النقطة: مرفأ أديب كمال الدين
هادي علي الزّيادي
إنّ ذاكرة الشاعر أديب كمال الدين أصبحت مأوى للحروف التي تناجيه تارة، ويطاردها تارة أخرى، فنراه يتلاعب بها بغرابة، فمرّة يستنطقها ليمنحها معنى وسحراً، ومرّة يوظفها ليخلق منها رموزاً تتناسب وأبعاد ثقافته وتجربته. و في كلّ الأحوال يسعى إلى خلق المفارقة المدهشة:
( كيف ظهرت الباءُ دامعة
وسط الياء والسين؟
كيف أبكي وأنا عند الوليّ السعيد؟)
ففي الحالة الأولى تنبض الباء بين الياء والسين في الفعل (يبس)، أما في الحالة الثانية، فنرى الشاعر باكياً عند الوليّ السعيد، فالوليّ هو الشهيد الحسين، وسعادته هي نتيجة لاستشهاده، وهو مع أخيه كما يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). إذن فسعادة الحسين هي الخلود أو الحياة الدائمة في الجنان، أما بكاء الشاعر فهو انفعال إنساني وإمتداد لأحزان لا تعرف الصمت لذا فبكاء الشاعر نوع من التكفير عن ذنب ما فعلته يده، وضياع أمنية تفاوت الزمن في تجسيدها فكانت في عصر سابق تمنى الشاعر أن يعيشه لينال الخلود مع الوليّ السعيد.
الثقافة في رموز
ولو تأملنا قليلاً لأدركنا أنّ الديوان (النقطة) هو أمواج الثقافة الذاتية للشاعر وقد تدفقت رموزاً حاكها الشاعر من خلال نسيج خاص. إذ إن استمرار أديب في معانقة عالم الحروف شيء انفرد به بشكل جنوني، إذ أصبح الحرف ملاذه الوحيد، وقد شكّل ظاهرة شعرية لا يمكنه التراجع عنها، وكيف يتراجع وقد فتح له عالم الحروف أبواب أسراره أو نوافذه ليطل الشاعر على أمواج من نور تمنح القلب فرحاً غامراً لذيذاً؟ وربما منحه عالم الحروف نبوءة شعرية نابعة من شواطئ العشق، لذلك فالشاعر لا يستخدم الحروف الاّ ضمن أبجديته ورؤيته الخاصة جداً والتي كوّنها من المعاني السامية: من جراح الأولياء ومن مناجاتهم ومن تفاعله مع وميض كلماتهم، وليس من الرموز الصوفية المنثورة في مرجعيات الصوفيين، وهذا يعني ان ناقد أو قارئ شعر أديب كمال الدين لا يستطيع التفاعل بنجاح وسبر أغوار تجربة الشاعر إلاّ إذا أدرك الأبعاد الفلسفية والدينية والتراثية للشاعر أديب عندها يحسّ بلذّة القراءة ومتعتها. ويدعونا هذا الفهم إلى التعامل مع النص الشعري لأديب وفق مستويات متعددة ومغايرة. فقد يعني حرف (الحاء) مثلا الحب وقد يعني الثائر أو الحياة، وربما وظف الرقم (8 ) كما في حساب الجمل، والذي يستعمله السحرة لمعرفة الطالع، أو في كتابة نظم التواريخ حيث يقابل كل حرف رقم وفق أسلوب خاص. ولذا فالحرف يأخذ معناه من سياق الجملة الشعرية، وموضعه فيها هو الذي يحدد معناه بالـذات.
وهكذا يصبح التفاعل مستمراً بين دلالات الحرف ومستويات المعنى ليظل الإبداع هدفاً وهاجساً يطارد الشاعر في ديوانه (النقطة) وفي دواوينه الأخرى (جيم) و(نون) و(أخبار المعنى) والتي يظهر فيها الشاعر ذاتياً في رؤيته الآنية وكونياً في تطلعاته المستقبلية. فنراه مخاطراً يرسل روحه إلى أعمق نقطة في محيط الإبداع ليقتلع محارة ناضجة تمنحه متعة إثبات المقدرة و تحيطه بفيض من اللذة الفكرية لاسيما حين يمزج إيقاعات قصائده بالبعد التراثي والطلسمي والسحري والأسطوري في عالم الحروف.
إنّ هذه الرؤية جعلت أديباً شاعراً يطير بعيداً عن أسراب الشعراء الذين حفروا أسماءهم على جدار الشعر فتميزه أصبح معرفياً، صوفياًخاصاً، تأملياً لذا رسم اسمه على جدار آخر وليس فوقه أو تحته أو على جوانبه شعراء من لونه. لذا يمكننا القول: حين نذكر الحروف نذكر الشاعر أديب كمال الدين، وحين نذكر الشاعر أدبياً نذكر الحروف و(من أكثـر من شيء عُرِفَ به)..
عشق الحروف
إنّ شاعرنا عشق الحروف بصدق بلغ حد الجنون. فهو معرّض لمسّ يصيبه من سر الحروف التي أضحت حياته وقضيته الكبرى وخلاصه، لذا نراه يفلسفهـا ويحاول أن يوقظ فيها جذوة الأسرار ولعل حبه النقي للحرف هو الدافع الذي أيقظ في الحرف روح العطاء. فالحرف ـ كما يبدو ـ منح الشاعر سرّ اليقظة الخالدة ومكّنه من فتح محّارة أسراره الخفية، والإبحار في أضلاعه، بـالتلاشيء المتكامل في جسد الحرف والحياة. فيكون التواصل هو النهوض، والسقوط الزمني إنذار بالولادة والفرح، والموت عملية تطهير، وليس عملية نهاية أو تدمير للكائن:
سقط الزمن
سقط من رأسي إلى قدمي فمتّ
وكأن سقوطه مدوّياً حتى أيقظني من نومي
فضحكتُ .
إنها عملية الذوبان والتلاشيء، فسقوط الزمن بداية لنهوض الشاعر من نومه ساخراً من قيد الزمن، فالموت هو الانطلاق والبداية، والزمن هو الشاعر ذاته أو الحبيبة ما دامت من دون قطار، وما دام الشاعر من دون محطة، فهما في تكامل مستمر. إنه الراء والعين والدال أي الرعد والذي يعني روح الشاعر أديب وبالتالي فهو جزء من الكون بضوئه وصوته وهنا وظّف الشاعر أحد الرموز الأسطورية للإنسان الذي صيّروه إلهاً فـي إحدى الأساطير المدمّرة والتي التصقت بحبّ رجل متكامل حاربهم بل أحرقهم ولكنهم حين يظهر البرق أو يسمعون الرعد يقولون: هو.. هـو. فأمرهم منكر لذلك قال الذي أسطروه:
( لما رأيت الأمرَ أمراً منكرا أججتُ ناراً ودعوتُ قنبرا )
يعني هذا انه رفضهم ورفض الذي يسيء عن قصد لهذه الشخصية. مما تقدم ندرك أنّ القراءة الواعية والعميقة لشعر أديب تعني استرجاع المخزون من التراث الأسطوري والمعرفي بشكل متدفق وسريع حيناً وبشكل تأملي حينا ً آخر والاّ فإنّ متعة القراءة تصبح صفراً .
المرأة نار الشاعر
أما الشيء المهم الذي نحسه في قصائد أديب فهو (المرأة) ذلك الكائن الذي احترق الشاعر بناره، ربما نتيجة لتجربة قاسية مرّت به فتحولت المرأة عنده إلى رمز.. فشمس المعرفة وعالم الحروف لن يغسـلا صورتها الأنثوية. لقد انغرست روحه في أمواج تلك الشمس وتعلّقت على أغصانها الحروف فهل أعطاه السحرة الأربعة (الثبات؟!).إنهم خائفون أن تُعْرف سرّ حروفهم ونقاطهم كما يقول الشاعر:
( لكننا نخاف إن تعلمتها
أن تسخر من الذهب وثياب الذهب
أن تسخر من البلدان
أن تسخر من الأثداء والسيقان )
والمرأة عنده مغرورة فهي (ن) وقد يكون الحرف الأول من معذبته التي انهالت عليها أحجار الحروف، فصارت تصورها (شحّاذاً يرميه الأطفال بالحجارة) كما تصوّرته غارقا ًفي الطير. وهكذا فالصور تتفجر عنده بلا حدود فصوره الشعرية من النوع الانتشاري المتشابك والمركب:
( أنا أجمل من فجرٍ يزرع طيراً في الماء
أجمل من طيرٍ يزرع ماءً في الفجر
أجمل من ماءٍ يزرع فجرا ًفي قلب الطير).
وهنا تكون المرأة عنده في ذروة الغرور ولكنه يعود ليراها:
( كانت عذبة في حلمها المشتبك
طرية كغصن بان
مدهشة كتنهيدة
فرحة كسفينه تغرق).
إنّ هذه النظرة إلى الهاء والتي هي قناع ل (النون) تبوح لنا بوجود تناغم ومسار مشترك بين الشاعر ونونه ولعله استعذب آلامه كما استعذبت السفينة غرقها.
عالـم غامض
ثمة شيء في شعر أديب يدعونا للوقوف عند شواطئه، فأديب يسعى إلى التسامي في عالم أغلق أبوابه الاّ على الذين عرفوا الأسرار، مما يولّد صعوبة فض خاتم السرّ على الكثيرين من قرّاء نصوصه. فقد يخلق النص دهشة اللذة المرفرفة كأجنحة طير- وليس دهشة المعرفة الغامضة- ودهشة العرفاني الغارق في حبّه للسرّ.. ف(بريق السيف) عنده يعني القـوة والضوء والفكر والضحية التي تصاعد دمها إلى السماء وكما تقـول الحادثة فهو عبد الله الرضيع هذا الطفل الذي قطع وريده سهم أحد القتلة في عام 61 هجرية في العاشر من محرم وقد وظف الشاعرهذه الحادثة في نصه الشعري:
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين
أنا خرافةُ الثوراتِ وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية من لا بقية له
أنا الفرات قتيلا ودجلة مدججة بالاثم
أنا ألف جريح
ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.
قرّاء الشاعر
وهذا يؤكد لنا أن قراءة النصوص الشعرية للشاعر أديب كمال الدين تبقى عملية غور ومقارنة يمكن أن تكشف أسرارها على مستويات متعددة، لأنّ الشاعر قارئ ذكي يقتنص الصورة والفكرة المدهشة ويوظفها بشكل فني ذي تكنيك عجيب. كما إن إحالاته كثيرة للموروث قد لا تفصح عن أبعادها لكل قارئ.. لذا يمكنني القول: هناك ثلاثة أنواع من القراء لشعر أديب كمال الدين:
* الأول يشعر بلذة الاكتشاف ومتعة المعرفـة.
* والقارئ الثاني يقع في حيرة لقلة وضعف مساحة دائرته الثقافيـة.
* والثالث قارئ ليس له سوى المديح والثناء وإعطاء كلمات الإعجاب لئلا يقال له إنه لا يرى ملابس الإمبراطور! فهل ينام أديب كمال الدين عن (شواردها) ليسهرالخلق؟!
نص المقالة بالفارسية : اضغط هنا