النقطة: خفاء الحرف وتجلّيه
فائز ناصرالكنعاني
إنّ الحرف لدى الشاعر أديب كمال الدين ليس مؤسسة لإجراء كيفيات شعرية متنوعة وإنما هو قدره الذي سيلازمه إلى النهاية. إنّ دواوينه الخمسة الماضية لا تشتغل على وحدة أو بوحدة الحرف كما توهم الظاهرة بل إنه يجري على وسائله الإنتاجية/ أرضياته نوع من الحفر/ التفجير/ بواسطة الحرف.
وبالقدر الذي تتجلّى بطولته المطلقة في النص فانه غير معني بذاته بالمرّة، المعني هو تلك الأرضيات التخيلية والعقائدية والجمالية للشاعر. بواسطة هذه المعادلة يهمل التوقع القائل باكتمال التجربة أو نضوبها وبواسطته أيضاً تكتشف مسارات مركبته الشعرية وقد اجتازت في عالم الحرف مجرّات وَسُدُماً، ولم تزل بتحليقها في اللامتناهي تعدنا باكتشاف المزيد.
في مجموعته (النقطة) التي ضمت ثلاثين قصيدة يقيم أديب كمال الدين في (النقطة) على الحرف جدلية هي نوع من الخفاء والتجلّي .إنها محاولة للابتعاد عن الحرف والبقاء فيه، انه وهو يمسك بالنقطة يكون في مفترق هذه الجدلية:
أنا النقطة
فيّ احتوى العالمُ الأكبر
والألمُ الأفدح
فيّ اختفتْ ابتسامةُ الطفلِ وحفبف الشجرة.
لقد بلورت الدواوين السابقة للشاعر انتهاء إلى الديوان الأخير استنتاجاً مفاده انّ النقطة كيان فلسفي تبدأ به المعرفة وتنتهي اليه وتتمركز عنده، في حين يجد مرّة أخرى في هذا الديوان أنّ النقطة قناع يصلح لكلّ وجوه الأشياء:
كانت النقطةُ دمي
أنا تمثال الشمع
إنه منذ قصيدة (محاولة في الرثاء) ينبّه غير مرّة على انه استطاع تأميم استعمالاته الشعرية والإمساك بمفاتيح نص لا يشاركه بها أحد:
أيها الحلم
كم افتقدنا ركوبكَ الخيل والمساءات
سائلاً عنا نحن الحروف التي بلا نقاط
والنقاط التي بلا مستقبل
والمستقبل الذي بلا معنى
والمعنى الذي بلا مغزى
إنّ النقاط والحروف وبوصفها تصنيفاً تكاملياً لبنية اللغة، تمثل لدى أديب كمال الدين جهازاً استعمالياً متشكلاً من تحرير أوليّ لطاقات البنى الجزيئية لمادة اللغة. هذه الرؤية تعيد للشاعر نوعاً من النظم الرياضية والدلالية الخاصة المسبقة. في كثير من الأحيان يتحول الحرف إلى حد رياضي مجهول القيمة متعدد الدلالة: س
الموسيقى تتألق فتحوّل الأحزان إلى حاء
وتحوّل الحاء إلى حرية
ترقص كما يرقص الجنّي
إنّ قصائد أديب لا تنتظر من القراءات إصدار تعليقات ذات طرز انطباعية بقدر ما تنتظر الاهتداء إلى تلك المنظومات والشبكات الدلالية الحروفية المعدة خلفية لنتاجه الشعري. إنه يحاول في كلّ مرّة تنشيط الوصفات الدلالية للحرف/ النقطة وتنويع اتجاهاتها الوظيفية:
النقطةُ عند الباب
مليئة بالشمس والطفولة وحقيبة السفر
النقطةُ عند الباب
مليئة بوشم القبل
واشتعال الجسد
النقطة تدعوني: إلى أيّ نون ؟!
ربما يكون المأخذ على قصيدة أديب انها تبني دهاليز من أقنعة استهلكها التكرار، بسبب التصور الظاهري عن الحرف الذي اتخذ له أديب دور القناع والرمز البديل للمعلومة أحياناً والمركز الذي يستعيد عوامله الأولية/ معادلاته المعرفية أحياناً أخرى:
الزمنُ ذبابة
لا تتركني أنام وقت القيلولة
إنّ مجال التفجير الذي يجدد المياه الشعرية لقصيدة (أديب) يتمحور في إطلاق مستويات التمثيل الحروفي إلى مديات ابتكارية تكشف عن طاقـات شعرية لا تكف عن إصدار تكييفات متجددة
لو دخلتْ نقطتي..
لتوقّف قلبي عن اطلاقِ العياراتِ النارية
على الحروف!
إنّ ديوان (النقطة) تحوّل جديد في مسيرة أديب كمال الدين الشعرية يتحدى النمط بحساسية خاصة بواسطة تجزئة الوحدة الشعرية إلى متواليات نصية تتصف بضآلة مساحتها الفراغية على الورق وكثافتها التعبيريـة في الخطاب.
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة