ديوان (النقطة) للشاعر أديب كمال الدين
قصائد مخلصة لإيحاء الحرف
فيصل عبد الحسن
يعتبر الشاعر أديب كمال الدين أحد أهم الشعراء السبعينيين في العراق، وهو من الشعراء الذين يهتمون كثيراً بإثراء قصائدهم بالصور الشعرية التي تنهل من التاريخ والتراث ويستخدم بكثافة قلّ نظيرها الرمز العقائدي – الديني في معظم قصائد ديوانه (النقطة) وغيره من الدواوين الشعرية التي نشرها من قبل. وقد كان الشاعر مخلصاً لتجربته الشعرية التي بدأ بنشر بداياتها في ديوان تفاصيل عام 1976 وقد كانت قصائد ذلك الديوان مكتوبة أثناء فورة كتابة قصيدة التفعيلة وكان الجيل السبعيني يحاول أن يثبت وجوده في الساحة الشعرية العراقية والعربية وقد جاء شعراء هذا الجيل بعد فترة قصيرة نسبياً للتحولات الشعرية الكبرى من فترة شعراء الريادة الشعرية التحديثية في العراق، السياب والبياتي ونازك الملائكة ومحمود البريكان. والحق يقال أنّ الفرصة التي توفّرت لهذا الجيل أفضل بكثير من الفرصة التي جاءت للجيل الذي جاء من بعدهم برغم تحدّيات جيل العمالقة الذي سبقهم بعقدين من السنوات، إذ ادلهمت سماء العراق وانفضّت الجبهة الوطنية وتفرّدت المؤسسات الأمنية في حكم المشهد بكامله دون أن تعطي الفرصة لأحد من الشعراء من غير المدّاحين والمصفّقين بالظهور والاستمرار في الساحة الشعرية العراقية، وأذكر من أسماء شعراء هذا الجيل الشعري المهم: عادل عبد الله، خزعل الماجدي، شاكر لعيبي، كمال سبتي، جواد الحطاب، صاحب الشاهر، زاهر الجيزاني، كزار حنتوش، رعد عبد القادر وغيرهم.
كانت الدواوين الأولى للشاعر أديب كمال الدين مكتوبة بلغة الحلم وتستقرىء عاطفة جياشة باحثة في هيلولتها الكلية عن لذة البحث عن المفردة الغريبة والصور الناشزة وتحقيق الذات ونقل التجربة الشخصية في كل قصيدة تقريباً من قصائد دواوينه بداية فترة السبعينات، وستلاحقه أشباح هذه الفترة الشعرية عندما يتحول في الثمانينات إلى كتابة قصيدة النثر. وفي تلك المرحلة الشعرية -أي فترة السبعينات- كان أديب أكثر شعراء جيله فهماً لأهمية الوزن في قصيدة التفعيلة، فجاءت قصائده قريبة من الموتيفات الموسيقية، التي يحلّق من خلالها المستمع لبعض قصائده من دون أن يستطيع متابعة سيل الصور الشعرية في كلّ قصيدة، والشاعر من أكثر شعراء جيله دربة وفهماً لأهمية أستخدام الوزن الشعري في القصيدة، لذا جاءت قصائد تلك الفترة قصائد في غاية الإتقان والأهمية لتطوره الشعري، وكان لقصائده جرس موسيقي مميز ومفردات بوح خاصة به، ولم يكن انتقاله إلى قصيدة النثر عجزاً عن صوغ قصيدة موزونة، لها القابلية على لفت النظر إلى موهبته الشعرية بل لأنه كان يشعر بشكل مبكر أن الإيقاع الشعري في الوطن العربي يؤشر إلى هذه الانتقالة الذوقية، والانتقالات الذوقية والمعرفية كثيرة في وطننا العربي، فالحكم الذوقي حتم في الموسيقى والغناء العربي إلى انتقالة سريعة إلى الأغنية الشبابية الخفيفية على سبيل المثال، وأدى في الفن والتشكيل إلى تحبيذ التجريد على الرسم الطبيعي والتأثري. ولن نضيف شيئاً إذا أشرنا إلى انتقالة الشعر العربي في الخمسينات من القرن الماضي من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة الخفيفة التي تعتبر ثورة في الفهم والذوق الشعري عند أمة كاملة لا شىء عندها في الحاضر تباهي به غير الشعر.
فالحكم الذوقي هو فعل يخضع عادة لحكم المعرفة النظرية والعملية وهو حكم غير مُؤسس على مفاهيم ثابتة ولا يتخذ من المفاهيم غاية له والقانون الذي يتبعه عادة هو البحث عن الممتع والجميل والحسن، وتدل جميعها على ثلاث علاقات مختلفة لها تمثلات الشعور باللذة، والابتعاد عن الألم، والبحث عن الغبطة، وكلها ترتبط بالوجدان وتستجيب له، وهو شعور ذاتي باللذة كما يرى – كانط - في تفسيره للتذوق الشعري، وأن حكم الذات هو حكم جمالي بالأساس، لذا فانتقالة الشاعر لكتابة النص النثري، هي انتقالة ذوقية جمالية كانت ضرورية في خضم تحولات عالمية انتقلت فيها طرائق الحياة ابتداء من نهاية الثمانينات إلى عالم القطب الواحد، وبداية اختفاء دول المعسكر الاشتراكي وسيادة ثقافة السوق، وطغيان مفردات الحياة الأمريكية بشكل خاص في حياتنا العربية، فانتشرت ثقافة السوق وظهرت في لغتنا مفردات لها علاقة باقتصاد السوق وثقافة الاستهلاك، اللحن السريع، سندويج الهمبوركر، بنطلون الجينز، وقصيدة النثر التي كتبها محمد الماغوط وأنسي الحاج وغيرهما. وصارت قصائد من هذا النوع تدهش الشاعر العراقي الشاب الميال لكلّ جديد يميّزه عن جيل الآباء وأخذ يردد هذه القصائد النثرية في جلساته الخاصة وأخذ البعض الذي يبحث عن تبرير مفاهيمي لهذه الانتقالة الذوقية محاولاً تأصيل تجربته بربطها بالماضي البعيد مستنداً في ذلك إلى شواهد التراث العربي متمعناً بكتابات الصوفيين كالحلاج والتوحيدي وابن عربي وباحثاً في نصوصهم النثرية ما يؤمن له الجانب المعرفي – النظري في الأقل للدفاع عن تحوله الذوقي ذاك.
لقد انتقل الشاعر في نهاية الثمانينات إلى كتابة قصيدة النثر ولم يكن ذلك النوع يعتمد على الوزن بل على موسيقى المفردة اللغوية وعلى الصورة الشعرية، والمفردات المعبّرة عن ذات الشاعر خير تعبير من غير إطناب أو بحث عن المفردة التي توافق الوزن الشعري، وكان النص النثري مسبوكاً سبكاً ليؤلف بنية نصية لا يمكن اعتبارها نصاً نثرياً لا روح فيها ولا نكهة غير تأدية وظيفتها المعرفية الخالصة كما هي لغة السوق أو وظائف النثر العادي في تسهيل نقل المعرفة بغائية لا جمال فيها ولا روح. وبالرغم من أن كتاّب تلك المرحلة لهذا اللون لم يجيدوا استعمال اللغة فكثرت في كتاباتهم الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية، إلاّ أن قصائد الشاعر النثرية الأولى كانت سليمة من هذه الأمراض ومدهشة وصار على الشعراء الأكثر تجربة وخصوصاً أولئك الذين يكتبون قصيدة التفعيلة والذين بدأوا بكتابة قصائد النثر كان عليهم أن يواروا وجوههم أمام أولئك الشعراء من جيلهم الذين تمسكوا بالشكل القديم للشعر ورفضوا أن يستجيبوا للدعوة الذوقية الجديدة، واتهموهم بذات النقص الذي استشرى في كتابات الشباب كما أشرنا لذلك وصارت كتابة قصيدة النثر سبّة حقيقية لشاعر انتقل لكتابة هذا اللون.
وبالرغم من هذا فقد كتب أديب كمال الدين قصيدة النثر ونشر الكثير من القصائد من هذا النوع في الصحافة العراقية والعربية، وقد وقفت مع أديب في قصائده الجديدة ثقافة تراثية غنية، وثقافة فلسفية ومعرفة بقوانين الاقتصاد التي لها علاقة وطيدة بمعرفة اتجاهات الحياة العامة للناس – لقد أكمل الشاعر دراسته في السبعينات في كلية الادارة و الاقتصاد – إضافة إلى ثقافة أدبية وفكرية أجنبية – درس وتخرج الشاعر أيضا من كلية اللغات، قسم الإنجليزي – يضاف إلى ذلك ولع الشاعر بدراسة القرآن الكريم، وبحكم علاقتي به فأنا أعرف أنه أعاد ختم القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرّة، وقد حفظ عن ظهر قلب آلاف الأبيات الشعرية لشعراء من مختلف العصور الشعرية وكلّ هذه الدراسات والقراءات الشعرية العربية والإنجليزية قد وظفها الشاعر في نصه الشعري توظيف المتمثل الذي يتذوق كلّ كلمة وكل صورة شعرية.
وعند قراءتنا لديوانه -النقطة- نجد مبلغ الألم الذي يشعره الشاعر لما حلّ بأهل وطنه من مصائب الحروب والحصارات، حيث يتحول الوطن في قصيدته إلى أب قبل أن يصير نقطة في أفق هذا العالم، نقطة مضيئة كعهد العراق -الوطن- دائما وتأثيره في الحضارات الأخرى:
كان ورقُ اللعب يظهرُ صورته
بالتاج وبغيره
في الزيّ الرسميّ وبالعقال
فأنتبهتُ إلى صمته
وبكيتُ رقته اللؤلؤية.
واستمع اليه يقول عن دجلة:
لم تكن دجلة بمدادِ الحبرِ مرسومة
ولا بمداد الدم
ولا بأيّ شيء
كأنّ دجلة لم تكن .
فعجبتُ من تخاذلي
وارتباك رواياتي
لكنّ خزانتكَ - خزانة التاريخ - أعجب
وروايتكَ – رواية المقهورين – أتمّ.
ويقول في نص آخر:
وعذّبني الجوع
والرغيف هنا مغموس بالدم
وأثقلني الفراتُ بالندم.
وأيّ ندم هذا الذي يشعر به الشاعر وهو يرفض عطايا من يستطيع أن يعطي:
سنعطيكَ حروفنا أيهذا المعذّب
ونعلمكَ نقاطنا أيهذا المحروم
لكننا نخاف إن تعلمتها
أن تسخر من الذهبِ وثيابِ الذهب
أن تسخر من البلدان
أن تسخر من الأثداء والسيقان
أن تسخر من الأحلام
فتكون مثلنا فارغاً
بارداً
ضائعاً
عارياً للأبد .
وربما يأتي سؤال الشاعر الخطير واشياً بنفسه للقارئ عما يعانيه من عذاب ممض بعيداً عن الوطن، في عمان المجاورة لبغداد أو في أستراليا تلك القارة البعيدة عنها:
أخبريني كيف قُتلَ أبي
وكيف أباحتْ أمي طيورَ طفولتي للثعبان؟
كيف قادني الشبح ُإلى الشبح
والموتُ إلى الطوفان؟
*****************************************
نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية- العدد 1751 في 8 آذار - مارس 2004
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 211 - 215