شعراء ثلاثة
د. عدنان الظاهر
نعم ، شعراء ثلاثة هم :
1 ـ أديب كمال الدين ( في أستراليا )
2 ـ حسين محمود حبش ( في ألمانيا / بون )
3 ـ عبد الهادي سعدون ( في إسبانيا / مدريد )
وصلتني من هؤلاء الشعراء الثلاثة في شهر تموز ثلاث مجاميع شعرية هي آخر ما نشروا ، يجمعهم ويجمع مجاميع أشعارهم في أنها من أشعار القصيد المنثور ورأيتهم منذ فترة طويلة من فرسان هذا الضرب من فنون الشعر . قلت " رأيتهم " لأنني وخلال فترات متباعدة كنتُ قد كتبت عنهم وعن بعض مجاميعهم الشعرية وكالآتي: مرة واحدة عن ديوان [ ليس سوى ريح ] لعبد الهادي سعدون . وكتبت مرتين عن بعض أشعار ديوانين صدرا لأديب كمال الدين . كما كتبت كذلك مرتين عن ديواني شعر لحسين محمود حبش . نشرت ما كتبتُ عنهم في العديد من المواقع وربما في بعض المجلات الأدبية . إذاً أنا مع هذه النخبة من الشعراء، واكبت تطوراتهم وما نشروا هنا وهناك من قصائد وكنت مع إثنين منهم دائم الإتصال ودائم المناقشات حول أشعارهم وأحوالهم الشخصية والعائلية من خلال المكالمات التلفونية أو البريد الألكتروني . ستكون كتابتي اليوم هي الثانية بالنسبة لعبد الهادي والثالثة بالنسبة لكل من أديب وحسين .
الموضوع مشروع مغامرة مغرية جداً وأراها شائكة جداً والإنتهاء منها بسلام هدف صعب جداً ولا أدري كيف ستكون نتيجة هذه المغامرة . جميعهم أعزاء عليَّ فكيف سأقارن وكيف سأفاضل فيما بينهم؟ تلك هي المعضلة ، بل معضلة المعضلات !! بعد تفكير طويل وتمحيص ودراسة لما بين يدي من كتب شعرية لهم خلصتُ إلى حل توافقي وليس توفيقياً بالمرّة : أن أقارن بين ثلاث قصائد واحدة لكل منهم . ثم حددت موضوع هذه القصائد : المرأة !! كيف يتناولها وكيف يتعامل معها الشعراء الثلاثة من خلال موضوعات الغزل / الرومانس / الآيروس / الجنس . لذا وقع إختياري على القصائد التالية مسلسلة ً حسب تواريخ وصول الكتب إليَّ :
1 ـ يد واحدة / لأديب كمال الدين
( ديوان شجرة الحروف / الناشر : أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان ، الطبعة الأولى 2007 ) .
2 ـ روكسانا / لحسين محمود حبش
( ديوان أعلى من الشهوة وألذ من خاصرة غزال / الناشر : دار ألواح للنشر، مدريد ـ إسبانيا . الطبعة الأولى 2007 ) .
3 ـ تنهدات لينة / لعبد الهادي سعدون
( ديوان عصفور الفم وقصائد أخرى / الناشر : دار ألواح للنشر ، مدريد ـ إسبانيا 2006 ) .
هذا هو منهجي وهذه هي خطتي التي سوف أستهدي بها لمعالجة نصوص هؤلاء الشعراء .
الشاعر أديب كمال الدين وقصيدة { يدٌ واحدة }... الصفحة 121 من ( شجرة الحروف)
آليات اقتراب الشاعر من المرأة : يقترب الشاعر أديب من المرأة إقتراباً ودياً سلسلاً لا يفاجئها به ولا يخدش مشاعرها ولا يسبب لها صدمة الفجاءة التي تحس حواء بها حين يقترب منها رجل غريب ما سبق وأن رأته أو عرفته . يغازلها بالروح حيناً وبالآيروس المفضوح أحيانا، وبالرغبة والتوق الجنسي والشهوة الصريحة أحايين أُخرَ . مع قدرة فائقة على التنقل الرشيق من عالم الروح إلى عالم الجسد ومن الماضي إلى الحاضر أسرع من تحليقة البُراق وإسرائه ومعراجه . هذا المتصوف المتدين المشبّع بالإسلام ديناً وخُلُقاً ومثالاً ... لا يتحرج ، حين يريد ، من ممارسة الغزل الصريح المختلط والتائه بين التصوف والآيروس المفضوح . صوفيته آيروسية وآيروسيته صوفية . تصوفه ووجده جسديان ماديان والمرآة هي موضوع هذا التصوف والدنو من الباب الأعلى. تصوفه يخالف تصوف ووجد مشاهير المتصوفة السالفين ... تصوفهم ووجدهم تصوف ووجد مثالي ميتافيزيكي موضوعه الإله لا المرأة ولا جسدها . تصوف أديب تصوف فيزيكي مادي واقعي لا تشتت فيه ولا زوغان ولا هلوسات ولا دروشة ولا خيالات حشاشين . يتصوف ويتعبد أمام امرأة. تصوفه تصوف وعي ويقظة ووضوح هدف ، بينما تصوف أولئك تصوف غيبة ووهم . هذا يدنو من المرأة لكي يلامس جسدها وأولئك يتهربون من المرأة جاهدين أن يلامسوا مستحيلاً لا جسدَ له. ماذا يبغي أديب كمال الدين في محاولات دنوه من المرأة ؟ من جملة ما يبغي وما يروم ، إنه يحاول واثقاً قراءة أسرارها ولكن ، لا في كفها ولا في فنجان قهوتها ولا في تعبيرات وجهها ولكن ، يقرأ سرَّ بطن المرأة . يقرأ سرَّ شفتيها . يقرأ أسرارها في بطنها وفي شفتيها . لماذا البطن والشفتان ؟ يواصل البشر دورات حيواتهم في بطون أمهاتهم من خلال الحبل السري كما يعرف الجميع . لم يقل الشاعر " الحبل السري" لكنه فضّل أن يقول "سر بطنها " . إنه يريد أن يوحي لها أنه قادر على التنبؤ بجنس وليدها القادم ذكراً أو أنثى . إنه يقرأ الغيب . سر المرأة في بطنها . ورجال الشرق يفضلون الذكرَ على الأنثى [[ وإذا بُشّر أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مُسودَّاً وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بُشّرَ به أَيُمسكهُ على هُونٍ أمْ يدسّهُ في الترابِ ألا ساءَ ما يحكمون / سورة النحل / الآيات 58 و 59 ]] . الآن ، ما الموقف من الشفتين ، كيف يقرأ الشاعر المرأة من شفتيها ؟ الحب في الشفتين والرغبات جميعاً تبدأ بالشفتين . الشفتان بوابتا فم الإنسان ولا يكون التقبيل إلا بالفم من خلال الشفتين . لأديب كمال الدين فلسفته الخاصة التي تقول إنَّ الفم هو مجمع الرغبات الجنسية . هو المبتدأ وإنه هو مفتاح الدخول إلى العوالم الأخرى الأكثر عمقاً وشمولاً . هو القفل والمفتاح معاً . هذا ما قاله الشاعر أديب في مفتتح قصيدة ((يدٌ واحدةٌ )) . يد منه واحدة كافية لفك أسرار المرأة . يقرأ أسرارها الباطن منها والظاهر بكفه الساحرة . فكفه تقرأ وترى وربما تسمع وتتكلم .
بيدٍ واحدةٍ قرأتُ سرَّ بطنكِ النحيل
وشفتيكِ الملتهبتين بالرغبة.
بيدٍ واحدةٍ إنطلقتُ إلى أسراركِ وأكاذيبك المرعبة
وعرفتُ طقوسَ النقطةِ ودمَ الحروف
فإستبدلتُ مراكبي الواحدَ تلوَ الآخر
وحملتُ رؤوسي الواحدَ تلوَ الآخر
ورميتهم خلفي في النهرِ وفي البحر
في السجنِ وفي البئر .
بيدٍ واحدة ٍ توّجتكِ
ملكةً للنفي والمنفى
وتوّجتُ نفسي
في إحتفالٍ سرّيٍّ مقدّس
ملكاً للموتِ والموتى
ثم لبستُ عباءةَ السحر الحمراءَ إلى الأبد
بيدٍ واحدة .
ما سر إصرار الشاعر على إتيان ما يشبه المعجزات بيد واحدة؟ أللمبالغة بالقدرة والتصرف اليسير بالخوارق وغير المعقولات من الأحداث والأفعال؟ لم يقل مثل هذا قبله عيسى المسيح الذي كان قيل فيه إنه يُشفي المرضى والأكمه والأعمى وُيحيي الموتى. ما قال عيسى إبنُ مريمَ إنه يفعل ذلك بيد واحدة لا أكثر . أديب شاعر ساحر يحمل الكثير من شعره سمات وبراءة الأطفال. إنه قصاص وسارد حكايا مثل تلك التي قرأها في كتب السندباد وشهرزاد وشهريار وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة. إنه يعيد بعض ما قصته عليه جدته خلال أعوام طفولته. في رأسه مخزون هائل من هذه الحكايات المشوّقة . يعيد صياغتها وصقلها وسردها بلغة السَحَرة البسيطة في ظاهرها العميقة في سرِّها وجوهرها ودواخلها. كل قصائد ديوان (( شجرة الحروف )) تنتظم في هذا الباب دون إستثناء . تُقرأ بسهولة ويسر ولكنْ يقف القارئ طويلاً أمام التفسير أو محاولة الولوج وإختراق هذا السطح المستوي والمنبسط أمام عينيه... يقف مسحوراً مشلول التفكير مصعوقاً حائراً أين يضع هذا الشاعر العجيب الذي إنتقل من فرات ونخيل بابل العراق ليجاور قناغر أستراليا وشمسها الحارقة للوجوه والجلود؟ أين يضعه : هل في خانة الأطفال أو في خانة الرجال الناضجين؟ أم بين الفلاسفة أو رجال الدين؟ أم إنه مجرد {سحّار} مشعوذ وأحد حاملي <صناديق الدنيا > لإمتاع أطفال الشوارع بالخدع الضوئية وما شابهها مما عرفنا في زمان طفولتنا ؟؟!!
أراه فيها جميعاً ... في جميع الخانات والمواضع والهيئات. دائم التنقل طولاً وعرضاً، عمودياً ومستوياً، بارع في التحولات وتغيير الألوان والسمات. هو فيها جميعاً وفي كل قصيدة من قصائده تقريباً. أجده بعد الفراغ من قراءة إحدى قصائده يملأ كل الفضاءات الكونية المتاحة . يجوبها برشاقة الرياضي ومُكنة عالم الفيزياء وخفّة الساحر أو لاعب السيرك.
لم تحلْ هذه المواهب والقدرات الخارقة ، لم تحُلْ بين الشاعر وتذكر عالم المنافي التي أبعدته عن وطنه وذويه . المنفى يبقى له منفى حتى لو قرأ الغيوب وسبر بواطن الأمور وإخترق ما لا يُخترق . حتى لو كشف أسرار النساء جميعاً وتنبأ لهن بحظوظهنَّ وما ينتظرهنَّ من خفايا الأمور والمستقبل . قراءة الغيب شئ ولوعة المنافي شئ آخر . لقد توَّج في نهاية جلسة قراءة الغيب، توَّج المرأة التي أخضعها للفحص الغيبي وما يشبه التنويم المغناطيسي، توجها ملكةً للنفي والمنفى، ثم ليعود إلى نفسه (الطبيب المداوي) فيتوّج نفسه ملكاً ولكن ... ملكاً للموت والموتى!! المنفى موت في نظر الشاعر. تمثل امرأته (ولعلها زوجه) المنفى بينما يمثل هو الموت في منفاه . إنه يموت ويفنى فيها ما دامت هي منفاه وفيها عوامل نفيه أي عوامل فنائه. منفى = فناء . يفني، ينفي، يفنى، يُنفى. جناس لغوي يتضمن كوارث حقيقية لا مجازية ليست بحاجة إلى المجانسة اللغوية الشكلية . المرأة منفى والرجل الشاعر فناء . فيها منفاه وفيها مقبرة فنائه الأبدي . فيلسوف ، ألم أقلْ إنَّ شاعرنا فيلسوف عميق ظاهر كلامه لعب أطفال وحزورات ولعبة مربعات وخطوط متقاطعة .
ثمة أمران آخران جديران بالذكر. الأول: أن لغة أديب كمال الدين لغة سليمة مائة بالمائة، وذلكم أمر نادر الوجود بين شعراء اليوم . قرأتُ له ثلاثة كتب فلم أعثر فيها على خطأ لغوي واحد .فليتخذ شباب الشعراء منه قدوةً ومثالاً يُحتذى . أما الأمر الثاني فلا يخلو هو الآخر من التميّز الخاص بأديب كمال الدين : إنه قط ُّ لم يذكر في كافة ما نشر من كتب ودواوين شعرية ... لم يذكر أسماء النساء اللواتي تطرق الشاعر لذكرهن َّ أبداً أبداً ابداً . هل هي ( التُقية ) الشهيرة في تأريخنا الإسلامي القديم ؟ أم إنه التعفف الشخصي والتطرف أو المغالاة في تجنب ذكر أسماء [ المحصنات ] من نساء العالمين؟
إذا لم يسجّل الديوان الأخير للشاعر أديب كمال الدين قفزة أو صعوداً متميزاً فيما يخص الطاقة النفسية للشاعر وتقنيات التعبير الشعري وأساليب الإنتقال من الأمور العقلانية المجردة إلى عالم الشعور المحسوس فإنه لم يسجل أي هبوط في أيٍّ من هذه المعايير التي إعتاد الشاعر على توظيفها في سائر كتبه السابقة. إنه ، ويا للعجب ، يسير بخط مستقيم خالٍ من الإلتواءات أو المنعرجات أو ((الطسّات)) فما هو سر ذلك ؟ ثبات نفسية الشاعر؟ ثبات روحه؟ صفاء ذهنه؟ رجاحة عقله؟ سعة قاعدته الثقافية وتحكمه في أصول ومنشعبات التراث؟ أم إنها جميعاً تعمل معاً سراً في فضاء الشاعر الداخلي الخاص بموهبة الإبداع والخلق المبتكر؟؟
الشاعر حسين محمود حبش وقصيدة { روكسانا } ... الصفحة 60 و 37 من الكتاب .
مع هذا الشاعر الكردي السوري الشاب ننتقل إلى عوالم وأجواء أخرَ تختلف جذرياً عن عوالم وأجواء سلفه الشاعر أديب كمال الدين . إنه شاعر وهب نفسه دونما تحفظ لشعر الآيروس المفضوح !! إنه يذكر أسماء فتياته الصريحة حتى إنه أعطى إسم واحدة منهن َّ عنواناً لإحدى قصائده ... روكسانا ، وهم إسم شائع جداً في بولونيا . سجّلَ كتاب حسين هذا طفرة قوية مباركة إلى الأمام فكتب قصائد رائعة في شعر الحب الآيروسي المكشوف. إنه لا يتحرج ولا يتردد من قول ما يريد أن يقول . ولا حتى يخشى عذلَ زوجه السيدة ( هيام ) أم طفلتهما ( هيفا ) وولدهما( سيبان ) . كردي شجاع مقدام يقاتل في سوح الحب والجنس بالألفاظ والحروف لا بالمسدس والبندقية . لا نجد في كتابه الأخير هذا أية إشارة للغربة أو المنفى لكأنه وجد له وطناً راسخاً بديلاً عن سوريا ، وطن أهله وعشيره وأجداده . يذكّرني هذا الموقف من بعض شعر أبي نؤاس حيث قال :
عاجَ الشقي ُّ على رسمٍ يسائلهُ
وعجتُ أسألُ عن خمّارة البلدِ
أجلْ ، سيرفع هذا الكتاب صاحبه إلى أعلى مقام مُتاح في دنيا الحب والجنس والآيروس . إنه نقيض أديب كمال الدين أو مقلوبه بالتمام . عارٍ أمام المرأة وصريح مع نفسه ومع حاجاته الطبيعية الغريزية . شعره شديد التركيز مكتظ بالرموز والإشارات والمجازات والصور . سوريالية حديثة قد لا تكون مسبوقة . إنه رسام بارع ولا بيكاسو ولوحته الشهيرة
(غيورنيكا) . بعيد كل البعد عن الصوفية والتصوف . شعاره أنْ لا مِن تصوف في حضرة الجسد . إذا حضر جسد حواء إختفى الإله !! وإذا اختفى هذا الإله فلا وجودَ للمتصوفة والنسّاك والمتعبدين الخاشعين الركّع الساجدين !! أيها الناس !! أيها الشعراء !! هنا نسككم وهنا قبلتكم فأعبدوا هذا الجسد وثناً عالي المقام ولا من صنم أو وثنٍ غيره في الوجود . هذه هي فلسفة حسين محمود حبش الذي شق له طريقاً واضحاً متميزاً في عالم الشعر الذي طوّعه ليخدم أفكاره وقناعاته في الحياة . الشعر له وسيلة وليس غاية . الشعر جسر ومعبر أو برزخ . الشعر منفذ للنفاذ والخروج . سراط مستقيم لكنه واسع وعريض . لنستمع إلى صوت الشاعر مترنماً متغزلاً بفتاة تحمل إسم (( روكسانا )) :
إزرعيني وردة ً على قميصكِ المطرَّز بالشهوة
فأنا المزرّكش ُ بالهواجس والخرائب والأحزان
أبحث ُ عن دفءٍ يؤيني كذبحة حب ٍ قاتلة
خذيني من يدي فأنا الأعمى
أجهلُ دروبكِ المشتبكة بفوانيس الرغبة
إطعنيني وشمة ً أو شامة ً على جبينك ِ العالي
ظلليني بأوراقكِ الفضفاضة كأثواب الملائكة
أقتليني ففي قتلكِ لي إنبعاثي
أنا المهووسُ بهسيسِ الخريفِ وقَحط الأزهارِ
وشّحيني بالربيع وبدمعة ٍ منهمرة
كالندى على شفةِ الصباح
شكّليني على تكورات نهديكِ
لعلني أرى اللهَ بكل هالته
مجوسي ٌّ بحاجةٍ إلى التوبة أنا
ذنوبهُ الفقر ُ والتردد ُ والحجة البهية
أرفعُ يدي إلى تماثيلكِ ...
يردني اللهُ بكل غفرانهِ
ويضمني جسدُكِ كإيقونة ٍ بريئة
إلا من فعلِ الحب
وفعلِ الأنوثة .
صريح ... منتهى الصراحة الصارمة . صريح مع نفسه ومع من يخاطب أو يحب . صريح مع قارئ شعره . يتكلم عن الشهوة وعن الرغبة وفوانيسها التي تزيدها إشتعالاً ولهيباً . يتكلم عن تكورات النهود التي ربما يرى اللهَ فيها وعن جعله الحبيبة أو الصديقة الجديدة الطارئة تمثالاً يضاهي الإله يسجد له كالمجوسي ويتضرع رافعاً له يديه طالباً الغفران منه . إنه لا يكتفي بذلك ، إنما يطالب ربه أنْ " يتوسط " بينه وبين روكسانا من أجل أن تسمح له بدخول جسدها [[ إيقونة بريئة ]] ولكن ... لا من براءة مع الحب والأنوثة !! الإيقونات تعلَّق على الجدران في المنازل والكنائس وأحياناً تتدلى على الصدور ... غير أن شاعرنا لا يعلق " روكسانا " إيقونةً أو صورةً على حيطان بيته ولا فوق صدره ، إنما يلج جسدها ولوجاً غريباً بقدرة ربه الوسيط لا ليمارس أفعال العبادة هناك وإنما ليمارس الحب ، الجنس ... فعل الحب والأنوثة !! يطلق الإنجليز على ممارسة الجنس بلغتهم
To make love !
لا من نسك ولا من عبادة ربانية في حضرة جسد المرأة . هذه هي فلسفة الشاعر حسين محمود حبش . يتعبد بممارسة جسد من يهوى .
وماذا قال الشاعر حسين حبش في قصيدة أخرى تحمل عنوان (( إيماءات حاذقة / الصفحة 37 من ديوانه )) حيث ذكر إسم " روكسانا " في آخر سطر من القصيدة ؟ هنا أخّر ذكر الإسم وهناك جعله عنواناً للقصيدة . أذكر مقتطفات من هذه القصيدة الفضيحة :
...
أتجهُ إلى البلوى ، مبتلاً بجنون الحب
أُغادرُ الرضوضَ وأتجه إليكِ
أتشممُ طيفكِ وأُريكِ نبضاتِ قلبك
أستدرجُ الإثارةَ وأسكنُ في وهجها الأثير
أُشاطرُ الغريزةَ وأعبرُ دربكِ المحرّم
ترفعين إشارة َ النصرِ ، فيرتفعُ السقفُ بباطن قدميكِ
تتأوه ُ الغرفةُ وتعرقُ الستائرُ
تذوبُ المرآة ُ وتلتهبُ الجدرانُ
يندفع ُ الماءُ إلى عمقِ الوردةِ وتتأججُ النيرانُ
تلملمينَ ثيابكِ وتشدّينَ على يدي
تشكرينني
وأشكركِ
....
هل قرأتم أجمل َ أو أبلغ أو أكثر صراحةً من هذا الآيروس ؟ كيف حوّل هذا الشاعر الشاب أعمق وأقدم غريزة ورثها الإنسان من عالم الحيوان إلى كلمات تنضح بالرغبة الجنسية وبالصور الأخاذة التي تأخذ بالألباب وتثير في القارئ نزعات ورغبات شتى وهو يتابع حركات ورسومات الشاعر وصوره المتتابعة السريعة والتي لا تدور إلا حول هدف واحد وبؤرة واحدة ورغبة واضحة صريحة : الجنس ، الجنس مع روكسانا البولونية أو من شعب آخر !! {{ ترفعين إشارةَ النصر }} ... يفهم هذه الصورة ويعرف ترجمتها كل مَن مارس أفعال الهوى من الرجال المجربين ... ما معنى " إشارة النصر " بالنسبة لإمرأة مستلقية في فراشها على ظهرها ؟ وما معنى " أن يرتفعَ السقفُ بباطن قدَمْي " هذه الفتاة ؟ ما أخبثك وما أعجبك يا إبن حَبش !! كم زمناً أنفقتَ وأنت تحاول التعبير عن هذه الواقعة بالصور النادرة الوقوع ؟ أم ترى أتاك بها الإلهام العاجل وقدراتك على الإبداع ؟ لا من دروبٍ محرَّمة أمام الشاعر حسين حبش !! مثله لا يعرف ولا يعترف بالمحرَّمات أصلاً . إنه حقاً وحقيقةً شاعر الآيروس الفاضح بلا منازع .
كل ما كتب حسين في كتابه الأخير هذا (( ونشره له صديقه الشاعر عبد الهادي سعدون في مدريد ... )) يدور حول ذات الموضوع : الحب ، الجنس ، الآيروس الصريح أو الرامز أو الموحي . للشاعر قدرات هائلة على الإيحاء والإدهاش في عين الوقت . له القدرة على تحويل الحجر الجامد الصلد إلى سائل متحرك وفاعل شديد التلاوين وحارق لمن يلامسه أو يقترب منه أو يشم رائحته ... حتى !!.
الشاعر عبد الهادي سعدون وقصيدة { تنهدات لينة } ... الصفحة 52 من الكتاب .
إستهل الشاعر عبد الهادي قصيدته هذه بكلمة الإهداء " إلى
L iane...
هذا هو إسم صديقة الشاعر ولا أدري كيف يتلفظه بالعربية :
ليانة أو ليّانة أو لينا كما هو الحال في اللغة الروسية أو غير ذلك ؟ لا يهم كيف نتلفظ أسماء بنات حواء الأجنبيات ، المهم عمق الصداقة معهن َّ .
ما موقع عبد الهادي بالنسبة للشاعرين السابقين ؟ أين تضعه أشعاره ؟ إنه قطعاً لا هذا ولا ذاك . إنه عبد الهادي سعدون وكفى ، لا إبن حلة بابل ولا إبن قرية عفرين السورية . هو اليومَ في مدريد ، ثقافته ولغته إسبانيتان وصديقته إسبانية . أعود لأسأل : أين تضع الشاعرَ أشعارهُ ؟ قراءة كتابه الأخير ( عصفور الفم ) ترينا أنَّ موقعَه شاعراً وإنساناً وسط ٌ ما بين كمال الدين وحسين حبش . فلا فيه حذر الأول المحسوب ولا إستقامة خطوط مسيرته الشعرية ولا صوفيته المثالية . من الجهة الأخرى ، لم أجد فيه إندفاعة حسين حبش المغامرة والحارقة لكل الأوراق ، ولا آيروسه غير المتحفظ الذي لا يعرف له حدوداً معقولة أو غير معقولة . وجدته وسطاً يزن ألفاظه بميزان من ذهب ويضبط مشاعره وعواطفه بضوابط شبه صارمة يعرف كيف يختار حدودها وكيف يقيس مدياتها . يجري قبلها ومعها وخلفها حاملاً أجهزة القياس وقواميس الألفاظ العربية المحتشمة وما تحمل من دلالات وإشتقاقات لكي لا يتورط في توظيف ألفاظ نابية لا يتقبلها حسه هو وذائقته الشعرية والإنسانية فضلاً عن قرّاء شعره . من أين وكيف تعلّم هذا الضبط والإنضباط المحكم وفرضه على نفسه بصرامة القائد العسكري ؟ هل هو بهذا يشذ عن باقي الشعراء طرّاً ؟ قد يكون . الشعر مغامرات ونزق وشطحات صوفية وغير صوفية . ليس له حدود وطنية أو قومية أو دولية . إنه ظاهرة عابرة للقارات والجبال والمحيطات . والشعر لعب أطفال أحياناً كما رأينا الحال مع أديب كمال الدين . نقرأ قصيدة (( شهادات لينة )) مع عبد الهادي كيما نضع أيدينا على مصداقية قراءتي له وتكهناتي المغامرة بدورها . سأقتطع أجزاءَ من هذه القصيدة ، الأجزاء الأكثر تعبيراً عما يجول في خاطري من تصورات وإجتهادات بشأن شاعرية وشعرية عبد الهادي .
تجئُ وتمضي كرفةِ عين ٍ ،
أنا الحارسُ في خِدرها .
تجئُ وتمضي ،
أقل َّ من ثانيةٍ أو أبعدَ من إنفرادةِ إصبَع ٍ
اللينة ، وهي تلوي جذعي
فأقول ُ : غيبتني إنفرادتكِ .
يا لينة
تنهداتكِ غفتْ على رفوفِ الغرفةِ ،
ملتصقة ً بالكتبِ والصورِ ولطخاتِ لونِ الزيتِ في خربشاتك ِ
وبقايا كعكةِ التفاحِ صنع ٍ محلي ٍّ
والتحرشات ِ المضيئة ِ لجارِ الطابقِ الأخيرِ
يتسلى باللكنة ِ الأعجميةِ وإطلاقاتِ مسدسهِ .
ـ أصعدُ إليهِ
فتقول ُ تعالَ
الكونُ يفوحُ بحنجرتكَ
فأصمتُ كضوءِ عينين بلا زجاج ٍ
فتفوح ُ تفاحتها دون الكعك ، لولا أني أتستر ُ .
يا لينة ُ الليلُ ليلُك ،ِ
ونهاري بلا حُمرة ٍ ،
لأنني أمضي مثلَ برق ٍ وأشم ُّ رائحتكِ في الورق ِ ،
الورق ُ يحضرُ وأنتِ تغيبين .
لأنني أمضي بغفلة ٍ
وأنتِ تدركينَ اللعبةِ ،
لأنني أستفيقُ بمرور ِ الغبطة ِ ولو للحظة ٍ
وأنتِ تقيسين المسافاتِ بهدير القطاراتِ ،
لأنني أسردُ تفاصيلَ لمعتَكِ
وأنتِ التي تصبغينَ العَتمة َ بلونِ الليلِ ،
لأنني أدورُ
وأنتِ التي لا تهدأين .
لأنني الذي يمضي
وأنتِ التي لا تجيئين ،
يا لينة كغصن ٍ
فأتشبث ُ بالورق ِ .
ماذا نفهم من هذه القصيدة المركبة الغامضة ـ الواضحة ؟ هل هي مجرد رموز موحية لحقائق حصلت للشاعر كقصة حقيقية أو مجموعة مشاهد ولقطات خيالية أو أحلام تأتي الشاعرَ في بعض ساعات يقظته ؟ هل يمشي الشاعر في المنام ؟ ما سبب هذه الرمزية الجميلة المكثفة التي قد تبدو للبعض منا شديدة الغموض وإنها ليست كذلك ؟
للشاعر صديقة عرفنا إسمها ولم نعرف كيف نتلفظه بالأسلوب الصحيح . صديقة الشاعر لا تقيم معه في العاصمة مدريد . تزوره ربما في عطل نهاية الأسبوع [[ السبت // الأحد ]] . تجلب له معها بعض المأكولات من صنع يديها أو يدي والدتها : كعكة بالتفاح . تفاح هذه الكعكة يوحي لشاعرنا أموراً أخرى لا علاقة لها بثمرة التفاح . نحن نعرف قصة التفاحة مع أمنا حواء ... خالفت ربها وأكلتها فخسرت جنتها وهبطت إلى الأرض لنكون نحن البشر أبناءها العاقين والضالين والبعض منا قَتَلة ( قابيل ) . تفاحة ( لينة ) غير تفاحة حواء أمها < تفوحُ تفاحتها دون الكعك > !! يعزل عبد الهادي التفاحة َ عن عجين الكيكة أو الكعكة . يفرزها عن باقي مكونات الكعكة . يستخلصها لنفسه حلالاً هنيئاً مريئاً . العجين الخارجي كالقشور غير النافعة . العجينة كاربوهايدرات لا من سكّر فيها ،
لكن في التفاحة فيتامينات وطعهما حلو المذاق وألوانها شتى تحاكي لون خدود صديقته وحمرة شفتيها . الأفراح لا تدوم . لا تعمَّرُ إلا قليلاً . تنتهي إقامة الصديقة مع صديقها في مدريد فتتأهب للمغادرة . هنا مع حلول مساء الأحد تبدأ لوعة الشاعر المضاعفة بل والأكثر من مضاعفة . القطار ، القطار سيحمل الحبيبة َ بعيداً عن العاصمة وينقلها إلى حيث تعمل وتقيم.
أبدع الكثير من الشعراء في رسم إشكاليات ساعة الفراق وإنتظار إنطلاق صفارة القاطرة تعلن عن بدء حركتها في الإتجاه المرسوم . الحبيبة في هذا القطار ... فمن يوقف حركته ويعيد الحبيبة لمن يحبها ؟ [[ وأنتِ تقيسين المسافاتِ بهدير القطارات ِ ]] . القطار عدو الشاعر . سينتزع صديقته منه . ستفصلهما مسافات ومسافات . حياته بعدها وفي غيبتها سواد في سواد ... عتمة وليل . الفراق ، ما أوجعه وما أمضّه على قلوب المحبين !! [[ لأنني الذي يمضي وأنتِ التي لا تجيئين ]] . غيابها عنه لا يعني إلا غيبته عنها وعن الدنيا قاطبةً . إنه يمضي ... ربما يمضي إلى حتفه إن ْ لم تزره الحبيبة . الغياب مر لا يُحتمل لا يخفف الأمل عنه إلا قليلاً . أفلمْ يقل قبلنا المتنبي :
وما صبابة ُ مشتاق ٍ على أمل ٍ
من اللقاءِ كمشتاق ٍ بلا أمل ِ
الخلاصة : أين تضع هذه القصيدة ، كأنموذج ، الشاعرَ عبد الهادي سعدون في عالم المدارس والفرضيات والتنظيرات ؟ رومانسي ؟ رمزي ؟ سوريالي ؟ آيروسي ؟ أم متصوف وفق مدرسة خاصة به لم يستعر مفرداتها من أحد من سابقيه أو معاصريه ؟ هل أغامر بالتصريح إنه جميعاً ومعاً خليطاً عجيباً نسيجَ وحده . فضلاً عن ميله القوي للتركيز والإقتصاد بالكلمات إلى الحد الأدنى . إنه يعالج الكلمات بمنطق الرياضيات ويتعامل معها بالرموز والمعادلات الصارمة التي لا تقبل التأويل واللف والدوران . وما قصيدة " لينة " إلا مثالاً واحداً قوياً يضع أمامنا طريقة وفلسفة ووسائل الشاعر في كتابة شعره على الورق .
تعقيب أخير : ذكر في ديوانه [ ليس سوى ريح ] المطرب العراقي الريفي السيد " داخل حسن " ... فوجدتها مناسبة طريفة لأقدم له هدية تفرحه هي عبارة عن كاسيت يحمل بعض أغاني داخل حسن ... أرسلت له هذا الكاسيت فشكرني عليه . الآن ، وبعد سياحتي مع صاحبته {{ لينة }}، ماذا سيقدم هو لي في هذه المرة ؟؟