(أخبار المعنى) تجربة غياب
جمال جاسم أمين
عبر أكثر من كتاب شعري يواصل الشاعر أديب كمال الدين تذكيرنا بمشروعه الشعري (المشروع الحروفي) الذي تبناه دائباً كمحاولة لتوسيع رقعة الشعر وتجديد اشتغالاته المألوفة من خلال اقتحام هذه المملكة الجديدة (مملكة الحروف) وهو بهذا يضعنا ـ نحن كقرّاء ـ أمام سؤال حاد: إلى أي مدى يمكن أن تصل مثل هذه الرحلات الشاقة؟ وهل هي تجربة وعي يريد الشاعر تكريسها؟ وإذا استطعنا أن نجيب على شيء مما تقدم فلابد من أن نسأل أيضاً: كيف يمكن أن تكون علاقة الشعر بالوعي؟ هل الشعر وعي (خاص) أم ماذا؟
إنّ ضخامة هذه الأسئلة التي تحيلنا اليها قراءة قصائد المجموعة دليل على اننا أمام تجربة تتجاوز المألوف والسائد. الأمرالذي يتطلب منا موقفاً واضحاً خاصة واننا – كقرّاء – نمتلك ما يعيننا على قراءة نصوص كهذه. فالتجربة الحروفية التي تعتمد على استكناه الطاقة الاولى (طاقة الحرف على البوح قبل تشكّله) هي تجربة صوفية في بنائها العام ولعلنا في عودتنا إلى مراجعة التراث الصوفي سنجد ما يعيننا على ذلك، وهنا لا نريد أن نسند تجربة الشاعر الحديثة إلى مرجعيات قد تقلل من أهميتها ولكنها مسألة طبيعية إذ ان الشعر الجديد برمته لايمكن عزله عن التجربة الروحية (الغنوصية) عموما وهذا ما يمكن ملاحظته من التقارب الشديد بين بعض الاطروحات الجديدة وما سبق الإشارة اليه في التراث الصوفي، ولعل المسألة أبعد من ذلك فالحرف كمدار للبحث الشعري كان قبل ذلك مداراً للبحث المعجمي والبياني الصرف. ولعلنا لا ننسى حيرة البيانيين العرب أمام فواتح السور في القرآن الكريم وبعيداً عن المشابهة بين حالتين تختلفان تماماً حيث اننا لا ننوي سوى تقديم مفاتيح لقراءة الحرف شعرياً كما يجب أن تكون عليه القراءة عندما نتعرض لنصوص من نوع ما يكتبه أديب كمال الدين، ومما يؤكد ما نذهب اليه أن الشاعر في بناء موضوعته لم يكن بعيداً عن هذه المؤثرات التي ذكرناها وهو أمر طبيعي تماماً.
إنّ الحرف – وكما ذكرنا – يمتلك تاريخاً من الغموض وهو بهذا الوصف يضع الشاعر والقارىء معا أمام سؤال عن جدوى استنطاقه أو بلغة اخرى (عن معنى استنطاقه). ولعل ميزة ديوان (أخبار المعنى) تنبع من هذه المسألة، فبعد أن اهتم الشاعر بالحرف كاشتغال شعري أساس وبعد أن كرّس له ديوانه السابق (نون) عاد – الشاعر ـ ليكمل الرحلة من خلال البحث عن المعنى الكامل لهذه الرحلة، حيث إن (أخبار المعنى) هو الحلقة التي تضفي أهمية على السلسلة بكاملها. ومن خلال القراءة الفاحصة ل (أخبار المعنى) نستشعر الحاح الشاعر باستخدامه التكرار المقصود للتأكيد على (حضورالمعنى)، هذا الحضور المقلوب حيث لاشيء سوى الغياب وحيث كلّ حضورغياب بالمعنى الدقيق، الأمر الذي يفسر اطراد موضوعة الموت في جو القصائد إذ يصبح هذا الموت تأكيداً لغياب (المعنى) ودحضاً للحضور الذي تريد أن تضيفه اللغة.. حيث نقرأ:
(لا معنى يولد إلاّ من موتي
لا معنى يزهو إلاّ في قتلاي)
إنّ الشاعر ومن خلال هذا الربط بين واقعتي (الموت والمعنى) يضعنا أمام منظومة من الأفكار تكاد تكون مفهومة ومبررة شعرياً وهو بهذا يذكرنا بلغزية الحرف.. هذه المنطقة التي اختارها مسرحاً لتجربته وإذا أردنا أن نتقصى الحرف الذي يعنيه الشاعر فهو ـ أيضاً ـ يعاني نوعاً من أنواع الغياب. فالحرف هنا لا يستقر على صورة ولنقرأ – مثلاً:
(أختارُ لموتي حرفاً، ليكنْ هذا الحرف: الميم، نمزّقه حتى يتكوّن ثانيةً من غير دماء يابسةٍ وكلابٍ تسعى، ليكنْ هذا الحرف: الواو).
المهم إن الشاعر لا يريد أن يشخّص حرفاً بذاته بل يبحث عن حرف يوازي موته وهكذا يستمر البحث في أرض تتسع لأكثر من رحلة، فالشاعر هو الذي لا يهدأ والحروف هي الطريدة، الأمر الذي يفسر لنا مأساوية هذا البحث حيث يصبح الموت هو المرادف الطبيعي للمعنى. إذ يقول الشاعر:
(جسدي يخضرّ كعشبٍ ويموتُ كرملٍ
ويضيعُ بنهرِ الكلماتِ فلا جدوى).
إننا نكشف جدلاً حاداً بين الرحلة وجدواها ، بين الحرف (الظل الغامض للكلمة) ومعناه ولعل هذا الجدل هو عنصر التصعيد في تجربة الديوان برمته حيث يمكننا أن نلمّس هذه المسألة من خلال التقابلات المقصودة لعناوين النصوص، فالمعنى هو المحور ولكن التقابلات التي تتـرداف على هذا المحور هي التي تغنيه وتديمه ولنأخذ – مثلاً – ( ضحك المعنى) و( مأساة المعنى) ولننتقل من (قبور المعنى) إلى (سلام المعنى) ومن (نسيان المعنى) إلى (إضاءة المعنى).. إنّ هذا التضاد أو مايمكن أن ندعوه ب (دراما العناوين) هو أحد أساليب الشاعر في تقديم مادته الشعرية الجديدة.
ومهما يكن من أمر فإن مجموعة ( أخبار المعنى ) بفرادة موضوعتها الشعرية وطزاجة اشتغالاتها تضعنا أمام أكثر من سؤال ولعل هذه المسألة بالذات تعد من المسائل الهامة ضمن استراتيجية الشاعرالحديث، وبذا فإنّ ما فعله الشاعر أديب كمال الدين يعدّ اضافةً جديدةً وتوسيعاً لفكرة الشعر هذه الفكرة التي تتسع باتساع عدد الشعراء الحقيقين، حيث استطاع هذا الشاعر أن ينجح في نسج خيوط تجربته الشعرية، هذه التجربة التي وصفناها بالغياب ذلك لأنّ موضوعة الغياب بمعناها الشامل هي العنصر الفاعل والمؤثر في شعريتها.