"شجرة الحروف" لأديب كمال الدين
الحروفية كالرقش على جسد القصيدة
د. حاتم الصكر
ربما كان تميز الشاعر العراقي أديب كمال الدين بين زملائه من شعراء جيله السبعيني هو عكوفه على تجربة التزيين الحروفي لقصائده كما في الرسم الذي يستضيف الحروف وجمالياتها إلى اللوحة لتعميق الإحساس الروحي بها ودون أن تؤدي دورها الوظيفي في إيصال المعاني، ولخلق الأثر البصري جمالياً وحسب، وهذا ما أراد أديب كمال الدين أن يصنعه كمقترح لأسلوبية خاصة به، وأوغل في التجربة الحروفية تعضده موروثات الكتابة الإشراقية الصوفية وتجارب الشعراء والكتاب الصوفيين في تأمل الحرف، لا في مهمته اللغوية كجزء من كلمة تؤدي وظيفة معنوية أو دلالية، بل بما توحي من مشاعر وآثارِ تلقٍّ تمس الأحاسيس وتتمثل الأثر فتخلق الإيحاءات في النفس وتعلي الإدراك الجمالي للعالم الذي يزعم الموسيقيون وعلماء الرياضيات أنه مكون من عدد ونغم، يتوافقان ويخلقان هذا التوازن الإيقاعي في حركة الكون. وتحاول الحروف أن تحده بحدودها فتغدو ذات أشكال وهيئات خاصة هي التي يناجيها ويستلهمها المتقشفون والزهاد والمفكرون في النفس البشرية.
وربما أخذ بعض النقاد على أديب كمال الدين انغماسه في التجربة الحروفية وانحصاره داخل إطارها المتكرر، وكأنه استراح لها نهائيا (صدرت له عدة دواوين تحمل عناوينها حروفاً، منها: جيم، نون، النقطة، حاء، ما بعد النقطة، ما بعد الحرف...) والآن في هذا العام: «شجرة الحروف» وهي مجموعة قصائد لا تقف عند الهوية الحروفية التي أراد الشاعر تكريسها لنفسه كعلامة فارقة لشخصيته الشعرية، بل تتعداها إلى موضوعات شعرية أخرى كالتأمل في ما آل إليه الوطن وما ملأ أرضه من دم وما يتعرض له من مآسٍ.
ولكن ما شجرة الحروف هذه التي يتفيأ ظلها الشاعر؟
ليس هناك من شجرةٍ بهذا الاسم
أو بهذا المعنى
ولذا أنبتّ هيكلي العظمي في الصحراء
وألبسته ُقبّعةَ الحلم
وحذاءَ طفولتي الأحمر
وعلّقتُ عليه
طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون
ثم وضعتُ عليه
بيضةً صفراء كبيرة
اسمها النقطة!
واضح أن الشاعر يقيس العالم بوجوده الحروفي ويسترجع طفولته بهذا المعيار أيضاً، فتتحد البراءة الأولى للطفولة وكأنها براءة الحرف قبل أن تسلبها الاستخدامات النفعية في وجوده اليومي، ضمن عملية تشكُّل الكلمات وتأدية المعاني كما يريدها الإنسان في سياق رغباته ومصالحه.
ولكن في هذه التجربة الحدسية ليس ثمة يقين مؤكد؛ فيغدو الرجوع إلى شجرة الحروف ذات الوجود الافتراضي –الحلمي- جزءاً من مقاومة شرور العالم وقسوته.
إنها شجرة تخرج من معاناة وجود الشاعر على الأرض ومن دمه المسفوح:
حين تدحرجَ رأسي على الشاطئ
وسط صهيلِ الغرباءِ المنفيين
بزغتْ من دمي المتناثرِ على الأرض
شجرةٌ مليئةٌ بالنورِ والسرور.
أتراها شجرة الحروف؟
وإزاء سؤال كهذا يورط القارئ في البحث عن شجرة الحروف. سوف نستنجد بمرجعيات الحروفية العربية والإسلامية، حيث النون صورة العالم ممتثلاً للكينونة وغارقاً في الوجود، تحف الواو وسطه المفارق للبدء والمنتهى.
النقطة وحدها لها كيانها المستقل، فهي الأصل في خط الوجود الذي فاض به العالم عن مبدئه، وصار جمعَ نقاط تستطيع أن تلتقي بها حيث تكون أو تختار اللقاء على امتداد خط الوجود المتصل بنقطته الأولى:
أنا النقطة
أنا الشمسُ المكتملة
وأنتَ البحر اللانهائي،
أيّها الحرف،
أهبطُ فيكَ شيئاً فشيئاً
حتى أختفي تماماً
*********************************************************
شجرة الحروف- شعر: أديب كمال الدين- أزمنة للنشر والتوزيع عمّان- الأردن 2007طفولتي.
نُشرت في مجلة (غيمان) اليمنية- العدد3 – خريف 2007