغل بال القصيدة عند أديب! لاشيء يشغل باله يقينا! نعم المتلقي (وهو ضالة المنتج بوصف المتلقي هو المستهلك الوحيد) المتلقي قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب! تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته! فما حاجته إلى السطوع وهو محترق؟ إلى الشيوع وهو مختنق؟ بعبارة مختزلة لقد غرّقت الصوفية الجديدة تجربة أديب! الصوفية ليست قصيدة ولا جلباباً ولا بياناً ولا صلاة! الصوفية تشترط أن لا تشترط سوى الزهد بكلّ شيء سوى المعشوق! فإذا كان المعشوق حرفاً فما حاجة العاشق للآخر إن لم يكن حرفاً!! فلنحاول فقط مراقبة الفعل (تخليق الحروف قصيدة) من جهة المجاز/ الموسيقا! سأرتب سانحة لمراقبة الفعل سوية وأعني القارئ الأول الذي هو أنت أيها القارئ العزيز كما أعني القارئ الثاني الذي هو أنا! وتكون المراقبة بهيئة علامات مكثفة غب أن استغرقتنا التوطئآت! ولنضرب في هذه القصيدة مثالاً لما تواطأنا عليه في التوطئة! من هي الباء؟ أو ماهي الباء؟ أو لماذا الباء؟
ب = بوابة الشاعر
ب = كانت أنثى بلا ملامح ولا اسم! وكما تقول ملحمة حينما في الأعالي (حين لم تكن الأسماء لم تكن الأشياء) فلكي تكون أطلق عليها اسم الباء ثم أطلق عليها اسم النقطة.
ب = جملة اعتراضية لبيان الحيرة! قيل لي كلّ الباء في النقطة!
ب = هي أنثى ربما تكون شبيهة تياما في حينما في الأعالي تشبع مخلِّقَها طعنات وشهوات وروائح!
ب = لم تشف جروح الشاعر من طعنات الباء رغم أنه تقرب إليها بسبعين ملحمة وسبعين قصيدة وسبعين بيتاً! وسبعين وسبعين..! (يقول أبو عمرو بن العلاء ت 154 هـ العرب سبعيون)!
ب = هي أنوثة متجسّدة وليست رموزاً متجرّدة! وآية ذلك خضوعها للجهات الأربع ذات اليمين ذات الشمال! النص جسد الأنثى وفق آلية Personification (الأنسنة) وبذات الآلية جسد الزمن فسلطه عليها! وبذات الآلية جسد اللذات وهي قبلاً صور تجريدية معنوية وليست صوراً حسية! ثم يكتمل التحول الصوفني فإذا ها بين ذراعي ضمير المتكلم وهو معادل مردوك في حينما في الأعالي! فتكون اللثغة علامة ساطعة الوضوح عن المسكوت عنه! فما النهدان والساقان سوى علامة مكملة للثغة! ولن تفوتنا أن تياما هي التي تلثغ بمفاتنها وليست اللثغة حالة تشي بها الصورة الفنية! وقبل أن يقفل النص باب نقطة1 واحد تنبهنا آليات تحليل النص الطعم الذي ابتلعناه! فالصورة ليست جنسية كما أوهمتنا بل هي حالة من الوصول الصوفي والشطح لحظة يتحد العاشق بالمعشوق! نقطة.
نقطة2: استدارة كاملة فلم تعد الصورة الشبقية حسية تلقائية كما النقطة1 بل لجأ النص إلى الهتك والكشف لتكون الرؤية بسعة الرؤيا! اعتراف النص بكابوسية المشهد الأول! المكر الفني قاد إلى التضاد الدلالي! الرؤيا (الحرف/النقطة) سطوع لا تحتمله العين فالمعادل الموضوعي للحالة (قلع العينين)! أن يغمض الرائي عينيه فهذا يعني أنه يتهيأ للحلم ولكن أن يقلع الرائي عينيه فتلك محنة أخرى! النص لا تعامل بسوى الحرف فهو مولاه (سيده/ خادمه) وهو الثنائيات المتعايشة مع تضاداتها على مستوى المعنى الأول! فاذا كانت أنثاه حرفاً وبوابة معاً ثم يؤول الأمر به إلى ماهو عليه! فما من طلب سوى أن يقطع رأس الحرف كي يكون المشهد أدخل في مجرى السياق! يقطع رأس الحروف لكي يعلّقها على بوابات المدينة العابثة (الحزينة!!) ولكن النص يفاجيء التوقع باللاتوقع! ليس ثمة حروف ليقطع رؤوسها! بعبارة ثانية حاسمة ليس ثمة فاعل ليصنع منه النص مفعولا! والسؤال هو كيف حصل الفعل دون فاعل ودون زمن؟؟ فليجرّب النص سلوكاً آخر ليجرّب الخروج إلى الشارع بعري كامل وبهذا الكيف يمكن أن تستفز الصورة لتلقي ببواطنها إلى خارج جلدها! ومرّة أخرى يرتطم التوقع باللاتوقع والتماثل باللاتماثل وفق ارشيبالد مكليش! قارن لم تكن هناك حروف بالمرّة! ثم قارن عارياً تماماً! أهناك ريب في لاكينونة الحروف أم شك في لاكسائية المتكلم؟ مرّة أخرى تنحسر الصورة ليتضح أن ليس ثمة شارع لكي يمارس العري التام في مسافاته! إذن الأنثى هي الحرف والحرف هو العري! والباء التي هي هما وهم تستجن في تصاقب المعنى والنغم في بائي بوابتي بليتي بلبلتي! لقد أقفل المشهد الثاني حركيته وانحسر خلف كواليس التلقي كمرجعية مثلا! من أجل أن نبدأ مع النقطة الثالثة دون بلبلة! نقطة.
النقطة 3: لماذا يلتجئ المشهد الصوفني إلى أفعال الكينونة وإلى تصاريف كان قارن نقطة2 استنفد المشهد ستة من (الكينونة) وفي المشهد3 استنفد أربعة! وكان المعنية فعل ناقص وتام معاً! كان الماضي والحاضر والمستقبل لكي ينحصر المشهد في أزليتها! كان خروجي مدوّياً أمس واليوم وغداً كما نقول وكان عدوي متربّصاً بي أي على مدى الأزمنة الثلاثة! والعرب تصنع مثل هذا مع كان! ونحو لم تكن لديّ حروف فبعض يدخلها في كان التامة باعتداد لديّ حروف مثابة المسند الواحد وبعض يرى أن حروف اسمها ولديّ خبرها! وبعيداً عن تسويغات النحاة وهي عادة مجرد تسويغات ليس إلاّ فان كان النص الصوفي ممتدة على الزمكان الأزلي والأبدي! كان خروجي مدوّياً! بمثل هذا الدويّ ندخل المشهد الذي خرج منه صوت المتكلم! يتعين علينا ملاحظة كيف يغرب المتحدث صورته في متخيل المتلقي ابتداء من (أمشي عليه بقدميّ الملتصقتين ببطني) إلى (كنتُ مَن يحمل رأسه بنفسه فوق رمح عظيم) التغريب معلول العلة التالية علة أن يحار الناس في أمره (أهو جنّي أم أنسي؟ أهو صوفي أم ملحد؟ أهو قربان أم خرافة؟) هكذا وضعنا قبالة أضداد هي في واقعها ليست أضداداً فالجني والأنسي يتعايشان في أهاب الإنسان الواحد وكذا القربان والخرافة استحالا حالة واحدة في الزمن المخرب وإذا كان ذلك كذلك فالصوفي والملحد حالة واحدة في الموروث الجمعي! ألم يُقتل الحلاج العظيم بتهمة الكفر والإلحاد؟ ألم يُمثّل بجسده الشريف؟ ألم يُحرق بأمر أمير المؤمنين ويُذرّ رماده من فوق المنائر لحظات الآذان والتكبير! اليوم محنة الإنسان أشد نكالاً من عصور الظلام منذ أمية قريش إلى عباسية هاشم إلى عثمانية الترك وصفوية الفرس! كان ذلك الزمان أرحم من زمان كلنا فيه القاتل والمقتول والسجين والجلاد! كلنا مؤمن في نفسه كافر في عيون غرمائه! كان المفكّرون يخشون الحكام والقادة لكن لهم عمقاً آمناً لدى الناس! أما زماننا هذا فبات الإرهاب خليقة والناس أشد نكالاً على المفكّرين! فمن حقهم أن يخلطوا الصور لكي يقتلوا الضحية بالصورة التي هم يرسمونها له! نقطة.
النقطة4: هل يتعين على النص أن يضللنا بفعل ماض (خرجت)؟ وهل يتعين علينا أن نصدق؟
النقطة5 الأخيرة: محور النقاط قارن (يا كَرَبي وبلائي يا بهائي ولوائي يا شبابي المدمّى) بمعنى ادخل أن النص بكليته الصوفنية والدلالية تمحور حول ثلاثة نداءات وخمسة منادين يا= كربي+ بلائي. يا = بهائي + لوائي. يا = شبابي المدمّى!
وشعرية الدلالة هنا تحوم حول الحالة الغامضة لماذا كرس النعت(المدمّى) للشباب بينا ترك الكرب والبلاء والبهاء واللواء دون نعوت! وعند هذه النقطة التي أثرتها والتي تصلح لقراءة ثانية أخرى أضع نقطة الخاتمة.
حوار النقطة والحرف
د. حاتم الصكَر
ص 73 - 76
استراح الشاعر أديب كمال الدين (بابل ـ 1953) للحروفية الشعرية واتخذها هوية فنية
وأسلوبية له، على مدى تجربته الشعرية التي تبدأ بديوانه تفاصيل (1976) وتترسخ في
إصداراته اللاحقة مثل: (ديوان عربي) ثم (جيم) و(نون) و(أخبار المعنى) و(حاء)
و(النقطة) حتى ديوانه الأخير(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) 2006 ـ الذي أرى فيه
مراجعةً من الشاعر لتجربته الحروفية التي تدرجت وتطورت من البدايات حيث الانبهار
بفكرة استضافة القيم الحروفية وإنشاء ما يشبه الميتانص الأبجدي الذي يراقب فيه
الشاعر وجود الحروف وهيآتها التركيبية في الكلمات والجمل منشغلاً بذلك عن معانيها
ودلالاتها وما يمكن أن توصله أو تحمله من صور وأخيلة، ليستطيع من بَعد تفجير
طاقاتها الجمالية الصورية والتعبيرية، مع اقتراض فرضيات صوفية ـ إشراقية غالباً ـ
حول وجود الحرف في القصيدة والروحانية التي نظر بها الصوفيون للحرف والنقطة، لاسيما
في المفاهيم الحلولية حيث يشبّه الصوفيون المخلوقات بالنقط الممتدة من ـ أو
المنبثقة عن ـ النقطة الأولى أي الخالق الذي فاضت عنه وامتدت في خط الوجود الذي هو
عبارة عن مجموعة نقاط، إذا فصلت أياً منها فلا يعني ذلك انقطاعها عن النقطة الأولى،
بل هي لا تمتلك وجوداً منفصلاً خارج هذا الوجود الخطي الذي تظل تهفو للعودة إليه
والاتحاد به كما تحن القطرة لبحرها الذي تبخرت من مائه.
ولا تخفى بالدرجة الثانية أو كعامل ودافع إضافي تلك المؤثرات
البصرية في تجربة أديب كمال الدين التي أجد لها مظاهر تشكيلية نمت في الرسم العراقي
لدي جميل حمودي، ثم بانتباه للبعد الفلسفي المعمّق لدى شاكر حسن وتلامذته والتجارب
العربية في هذا المجال أيضا مثل رسوم فريد بلكاهية ورشيد القريشي واللبّاد وغيرهم.
ولكن أشدّ المؤثرات وضوحا هي التجربة الإشراقية للتوحيدي وتحليله المتقشف والنوراني
للحروف لاسيما في الإشارات الإلهية.. وحفرياته الجمالية والفلسفية في دلالات الحروف
ووجودها الجَفري والروحي.
الإضافة التي كان أديب يبرر بها انغماسه في حروفياته الشعرية والتي بدت لنا مستساغة
وغير مقحمة، هي وجوده كشخص داخل هذه الحدوس والمحاورات والملاطفات الحروفية التي
يقلّبها ويتأملها وينهمك في استجلاء جمالياتها، وما يرى من طاقة تعبيرية كامنة
فيها.
في حواره الطويل مع الحروف يستعير أديب لسان متقشف يتأمل مادته ولا ينصرف عنها إلى ما تعنيه خارج وجودها الكولغرافي المجرد. إنها كحياته ذاتها وُهبت له، لكنه بدل تسييرها وعيشها يمددها أمامه على أرض القصيدة ليدقق في مغزاها، ويوقفها ليتساءل عن جدواها ومعناها، فينصرف الزمن ويمضي وهو يناجي حياته مفرداتٍ ودلالات. هكذا كان أديب يصنع بمادة قصائده، يفتتها كطفل منبهر بلعبة، ثم يحاورها ويسائلها ويُسقِط عليها حياته كلها.
اليوم وبعد حواريات كثيرة يغيب الشاعر منسحباً تكتيكياً وبمناورة فنية من المشهد الحروفي التأملي ليترك مفرداته الحروفية تحاوِر بعضها: فالنقطة والحرف كوجود لازم مثل وجود التوأم في الرحم، يتخاصمان ويتراسلان في جدل معرفي وجودي وجمالي:
وسألت النقطةُ ثالثة:
هل من الشؤمِ أن أرتبط بك
ارتباط الأرض بالسماء
وارتباط الحلمِ بمخيلةِ الشاعرِ/ الطفل
وارتباط الجيمِ بالجثةِ والجنون؟
هل من الحقِّ أن تضيع معي
بحثاً عني
وأنا بعض منك؟
والحرف يعاني كذلك في متاهة الوجود والسؤال ومعاناة الانفصال عن ذاته:
لم أعد من نفسي بعد
ضعتُ في نقطتها القاسية
وتضاريسها المليئة بصور الموت.
وأحياناً يتهادن الحرف والنقطة كأنما تجمعهما المصائر والنهايات المتوقعة أو المنتظَرة، وكما يفعل البشر يهدءان ويتناجيان نادبين ما يحصل لهما:
وسألت النقطة ثانيةً:
ما الذي أتى بنا من الشرق إلى الغرب
من الحزن إلى الكآبة؟
فأجاب الحرف:
هل كُتبت علينا اللوعة في اللوحِ المسطور
أم كُتِب علينا الحرمان إلى أبد الآبدين؟
يحس قارئ الديوان أن ابتعاد الشاعر عن حروفه ليس إلاّ تسمية أخرى لوجوده وراءها أو فيها، فهو يقوِّلها ما يريد كعراقي في قلب اللهب، في مركز دائرة الموت المتعدد الأسماء والأسباب والموحَّد النهاية، حزنه وجوده مقتَلعاً منفصلاً عن حاضنته وطفولته وصباه ولنلاحظ أنه في ختام معركة حروفية بين الحرف والنقطة يستبدل صهيل الكلمات بصهيل الناس(قصيدة: ضجة في آخر الليل).
هكذا تعود للحرف والنقطة رمزيتهما التي دأب الشاعر على استثمارها مما يجعلنا نتساءل: كيف ومتى سيخرج أديب كمال الدين من شرنقة حروفه؟ وكيف ومتى سيطلق وجودها المرتَهَن في النص المتعالي الذي يقيمه فوق هيئتهما البنائية مؤجّلاً تشكيلات المعاني وتوسيع الدلالات، إلا ما اتصل منها بالوجود الخطي لتلك الحروف والنقاط خارج ما تنتجه من معان أو تتنضد في تراكيب جملية نفعية.
ولنستعن الآن بتفوهات الشاعر نفسه خارج نصوصه وبالذات في مقابلة أٌجريت معه ويبدو أن لها موقعاً خاصاً في نفسه إذ ألحقها بالديوان، وعنوانها: قصيدتي رسالة حب حروفية، يؤكد فيها أنه أراد(استكناه سر الحرف وإطلاق مسراته العميقة أو حرمانه العظيم في لعبة المأساة لخلق أساطيري الخاصة. الحرف كما أرى شبكة لصيد البهجة، والحلم، والشمس، والفجر، والألم العظيم..).
وأحسب أن الشاعر رضي بدور الصياد الذي تنوب عنه طريدته ـ الحروف ـ وتقول عنه ما لا يقوله هو.
"ما قبل الحرف..ما بعد النقطة" لأديب كمال الدين:
حروفية الشعر من التجريب إلى حادث التجربة
د. مصطفى الكيلاني
ص 77- 97
الحروفية في الشعر بعد المتداول من الحروفية في الرسم ضمن الفنون التشكيلية العربية، والعراقية منها على وجه الخصوص: تلك هي أبرز سمة لتجربة أديب كمال الدين في كتابة النص الشعري.
إنّ الحروفيّة العربيّة، إجمالاً، خَطيّة وشعرية في الآن ذاته، لأنها من المكان وإليه، وذلك لانفتاحها على كل الاتجاهات وهي قائمة في الزمن أيضاً، كأن يتقاطع في بنية الحرف العربي كلّ من حركة اليد ومجال الرؤية( العين) والإبصار(من البصيرة). وما احتفاء أديب كمال الدين بالحروف العربية عند استقدامها إلى الشعر إلاّ بعض من الاحتفاء بتُراث الحُروفية العربية والثقافة الحافّة بها. فهل يواصل الشاعرهذا النهج في "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة"(1) أم هو الاسترسال والقطع في آنٍ واحد بتأثيرات الوقائع الحادثة؟
1- لطفولة الحرف بعض كثير من طفولة الاسم، ما بين الصوت والصمت.
إنّ اهتمام أديب كمال الدين باللغة هو في الأساس ضرب من الاستدارة التي يُراد بها استعادة البدء الأول في تاريخ الحرف، كما يَنكتب في ذاكرة الذات الشاعرة و يرتسم بمخيالها الأقرب إلى التداول منه إلى الإطلاق. فالتفكيك منهج لازم عديد الدواوين السابقة للشاعر(2)، وقد حايثتْه رغبة الاستضاءة بعتمة الحرف الصوت أوالصدى، إذ لطفولة الحرف، هنا، بعض كثير من طفولة الاسم، كَلوْثة المعنى البدائي تُصيب الكيان وتظلّ في الأثناء متلبسة بظلاله، تحمل ذكرياته الهاربة عن سطح الوعي، بدلالة السالف المُعمّى، ما قبل الحرف وما قبل الوعي بمُشترك ذاكرة الاسم والاشتغال الحيني لها استناداً إلى مُجمل الخبرة الفردية. كذا تبدو إقامة الكتابة الشعرية بين "ما قبل الحرف" و"ما بعد النقطة" ضمن الخانة المعتمة التي هي الصمت تقريباً. فأدبية الصمت هي في صميم أدبية الكلام وإن اختلفت عنه في الماهية وسياق الفعلية اللغوية، لأنّ الكلام هو، في الواقع من الصمت وإليه شأن صلة المعنى باللاّ- معنى(3). وبالصمت يضحي الكلام قادراً بالفعل على التكلّم، شأن الفراغات الصامتة في العمل الموسيقيّ يُحوّل الصوت الموسيقي إلى فجواتٍ دالّة بالكثافة السمعية والكثافة السمعية الناطقة بتلك الفجوات. فكيف يشي الصمت بالأبعاد الأخرى للكلام؟ كيف يتجاوز أديب كمال الدين في هذا الديوان دائرة التجريب اللغويّ إلى تجربة الحياة ذاتها بمختلف تقلباتها ومآسيها؟ أليست كتابة الصمت،هنا، انطلاقاً في طور ما بعد تفكيك الكلمة والجملة إلى إحداث لغة شعرية مختلفة هي وليدة متراكم أفعال التجريب الكِتابي السابقة ووهج الوقائع الصادمة بَدْءًا بالخطوب التي حلّت بالوطن (العراق) ومروراً بالندوب الناتجة عن صدمة الاحتلال في النفس ووصولاً إلى مشاقّ الحياة في المهجر وعذاباتها.
2- ما بين سرد الحال وشاعرية الحدث.
لقد استدعى تفاعل هذه العوامل في الذات الكاتبة الإبدال الذّي حوّل النص الشعري من "لعب لغويّ" إذا جازت العبارة، يُقارب طفولة الاسم وطفولة المعنى في الموروث اللّساني الفرديّ والجماعي إلى كتابة التجربة بمُقاربة التخوم القصية لفاجعة الانقضاء واحتمال أذى الكارثة السالفة والحادثة، كتفاقُم حال السأم والشعور الحادّ بالخواء والقرف المُلازم للكائن والدهشة أمام انحباس الأفُق والرعب من المصير. فتصف الذات الشاعرة وقائع الكارثة والسأم كي توصف من خلالها بضرب من التداخُل الخاص بين سرد الحال وشاعرية الحدث بمنظومة استعارية مختلفة عن سابقتها، تُحوّل اللغة الشعرية من سياق لُغويتها عبر تداوُل حادث، تستعيد به الكلمة نظامها الدالّ بُغية مقارنة حجم الكارثة التي أصابت الكائن والكيان بعد أن تفتحت بصيرة الشاعرعلى فاجعة الانعزال بدلالة الفرد والمجموعة التي ينتمي إليها، وبمنظور تجربة المهجر، وابتداءً من "الأصدقاء الأوغاد والمنفيين والسذّج"
"حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعةُ شاباً مقتولاً
قرب كنيسة أحزان العالم
جاء أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج
ووضعوا صليباً خشبياً
قرب دماء الجثة
ووضعوا ورداً لا اسم له
وآساً وفاكهةً معفّرةً بالتراب
قالوا: مَن هذا المقتول؟
ومامعنى الساعة؟" (4)
فيتحدّد بَدْءُ الإبطان الواصف بوعي الزمن، هذا الشعور الحاد بانهدام نظام ما يتّخذ له مجاز الساعة المتحوّلة من آلةٍ دالة على الزمن إلى كائن قتيل. وإذا الصورة المشهدية تتناسل في الأثناء بتداعيات لحظة الكتابة ذاتها على شاكلة تحويل داخلي سريع الحركة يتخذ له نسق الاطراد الحدثيّ تبعاً لِنَسق تشجيريّ ينتشر بعديد الصور الفرعية لينغلق بالمُساءلة عند الوصل بين " المقتول" و"معنى الساعة".
3- موضوع الرثاء: موت أبديّ تقرر قبل الولادة.
يتكرر فعل المساءلة برغبة الكشف عن مُخبأ دفين في الذات المتفجعة، إذْ ثمة حال من السقوط الداّل بَدْءًا، وحسب الظاهر، على تورُّطٍ مّا يُؤنب النفس ويدفعها إلى ضرْب خاص من الاعتراف (confession) الذي يعتمد إيماء الشعر ويتوسّل بالإيحاء والرمز وتكثيف الصورة، وينتصر لتدلال الموت على دلالة الوجود المُعَنَّى، ويسعى إلى كتابة الرمز المختلف عِوضاً عن رومنسيّة وصف الحالات وتجريبية اللغة، كَسالف خبرة الكتابة الشعريّة قبل المهجر داخل الوطن الحابس والحبيس. كذا يزخر النص الأول من الديوان بعلامات الكارثة وانعدام المعنى- القيمة واستبداد الفاجعة: تكرار فعل الاستفهام،"موتي الأبديّ، ضياعي في جسد من لعنة الحبّ، عذابات الرغبة والشوق، مأساة من عسل الوحل، درج يمضي حتى الأسفل، جثة ذاك الشاب المقتول، صيحات صليبه، فواكه قلبه المعفّرة بالتراب، مقتولاً جئتُ إلى الدنيا وسأغادرها مقتولاً أيضاً، أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج، دمي المتناثر، فاكهتي المُلقاة على الأرض، أخرج (...) سكيناً ليهددني، شتمي، كتابة تقرير سحريّ أو سريّ، درجي الهابط إلى الأسفل، أيامي: أيامي الريش، قُتِلتُ قرب نهر ميّت، حملوني في تابوت أسود، حفروا الأرض ووضعوني فيها، المنفى...". فتتجاوز هذه الألفاظ داخل ملفوظ هو أقرب مايكون إلى مرثية حادثة لا علاقة لها بنموذج المرثية العربية التًُراثية، لأنّ الراثي والمرثي في هذا السياق هما من رحم دلالي واحد ولا تبعيد بينهما، كما لا معنى للتعليل أو التبرير أو تعيين الفاجعة باللحظة، إذ الذات الراثية والمرثية مَعاً لا تصف فاجعة عارضة، وإنما موضوع الرثاء يخص "موتاً أبدياً" تقرر قبل الولادة بمطلق زمني، وتحدد عند الولادة وبعدها إلى ما لانهاية. فهذا "الموت" قريب في الدلالة من "موت" علي جعفر العلاّق(5)، لأنّ السياق المجتمعي واحد والمرجع الأنتروبولوجيّ مشترك وشروط التمثُل أوظروفه متشابهة حدّ التماثل الدلالي والتدلالي أحيانا عديدةً.
ولئن جرّب أديب كمال الدين شاعرية اللغة وعفوية الكتابة والأقنعة اللسانية المترددة بالقصد الإيحائي بين الجملة واللفظ والحرف (الصوت) في الدواوين الشعرية السابقة فإنه في "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" يندفع إلى "الوراء" بإرادة كاتبة جديدة أنشأتها ضخامة الكارثة الحادثة وظروف المكان-المهجر حيث الإشكال الكينوني، هنا، قائم على أشدّه: وطن بلا حُرية في السابق، وتحديداً حُرية الفرد، وحرية بلا وطن في الزمن اللاحق. وليس للذات الشاعرة حرية الاختيار بينهما. لذلك نراها تكتفي في الغالب بالاستذكار المُضمر والفرار من راهن الضياع إلى "ضياعات"أخرى أشد أذى للروح وأبعد إيغالاً في الجُرح الفاغر فاه، النازف عَذاباً وقَهْراً.
4- التخوم القصيّة لوعي الموت: فيض العلامات الدالّة على الرغبة.
إنّ تفاقم الحال الباتوسيّة بمختلف علامات "الموت الأبديّ " وإمكان دلالاته يُفضي حتماً إلى التخوم القصية لوعي الموت، إلى الرغبة بفيضِ من العلامات الإيروسيّة وإمكان تدليلها على معنى الوجود، بمُتبقّى الرغبة وإرادة الرغبة، بيقظة الجسد يستحيل إلى جسدية منتفِضة كاتِبة، كأن تتجمع كُلّ الحواس وقوى التعقيل والتخييل والحدْس في مواطن تُداخل بين الموت والرغبة، للتخوم الواحلة بينهما، كالمدّ والجزْر في تموُّجات النفس المزحومة بصور الخراب والكارثة والفجيعة والمهووسة بالحاجة إلى إحبال الوُجود معنى، برمزية فحولة القلم وذكورة الرغبة المتعطشة إلى التواصُل مع أنثى، هي الحُرية إمكاناً للتسمية، وهي الفعل الكاتب الذي يزرع الحُبّ في رحم البياض، ويسعى إلى إكساب الخواء روحاً بمشترك الحالين الباتوسيّة والإيروسيّة، بالألم واللَذّة، بالدّم والحِبْر، إذ ينفتح "طوفان" صور الخراب الفراغ الكارثة على "البحر" بمُختلف رموزه الدالّة عليه، كما يُفضي الجسد الحبيس المستنزف القُوى إلى "جسديّة " عاشقة حالمة متشهية، وبذا تتعالق السيولة ورمزية "لعبة الفراش" وجنون الرغبة ورمزية الغُرف والموت:
"أنت تشبهين البحرَ في كلّ شيء
نعم،
هو أزرق
وأنتِ زرقاء
هو ساذج أخرق
وأنتِ ساذجة أكثر مما ينبغي
هو صاحبُ المعاني التي تبدأ بالفراش
وتنتهي بالموت
وأنتِ صاحبةُ الفراش
هناك يبدأ معناكِ بالظهور
شيئاً فشيئاً
لينتهي بالغرق والموت." (6)
إنّ بلاغة التشبيه في بناء هذه الصورة وجه آخر حادث للإنشاء الاستعاري، كأن يتجاوز التشبيه البليغ في هذا السياق المنتظرالدلالي إلى ماهو أبعد من الدلالة، ليفقد بذلك صفة التشبيه المعتاد، إذ يتعالق كلّ من البحر والأنثى المُخاطبة في أقصى التخوم لِكُلٍ منهما، بالمشترك الذي هو الفراش والظهور وما بعد الفراش والظهور إلى "الغرق والموت" ، بأن يستحيل المعنى إلى "لامعنى". وإذا نصّ "هو أزرق وأنتِ زرقاء" نشيدة الرغبة والموت تُصاغ بأسلوب التكرار، بالتعالق الحميم مُمثلاً في التشبيه، وبالانتشار الدلالي الذي سرعان ما أفضى إلى استدارة ، كالرغبة يعلو بها الفعل إلى الذروة لتنحدر سريعاً إلى الأسفل حيث التذكير بالقتل أو الغرق أو الضياع أو "السكاكين" أو "الذكرى" أو الموت المُفضِي إلى موت، ولاشيء آخر عدَا الموت. وكأنّنا بأفعال الانتشار والتراجُع المتكررة على امتداد المقاطع السبعة نشهد تصديةً للصوت المُعلن في النص الأول من الديوان، بأن نستعيد وُجهة البدء بعد محاولة تغيير الاتجاه أسلوباً ورُؤيا. وإذا الإنشاد مُمثلاً في النص الشعري الثاني من الديوان انفتاح على الأنْتِ الماثلة في الأنا، وانغلاق عاجل يُنهي تكرار فعل الانفتاح لتصطدم الرغبة بالاستحالة، والأمل بالألم، والحُلم بالموت المستعاد أو الأبديّ، كالمُقابلات التالية التي تصل بين بدايات المقاطع ونهاياتها:
- "أنتِ تشبهين البحرَ في كلّ شيء (...)
لينتهي بالغرق والموت
- نعم(...)
لمئاتِ الفارّين من المعركة
- وعلى ذكرِ القتل والزلازل(...)
بل بسكين تغرقُ في الصدأ والطين
- ما أحلاكِ إذن(...)
ومليئةً، في آخر المطاف، بضياعي الأعمى
أنتِ تُشبهين البحر(...)
حاملاً، كلّ ليلة، المشاعلَ والسكاكين
- أنتِ تُشبهينَ البحر(...)
خلف ذكراكِ الحيّة الميّتة
خلف ذكراكِ المقدّسة!
- أنتِ تُشبهينَ البحر(...)
ومن قصيدةٍ إلى قصيدة
ومن موتٍ إلى موت!"(7)
5- شهوة التجريب اللغوي المزحومة في هذه المرّة برغبة البَوح.
هو التكرار اللفظي والتركيبي والدلالي، إذن، يُكسب هذا النص صفة الإنشاد، بالنسق الإيقاعي الواحد يتكثر في الداخل، وبالتوزيع اللفظي وإعادة التوزيع عند إحداث تغيير في الاستخدام اللفظي تُعادُ به جَدولة الألفاظ وتمدُّد النسق بحركة اطراد دون الخروج عن حدود هذا النسق، كأن يظّل البحر وأنتِ والواصف (الأنا المُضمر) حاضرة باستمرار على امتداد النسق في حين تتغايرالألفاظ والسياقات الموقعية وتتوالد الصُور في الداخل ضمن صورة بدائية ومرجعية واحدة: الرغبة تتغنّى بالموت، والموت يتماهى والرغبة. وكما يتحدد أسلوب الإنشاد بالتكرار فإنه يستدعي بلاغة الإنشاد القائمة على النداء (المُخاطبة)، كمن يبحث له عن أُفق خارج كثافة العتمة، خلافاً لبلاغة الخبر التي صيغ بها النص الأول عند توصيف جحيم الوضْعية وانحباس الأفق. وكأنّ الوطن الغائب في النص الأول يستدعي إليه وطناً هو حُلم الكتابة الشعرية التي يُراد من غير أن يتحقّقَ، وذلك لاستبداد الموت الكارثة الفراغ... لذلك كله يستحيل الإنشاد إلى وجه آخر للرثاء بتوحُد الرائي والمَرْئي. غير أن الجسدية الكاتبة في النص الأول مُضمرة، حبيسة الأنا وماوراء الذات الكاتبة، محكومة برغبة النعي والإخبار في حين ينجلي مشهد النعي في النص الثاني من الديوان عنها بسبب الرغبة التي تُضحي إرادة للفعل الكاتب وإنشاداً يُعالق بين حُلم الذات الكاتبة الراغبة والأنوثة-الرمز والعالم بأشياء "البحر" المُتخيلة الدالة عليه.
ولئن اتّجهت ذائقة الكتابة بَدْءاً في هذا الديوان إلى توصيف الفاجعة الحادثة بضَرْب خاصٍ من البوْح بعيداً عن قناع اللغة أو تجريبها الذي ساد الدواوين السابقة فقد استعادت في الاتجاه الآخر بعضاً من شهوة هذا التجريب بحديث "النقطة" وموضوع الحرف(8) ليتعالق في هذا الديوان أسلوب حادث يصف الفاجعة دون التوسُّل بقناع اللغة وأسلوب سالف هو في صميم التجريب اللغوي الذي استحال من "قناع" إلى أسلوب حافّ بالحادث وتبعاً للوظيفة الجمالية بعيداً عن استخدام القناع الصفيق في سالف الكتابة. وحتى النصوص التي استعاد بها أديب كمال الدين شهوة التجريب اللّغوي مزحومة برغبة البوْح عند توصيف الكارثة التي حلّت بالكيان الفردي والجمعي. لذلك يتفارق الأسلوبان عند التفكيك القرائي ليتأكد في الأثناء تلبُّس كلّ منهما بالآخر ضمن كتابة أنشأها مسار التحوّلات في حياة الذات الشاعرة والجديد الطارئ في وعي الوجود والكتابة منذ خَوْض تجربة السفر والانتقال من مكان إلى آخر. فما يوصف بالتجريب اللّغوي، حسب الظاهر، ليس إلاّ تقليباً، بوُجوه مختلفة، لحال الموجود (Etant) المزحوم بأطياف الجريمة والدّم والسواد وضياع الوطن وفراق الأهل والأحبة، ليتعاظم الموقف التراجيدي ويحتدّ بوضعية من يعيش حرية بلا وطن، كأن يحمل عذابات ماضيه وأحلام راهنه دون وُجهة أو اتجاه.
6- تصادم الألفاظ وتداخل الحروف: نظام جديد وتنبيه إلى مزيد من الفَوْضى.
كذا تشهد الكتابة في "ضجة في آخر الليل" من الديوان ارتباكاً هائلاً، مَوْضعُه اللغة، إذْ يتفكّك منطق التداوُل اللّساني بحادث الوضعية، وتعصف بسكينة الكلمة واستوائها "زلازل" الوقائع الجديدة برمْزية اختفاء النقطة وتصادُم الألفاظ وتداخل الحروف واستبداد "الفوضى" ب"النظام" إيذانا "بنظام جديد" أو تنبيهاً إلى مزيد من الفوْضى:
"أما النقطة
فاختفتْ وسط بيت خيانتها المنيف
لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول
وسط صهيل الكلمات
أعني وسط صهيل الناس!" (9)
وأول التداعيات في توصيف هذه "الفوضى" سقوط التماثيل، كُلّ التماثيل التي تعني وثوقات موروثة وأخرى مكتسبة في سيرورة الوجود الحابس والحبيس، عدا الحُرية، هذا الحلم القديم الجديد، السالف الحادث، الأمل، البوصلة الأخيرة المُتبقية في صحراء الوجود، المرجع والأفُق، آخر إمكان قد تُضحي به الفردية مشروعاً قابلاً للتحقق رغم كُلّ العلامات الدّالة على التسلط عَوْداً إلى تاريخ السُلالة ومُروراً بالجرائم الفظيعة المُرتكبة في حق الكيان الفردي والجمْعي على حدٍ سواء:
"نعم
كلّ تماثيل ذاكرتي
كانت مهشمة، بدون رؤوس
وحده تمثالك
كانَ كاملاً
ولا ينقصه إلاّ الكلام!" (10)
7- وعي استذكاري راهني استباقي في الآن ذاته.
غير أن الاستذكار، وإن نزعت الكتابة إلى تفاديه باستقراء اللحظة (الآن)، جدار سميك لا يدع فعل الكتابة يندفع بإرادة قوية واضحة نحو تأسيس زمن جديد. لذلك تطفو على سطح الدلالة الشعرية في "مطر أسود.. مطر أحمر" مشاهد الخراب القديم والحادث، عَوْداً إلى تاريخ الجرائم والحروب والخرائب والحرائق والنزيف الدموي بتقليب صُور الموت القديم والجديد. وإذا الموصوف الكارثي لوحة شعرية تُداخل بين الأزمنة والمواقف بسياقٍ جامع يُقضي إلى حقيقة كارثية: "وضاعت معهم بغداد إلى الأبد" (11)
هذا الوعي الاستذكاري والراهني والاستباقي في واحد هو الذي يحتم التوسُّل بكلّ الأساليب وإمكانات التدليل باللغة على الكارثة مُمثلةً في واقع الهلاك الذي اختار الشاعر لتسميته لفظ "الموت" بمُختلف العلامات الحافّة به. فيتخذ البوْح له إيحاء التورية عند استخدام أسلوب التجريب اللغوي وحادث فجاجة التوصيف الكارثي شبه المُباشر، لما للموصوف من فظاعة معلنة وانتشار صادم للوجدان الفردي والجمْعي على مسرح الوقائع اليومية. إنّ الفظاعة، هُنا، أوسع مدى وأعمق دلالةً من أنْ يحدها لفظ. لذلك تسعى الذات الشاعرة إلى الحفر في ما وراء اللغة بتفكيك بنية اللسان والتنقل في الفجوات الفارقة بين الحروف، في الأنفاق والسطوح القائمة بين "ما قبل الحرف" و"ما بعد النقطة"، حيث الصمت والكلام يتعالقان ضمن علامية مخصوصة هي أقرب إلى الإلماح منه إلى الإفصاح، وإلى المجهول منه إلى المعلوم، وبالرثاء الذاتي أحياناً عديدةً:
"يا شبابي المدمّى
وموتي الأبله الذي ينتظرني
ساهماً في آخر قارّات العالم." (12)
ولئن بدَا الحرف مطواعاً لإرادة الذات الكاتبة في تسمية الحالات والمواقف السالفة فهو عاجز عن أداء الحالات والمواقف الحادثة. وبهذا المنظور التباعُدي بين ما كان ويكون في أداء المعنى المُلغز تُضحي اللغة على لسان النقطة في "اعترافات النقطة" من الديوان ملفوظاً وذاتاً متلفظة يُقيمان داخل دائرة العجز عن التدليل رغم تراكُم الخبرة في تسمية الأشياء باللغة، ولغة الشعر تحديداً. كما يُسهم المَحكي في أداء هذا المُبهم والكشف عن مأزق الكيان في سرد حكاية الأسرة الوطنية أو البشرية آن استقدام وتغليب حدث اليأس بالهلاك والهلاك باليأس على مختلف الأحداث:
"قلتُ لنفسي
وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي:
نعم
العطش أرحم
الموت - أعني الصحراء – أرحم!" ( 13)
فالتيه-الموت هو الملاذ الآخر والأخير من "القوم" أو "العشيرة"، حيث شريعة القتل هي أساس القيسة ومرجعها، والدم هو المعنى الذي يعوق أي معنى آخر عن التشكّل. وليس للذات الشاعرة، هنا، إلا أن تختار بين الإقرار بانتمائها العقيم إلى قيم "العشيرة" القاتلة للفردية وإرادة فِعليتها وبين الخروج على إرثها، بتُراث الكتابة الحادثة رغم القيود والسلاسل المائلة في داخل النفس الكاتبة:
"كان بإمكاني أن أروّض شيئاً من جمهرة الحروف(...)
لكنّ الدور كان صعباً حدّ الطوفان
والجسد ضعيفاً كان(...)
كان الدور صعباً
إذ كان دوري دور أوديب(...)
ودور المأمون ودور الرضا
ودور الذي حُمِلَ رأسه فوق الرماح
ودور الذي صُلِبَ على جسر الكوفة
ثم ذُرّ بوسط الفرات..." (14)
فالكتابة، بهذا المنظور، هي وليدة القهر القديم والحادث، المُنْقضي والمستعاد. لذلك نراها مسكونةً بصُوره مدفوعة إلى الحُرية ونقائضها، تحمل كوابيسه وآثاره العميقة الدامية في تلافيف الذات واللغة، تغالب أوجاعه وعذاباته وتزدحم بمُتراكم وقائعه رغم الانفلات من المكان إلى المكان، بخَوْض تجربة المهجر، إذ القهر ماثل في النطفة الأولى، قائم في تاريخ السلالة عبر مختلف الأزمنة.
8- الموت باعتباره اسماً لمُسَمّيات شتّى.
كذا تتكرر علامة الموت بمظان مختلفة تبعاً لاختلاف واللحظات الواصفة والموصوفة، كأن يشي الانحباس بإمكان للانعتاق ويحتجب أفُق الانعتاق في سميك الحاجز المانع، بمُفارقة تتكرر أساليبها ووضعياتها في هذا الديوان:
"بابُ الموت رائع بانتظاري(...)
لكنه حين عزفَ الموت
ذُهِلَ على الفور
إذ أحاطتْ به مئاتُ الجثث(...)
لم أزلْ أنتظرك
مستمتعاً بانتظارك
مثلما تنتظر شجرة وحيدة في الصحراء
صاعقةً أقبلتْ إليها من السماء
مليئةً بالنارِ والموت..."(15)
إنّ الموت في مسار الموصوف الكارثي الخاص بوضعيّة الذات الكاتبة اسم لِمسمّيات شتى، إذ قد يعني الهلاك الدمار انتفاء المعنى انهيار القيمة القتل، وقد يعني أيضاً إمكان التحرُّر الأفق المنتظر الرغبة في الحياة وبالحياة الانقضاء البطيء بالكتابة الإبدال بمفهوم الانبعاث سقوط مختلف الأقنعة القديمة والحادثة الوجه الآخر للحياة، إنْ تمثلنا صلته بالنار (مليئةً بالنار والموت). فلم يتبقّ للذات الشاعرة، بهذا المعنى، سوى مغالبة تاريخ الجريمة بالشعر واللغة، كـ" قصيدتي المغربية" تتعالق ضمنها "الأبجدية" و"الحبيبة المغربية" والحلم والجنون وشهوة الكتابة والهذيان "ومرايا الطفولة" والماء والنور والنار بـ"فُحولة" الفِعل الكاتب وممارسة "طقوس" النار على شاكلة الإحراق والاحتراق، تطهيراً وتطهراً. وبذا تُضحي الكتابة في الجسد وبالجسد مُحاولة توالُج وإيلاج مَعاً عند تحرير الجسد من عديد أطياف كبْته بالرمز الإيروسيّ الذي لا ينقطع عن وعي الموت (الحال الباتوسيّة)، بل يعمق به عِند بيان القصد من حُلم الكتابة والكتابة ذاتها:
"فإذا بالمغربية صارتْ كلامَ الجسد
وجسدَ الكلام
وإذا بها غيمةً من هيام
وإذا بها تنفثُ في روحي سحرَ الكتابة..." ( 16)
وكما تلوذ الكتابة باللغة أداةً للإفصاح عن المُخبّأ الدفين في قيعان النفس من أحلام وكوابيس وذكريات وسيول ورغبات تخترق بنية هذه اللحظة باعتبارها مجالاً للتواصُل وحيّزاً للتناص، كأن ينشأ حوار مستفيض بين النقطة والحرف في "حوار النقطة"، النص الشعري الذي حوّل فيه أديب كمال الدين السرد من الوصف إلى التخاطُب بتداعيات حال متكلمة تُؤالف بالقصد بين ما يُشبه لغة الهذيان وهذيان اللغة، إذ تتعالق دوال العقل وماوراء العقل أو نقيضه الماثل فيه، كتواصل الحِكمة والعبث، المعنى واللاّ-معنى الذي هو قصد آخر للمعنى المختلف. وكأن الكلام، في هذا السياق، حد أقصى يشي بالماوراء الذي قد يُسمّى صمْتاً أو مَوْتاً، رغبةً بكراً أو رَغبة تنزع إلى إحبال الفراغ معنى لم يتخلّق بعد نتيجة اتصافه بالما- قبل البدايات الأولى، رمزيّة "صيحة الماء":
"ما الذي حدثَ لك
لتقودكَ خطاكَ إليّ
أنا ملكة الرغبة
وصيحة الماء التي لا حدود لها؟" (17)
فالنُقطة، بهذا المنظور، أشبه ما تكون بالرغبة، لاقتران ماهيتها بالبدْء والانقطاع، أو الانقطاع الذي يليه بَدء. فكما تصل النقطة بين الابتداء والانتهاء على شاكلة استدارة تُقارب حركة الوجود فهي العلامة التي تُجسّد وضعية الدائرة المُغلقة بالنسبة للذات الشاعرة، كأنْ تتكثف صور الموت المستعاد والدم ودلالات القهر على امتداد نصوص هذا الديوان. وكما يرتبك وجود المعنى في زحمة هذه الصور تتردد لغة النص الشعري بين الاسترسال والانقطاع، ويفقد الجسد كثافة الحضور بتكرار واقع "الجثة" المتخيَّل(18) وتكاثر أسئلة الموت:
"هل جرّبتَ الموت؟
ما علاقة المرآة بالموت؟
بل ما علاقة المرأة بالموت؟
بل ما علاقة المرآة بالمرأة؟
وما علاقة الموت بالموت؟" (19)
فالموت هو مختصر وضعية، ومُجمل وعي الأزمنة في ذات الشاعر، وإفراد دال على جمع دلالي، ورحم مُنجب للمعاني الحادثة والمُمكنة، وعلامة رمزية للتخوم القصية للحياة، وهو بالإضافة إلى ذلك إمكان للخلق تجريباً لغوياً بالفسخ والإنشاء، كالتردد المقصود بين الحرف والنقطة، بين الواضح والغامض، بين ما ينقال ولا ينقال، وهو مجمع مشاهد للقتل القديم والمُستعاد عند تمثل هيمنة الأسود والأحمرعلى كل الألوان والمواقف والوضعيات (20) في "جسور" و "حصانان أسود وأحمر"، وهو تقليب آخر للرغبة حينما يتسع أفق الحلم بإمكان الحُرية، وبالحُبّ مرادف الأمل:
"كانت تقطّر قطراتِ الحبّ
قطرةً قطرةً في فمي
وهي تحاولُ أن تطفىء عطشي الجنونيّ
ورغباتي الجنونية
كانت تقطّر
وهي تجلسُ نصف عارية
بدثيين عامرين بالنار
وبساقين عامرتين بالسذاجةِ واللذة." (21)
9- ثَمَّة كسْر عميق في تجربة الكتابة الشعرية يقضي التبعيد التراجيدي بين الواقع والمثال، بين الرغبة والاستحالة.
يظل التغالب على أشدة إلى آخر الديوان بين الرغبة والاستحالة، بين الحلم والكارثة بمُتعدد صُورها ووضعياتها. فثمّة كسر عميق يقضي التبعيد التراجيديّ بين الواقع والمثال لتتفوض الرغبة أثناء الفعل الكاتب أو الحالم، وتنأى الحبيبة عن مُريدها كأنْ تبقى معلّقة في الهواء(22)، أو يتعالى الألم "بالمسمار الطويل" الثاقب للقلب"(23)، لتتراءى الحرية/ الحُبّ إمكاناً لا يتحقق داخل الوطن أو خارجه، لأن الحرية بلا وطن، كما أسلفنا، اغتراب، والوطن بلا حُرية سجن فظيع. لذا يستبد الموت بالرؤية/ الرؤيا ويغالب السواد كُلّ الألوان كي يستقدمها إليه ويُحولها إلى أجزاء في ليل بهمته القاسية، ويمضي العمر بالموجود إلى آخر حد، هناك حيث النهاية الباردة لكل الكائنات والأشياء أيضا(24). إن صفة الكينونة لدى الذات الشاعرة في نصوص هذا الديوان هي" الثقل غير المحتمل"(25). فالسفر حتميّ ويكاد، و"الحقائب ثقيلة كالصخر"(26) والوجهة هي "اللا- شيء"، بل الضياع هو البدء والطريق والمرجع معاً وكأننا بنصوص الديوان الأخيرة نشهد صراعاً حاداً بين الاستذكار وكتابة اللحظة (الآن) في" الرندمول" بمدينة أديلايد الأسترالية (28) ولئن لاذ أديب كمال الدين بالمكان من المكان، وبالمهجر من الوطن فقد ظل مهووساً بذاكرة هذا الوطن، كأن استبد به رُعب المصير:
"الشراعُ وسط السفينة
السفينةُ وسط البحر
البحرُ وسط قلبي
قلبي الذي يغرقُ شيئاً فشيئاً
في حلمه الهادئ العنيف..."(29)
فتتوالد الصُور بأسلوب التدوير القائم على تكرار الألفاظ: "السفينة السفينة، البحر البحر، قلبي قلبي"، وباستخدام الدوران على شاكلة لولبيّة، بدءاً بالعلامة الدالة على الخارج (الشراع) ووصولاً إلى عميق الداخل (الحُلم)، بما يقارب بهذه الخُطاطة التي هي مختصر المعنى المتكرر، تقريباً، في مجمل هذا الديوان:
ومابين"الشراع" و"الحلم" توالج بين "الخارج" و"الداخل" ،بدلالة الرمز المشترك والتنصيص على الهدوء العنيف الواصل بين الصفة الغالبة على الفضاء الخارجي المُتخيّل أو الحسّيّ ومجال الداخل حيث مكمن صميم الذات (وعي الكينونة).
10- الانعتاق المُوقت من سجن الوضعية بالكتابة والسفر.
وكأنّ الفرار من المكان إلى المكان في "إلى أين؟" أو الفرار من مُجمل المكانية إلى اللاّ-مكانية، بالانعتاق المُؤقت من سجن الموقع وحدود الوضعية يُحقق حرية استثنائية بارقة، إذْ تنفلت الرغبة من قيودها ليغمرها فيض من فرح، كحال هستيرية تستبد بالكائن المُنفلت من سجنه إلى فضاء مُنفتح على أبعد "الأقاصي":
"السفينةُ وسط البحر
السفينةُ تمضي بجسدينا
أنا وأنت
أنتِ عارية كالرغبة
وأنا الرغبة نفسها، عريها، نارها الخالدة
أقبّلكِ من أقصى الصباح إلى أقصى المساء
أقبّلكِ من أقصى الشفتين إلى أقصى القدمين
أقبّلكِ من أقصى الدمِ إلى أقصى البحر
والبحرُ يمضي بنا عاريين
إلى أين
أصرخُ: يا إلهي، إلى أين؟" (30)
هو التجلّي، إذنْ، بلغة التخاطب الذاتيّ، تلك الحوارية في الداخل التي هي أساس الكينونة تُحول الأنا إلى أنا/أنت عند تعاظم الرغبة والحب مُمثلةً في تكرار فعلية التقبيل الذي لا يتحدد بزمن، أو موقع في الجسد المُتخيل أو بُوجهة ما، ليظل سؤال المكانية قائماً بكثافة في آخر النص الشعري:"إلى أين؟". كذا تتحرر النفس من بعض مكبوتها بمشهد البحر والسفينة والشراع وحضور الأنثى- الرمز وانفتاح الجسد بعظيم الشهوة وعميم التجلّي (العري). إلا أن حلم الرغبة سرعان ما ينقطع في نص "سؤال"، حتى لكأن الذي تراءى للشاعر من رغبة وانعتاق ليس إلاّ بعضاً من حُلم قديم حادث. لذلك تستعيد الاستحالة والمنع والكبت حضورها في عالم أديب كمال الدين الشعري "بإبحار السفينة" وتخلّف الأنا عنها ورميه لها بالحجارة وتوالد الأسئلة الدالة على الغضب والحيرة وانقطاع الأمل. فتستعيد الذات الشاعرة كوابيس الرعب(31)، وبعضاً من مشاهد الولادة الأولى بالشعر المسكون بعشق الحُرية(32)، وظلال الماضي القريب بصُور "القنابل والصواريخ والفراعنة والبرابرة" ورمزية الاحتلال الأمريكي للعراق (33)، وخيالات الطفولة المغدورة داخل الاسم المدفوعة إلى كوابيس الموت المُستعاد:
"توهّم الطفلُ في داخلي
أنه يستطيع
أن يمثّل – مثلكِ – دورَ الوحش
وسريعاً
تركتني وحيداً
في غرفة سوداء بفندق يطلّ على نهرِ العذاب
تركتني أزحفُ إلى جهنم زحفاً
تركتني أتدرّبُ على دورِ الميّت
حتى الموت..."(34)
11- الموت مَرةً أخرى باعتباره يأسا قادراً على أنجاب أمل.
كذا الموت يُضحي بالنسبة للذات الشاعرة آخر إمكان للأمل في حياة لن تكون إلا بالفسخ وإعادة الإنشاء، بانتزاع جذور شجرة هرمة (الحياة الماضية) وغرس نبتة جديدة مَحلها، عند مواجهة الموت ذاته وقبول فتكه بالأنا، تجسيداً لحالٍ من الانطواء تتقصد المبالغة في إعلان مازوشيتها:
"إلهي
أرسلْ إليّ ذئبكَ: الموت
حتى يواجه قلبي الأعزل
ويمزّقه إرباً إرباً
إلهي
أرسله إليّ
لن أطرده
لن أقاومه
لن أهرب منه." (35)
وإذا الانتصار لليأس المثُمر معنى على الأمل الكاذب عند تفضيل الذئب/ الموت على "الملائكة ذات الأجنحة البيض" (36) تعبير عن إمكان للأمل، "كيأس" كيركغارد (37) تقريبا، الحريص على توصيف الفاجعة واختراق طبقاتها السميكة بُغية بلوغ مَعين ما من الأمل، كمن يبحث في أنفاق ظلمة عن بصيص نور قد يتراءى من بعيد، أو كالمتعلق بخشبة متشقِقة في خضم هائل من أمواج متلاطمة. فيصف ديوان "ما قبل الحرف...ما بعد النقطة" بمُجمل نصوصه فاجعة سالفة ويستبق برُؤيا الموت فاجعة قادمة عند انتهاج سبيل "العري" والإنصات إلى الرغبة وخوض تجربة الصراع الداخلي بين وطن بلا حُرية و حرية بلا وطن، كما أسلفنا، والإذعان للحاجة إلى السفر في المكان ولغة الشعر عند تحويل وجهة الكتابة من الاستذكار والرمز الصفيق إلى الكفر الصريح بكل الثوابت التي لا تُنشىء في حياة الشاعر إلاّ مزيداً من القيود.
ولأنّ الحزن حاضر بكثافة في طفولة الاسم، وعلى امتداد مراحل العمر، فهو الثابت الوحيد تقريباً (38)، إذ يُمثل المرآة التي تنظر الذات الشاعرة من خلالها إلى ما حدث ويحدث وما قد يحدث، ومرادفة المرجح المتكرر في جُل نصوص هذا الديوان هو الموت، بمُجمل العلامات المُتمثلة في أفعال القتل الصريحة والرمزية، وكالسواد يستقدم إليه جميع الألوان ليبتلعها ويُحولها إلى أطياف وظلال باهتة.
إنّ الانتصار للموت في "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة" تغليب صريح للسلب المُنجب على الإيجاب العقيم، ولسُلطة الحرف على سُلطة السيف (39). لذا فإنّ المقام المتمثل في هذا الديوان يتحدد في الأساس بتجربة المغامرة الوجودية والشعرية، بالسفر وسفر الكتابة، بتقليب القِيم الواحدية وتحويل وجهتها من ثقافة القتل المستعاد إلى الحُرية بفائض الرغبة ومتناقضاتها، وبالمُقامرة عند تفضيل الموت على الحياة بعد إيمان الذات الشاعرة الأصيل بأنّ الموت هو في صميم الحياة، ولامعنى للحياة دون موت(40). وبهذا المنظور يكسب الموت المغامرة الوجودية والكتابية معنى ما رغم استبداد العبث، اللاّمعنى، الخواء، الفاجعة بمُتعدد الوقائع والحقائق والثُبوتات.
12- "ما قبل الحرف...ما بعد النقطة": ما تحقق بالفعل من حُروفية الشعر.
تُفضي تجربة الكتابة المائلة في تجريب اللغة ضمن الدواوين السابقة لأديب كمال الدّين إلى تقليب جديد حادث للتجريب عند تحويل الكتابة الحروفية من دهشة العلامة الخطية والما-وراء الدلالي الماثل فيها إلى استثمار بُعد آخر لها بتوجيه العلامة الحروفية إلى الحدث/ الواقع وشيئية الوجود الفردي والجمعي بمختلف التفاصيل شبه الحسيّة والاستبطانية والرمزية.
وبهذا الاستخدام الحُروفي للكتابة الشعرية السالف والحادث نشهد ميلاد تجربة كتابية مختلفة في الشعر العربي المعاصر مَرّت ببدايات التجريب الأولى وتلبّسها في الأثناء خطر التكرار. إلاّ أنها سُرعان ما أفضت بعديد من متراكماتها وتقلّبات أحوالها في المكان السالف والأمكنة الحادثة إلى إبْدال كبير، كالحُروفية العربية في الرسم تُؤسس لأسلوب كوني مختلف في التعبير. فأثبتَ أديب كمال الدين بمُجمل دواوينه، ووصولاً إلى "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة" أنّ الحروفية العربية في الشعر إمكان للتحقُّق أيضاً، رغم الاختلاف الخُصوصي القائم بين علامية الرسم وعلامية الكتابة الشعرية في مستوى جمالية التمثل والأداء. هنا تنكشف، بما لا يدع مجالاً للشك، إضافة أديب كمال الدين لراهن الشعر العربي.
ولعلنا استطعنا، بجهدنا القرائي، أن نُقارب هذا الأسلوب المتفرّد المختلف: الجمالية الحروفية في كتابة النص الشعري، ليظل السؤال مفتوحاً على قراءات أخرى قادمة: كيف يتعالق الحرف العربي المرسوم والمكتوب شعراً ليختلفا بعلامية التشكيل واستعارة الكتابة؟ ما المشترك التخييلي الجمعي والفردي بينهما؟ كيف تستقدم حروفية الشعر إليها حروفية الرسم على غرار استقدام حُروفية الرسم "للشعري" الذي هو أساس الشعر ومختلف الفنون، كُلّ الفنون، دون استثناء؟
الهوامش:
1- أديب كمال الدين، "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة": الأردن: أزمنة للنشروالتوزيع، ط1 ،2006.
2- انظرْ دواوين أديب كمال الدين السابقة: "جيم و"نون" و"أخبار المعنى" و"حاء" و"النقطة"!
3- اللاّ-معنى في "دلائليات الشعر"، بمصطلح ميخائيل ريغاتير، مقولة لا تعني نقيض المعنى، كبلاغة الشعر القديمة، بل هو في صميم النص، باعتباره تناصاً، بنية منفتحة على متعدد القراءات والتأويلات.
Michael Riffaterre, " Semiotique de la poesie", Seuil, 1983, p 37.
4-"ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة"، ص9 .
5- انظر، على وجه الخصوص، ديوانيْه: "ممالك ضائعة" و "سيد الوحشتيْن"!
6- ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة"، ص14-15.
7- للسابق، ص14-21.
8-انظر"ضجة في آخر الليل" و"يا بائي وبوابتي" و"اعترافات النقطة" و"قصيدتي المغربية" و"حوارات النقطة" و"صيحات النقطة" و"جسور" و"حقائب سُود" و" بُكاء الحاجب" و"سجود" من الديوان.
9-"ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" ص23.
10- السابق، ص25.
11- السابق، ص30.
12- السابق، ص36.
13- السابق، ص42.
14- السابق، ص44-45.
15- السابق، ص53.
16- السابق، ص57-58.
17- السابق، ص70.
18- انظر "عرق ودم" من الديوان!
19- "ما قبل الحرف... ما بعد النقطة" ص75-76.
20- لاحظنا الإكثار من استخدام هذين اللونين، وبهما تشير الذات الشاعرة إلى مجمل تاريخ الجريمة أو القتل المستباح مُمثلاً في الدم والحزن المتولد عن حَدَث القتل المتكرر، بدءاً بالأجداد الأوائل ومُروراً بمقتل عليّ والحسين ووصولاً إلى سلسلة الاغتيالات والمذابح والمشانق.
21- "ما قبل الحرف... ما بعد النقطة"، ص92
22- السابق،ص94.
23- السابق،ص95.
24- انظرْ "امرأة بشعر أخضر" و"حقائب سود" من الديوان.
25- نقيض معنى الكينونة الذي هو أساس الشخصية الروائية في "كائن لا تُحتمل خفته" لميلان كونديرا.
26- "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة"، ص101.
27- السابق،ص102.
28- حيث يُقيم الشاعر في الراهن. انظرْ الهامش بالصفحة106.
29- "ما قبل الحرف..ما بعد النقطة"،ص107.
30- السابق،ص108.
31- انظر"جسر بعشرات الثقوب" من الديوان!
32- انظر "حمامة" من الديوان!
33- "بحارة بعيون زرقاء"، "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة"،ص119.
34- السابق،ص121.
35- السابق،ص122.
36- السابق،ص132.
37 - Soern Kierkgaard, "Traite dudesepoir", Gallimard,1949, p 65
38تذكرنا دلالة الحزن في هذا الديوان، وفي بعض المواطن "بحزن محمد الماغوط، وإن اختلفت تجربة كل منهما عن تجربة الآخر، كأن نشير للمقارنة إلى ديوان "حزن في ضوء القمر" لمحمد الماغوط .
39- انظر "سجود" وقد أهداها الشاعر لعيسى حسن الياسري. ويتضمن نص الإهداء دلالة الحُرية الماثلة اساساً في رمزية الكتابة، واعتبارها الأساس والمرجع في حياة كل من المُهدي والمُهدى إليه.
40- يلتقي الشاعر في مدلول الموت باعتباره معنى قائماً في الحياة ذاتها وفلاديمير جانكلفيتش.
Vladimir Jankelevitch, " La maort", France: Flammarion, 1977.
ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة
تحوّلات الزمن.. وعذابات المنفى
عيسى حسن الياسري
ص 99 - 103
(قالت النقطة:
مرّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربما أربعون
لم أعد أتذكر الرقم
لكنني أتذكر أنني قدتكَ إلى الهاوية).
في مجموعته الشعرية الجديدة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) يواصل الشاعر أديب كمال الدين مغامرته الحروفية التي بدأها منذ مجموعته الشعرية الثالثة (جيم) التي صدرت في بغداد عام 1989. والمدهش أن الشاعر لم يقع في نمطية يقوده اليها تكرار استخداماته الحروفية التي امتدت إلى أكثر من مجموعة شعرية. ولعلّ وعي الشاعر لتفاصيل مكوّنه التجريبي والمعرفي هو الذي منحه هذه الحصانة التي وقع فيها كثيرون غيره حاولوا أن يجدوا لهم طريقاً مختلفاً يمنحهم تميّزاً أو ريادة خاصة.
لذا نجده وفي كلّ مجموعة من مجاميعه وقد اكتشف أرضاً جديدة تصلح أن يبذر فيها قمحه الذي لا ينمو الاّ في أحضان حقل لم يجد المسافرون إليه طريقاً فظلّ محتفظاً بعذريته ونقائه.. وكأنه لا يصلح الاّ لبذار هذا الشاعر.. وأجد هنا أنّ المكوّن المركّب لتجربة الشاعر.. وإقامته الدائمة عند ظلال هذه التجربة.. ومجاورته لها كأيّ قدّيس لا يقدرأن يبارح صومعته تحت أكثر الفصول شراسة.. هو الذي بنى هذا التقارب الروحي بينه وبينها إلى الحد الذي جعل مغادرة مكانها أو زمنها عملية عسيرة تشبه انفصال الروح عن الجسد. وحين نتجوّل عبر مسالك تجربة الشاعر نتعرّف جيداً على عمق المعاناة التي يعيشها وكذلك كابوسيتها المروّعة. ولكنه يجد فيها قدره ورحلته (الأوديسية) التي عليه أن يتمّها ليكسر انتظار القدّيسة (بنيلوب) ليريحها من الجلوس إلى أنوالها ليل نهار حتّى تؤجل الانقضاض على نظافة الجسد والروح اللتين تريد أن تحتفظ بهما لذلك المسافر الذي لم تستطع كلّ المحن التي تعرّض لها أن تصيب ذاكرته بالعطب وتنسيه ذلك الرمز الأسطوري الذي يظل يطلق نداءاته التي تتحوّل إلى مراثٍ تحدث أكثر من طريق عبر جدران الريح لتصل اليه.. حيث تمنحه الإصرار على أن يبقى حياً من أجل لحظة اللقاء السعيد. من هنا تحوّلت حروف الشاعر إلى كنز من الأساطير والرؤى والأحلام بل وحتّى اللقاء مع رعب الاحتضار ومواجهة فيالق الزمن وقراصنته البارعين في القتل وتدمير أغنية الحياة التي يحاول الشاعر أن يمسك بطريقة إنقاذية ولو بفاصلة واحدة تعيد للإنسان ثقته بالحياة وبالعالم الذي يعيش.
(حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعة شاباً مقتولاً
قرب كنيسة أحزان العالم .......)
هذا هو زمن الشاعر.. إنه الزمن الشديد المغايرة مع تلك اللحظات الآليّة التي تلفظها الساعة كما يلفظ آكلُ التمر النوى.. الزمن هنا هو لحظة قتل الإنسان.. قتل الشاعر ذاته الذي يحاول أن يعطي للساعة التي تكون شريحة صغيرة من شرائح الزمن رمزها الدلالي المتحوّل فنياً إلى معادل حي أو كائن إنساني لقي حتفه على يد الزمن ذاته.. إنه استخدام استثنائي لموت ربيع الإنسان والتوقف الأخير لعقارب خطواته التي ظلت تحاول أن تترك فوق الطريق علامات لزمن لا يناله الهرم. ولكن هذا الزمن ممثلاً بالساعة انتهى كما جثة أنزلت للتو من خشبة صليبها كما هو في قصيدة (أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج).. وفي قصيدته (هو أزرق وأنتِ زرقاء) يضعنا أمام مقاربة لونية تجمع بين لانهائية البحر وألوانه وتضاريس جسده المائي وبين هذه القارة الهائلة التي نسمّيها المرأة حيث تقاطيع الجسد البحري الذي لا يعبره أحد الاّ ويكون مصيره الغرق. ولكي يؤكّد الشاعر أزلية المرأة ولانهائيتها كما هو البحر.. فإنه يدوّن وبإحالات إيمائية شبيهة بحركات الراقص التعبيري إلى بعض ممن أخذتهم المرأة إلى أعماق تيارات جسدها التي تدوّم كزوابع قطبية حيث (أيوب) و(أتونابشتم) الذي نفته الآلهة.. وجلجامش (الذي يشكل إحالة ترميزية للشاعر ذاته فكلاهما يبحث عن وطن أسمه المرأة) الخلود.. والتي يخاطبها قائلاً:
(أنتِ تشبهين البحر
لاشك في ذلك
ولكن أيّ معنى يختفي خلف هذي الحقيقة؟)
تحوّل آخر من تحوّلات المرأة عند الشاعر تمثّله قصيدة (تمثال) إذ أن كلّ ما أدهش الشاعر من التماثيل التي مرّ بها عبر مسالك ذاكرته قد تحطّمت.. وتدحرجت رؤوسها.. ولم يبقَ منها سوى بضعة أحجار باردة كأجساد الموتى.. تمثال المرأة وحده هو الذي ظلّ متماسكاً في ذاكرة الشاعر المسكونة بالموت والمنافي.. ولم تقوَ فؤوس الزمن على تدميره.. وهذا ما يجسّد عذابات الشاعر وأحزانه لأنه لا يملك قدرة –بجماليون– حتّى يبعث الحياة في تمثال تلك المرأة البعيدة:
نعم
كلّ تماثيل ذاكرتي
كانت مهشمة، بدون رؤوس
وحده تمثالك
كان كاملاً
ولا ينقصه إلاّ الكلام!
في هذه اللوحة التعبيرية المدهشة.. يكثّف الشاعر أديب كمال الدين رؤيته الإبداعية لعالم المرأة الذي يظل عصيّاً على الاندثار أمام كلّ الأزمنة.. وكلّما حاولنا أن نهشّمه بمعاول أنانيتنا وجهلنا ظل يحنو علينا.. وهو هنا يحيل وعينا إلى أساطير الطفولة ليبعثها حيةً من خلال قلب الأم الذي ظل يبكي الابن الذي أجهز على حياتها.
في قصيدته (يا بائي وبوابتي) نجدنا نقف أمام مكابدات الصوفيين رغم أبنية القصيدة المجسّدة حسّياً.. حيث يدخل الشاعر في تجربة ذاتية يتجاذبه فيها قطبان: قطب المرأة كجسدٍ شهي يفتح للشاعر جداول خموره وعسجده وضفاف بحيراته الدافئة.. وقطب جسد المرأة المغاير والمعمّد بإلوهية تعبّدية تحرر الشاعر من كثافته المادية وتحوّله إلى كائن أكثر شفافية من أحلام طفولة الحياة:
(يا مَن قتلتني في العشرين
وظلت تلاحقني حتّى السبعين
أما مِن راحة؟)
في قصيدته –جثة في البئر– يفيد الشاعر من الموروث الشعبي موظفاً إياه بطريقة ترميزية تقارب بين ماهو أسطوري مثيولوجي وما هو ديني. لكن من خلال تجريد ـيوسف - المعادل التأويلي من قداسته واستبداله (بيهوذا) قاتل يسوع.. وعبر بشاعة الاستبدال يخلق الشاعر معادلاً رمزياً لشرط استمرار الحياة.. وحين يكون النص منبثقاً عن انثيال ذهني عفوي فإنه ينفتح على أكثر من قراءة حتّى يتحوّل إلى رؤية مستقبلية لعالم يقتل نفسه بنفسه ويأكل جثة أخيه.. وحده الشاعر يرتضي الموت عطشاً حتّى لا يرتكب معصية أخوة (يوسف) الأول.. وهو يومئ هنا إلى قداسة الإخلاص إلى مَن يحبّ حتّى لو أوصله إخلاصه ذاك إلى الموت عطشاً في حضن الصحراء:
(أمّا أنا فاخترتُ الصحراء هذه المرّة
قلتُ لنفسي
وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي:
نعم
العطشُ أرحم
الموتُ - أعني الصحراء - أرحم .....)
وحين يرى الشاعر إلى جسامة الأدوار التي كُلِّفَ أن ينهض بها وهي أدوار أولئك الأولياء والصوفيين والشعراء المعذَّبين.. والذين انتهت حيواتهم نهايات تدميرية.. يهتز من مأساوية هذا الدور.. كما في قصيدته (اذهبوا إلى الجحيم) ويحاول أن ينهي دوره بأسرع مايمكن.. فمن العبث أن يُكلَّفَ بهذا الحمل المأساوي من الآلام والجراح وأعواد الصلب والحرق وذرّ الرماد في مياه الأنهار.. إنه لشيء موجع أن تؤول اليه كلّ هذه المواريث التي لا تمنحه شيئاً سوى الموت والخراب الروحي.. وهذا مايجعله وهو مشرف على الهزيمة أن يردد صيحة (بتهوفن) لحظة احتضاره (لقد انتهت المهزلة صفّقوا يارفاق) لكن ولأنه يرفض أن ينهزم يترك (بتهوفن) وراء ظهره من أجل أن يتلبّس بسالة (شكسبير) ويردد قولته الشهيرة (نكون أو لا نكون):
(كلّ شيء تبخّر في هدوءٍ عجيب
صفّقوا أيها الأصدقاء
صفّقوا..
إنها ساعة الافتراق
ساعة الرعب
ساعة أن نكون أو لا نكون).
وأخيراً يستعرض الشاعر رحلته عبر أقانيم الزمن ليخطّها في مدوّنة شجرته الوحيدة.. هذه الشجرة التي تعادل أزلية الشاعر ولا نهائيته.. فهو الذي بدأ منذ رحلة الخلق الأول.. حيث غرق أكثر من فلك يجلس فوق دفّته مَن يحملون سحنة نوح ورواة الطوفان.. إنه كتاب الخليقة التي لايمكن لها أن تدوّن وقائعها من دون أن تجعله جزءاً من كوارثها وطوفاناتها وموت كلّ الأنبياء الذين كانت تستنجد بهم.. إننا هنا أمام كلّية أزلية تمتد من اللانهاية إلى اللانهاية. مع هذا فهو لا يملّ من انتظار قيامة الحياة ممثلةً بتلك المنتظرة التي لا تجيء والتي تتخطّى قدرة الشاعر على توصيفها.. إنه انتظار شجرة وحيدة في الصحراء والتي تكون هدفاً للصواعق التي تبحث عن أيّ شيء مرتفع حتّى تنقضّ عليه.
إنّ الشاعر أديب كمال الدين.. يصل في مجموعته الشعرية هذه إلى مستوى إبداعي يتحوّل فيه الحقل اللغوي إلى حقل شعري بالغ الكثافة.. إنه هنا أشبه بالصياد الذي يلقي شبكته في المياه العميقة.. وما يستخرجه من صيد يرميه في زورقه.. وهو لا يفصل بين مكوّنات صيده ولا يفضّل بعضه على بعض.. فكلّ ما يدخل في بناء قصيدته حتّى أكثر أنواع صيده رثاثةً يتحوّل إلى لقى ثمينة وأغان بالغة العذوبة والألم.
دلالات الألوان في مجموعة:
(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)
عبدالرزاق الربيعي
ص 105- 114
تمثل الألوان ملمحاً جمالياً في الشعر العربي منذ القدم، ورغم فقر الصحراء العربية بالألوان إلاّ أن نصّ الشاعر العربي القديم جاء حافلاً بالدلالات اللونية، ربما تعويضاً عن جدب الواقع وجفاف الصحراء، فقد تتبدل صورة المحبوبة ولواعج العاشق تبعاً للون الخمار. فالشاعر يقول:
قل للمليحة في الخمار الأزرقِ بالله مهلا واشفقي وترفّقي
إنّ المحبَّ إذا جفاه حبيبــه هاجت به زفرات كلّ تشوقِ
فبحقِ حسنكِ من جمالٍ زانه هلاّ رثيت لقلب صبّ محرقِ
لكن الدلالة تتغيرعندما ترتدي لوناً آخر هو الأسود:
قل للمليحة في الخمارالأسودِ ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبدِ
قد كان شمرّ للصلاة ثيابه حتّى وقفتِ له بباب المسجدِ
إنّ صلة القربى التي تربط الشاعر بالفنان التشكيلي لاشتراكهما في الصورة سمحت للون أن يتسلل إلى هذه الصورة ليعمّقها ويشحنها بدلالات عديدة أغنت النص الشعري الحديث وجعلت اللون ملمحاً جمالياً ودلالياً واضحاً في هذا النص. دارت في رأسي هذه الأفكار وأنا أرى سبعة نصوص من مجموعة: (ما قبل الحرف..ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين المؤلفة من أربعين نصاً والصادرة عن أزمنة للنشر والتوزيع في الأردن قد وضعت الألوان عنواناً لها وهي: (خنجر أسود.. صرخة بيضاء)، (هو أزرق وأنتِ زرقاء )، (مطر أسود.. مطر أحمر)، (حصانان أسود وأحمر)، (امرأة بشعر أخضر)، (حقائب سود).. هذا التركيز على الألوان جعلني أقرأ المجموعة ككل قراءة لونية محاولاً معرفة دلالاتها الفنية والنفسية والكيفية التي وظف بها الشاعر هذه الألوان في نصوص هذه التجربة التي كتبها في أستراليا حيث يقيم الشاعر فيها حاليا منذ عام 2003 . وكما هو واضح فقد ركّز الشاعر على اللون الأسود بالدرجة الأولى ويليه اللون الأحمر ويليه الأبيض والأخضر والأزرق والأصفر. هذا التردد اللوني يجعل من القتامة مسيطرة على تجربة الشاعر فهو لون الخنجر والمطر والحقائب والحصان .وقد تنسكب عدة ألوان عند فتح حقيبة لونية واحدة كما في نصه (هو أزرق وأنتِ زرقاء) و اللون الأزرق من الألوان الباردة وهو لون السماء والبحر والتفاؤل، إنه لون الامتداد الذي لا نهاية له البتة كما يقول:
أنتِ تشبهينَ البحر
لاشكّ في ذلك!
لكنْ أيّ معنى يختفي خلف ذلك البحر؟
خلف تلك الزرقة العجيبة التي تبدأ
لكي لا تنتهي
أو تنتهي كي تبدأ من جديد
خلف تلك المراكب الضائعة
والبحّارة الذين يرقصون أو يبكون
على سطح سفنهم المبحرة أبداً
خلف تلك المدن التي تنتظرهم لتنساهم أبداً
خلف ذاك البياض الذي لا أفهمه
خلف ذاك السواد الذي لا أتقبّله
خلف ذاك الاحمرار الهابط الصاعد.
وتحتشد الألوان في نص عنوانه (ألوان) تكون الغلبة فيه للون الأبيض الذي استهلكه الشاعر أمل دنقل في إحدى نصوص مجموعته الأخيرة (أوراق الغرفة 7) حين كان البياض يحيط به من كل جانب: ثياب الممرضة ولون كأس الحليب والمصل والطبيب. لكن الشاعر أديب كمال الدين يعطي للون قيمة رمزية ضمن سياق سردي يضجّ بالعديد من الأسئلة المغلقة حيث يقول:
قال الطبيبُ الذي يرتدي قميصاً أبيض
وبنطلوناً أبيض
وحذاءً أبيض
* هل كانت طفولتكِ بيضاء؟
_ (لا)
* هل كان شبابكِ أبيض؟
_ (لا)
* هل كانت شيخوختكِ بيضاء؟
_ (لا)
* قال الطبيبُ: إذن ماذا تنتظرين؟
_ قالت :(أنتظرالموتَ ليأتي ويأخذني
مرتدياُ طفولةً سوداء
وشباباُ أسود
وكهولةً سوداء.)
وهنا يظهراللون الأسود ليبسط سلطانه على الجزء المتبقي من النص لتتحول الدلالة من الطفولة والحياة والبراءة إلى الموت:
مدّ الطبيبُ يده ذات القفاز الأبيض
إلى الضحية
فأبعدها الموتُ برفق
كان الموتُ يبكي على الضحية بدموعٍ سود.
لكنّ الضحية نفسها
وجدتْ في الأسود،
في آخرِ المطاف،
طمأنينةَ الألوانِ كلها.
وهكذا يجد الطمأنينة في الأسود الذي هوأشد الألوان عتمة، وهو نقيض الأبيض في كلّ خصائصه وهو يحتل المرتبة الأولى في قائمة الألوان ويتعانق مع الأبيض الذي يعد أول الألوان الموسومة بالفئة الباردة التي تثير الشعور بالهدوء والطمأنينة في نص (خنجر أسود .. صرخة بيضاء) والذي به نرى الشاعر يتبع تلك "المرأة " الغامضة بل المجهولة التي لا يعرف من تكون ولا يعرف سرّها وفحواها وهي تـنتـقلُ من شارعٍ إلى شارع، ومن زمنٍ إلى زمن، ومن منفى إلى منفى. لكنه حين يقترب من سرّها يلتفت ليرى خنجراً أسودَ يثقبُ ظهره ويرى صرخةً بيضاءَ تخرج من فمه وتتناثر كالزجاج. لكنه بمواجهة هذا المشهد القاتم الذي يفيض بالخوف كان فرحاً كطفل حقيقي في قصيدة (امرأة بشعر أخضر) حيث يلتقي بصورة أخرى للمرأة: الحياة. فإذا كانت المرأة: الحياة مجهولة في قصيدة (خنجر أسود.. صرخة بيضاء) فإنها هنا واضحة وضوح الموت البدائي النزق الساذج الذي لا يكفّ عن إطلاق القهقهات الفارغة من كلّ شيء. يقول:
فيما كانت المرأة بشعرها الأخضر المتطاير
بثدييها العاريين
بعينيها الكبيرتين
بملامحها الساذجة
تسوق السيارة بسرعة
لتطلق قهقهاتها الفارغة من أيّ شيء.
هنا يفرغ اللون الأخضر من محتواه ليرتدي لوناً مخادعاً يحاول أن ينصب له (فخّاً) في حديقة صيفية فيجلس كما في نصه (فخ):
وسريعاً جلستُ في حديقةٍ صيفية
لأرى بقلبٍ أزرق
الوحوشَ وهي تحتفل
لتطلقَ كالبالوناتِ قهقهاتها وترّهاتها
وسريعاً
توهّم الطفلُ في داخلي
انه يستطيع
أن يمثّل – مثلكِ – دورَ الوحش
وسريعاً
تركتني وحيداً
في غرفة سوداء بفندق يطلّ على نهر العذاب
تركتني أزحفُ إلى جهنم زحفاً
تركتني أتدرّبُ على دورِ الميّت
حتّى الموت.
ولا يرد أيّ لون في نص(حقائب سود) إذ إنّ الشاعر فقط يكتفي بألفاظ دالة على السواد فهذه الحقيبة هي:
حقيبة الأسقام والأوجاع
حقيبة مَن ينتظر اللاشيء
أعني مَن يريد أن لا ينتظر شيئاً
ومَن ضيّع عمره في الانتظار.
ومعي حقيبة المنفى
حقيبة العذاب المسلوق والمملّح.
ويظل في غمرة هذه الألوان يحلم بتلك الشمس المتقلّبة كموجةِ بحرٍ تولد من اليمينِ إلى اليسار ليتدرج من الأزرقِ إلى الأصفر، فهذا الانتقال هو بمثابة الانتقال من الوقوفِ إلى الهرولة. فاللون هنا يكتسب صفة حركية متبدلة متغيرة تبعا لتغير حالات الشاعر ومزاجه الذي يعلّقه على عتبة الألوان فلكلّ حالة لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة الشاعر للعالم والوجود فالألوان تصبح هنا مرايا عاكسة لذات الشاعر وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن ومن العشق والوله إلى اللامبالاة والتيه ومن الوطن إلى المنفى. وفي نصه (مطر أسود. . مطر أحمر) يستدعي من الذاكرة صورة المطر الأسود الذي سقط على بغداد عقب حرب الخليج الثانية عندما تشبعت الغيوم بخان الحرب والنفط والموت، وحين ألقت الغيوم حمولتها المائية سقط مطر أسود على البيوت والأشجار والنوافذ. هذه "الشظية" أسس عليها الشاعر أديب مشهداً كاملاً يفضح عبثية الحرب ومغامرات (صاحب الجند) الذي جعله رمزاً للطاغية الذي يرسم له صورة كاريكاتيرية ساخرة هي أقرب لصورة الدون كيشوت عندما يقف في مقدمة الصفوف:
ممتطياً حصانه الأبيض مزهوّاً
ونحن من خلفه نجرّ أقدامنا جرّاً
حفاةً، شبه عراة
قال، حين ظهرتْ مآذنُ المدينة،
"سأختارُ لكم موتاً جديداً".
فضحكنا
وتساءلَ الشيوخُ منّا
عن الموتِ الجديدِ وَجلين
أما نحن، خيرة الجند،
فتصوّرنا الأمرَ مزحةً عابرة.
ويواصل الشاعرُ الوصفَ بنفس سردي:
مرّت سنين طويلة
حتّى غطّتْ بغداد
غيمة لا أوّل لها ولا آخر
وبدأتْ تمطر
كانت الغيمةُ سوداءَ كجهنم
فنزل المطرُ أسودَ كالقير
ضحكَ الأطفالُ أوّل الأمر للمطر
لكنهم بكوا
حين أصبحتْ وجوههم كالقير
واستبشر الزرّاعُ خيراً
لكنهم وجموا إذ رأوا أشجارهم
تموتُ ببطء
ثم جاء الدورُ للسحرة الذين وقفوا
في أزقة المدينة
ينتظرون المطر ينزل في أوانيّهم.
كانوا يرقصون
فهذا المطر رديف للسحرالأسود
قالوا انهم سيسحرون به كلّ شيء
حتّى صاحب الجند نفسه!
ويعود رمز (صاحب الجند) في نص آخر هو (شعراء الحرب) الذين فرّوا إلى مشارق الأرض ومغاربها حين ألقى البحّارةُ أصحابُ العيونِ الزرق – وهي إشارة واضحة لا تحتاج إلى تفسير– القبض على صاحب الجند هذا، حيث فرّ كبير شعراء الحرب إلى بلادِ الظلام وفرّ صغيرهم إلى بلادِ الضباب والثالثُ إلى بلادِ الواق واق والرابعُ إلى بلادِ الأسكيمو والخامسُ إلى بلادِ الراياتِ السود والسادسُ إلى بلادِ الراياتِ الصفر والسابعُ إلى بلادِ الفلافل والثامنُ إلى بلادِ القلاقل والتاسعُ إلى بلادِ العماليق والعاشرُ إلى بلادِ المنجنيق. وهكذا انتشرت جرثومةُ الحرب في أرضِ اللهِ كلها! ولأنّ صاحب الجند الذي يمتطي الحصان الأبيض لم يأتِ إلاّ بالمطر الأسود والويلات واللافتات السود على الجدران وثياب الحزن السود، لذا يختار الشاعر الحصان الأسود حالماً بغيمة بيضاء تمطر حبّاً وسلاماً في نصه المعنون (حصانان أسود وأحمر) لكنه سرعان ما يتحول عنه إلى الحصان الأحمر الذي لم يكن سوى رمز للحبيبة المختفية في سراب الصحراء:
كنّا نجلسُ عاريين في الصحراء
حين اقترب منّا حصانان أسود وأحمر
فقمتِ بعينين دامعتين
وقبلتني القبلة الأخيرة
فدهشتُ
ثم امتطيتِ الحصانَ الأسود
وقلتِ بصوتٍ مرتجفٍ: وداعاً
فذهلتُ
لكني قلتُ لنفسي
سأمتطي الحصانَ الأحمر
إنْ عصفَ بي الشوق
وعذّبني الحبّ
هكذا اقتربتُ من جسدكِ العاري
لأقبّل شفتيكِ وثدييك
ولأراكِ تختفين مثل سهمٍ في الصحراء.
لكنه يستفيق ليجد أن الشمس التي شبهها الشاعر بـ(أسد أحمر) وهو تشبيه ممهور ببصمة الشاعر، قد غابت:
مرّت ساعاتُ الذهول
ساعة إثر أخرى
وأنا أنظرُ إلى جسدكِ العاري
يمتطي الحصانَ الأسودَ ويختفي في الأعماق
ثم سرعان ما عصفَ بي الشوق
وعذّبني الحبّ
فالتفتُ إلى حصاني الأحمر
لم أجده
ووجدتُ الشمسَ تغيبُ على امتداد الصحراء
مثل أسدٍ أحمر.
واللون الأحمر من الألوان الحارة التي تستمد ألقها من وهج الشمس، واشتعال النار، والحرارة ومن هنا فالشاعر يدخل الحقل الدلالي نفسه عند بحثه في المشبه والمشبه به عن وجه الشبه لكن الحبيبة الغائبة تعود اليه بشعر أخضر، واللون الأخضر هو اللون الوحيد الذي إذا ما طغى على كل الألوان الأخرى فإنّ الإنسان لا يحسّ بأيّ ضيق أو ملل، كما يؤكد علماء النفس. وهناك ألوان غير معلنة: ألوان مضمرة تظهر في جملة هنا وصورة هناك في أغلب نصوص المجموعة، ففي نص (ساحر) يعزف هذا الساحر أو الشاعر موسيقاه الشجية فتتساقط من حوله بالونات الأعياد والفراشات الملونة لكنه عندما عزف للموت أحاطت به الجثث، وهنا يظهر اللون الأبيض واللون الأسود ويدخلان في صراع تكون الغلبة فيه للأسود الذي استفز الشاعر في نص آخر عنوانه (سؤال) حين ذهبَ إلى البحر وقت الليل (هنا إضمار لوني) لكنه لم يجد أحداً بل وجد سفينة على وشك الإبحار فرماها بحجر فكسر شبّاكاً لكنه لم يعرف إن كان شبّاك القبطان أم المرأة أم الكلب؟!
ويتجسّد حضور الألوان بشكل غير معلن في نص (مسلسل) من خلال احتشاد لفظي تمثل بـ: طاغية ووحوش وأغلال وبحّارة بعيون زرق وطيور ذات أجنحة أسطورية ودشاديش قصيرة وعمائم ويأس ودم ويكرر اللفظة الأخيرة ثلاث مرات مشيراً إلى غلبة اللون الأحمر على المشهد اللوني العام، مثلما يهيمن في نصه: (قصيدتي المغربية) عندما يكرر مفردة نار تسع مرّات:
أهبطُ معي نار الغزاة
ونار البدو
ونار الهنود الحمر
ونار سحرة داود
ونار القراصنة
ونار الفراعنة
ونار أنكيدو وكلكامش
ونار أور وبابل
ونار آلاف المشاعل.
ويتساءل في نصه (اذهبوا للجحيم) :
مَن سيضع لنا الموسيقى التصويرية
لنرى دم أوديب يتدفّق من بين عينيه؟
مَن سيصمم الملابس للساحرات
وماكبث والمهرّج والشريف الرضيّ؟
إنّ قراءة مجموعة :(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين يعني التجوال في حديقة مليئة بالألوان الباردة والحارة، الهادئة والوحشية، الصامتة والضاجّة بفوضى الواقع وصخب العالم، تبعا لتبدلات حياة الشاعر وانتقاله من الوطن إلى منفى قصي له خصائصه المختلفة التي وجد في الألوان تجسيداً لها، فجاء كلّ لون يحمل إشارة رمزية دالة على صورة ذهنية معادلة للواقع الذي يمثل مادة لونية ثرية تقوم بصهرها المخيلة ليرسم صورة عالمه الشعري الغني بألوان الحياة.
(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)
تشاكل المعنى.. تباين المضمون
خليل إبراهيم المشايخي
ص 115 - 120
من خلال ما يولده التشاكل والتباين لدى المتلقي تراكم تعبيري مضموني تحتمه طبيعة اللغة المستخدمة لإنشاء النص، ستكون قراءتنا لنصوص ديوان (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين، الصادر في عّمان- الأردن/عن دار أزمنة / عام 2006.
يستدعي هذا الديوان من الباحث أو المتلقي أنْ يقف عنده أكثر من وقفة لسبر أغوار نصوصه، وكشف دلالاتها، ومعرفة رموزها، وسّر حروفها، والمهيمنات التي تسيطر عليها، واستبيان زمكانيتها.
نلحظ أن الشاعر في كثير من نصوصه يعمد إلى ممارسة الترميز باستكناه سرّ الحرف العربي وسحريته ومدياته الدلالية.. وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس.. مفجّراً عبرها ينابيع الخيال بدفق حيوي.. قادحاً شرارة الوجدان للولوج إلى اللاعقلاني للدلالات.. وصولاً إلى عكس التأثيرات النفسية للواقع الإنساني..
جاءت نصوص الشاعر أديب كمال الدين زاخرة بالمعاني المستقلة العميقة التي تتماثل مع فكره الإنساني، جاعلاً لغته منصفة للواقع الفكري المعاش. إنَّ كل نص من هذه النصوص يستدعي من المتلقي وقفة متأنية تتسم بعمق التأمل.. وصولاً لاستقراء ثيماته المبثوثة عبر كل نص ومعانيه وصوره وأساليبه البلاغية، وهذا ما جعلني أركّز على النص الأول (أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج)..على أمل مواصلة دراسة النصوص الأخرى.
يكشف هذا النص بوضوح عمق معاناة الشاعر في زمن أعلن عنه الشاعر من خلال العنوان.. زمن ساد فيه الأوغاد والسذّج والمنفيون داخل إنسانيتهم ليبحروا بها صوب حياة توفر لهم (عسل الوحل، وريش البوم) وكان الشاعر واحداً منهم أو جزء منهم، فكما قال أحد علماء التربية: (قلْ لي مَنْ صديقك أقول لك من أنت) وهذا هو سبب رئيسي لمعاناته فهو محاط بهذه الزمرة من الأصدقاء. فضَّ الشاعر ديوانه بهذا النص لأهميته عنده، وقد استهله باستخدام الظرف الزماني (حين) لكسر فاعلية الفعل الماضوي، وحرصه بأنْ يبدأ كلامه بهدوء نسبي:
(حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعة شاباً مقتولاً
قرب كنيسة أحزان العالم)
نلحظ من خلال ذلك أنّه مهّد لتشكيل صوري، وإيقاع نفسي بتلاحم الظرف مع الفعل لفتح مساحات دلالية وبلاغية يستطيع بوساطتها الهيمنة على الإيقاع المتداخل مع إيقاع بنائه الشعري ذي التخطيط الهندسي الفني، لذلك يتصاعد البناء بهذا التأسيس المتين بمهارة عالية، وفنية جمالية آسرة منذ الشروع بالبناء. هذا ما دعاه إلى استخدام أسلوب بلاغي مناسب لبنائه الهندسي هو الانزياح.. تداخل الزمن (الساعة) بالحياة في وحدة واحدة مع الإنسان.. وبخبرة شاعر متمكن يفاجئ المتلقي بإعلانه عن توقف الزمن: أنَّ الساعة غير الساعة وهو لما يزل في عنفوانه.. وقد أضفى على كل ذلك دفقة حيوية فاعلة باستخدام الظرف كلبنة أولى في التأسيس لينمو عبرها الحدث بعد أنْ أعلن مكانه وحدده (قرب كنيسة..) وكأنّي بالشاعر أراد بهذا إبعاد وقوع الحدث الأسمي والجرمي (مقتولاً) عن المكان المقدس (كنيسة)، ليخبر المتلقي أنَّ الحدث لم يتم في الكنيسة وإنّما خارجها، حتّى يحتفظ المكان بقّدسيته وطهارته.. ولجعل الارتباط قائماً بين المكان القدس والزمن (المقتول)، حاول أنْ يخبرنا أنَّ أصدقاءه الأوغاد علموا مكان الجريمة بشئ من لوازم المكان المقدس ألا وهو (صليب خشبي). لقد تمكن الشاعر من أنْ يهيئ للمتلقي جواً جنائزياً معاشاً ينث عطراً متشحاً بالسواد ومكللاً بالورد وبالأسى مثلما نراه حقيقة في المشاهد الجنائزية المسيحية بالاعتماد على تعابير موحية ولغة شفافة سلسة مفممة بالأحاسيس يتساوق الإيقاع الداخلي فيها أفقياً ليزيد قصدية عباراته بهاء وألقاً. وليحكم بناءَه الهندسي في آخر المقطع لجأ إلى (مقول القول) مستخدماً أسلوب الاستفهام على لسان أصدقائه ليبعد أنساق تعبيره عن هوة الغموض ويكتفي بحضور التأويل في باطن البنية الكلامية ليثير شغف المتلقي ويستفزّ مشاعره كاشفاً سذاجة أصدقائه وجهلهم:
(جاء أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج
ووضعوا صليباً خشبياً
قرب دماء الجثة
ووضعوا ورداً لا اسم له
وآساً وفاكهةً معفّرةًً بالتراب
قالوا: مَنْ هذا المقتول؟
وما معنى الساعة؟) ص9
حاول الشاعر أن يجعل المركز الذي انفجر منه المعنى بهذين السؤالين عن العاقل وغير العاقل ممسكاً فضاء النص بزخم دلالي كبير. وفي المقطع الثاني يبدأ الشاعر بناءَه الفني بالظرف نفسه وبالحدث الماضوي نفسه المسند إلى الفاعل الظاهر تعقبه فضلة وهي (شبه الجملة) جعلها الشاعر من أساسيات البناء اللغوي بحيث يتخلخل المعنى ويتصدع البناء الدلالي إنْ تمَّ الأستغناء عنها.. إذ يستدل فيها بالذات غير العاقلة (الساعة) وهي الذات المهيمنة (الدال) على الذات العاقلة (المرآة) المدلول جاعلاً من ذلك بؤرة التركيز ليتمكن عبره من أنْ ينثَّ أفكاره منصهرةً بمعاناته وملونة بآلامه جرّاء ما حصده من ماضٍ كان هو أحد أبطاله المنشدين له..ويمكن أنْ يستشف ذلك من خلال تركيز الشاعر على إستخدام الحدث الماضوي بشكل مكثف: (جلست – كانت – جاء – قالوا ...)
(حين جلستُ إلى المرأة
كانت جسداً بضّاً
من عسلِ الوحلِ وريشِ البومة
كانت ملآنةً بالعريّ الذهبيّ
وبالعريّ الفضيّ وبالعريّ الأسود..) ص10
قد يعنُّ على ذهن المتلقي سؤال: أنّي يكون للوحل عسل؟! لكنَّ الوقوف ملياً أمام هذا التعبير وقراءته قراءة متأنية واستحضار الزمن الصعب، سيجد المتلقي أنَّ الشاعر استخدم الترميز بشكل واضح لا يرهق ذهن المتلقي وصولاً إلى الغاية التعبيرية..
استخدم الشاعر الكناية عن دربة ودراية لما فيها من إنتاج دلالي موازٍ لسطحها وهو (الملزوم)، وإنتاج دلالي مستبطن فيها وهو (اللازم)، أي المعنى اللغوي (الظاهر) والمعنى (الما ورائي) للغة الذي يتوصل إليه ذهن المتلقي.. إذ يقوم بحركة ذهنية تراجعية يتمكن أنْ يفهم أنّ الشاعر أراد الأخبار عن مغريات الحياة التي عاشها فعلى الرغم من مغرياتها لكنها حياة مفعمة بالذل والهوان:
المرأة < الجسد البضّ < الأغراء < السلطة المهيمنة
لقد وفّق الشاعرالإخبارعن السلطة المهيمنة (المرأة) بالتعابير اللونية بترميز دلالي واضح:
الذهبي < المال + الجاه + العيش الرغيد
الفضي < الحياة اللينة / الناعمة / الهادئة
الأسود< الكبت + الظلم + الهوان
فإذا كان الإنسان يأتي إلى الدنيا حراً ويغادرها حراً فأنَّ الشاعر أديب كمال الدين في مخاطبته لله تعإلى دون التصريح باسمه يغاير هذا القول لأنه بمجيئه ومغادرته كان مقتولاً وهذا وحده كاف أنْ يثير العجب!
(آ...
كيف يكون –
يا مَنْ قال : "كنْ فيكون" –
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضاً ؟!) ص11
بهذا التخطيط الهندسي الذي يدل على دربة ودراية يؤسس الشاعر لبناء الجزء الرابع من صرحه الأبداعي.. كاشفاً عبر ذلك سرّ عذاباته ومعاناته وآلامه؛ وأنه ما عاد يستذوق العسل الذي عرف مصدره ، لكنَّ أصدقاءه الذين استعذبوا عسل الوحل:
(واحتجّوا على متن النص:
أخرج أولهم سكيناً ليهددني
وقام الآخر بشتمي
وقام الثالث بكتابة تقرير سحريّ أو سريّ
عن غيمتي الخضراء
ودرجي الهابط إلى الأسفل
وأيامي: أيام الريش.)
نجح الشاعر في أنْ يجعل المتلقي يعيش عذاباته ويحس بمعاناته.. فأيام الشاعر (أيام الريش) ما عادت (أيام ريش البوم) وأكله ما عاد من (عسل الوحل)، صارت أيامه غيمة واعدة بالخير والنماء والبركة، ويصل النص إلى ذروته في المقطع الخامس إذ يبدأ الشاعر بدفقة شعرية هادئة مستغلاً الزمن كعنصر إثارة لفكر المتلقي كي يوقظ فيه إحساساً بالتأمل على مهل في تساوق الزمان والمكان:
(بعد سنين من كتابة نصي هذا
قُتِلتُ قرب نهرٍ ميت
في آخرِ قارّاتِ العالم)
لقد وفق الشاعر في تفعيل الحدث الماضوي وجعله أكثر تأثيراً في نفس المتلقي ببنائه للمجهول مرتكزاً على المكان لجعل بؤرة التركيز كامنة في الدلالة المكانية (قرب نهر ميت – في آخر قارات العالم)، فالنهر الذي هو رمز العطاء والخير والبركة وعنفوان الحياة أضحى مجرداً من كل ذلك..
وبما أنَّ الحديث عن سرّ الحرف ومعنى النقطة استخدم في كتابات الصوفيين والعرفانيين وعلماء اللغة العرب في عصور مختلفة وبطرائق مختلفة ولأغراض كثيرة وهذا يدل دلالة واضحة على أنَّ الشاعر أديب كمال الدين قد استفاد من ثقافته التراثية والمعاصرة مما جعله ذلك يبرع في استخدام سرّ الحرف ومعنى النقطة بما يوافق الضمير الإنساني الحي نائياً به عن (عسل الوحل – وريش البوم) فلم يعجب ذلك أصدقاءه الأوغاد:
(قالوا: لم نفهم ما قال!
كان يكتب حروفاً ونقاطاً صوفية
ويصف الدنيا كسريرِ امرأةٍ من عسلِ الوحل.
........
قالوا: لم نفهم!
هل كان إلهياً أم كان خرافياً؟
إنسياً أم جنيّاً ؟!)
لقد تميزت نصوص هذه المجموعة بقوة التعبير، وصدق المشاعر والأحاسيس وبلاغة الترميز وهيمنة الشاعر على الإيقاع الداخلي وانسيابيته منصهراً مع الإيقاع الوزني الذي اختاره لنصوصه ببراعة فنية فائقة وبعزف ساحر على أوتار الحرف وقيثارة النقطة. وأراني لا أبتعد عن قول الحقيقة لو قلت أنَّ هذا النص يقف في مقدمة النصوص التي يمكن أنْ تدرج تحت عنوان (نصوص ما بعد الحداثة الشعرية العربية).
كشف دلالات المعنى الشعري
زهير الجبوري
ص 121 - 125
حين يرقى الفن الشعري بالأحاسيس ويشذّبها، تنفتح العديد من المدارك والهواجس في تناوله أو تذوقه.. فالكلمات بإيقاعياتها المؤثرة تعطي للمتلقي ميزة الاستسقاء من محيط الجمال الفني في هذا الشعر مهما كانت طرق طرحه أو إلقائه. وليست المسألة تكمن في كشف هذه الجماليات وحسب، وإنما في عملية خلق إيقونات غير مألوفة في ذلك، تتكرس فنياً في صياغة المعنى، وكشف دلالات تدخل في بنية اللغة وآلياتها الحرفية، وهنا ندخل إلى شعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة).. وحين نضع الشاعر(أديب) في خبرات فنية لشعرية لم تهدأ في البحث عن مكامن وأسرار الحرف العربي، فأننا نرافقه بعيون راصدة لكشف خفايا كتابة النص الشعري وتشظياته المعرفية لديه، كما إن تمثلاته في تشكيل الصور الشعرية النقية، أعطت انزياحاً واضحاً باستخدام الحروف كشفرات للدخول إلى المتن.
وثمة إشارة سريعة لشعر (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)، إنها تحمل أسرار الكشف عن صياغة (معنى)، لتتحول وظيفة الحرف كمعطى أيديولوجي.. لتصبح العملية مبطنة، شاعر يكتب حرفاً.. وحرف يكشف معنى، وهذا بحد ذاته يعد إثراءً شعرياً مؤطراً بالعديد من آليات الاشتغال الشعري الحديث.
إنّ نصوص هذه المجموعة ليست سوى تنويعات متجانسة لمحورية (ممركزة) تنفجر لحظه انفعال هذه المحورية مع ذات الشاعر، فالحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصيته لتكون مهمته وظيفية، ولعلنا نجد التلاقح بين أدوات اللغة وبين حروفها تناظراً في خلق الرؤيا الشعرية، وليس الحرف جزءاً لا يتجزأ من منظومة اللغة، الحرف صفة رمزية، شكل لسحب المعنى .. والمعنى بكل ما جاءت به التعريفات (الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توفرها في الرمز حتّى يكون قادراً على حمل المعنى ) (د.أحمد عمر/ علم الدلالة ص11). ولكننا لا ننكر بأنّ السمة الاساسية التي طرأت في شعر أديب كمال الدين تعتمد بالدرجة الأساس على ذهنية عالية، وأعتقد بأن حداثة الشعر الحالي تسير بالخطوات هذه. ولنصارح الشاعر في قصائده هذه: إلى أيّ أفق يمكن أن ننظر اليه وسط تعدد ألوان قصائده، رغم الهاجس المشترك والإحساس بوجود نكهة مشتركة أيضا؟ وأقصد انّ الحروف كلها تتنازع الأداء ولكنها لا تنفصل عن حدودها المرسومة لديه - أي الشاعر- إذ نقرأ في نص (يابائي وبوابتي):
مع أنني أطلقتُ عليكِ اسم الباء
ثم أطلقتُ عليكِ اسم النقطة
(بعد أن قيل لي ان كلّ الباء في النقطة)
فإنني لم أشفَ من جراحي التي سببتها
سكاكينكِ وشراشفكِ وروائحك. (ص31 )
بتأثير الحس الصوفي المنطلق في استخدام (الباء) واستخدام (النقطة) تكمن المقارنة واللعبة الشعرية في تشكيل الصور كما ذكرنا. وحين تقف الحروف بهذه الطريقة فإنّ الانسلاخ المدروس في خلق العديد من الصور ينتقل لتصير أكثر مجازاً وانزياحاً:
كان المشهد أكثر كابوسية مما أحتمل
إذ كان يتطلّب أن أقلع عينيّ
كما فعل أوديب
وأن أقطع رأسَ الحروف
وأعلّقها على بواباتِ العبث
ولم تكن لديّ حروف بالمرّة .(ص32 )
من جانب آخر، هل يمكن أن نصف اشتغالات الحروف هنا على أنها أعطت فعلا (تشبيهيا)؟ فـ(التشبيه حين يكون معادلة واضحة النسب والدلالة طرفاه من جنس واحد) كما يقول الناقد (عبد الجبار عباس).. ولكن ميزات الإلقاء وتأثيرها على المتلقي، ضمن انفتاح الآليات الشعرية تستقبل رؤيةً جدّيةً من الشاعر أديب كمال الدين في محاولة تأسيس نمط شعري (منفرد) لتصبح الشعرية (شعرية/ تصميمية).. (شعرية/ موضوعية).. (شعرية/ شعرية).. واللمحة الابتكارية التي جاءت سريعة في تشبيه بعض قصائد هذه المجموعة تمحورت حول موضوعة (الضمائر)، ولكنها جاءت مطلقةً أيضاً، وتحمل دلالات مفتوحة بين(هو) و(أنت)، كما في قصيدة (هو أزرق وأنتِ زرقاء):
أنتِ تشبهين البحر في كلّ شيء
نعم،
هو أزرق
وأنت زرقاء
هو ساذج أخرق
وأنتِ ساذجة أكثر مما ينبغي (ص14).
(ثم بعدها تتكرر):
أنتِ تشبهين البحر
لا شك في ذلك!
ولكن أيّ معنى يختفي خلف هذي الحقيقة؟
لقد ضعتُ بين يديكِ قبل أربعين قرناً.(ص17)
فبين نسق الجملة داخل النص وبين تأطيرة المعنى المشفّر، ثمة ملامح واضحة من أداتي الإشارة (هو.. أنت)، لتصبح تعادلية بين(ذوات) فيها هواجس وأحاسيس، وبين صور لها دلالة مكانية: (البحر.. فراشة..الطين.. المشاعل والسكاكين.. ثلج، وغير ذلك). ولعلنا هنا نبحث عن دور الحرف وانسجامه مع (المعنى).. مهما كانت منهجية الشعر أو تجربيتة أو نمطيته، ومهما كانت وظائف الجملة المنسجمة، فبالرغم من النزعة الصورية المتشكلة والتي أشرنا إليها (مجازاً وانزياحاً)، فقد نهل (الحرف) من ينبوع المعنى في نهاية القصيدة هذه:
(كما تنتقل الحروفُ من كلمةٍ إلى كلمة
ومن قصيدةٍ إلى قصيدة
ومن موتٍ إلى موت) (ص21).
يمكن القول أيضاً إنّ المفردات الشعرية في (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) مناهضة إلى حد كبير من النماذج الشعرية السابقة مدى تجربة الشاعر إذ نجد الجرأة الواضحة في تأثيث الحرف ومميزاته المطلوبة بأساليب فنية (المعنى) مع الانفجار التصويري المركّب لوظائف تستلزم مهارة نادرة بانت من خلال العلامات المثبتة ودلالاتها، ولا نعتقد أن الشعر الذي قرأناه هنا يحاول توثيق الزمن من خلال الذاكرة بل يكشف الشعر نتائج الزمن بذاكرة الشاعر. وهذه ميزة أخرى وأساسية فيها من الحيوية المقتدرة والتفاؤل والتفاعل الذي بان من خلال الحرف كأداة منفذة.
(النقطة..الوظيفة)
الآليات الشعرية الحديثة أساسيات مهمتها مهمة عملية وفعلية إذ تقوم على التأطير الموضوعي بوظائف كشف الشعرية هذه بتجانس من لدن الشاعر، لتدخل عوامل التقنية في عملية الاستخدام في صميم المفردات المطروحة، ومن ذلك تقوم الآليات بتكريس نسيجها الفني وفق توصيفاتها المحسوبة، ولعل (النقطة) كأنموذج تطبيقي لهذه الآليات تقوم كعنصر أساسي لكشف المعنى مع الحرف ذاته لدى أديب كمال الدين، توزعت كقصائد (من جهة) واجتمعت في قصيدة واحدة (من جهة أخرى)، كما في قصيدة (جسور) التي استهلت بأربع فقرات:
-1-
مقارنة النقطة للحرف:
لم يكن قلبكَ مولوداً في برج الحمل
بل في برجِ العذاب (ص85 )
-2-
قال الحرف للنقطة:
هل تتذكرين الجسور التي عبرناها؟
كانت جسوراً
مليئةً بالفراتِ والسمكِ اللابطِ تحت أشعة الشمس
كانت جسوراً مليئةً بالدويّ والدخان. (ص86 )
وثم بعدها باستهلاليين – (3) و (4)
وعلى الرغم من الحركة المتنامية نحو تصعيد إيقاعية الحوار بين الطرفين فإنها كشفت صوراً أيقونية متداخلة ومتشابكة، حققت منافذ متعددة لكشف (المعنى).. فالنسيج الشعري مهما كان فنياً لدى الشاعر، فانه أعطى مضموناً مختزلاً ومكثفاً للغة عالية. ولكن حين نقرأ: قالت النقطة.. وقال الحرف، فانّ ذلك يحيلنا إلى دراسة اللغة المسرحية في اللغة الشعرية وهي ميزة تكررت في نصوص هذه المجموعة، وبالتحديد في قصيدة (اعترافات النقطة):
قالت النقطة:
مرّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربما أربعون
لم أعدْ أتذكّرُ الرقم
ولكنني أتذكّر انني قدتكَ إلى الهاوية
- أيّها الحرف -
قدتكَ إلى السعير، فجهنم، فَسَقر .(ص 37)
ومن تسخير النقطة شعرياً لم يبقَ من حدودها التي رسمت من قصائد تلك المجموعة سوى أنها أسيرة الحرف، وكأنها تبدو (المعادل الموضوعي) في البناء الشعري لدى الشاعر مما يجعل الصورة الشعرية تكتمل بين الطرفين في حال استخدام النقطة وفي حال تكريس فعلها الوظيفي.
وككل، فإن (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) أعطى أثراً شعرياً واضحاً ابتداءً من (ثريا النص / العنوان) وصولاً إلى خلق وتأثيث و كشف العديد من الرموز المؤطرة بالواقع والمجاز لها التوظيفات العادية للأشياء عن طريق (الحرف) كدلالة مفتوحة و(النقطة) كعلامة مكملة للحرف.
(ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) وما بينهما
صباح الأنباري
ص 127 - 133
ما قبل الحرف.. أفكار تترى ورؤى تموج وصور تتلاحق في مخياله. شخوص يرتقون زمنه الشعري وصراع يطول أحلامه. يشتتها أو يمنحها زهوها الخاص. عمر يناهز عمر الكينونة، ويتجاوز ملكوت الدينونة مجسداً في هيئة إنسان.. امرأة من نار أو رجل من برد.. سحايا.. جنون.. صحراء.. رعب.. عذابات سود.. يتم.. ضياع.. عظام.. موت.. جماجم.. أحزان أصدقائه الأوغاد.. سذاجة زرقاء في ضجة آخر الليل.. مطر أسود أو أحمر.. باءات أوديبية.. اعترافات وأدوار.. و.. و.. وآخرة ما بعد الموت وما بعد الجحيم تطول وتطول بلا انتهاء قبل أن يمنحها صيرورتها اللغوية وصورها الشعرية وقبل أن يكتبها حرفاً بعد حرف ونقطة بعد نقطة. وإذ يكتبها ويمهرها بآخر نقاطه السود الطيعة أو تلك التي لا تطيع يظل ما بعدها قائما على أساس ما قبلها.
ما بعد النقطة.. مصائر غير محددة ومستقبل مبهم.. زمن يتأسس على احباطات الحاضر.. على معاناة الحروف، واضطرابات النقاط.. على جنون اللغة وجنوحها نحو العذابات الأزليّة.. رحيل ممعن في الموت، وغياب ممهور بالاختفاء الأبدي.. دهر يعوي.. يقوم ويعوي، وشمس مثل حذاء طفل يتيم ترجع لتنام والناس مثلها إلى نومهم يرجعون.. ملكوت بلاملامح، بلا وجوه، وصحراء تمتد إلى آخر الوجود.
ما بين الحرف والنقطة.. نتحرّى منجز الشاعر الذي تميّز، منذ وقت مبكر، بالكشف عن هموم النقاط والحروف. لقد شغلت الحروف والنقاط ولم تزل حيزاً كبيراً في تجربة أديب كمال الدين. عليها أسس رؤياه وبوساطتها رسم صور العذابات البشرية. هي قانونه المركزي وشغله الدائم وهاجسه المستمر وما خرج عنها ليس إلاّ جزءاً يقع من تجربته موقع الضوء من القمر والماء من النهر والحزن العراقيّ من دجلة الثاكلة. فالألوان ومباهجها أو عذاباتها، وصور الجهر الصماء وإن تحدّث عنها النقاد والمتابعون لشعره ليست إلاّ ظلاً خفيفاً لقامة شعره الفرعاء وليست امتيازاً له ولا تفرّداً بين من سبقوه اليها أو خصصوا ديواناً لها مثل الشاعر الجميل شيركو بيكه س في ديوانه (إناء الألوان).
الحروف والنقاط إذن هي إمتياز أديب كمال الدين وتفرّده وواسطته للارتقاء إلى عالمية الشعر، والغور في ملكوته المقدس. ولعل ما يميز قصائده، على الرغم من حروفيتها، اهتمامها بالمعنى واستقراؤها لقيم الحياة الإنسانية ونفاذها إلى جوهر الوجود. ما بين القبل (قبل الحرف) والبعد (بعد النقطة) يؤسطر الشاعر حاضره الدامي وشعوره الدائم بالضياع والعذاب والعزلة والموت:
كيف سأصفُ، اللحظة، موتي الأبدي
وضياعي في جسدٍ من لعنةِ الحبّ
وعذاباتِ الرغبةِ والشوق؟
في القصيدة التي تصدرتْ قريناتها تبدأ مأساة الشاعر وتراجيدية حياته وبلاياها بدمٍ مراقٍ جثة معفّرة بالدم والتراب وجهر بأزلية القتل:
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضاً؟!
وعلى الرغم من مجيئه ورحيله مقتولاً تظل أسطورة مأساته قائمة على مخاوفه التي تجاوزت لزومية موته إلى مجهولية كينونته:
هل كان إلهياً أم كان خرافيا؟
أنسيا أم جنّيا؟!
هكذا زعم أصدقاؤه السذّج منهم والمنفيون والأوغاد وهكذا أصبح معنى الحياة قاتماً والواقع هشّاً وكينونته ملغاة. لقد افتتح أديب كمال الدين مجموعته الشعرية بهذه القصيدة وكأنّي به أراد أن يقدّم نفسه لقرائه بطريقة شعرية بحتة تنعكس على صفحتها سيرته الإنسانية وصوفيته التي استباحها الأوغاد والمنفيّون والسذّج في عالم يمتد من الموت إلى الموت.
هي ثامنة المجاميع في سلسلة إصداراته الشعرية وفيها يعود ليؤكد مأساوية الحياة وظلامية النظم واستسلامية البشر من خلال ذاته المستباحة وحروفه التي هدرتها أزمنة المنافي هنا أو هناك أو في أيّ مكان آخر. قرون مضت وهو لم يزل طفلاً انتهك حرماته الضياعُ وملاكاً مصاباً بالجذام وشيخاً منسياً في أقاصي العالم وشاعراً يشكو من وحشة الشمس و.. و..وتمتد المأساة إلى آخره فتلفّ في دوامتها حروفه الجامحة ونقاطه المستكينة وهي تثير ضجة في آخر الليل رافعة شكواها إلى الكلمات بلغة لم تألفها المرافعات والادعاءات حيث يتحوّل الحرف إلى دال مخصيّ والنقطة إلى مهيمنة أنثذكرية وحيث تتهيكل الكلمات بهيئات بشرية لن تغير من وضع الحرف شيئاً ولن تضيف للنقطة أي شيء فتختفي النقطة في بيت خيانتها المنيف:
لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول
وسط صهيل الكلمات
أعني وسط صهيل الناس!
هكذا يصور الشاعرُ عالمه المضطرب: صراع بين حروفه التي تروم الانطلاق إلى البعيد وبين نقاطه التي تكبح جماح ذلك الانطلاق. ففي كلّ سطر يبلغ الحرف أو يحاول بلوغ عالم يراه في يقينه جميلاً ومستقرّاً تأتي النقطة لتغلق أمامه الطريق في خاتمة السطر أو في خواتم الأسطر كلها لتهيمن على عالمه تشاؤمية سوداء.
النقطة عند أديب كمال الدين، إذن، تلبس لبوساً أنثوياً وفي بعض أحيانها أنثذكرياً، بينما يلبس الحرف على امتداد القصائد لبوسه الذكري المعتاد وما بينهما تتجسّد الرؤيا، فتغدو النقطة امرأة مليئة بمشاعل الرغبة وأثداء الشهوة وسيقان الحلم وعذابات القبل صعوداً على تلك السيقان أو نزولاً منها إلى باب الخرافة:
بما يشبه القتل الجماعي
لمئات الفاريّن من المعركة
والنقطة عنده أيضاً هي اقتراف الفعل واعتراف بذلك الاقتراف. هي الخطيئة التي ألحقت بالحرف لعنة السماء وحنق الأرض وأشعلت في ذاكرته نار اغتلامه اليها ثم قررت أن تخونه في أول الفرص. هي أسيرة الرغبة وملكة الشهوة وسيدة الاغتلام وبؤرة الخيانة. هي الجبروت والطاغوت والملاك المدجج بشياطين الأرض ومردة الجحيم. هي البحر مزنّراً بمباهج الحياة ومجنّدلاً بصخور الموت. هي البدء والخاتمة والانتهاء. وهي، في آخر الأمر، وعلى الرغم من هذا كله، بعض من الحرف أو ضلع فيه:
قالت النقطة:
أيّهذا المعذّب
أنا بعض منك !
ضحك الحرف وقال:
أيّهذي المعذّبة
أنتِ بعض منّي !
أما الحرف فهو عنده قتيل محكوم بالاخصاء، وفرس جامح بعيون مسملة، ورأس مقطوع وقلب محطّم وجسد هزيل. هو أوديب والحلاج وهاملت والحسين وابن مُقله والسياب. هو الطفل ملفوفاً بأسمال الكهولة والساحر العازف على مزمار الموت وموسيقى الفزع ومسالك الدموع ومضاجع البكاء مدفئاً بحرارة الجثث ومحفوفاً بساحرات الظلام. هو المهووس والموسوس والضائع والمحروم والمنفيّ. هو الفرات مخموراً بموجة الحزن وهو دجلة متسترة بعري مستباح. هو العارف والجاهل والنازف والرائي والمحمول على تابوته الأسود. هو المغامر مرتحلاً من قارة الطغاة إلى قارة أشدّ طغياناً وعتّواً. هو العابر من جلجلة إلى جلجلة ومن زلزلة إلى زلزلة. هو النبيّ والشيطان واللعنة والمعجزة. وأخيراً هو الشاعر محكوماً بالصلب ومقتولاً بالحبّ:
وقال للشاعر: اخترْ حرفك!
فاختارَ الشاعرُ العينَ والياءَ والسينَ و الألف
ضحكَ ملكُ الحروفِ وقال:
لقد اخترتَ أن تُصلَب
وأن تمشي إلى الجلجلة!
صراع طويل لا تتولّد عنه سوى المأساة وسوى تراجيدية القهر والدمار والإخصاء والسمل والذبح والنسف والعسف والترهيب والترغيب والتغييب والضياع. شفرات تخلّف شفرات أخر في ترتيب وتلاحق وتصفيف واتساق وتساوق تبثها إرهاصاته بيقين تام ليتسلمها قارئه باستسلام تام مشيّدة في ذهنه عالماً هشّاً قابلاً للزوال في أية لحظة تسبق النقاط. عالم مخيف حد الرعب ومرعب حد الخرافة ودمويّ حد الشعور بارتجاف الضمائر. خوف مؤسس على خوف. يتناسل ويكبر رويداً رويداً أو بقفزات تدفع متلقيه للتطهر منه جزئياً أو كليا. فبعد هذا كله ليس أمام الشاعر من وسيلة أخرى يصل بها إلى غايته المثلى النبيلة الاّ أن يستخدم قوة الشعر وقدرته الهائلة على تحريك فعل التطهر بكل دراميته، وكل أسطوريته، وكل إمكانياته في انتزاع ذلك الخوف المؤدلج. لقد عاش الشاعر ومجايلوه أحداث ما قبل سقوط (الصنم) وما بعدها فخبر ما بينهما وعانى منها وذاق الأمرّين، واحترق بنارين: نار الغربة داخل زنزانة فسيحة تدعى الوطن، ونار الغربة في قارات العالم الفسيحة حائراً ليقف ضارعاً بين يدي (سيد الملكوت) طارحاً شكوكية يقينه أو يقينية شكوكه وثوابتهما المضطربة بقداسة الصوفيّ وزمهرير إيمانه المطلق:
أنا أنتقل فيكَ وبكَ ومنك
من جلجلةٍ إلى جلجلة
ومن قارةٍ إلى قارة
ومن رعبٍ إلى رعب
ومن زلزلةٍ إلى زلزلة
ومن واقعةٍ إلى واقعة
أيُعقل أن أجلس أربعين عاماً عند بابك -
وأنا الحاجب -
فلا يُفتح لي.
تساؤلات مريبة أفضت إلى صحوة صوفية جديدة، إلى يقين جديد، إلى معقولية فجرتها لا معقولية الواقع الاستهلاكي والشكوك المهيمنة على مفاصل حياته كلها وقدرية موته وحتمية مغادرته الدنيا مقتولاً وهو لهذا وذاك أو بسببهما يعاود النظر إلى نفسه فقط ليتأكد من أن حروفه ما تزال فاعلة ونقاطه ما تزال على قيد الحياة:
كلّ حين
أنظر في المرآة
لأتأكد أنني لم أمت بعد!
فالحياة بكلّ قواها الصوفية، والواقع بكل زهده وزهّاده، والشعر بكلّ قدراته وخوارقه غير قادرين على منحه ما يريد بعد أن تراكمت عليه مهيمنات الموت ومتوالياته شاغلة كلّ ثغرة وغالقة كلّ بصيص. منذ أربعين عاماً، منذ بلوغه سن الوعي المبكر وبعد مجيئه إلى الدنيا بخمسة عشر عاماً شغلته الحياة فاستأثر الموت بحروفه متحصناً بالنقاط السود ومتربّصاً بكل جماليات الوجود ومقيداً حركية الواقع بجمودية مقيتة وفارضاً على القصائد نواحاً وعويلاً وولولة وشجون قاتمة، وحاشراً نفسه أو فارضاً إرادته على أغلب قصائد (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) بشكل مباشر، وعلى البقية الباقية بشكل غير مباشر. الموت إذن هو الموضوعة الرئيسة والمحورية في مجموعة أديب كمال الدين الذي تعامل معها صوفيّاً وفلسفياً ولكنها مع ذلك ظلت شائكة بسبب شيوع مجانيته وضلوعه المستبد بكلّ مفاصل الحياة ومباهجها:
عجيب
ما علاقة المرآة بالموت؟
بل ما علاقة المرأة بالموت؟
بل ما علاقة المرآة بالمرأة؟
وما علاقة الموت بالموت؟
أسئلة تفضي إلى أسئلة أخرى، وهذايانات تنثال تداعياتها على امتداد المجموعة كلها لا لتوضح التباس الموت بالموت بل لتثبت اعتراف الشاعر بهيمنتها على حروف حياته القلقة:
يا إلهي
لِمَ أتحدث كثيراً عن الموت
لا عن الفجر؟
ألأنني رأيتُ التابوتَ وجلستُ فيه؟
أم لأنني أحمل تابوتي فوق ظهري
حين يختفي الناس
وأحمله بين ضلوعي
حين أدخل الأسواق
وأصافح السوقةَ والببغاوات؟
يا إلهي
ومضةً من نقطتكَ تخفف من عذابِ قلبي
ومضةً قبل أن نفترق
وتذهب أنتَ مضيئاً إلى عرشك المضيء
وأذهب أنا مظلماً إلى تابوتي الأسود.
مستسلماً نراه داخل ذلك التابوت، ومستكيناً لاتجاه المأساة نحو المأساة بعد أن زعزعت الظروف الأمان بالخلاص، والتطهر من آثام حرق بيوت العباد والعبادة بأمر من "صاحب الجند" الذي ترك بغداد الشاعر تضيع إلى أبد الآبدين وهو يصرخ ملء فيه: "سأختار لكم موتاً جديداً".
ما بينهما إذن (بين الحرف والنقطة) موت مدخول بالموت. موت كلما غادر عالم الشاعر عاد بوجه أكثر قبحاً أو أكثر رعباً.. أو موت يصل البداية بالنهاية فتنغلق النقطة على الحرف، وتظلم الحياة إظلامها الأبدي الأخير ظلام لا خلاص فيه إلاّ بالتطهر منه، والتعمّد بنار الشعر الأزليّة.