قراءة في قصيدة (الزائر الأخير) للشاعر أديب كمال الدين النقطة: ألوان الحياة والموت
كريم الثوري
|
||
ليس من السهل ان تفتح باب الطلّسم لتقرأ ما يخفيه. ولذا ليس سهلا ان تقرأ عالم الحرف وتشكيلاته والنقطة وتمظهراتها دون ان تكون عارفا او مريدا حتى تستطيع ان تكشف السر وتظهر المخفي. أديب كمال الدين صاحب الاسم المضيء في عالم الشعر. وليست مصادفة عابرة ابدا أن يتناول الحرف والنقطة بإسلوبية متميزة تجاوزت وأسست حضوره الفني وهو على أبواب ديوانه العاشر متجددا على الدوام ومبتعدا عن الرتابة في الكتابة. وبذلك فإنه اختار لسفينته وركابها الشواطئ الآمنة والمياه صافية ليتيح للحرف ان يكشف عن مديات عشقه وهو يطارد هدفه: النقطة. وفي مجموعته الأخيرة: (شجرة الحروف) الصادرة عن دار أزمنة بعمان- الأردن تتخذ النقطة لدى الشاعر مسارات استكشافية تفصح عن ساعة وجد وهيام وعناق ما بين الموت والحياة. والنقطة تصمد حينما يباغتها المحو، لذلك وإن كانت مساراتها خفيفة الظل لكن صرخات استغاثاتها موجعة كوجع شاعرها. وقد اخترت قصيدة: (الزائر الأخير) من بين قصائد المجموعة كونها قصيدة توثّق بفنية عالية للحظة لقاء الحياة والموت مع اشارات عديدة للصراع الخفي ما بين الشاعر ورسول الموت الذي كان يمسك بيده ب(نقطة) الشاعر أي ب(حياة) الشاعر:
كان يجلسُ في الغرفةِ المجاورة شاب أنيق بثيابٍ سود ينظر إلى السقف بعينين فارغتين من أيّ شيء ويضع على ركبتيه كتاباً على هيئةِ حقيبة أو حقيبة على هيئة كتاب
هكذا فإن الشاعر يمهد لمشهد حبس النقطة من قبل سجّانها: رسول الموت الغامض المخيف والذي يجاور الشاعر مكانيا (كان يجلس في الغرفة المجاورة). حيث يظهر لنا بهيئة شاب انيق يرتدي الثياب السود. إن هذا الشاب المبهم الغامض يضع على ركبتيه كتابا بهيئة حقيبة أو حقيبة بهيئة كتاب:
ويضع على ركبتيه كتاباً على هيئةِ حقيبة أو حقيبة على هيئة كتاب
وهذا يدل على حالة الخوف الشديد التي أصابت الشاعر وهو يقابل رسول الموت. فالشاعر قد اندمجت عنده صورة الحقيبة والكتاب نتيجة ارتباكه. ويشير الشاعر الى حالته المرتبكة بوضوح:
حين ناداني دخلتُ مرتبكاً كجثةٍ تسقطُ في البحر.
إن النقطة التي هي سر إلهي كما هو معروف ومتداول في التراث الصوفي والعرفاني، تبدو في هذه القصيدة المتميزة سرا للحياة . نعم تبدو سرا كبيرا بتفاصيل صغيرة. والنقطة مخفية في الحقيبة مع تفاصيل اخرى متممة لها ومهيئة لحضورها السحري في آخر المطاف. وهكذا احتوت الحقيبة على: - (إناء) --- (فنظرتُ، وجدتُ فيها إناءً مكسوراً) - (حجر)--- (ووجدتُ حجراً) - (آلاف القبل)--- (ووجدتُ فيها شفتين تضحكان بآلافِ القُبَل) - (كؤوس)--- (ووجدتُ كؤوساً من العشبِ والطينِ والجمر) - (حذاء من الخمر)--- (وحذاءً من الخمر) - (أفخاذ نساء)--- (وصوراً وتماثيل لأفخاذِِ نساء) - (دموع)--- (ودموعاً بهيئةِ لؤلؤٍ وحروف) - (قصائد)--- (وقصائد بكتْ واشتكتْ وادّعتْ). ها هو يقول :
حين ناداني دخلتُ مرتبكاً كجثةٍ تسقطُ في البحر قال بلغةٍ مبهمةٍ كلاماً عجيباً وأشار إلى الكتابِ: الحقيبة فنظرتُ، وجدتُ فيها إناءً مكسوراً (كدتُ أغرق بسببه في النهر) ووجدتُ حجراً (ضربني به غجريّ فأصابَ قلبي) ووجدتُ فيها شفتين تضحكان بآلافِ القُبَل ووجدتُ كؤوساً من العشبِ والطينِ والجمر وحذاءً من الخمر وصوراً وتماثيل لأفخاذِِ نساء ودموعاً بهيئةِ لؤلؤٍ وحروف وقصائد بكتْ واشتكتْ وادّعتْ.
ثم يتوّج الشاعر الحدث الدرامي بظهور النقطة:
وأخيراً أخرجَ لي نقطةً حملتْ ألوانَ الفجر والمغيب حَمَلها بيده الصفراء المرتجفة دون أن ينبسَ ببنتِ شفة.
هكذا بدا الشاب الانيق: رسول الموت صاحب الحقيبة بهيئة الكتاب والكتاب بهيئة الحقيبة صامتا بصمت شديد ومخيف: (دون أن ينبسَ ببنتِ شفة) وهو يخرج النقطة . والصمت هنا حمّال أوجه في دلالاته ومعانيه. فهو صمت غامض، غموض لحظة الشاعر بالشاب وغموض لقاء الحياة بالموت. ثم يستدرجنا الشاعر ليكشف عن تفاصيل وقوفه أمام رسول الموت. انها تفاصيل تكشف عن صعوبة تللك اللحظة واسطوريتها. بل ان شيئا ما يحول بقسوة مفرطة دون اللقاء: ايكون السبب هو استحالة اللقاء لأسباب روحية او زمانية او مكانية؟ يقول أديب:
مددتُ يدي لآخذ النقطة أعني الإناءَ، الحجر الشفتين، الجمر الكؤوسَ أو الأفخاذ الحروفَ أو الدموع. لم تصل يدي إلى أيّ شيء ولم يعطني الشابُ أيّ شيء كان ينظر إليّ بعينين فارغتين من أيّ شيء.
لكن رسول الموت ينظر بعينين فارغتين. اهي حالة الرعب عند الشاعر وهو يواجه الموت؟ ام هي حالته وهو في قمة الارتباك، يريد ان يستعيد روحه (نقطته) من يد الشاب الأنيق صاحب الرسالة التي أبادت الأولين والاخرين؟ ليس هناك من جواب اكيد. تماما مثلما الموت نفسه لا احد يعرف سره وفحواه الا من خلق فسوّى وقدّر كل شيء بقدر. الشاعر ستدهشه اللحظة السحرية هذه: لحظة مفارقة الحياة ولكنها سينتبه الى الوانها وسيكتشف كم هي عجيبة هذه الالوان، فهي ألوان الفجر والغروب معا، اي ألوان الفجر وألوان الغروب معا، ما دام الفجر بداية اليوم والغروب نهايته. هي بعبارة شاملة ألوان الحياة وألوان الموت معا:
مددتُ يدي لآخذ النقطة أعني الإناءَ، الحجر الشفتين، الجمر الكؤوسَ أو الأفخاذ الحروفَ أو الدموع. لم تصل يدي إلى أيّ شيء ولم يعطني الشابُ أيّ شيء كان ينظر إليّ بعينين فارغتين من أيّ شيء وأنا أذوبُ من الخوف وأنا أنظرُ إلى النقطة مدهوشاً بألوانِ الفجر والغروبِ فيها كجثةٍ تُلقى في البحر.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^ - (الزائر الأخير) – (شجرة الحروف) للشاعر أديب كمال الدين- منشورات أزمنة- عمان- الأردن 2007- ص10.
|
||