قراءة ظاهراتية في (نقطة) أديب كمال الدين
د. إسماعيل نوري الربيعي
من أين تبدأ العلاقة مع النقطة؟ من جهود النحويين العرب بدءاً من أبي الأسود الدؤلي مروراً بنصربن عاصم أم أنّ رابطاً آخر يجوس وسط هذه العلاقة المتوترة التي تقوم على التغاضي عنها (عند الأقدمين) خشية الضعف وقلّة الفطنة؟ مَن يضع النقط على الحروف يكون كمن يكشف الغمّة عن عجمة حروف هذه الأمة. فالنقطة تفصح وتحدد العلاقات وإذا قالت العرب كنقطة في بحر دلالة التصغير، فإنّ تشكلاتها واستتباعاتها لابد أن تحرك مجالا وتجلو عن فسحة، صغرت أم كبرت. النقطة تستجلب لمعة المعرفة ونورها، تكشف الحجب القائمة عندما تمارس حضورها. إنها نقيض المكان الذي اتخذه الاسكندر المقدوني عندما وقف على ديو جينيس الكلبي (323 ق. م.) قائلاً له: اطلبْ ماشئت، فما كان من الفيلسوف إلاّ أن أجاب: انكَ تحجب نور الشمس عنّي.
في قصيدة (محاولة في أنا النقطة) التي هي واحدة من أهم قصائد مجموعة الشاعر أديب كمال الدين المعنونة بـ(النقطة) يعمد الشاعر إلى استثمار تكنيك التكرار في عموم القصيدة التي وزعها على خمسة مشاهد رئيسة كان مفتتحها جميعاً (أنا النقطة). لكن التكرار هنا يتسرّب في عموم القصيدة حتّى لكأنه يتبوأ مكانة دلالية حاول الشاعر إثراءها من خلال الانتقاء الدقيق في منظومة تكرار مفردة بعينها، وهكذا نجد مفردة (أنا) وقد تكررت خمس عشرة مرّة، و(لا) خمس مرات، (قبل) ثلاثاً، (سأهجو) مرتين (ما) أربعاً، (النقطة) ست مرات. ترى هل يدعونا الشاعر إلى انتقاء مفردات بعينها ووضعها في بيت جديد، وبما تسمح به نظرية التلقي:
أنا لا فيّ قبل
سأهجو ما النقطة
لكن الهجاء هنا لا يستحظره الشاعر لأغراض الهجاء الذي عرفته القصيدة العربية الكلاسيكية، بقدر ما يجعل منها لدلالة رفض للعلاقات الراكدة التي تعتمل فيها السطحية والمباشرة بل إنه يعمد إلى تحديد أهداف هجائه: (نفاق، سخف، كذب، ترّهات) المشهد الأول يجعل منه الشاعر بمثابة كولاج افتتاحي يتداول فيه: التاريخي (سيف الأصلع البطين) الأيديولوجي (خرافة الثورات وثورات الخرافة) الوجودي (معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى) الأسطورة الدينية (دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض) الصوفي (بقية من لا بقية له) تناص مع حكاية قابيل وهابيل وإسقاطها على دجلة والفرات (الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم) حضور رمز البطولة ممثلا ًبالرقم (ألف) في السيرة الشعبية خصوصاً حيث البطل السيروي الذي لا يتنازل عن قتل ألف من أعدائه في ضربة واحدة (ألف جريح)، التناص القرآني (نون والقلم ومايسطرون): (ونون فتحت لبّها لمن هبّ و دبّ).
يتطلع الصوفيون إلى الدلالية الرمزية في الحروف باعتبارها الموصولة إلى كشف الحقيقة الإلهية، على اعتبارها حجاباً، لذلك فإنّ (البرهان) يسقط في حساب الصوفية للإعلاء من شأن (الكشف) الذي يكون بمثابة الطريق إلى الإيمان. وإذا كان خلق الكون قد تم عن طريق تجليّات الذات الالهية، حيث الأمر الالهي المستند إلى الكلمة ليكون الارتباط بالحقيقة الأزلية الجامعة. ويكون النبي (ص) قد أخذ الكلام عن الله جلّ جلاله ليقوم بتفسيره وتوضيحه إلى عموم البشر، فإنّ الحروف هنا سيتم فيها الاكتناز بالمعاني المرتبطة بأفكار النبي (ص) وليس الارتباط هنا مع ظاهر النص. التأويل الباطني سيكون له الحضور الأهم والدور الفاعل في التفسير. المشهد الثاني يكون بمثابة البحث عن الذات، لكنه يستهل العلاقة مع الخرافة وليس الأسطورة، وبقدر ما قـيّض لكلكامش الحصول على سرّ الحياة من خلال العمل على خلود اسمه فإنّ شاعرنا هنا يبحث عن اسمه وسط زحمة من الرموز المختلفة والمتناقضة السلبية (الهراطقة، الزنادقة، المهزومين، المتمترسين، الطبالين، اللصوص) والإيجابية :(العبادلة، الرهبان، الكرادلة، المنتصرين، المهاجرين) إنه يقرّ ابتداءً:
أنا خرافةُ العصر وسرّته
ولعلّ السؤال هنا، يكمن في مصير الخرافة ومآلها، لكن البيت يشي بمركزية، قوامها الارتكاز إلى الذات. فها هو الشاعر يصيح بملء فمه: (أنا سرّة العصر). لكن التصريح هذا يعود به إلى تراث أسلافه من الشعراء الذين غازلوا العصر والزمان وأبوا إلاّ أن يناكدوه ويحاوروه ويكاشفوه، لكن الشاعر هنا يجمع دلالتين في بيت واحد عامداً إلى وضع العصر بين دلالتين متناقضتين: الخرافة بكل تداعياتها والسرّة بكل قوة حضورها. المشهد الثالث قوامه الرؤيا الفلسفية حيث ماهية الوجود البرمنيدسي (نسبة إلى برمنيدس الايليائي ت 450 ق. م) حيث تمام الموجود الذي لا نهاية له، المتساوي والممتلىء الجوانب (الكروي الشكل). يقول الشاعر أديب كمال الدين:
فيَّ احتوى العالمُ الأكبر
والألمُ الأفدح
فيَّ تجمهر الماضي
وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.
هاهي مظاهر الافلاطونية المحدثة تتجلىّ عبر مفهوم (الخير المحض) حيث المبدأ لجميع الأشياء ليكون أول ما تفيض عنه الآنية ثم العقل وبعدها النفس، لكن الآنية والعقل يدخلان في حيز الدهر حيث الأزلية التي تتجلّى فيها صورة الزمان المتحركة. وباعتبار أن النفس هي مصدر الطبيعة وعلّة الحركة، فإنها تكون بمثابة الرابط بين عالم الجواهر العقلي الذي لا يتحرك، وعالم الكائنات الحية المتحركة حيث عالم الطبيعة المنفصل عن النفس.
يؤسس الشاعر للبدهي واليومي في المشهد الرابع من القصيدة، حيث يقوم بعجن الحقيقة بيديه، وهو يستحضر الزمني الما قبل تاريخي (قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة) والمستقبلي الذي تبلغ فيه ذروة الحداثة (الوصول إلى القمر). إنه يوظف الما بعد الزمني لتأسيس رؤاه القائمة على (قبل) هذه، ليحقق من خلالها نبوءته الخاصة. وهكذا يجعل من لغة الإدانة ولعنة تاريخ العالم المليء بالشرور بدءاً بالإثم الأول (قابيل ماذا فعلت بأخيك) مروراً بالمقابر الجماعية والفقر والطغيان والجوع والرفاهية. وكل هذه التناقضات والمتنافرات التي تملأ أرجاء هذا العالم الطافح بكل ماهو غريب وعجيب. الشاعر هنا يقول: (أنا النقطة) لكن الدلالة المضمرة كأن لسان حالها يقول: (انها النقطة) .
الشاعر أديب يجنح إلى ابتكار (النهاية الطللية)، فها هو يلملم ركام هذا العالم من (حروف ميتة، نفاق، سخافة، أكاذيب، ترّهات، لهاث نحو المتع الحسية). وكأنه يستكثر إطلاق (آه) كاملة، بالقدر الذي يشحذ حرف الألف المحدود وكأنه السيف. وهكذا يعمد الشاعر إلى ضخ جرعات الأنسنة داخل النقطة، ذلك الشيء الإتمامي الذي لا يلتصق بجنس الحروف ولا بجنس الكلمات! إنها النقطة الحزينة، الدامعة التي ارتكبت خطيئة المعرفة. فالنقطة الدالة الموضّحة والكاشفة عن غمه الحروف، والمرشدة إلى المعاني. أية ظاهرة عقلية تلك التي يخوض فيها الشاعر، هذا باعتبار القصدية المتطلعة نحو الموضوع (النقطة). الدرس الظاهراتي نتمثـّل فيه تفصيلات الفكر في توجهه نحو ظاهرة محددة من أجل ممارسة فعل القصدية، حيث الوعي من بلوغ المعقولية التي تؤسس للتطابق في الوجود وصولاً إلى ربط الوجود بالمعنى الذي يسعى إليه الفكر.
الظاهراتية تتجه ساعية نحو البحث في مجال الشعور حيث الحياة بلوغاً إلى الماهيات، وانطلاقاً من التراتبيات المنهجية حيث الخطوة الأولى، فإنّ (تعليق الحكم) يستند إلى عزل المظاهر الطبيعية من (نفسية، بيولوجية، انثروبولوجية) وأهمية التدقيق في الظاهرة الإنسانية باعتبارها من الماهيات المطلقة. فيما تكون (المحايثة) حيث التجربة الحية في الشعور والتوجه نحو (قلب النظرة) استناداً إلى دمج الظاهرة في الزمان وليس المكان. ليكون المستند هنا قوامه تحليل الشعور الداخلي داخل الزمان. وهكذا يتم البحث في مضمون الشعور من خلال البعد الزماني راصدا ًلمشاعر: التوتر، الانتظار، الكراهية. وبقدر ماينفتح الزمان نحو الماضي فإنّ الحاضر يكون له الظهور وصولا ًإلى المستقبل. ومن هنا يكون السعي إلى توحيد الظاهرة مع الشيء في ذاته عن طريق دمجها في الشعور، وجعلها جزءاً في رباط واحد لا ينفصم.
في إجراء (البناء يبرز الاستناد إلى الذات التقليدية التي يتمثل فيها (القالب) والشعور المتطلع نحو الوقوف على ماهية الشعور عبر تحليل الوجود والمعرفة، والوقوف على القصد المتبادل بينهما. إنه (الشعاع المزدوج) المتحرك في تبادلية قوامها من الذات إلى الموضوع ومن الموضوع إلى الذات، وصولاً إلى الإدراك. وإذا كانت غاية الظاهراتية تتمثل في درء الانحيازات ومحاولة الوقوف على الفواصل بين الشك واليقين، فإنّ إجراء (الإيضاح) يكون بمثابة المسير الذي يميز بين المواضيع. وهكذا تكون النفس موضوعاً للظاهراتية، والبدن موضوعاً لعلم النفس، والشيء موضوعا للأنطولوجيا. لكنّ الإجراء لا يتوقف عند هذه المعطيات فقط، بل يتخطاه نحو مهام أخرى تبرز في أهمية (التفريق) بين الألفاظ المحكم منها والمتشابه، و(التوضيح) حيث التمييز بين الأشياء، و(الكشف) الذي يعنى بمكامن الشعور الداخلي.
من خلال علاقة الربط بين (أنا) و(النقطة) يسعى الشاعر أديب كمال الدين إلى ربط العلاقة بالماهيات، بحثا عن تعميق التجربة الحية في الشعور، من خلال دمج النقطة في الذات الإنسانية، فيما تتشكّل رؤاه الزمانية على ملامح العلاقات المكانية. إنه يعمد إلى فرز الأبعاد الزمانية للشعور من خلال فرز عناصر (التوتر) التي يحشدها الشاعر في تفاصيل شديدة الوضوح ممثلة بالتاريخي والأيديولوجي والوجودي:
أنا بريق سيف الأصلع البطين
أنا خرافة الثورات وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى.
فيما تبرز عناصر(الاستدعاء) في ربط الأسطورة الدينية والصوفية، والتناص مع قصة قابيل وهابيل:
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية من لا بقية له
أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم.
أما عنصر (الانتظار) فإنه يبرز في ظهور رمز الألف، ذلك العدد الذي يحضر بقوة وكثافة في السيرة الشعبية، والتناص القرآني في حرف النون:
أنا ألف جريح
ونون فتحت لبّها لمن هبّ ودبّ.
عنصر (البناء) يتمثل واضحاً في المشهد الثاني من القصيدة حيث قصدية الشعور (الذاتي والموضوعي) وقابلية الفعل المرتبطة به بلوغاً إلى محاولة للإدراك، إنه السؤال المغيّب ـ المُضيّع، بل إنه سؤال النبر والتنغيم:
بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة
بل إن تطلعه إلى تكرار (اللا) المتصدرة لخمسة أبيات يجعل منها متوجهة إلى فعل القصدية بدءاً من الذات وصولاً إلى الواقع الموضوعي المليء بالطيبين والأشرار الذين يرصدهم الشاعر. ومن رصد العلاقة بين المعرفة والوجود يتم الوقوف على تحليل الشعور بالذات القائم بين(النقطة) المرتبطة بـ(أنا) الشاعر، وخرافة العصر وسرّته المرتبطة بـ(أنا) الشاعر أيضاً. العلاقة بين النفس والبدن والشيء يفضح إجراء (التوضيح) الذي يفصل بين الأشياء عنها. فإذا كان الشاعر لسان حاله يقول:
فيَّ احتوى العالمُ الأكبر
والألمُ الأفدح
فإنّ الشاعر سيعمد إلى التماهي مع (ابتسامة الطفل، حفيف الشجرة، موجة البحر، ندى الربيع). أما إجراء (التوضيح) فإنه سيتبدّى واضحاً في إبراز مكامن الشعور:
فيَّ تجمهر الماضي
وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.
إنه الإدراك في أعلى تجلّياته، حيث حالة (الشعاع المزدوج) بقوامها القصدي، من الذات إلى الموضوع ومن الموضوع إلى الذات، حيث يتكّشف الرعب الذي يتسع ليشمل العالم:
ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة
وأفريقيا المجاعة
وأمريكا الأعاجيب.
وتتولى اللغة في المشهد الخامس مهمة الإيضاح، حيث الكشف عن المشاعر الكامنة في دخيلة الشاعر. إنه يعمد إلى الحوار المباشر والحوار الداخلي، وتفكيك حروف الكلمات كهذه (الآه) التي لم تكتمل ـ آخر القصيدة ـ وكأنها آه لرجل أصابته رصاصة!
نص القصيدة : محاولة في أنا النقطة
شعر: أديب كمال الدين
أنا النقطة
أنا بريقُ سيفِ الأصلع البطين
أنا خرافة ُالثوراتِ وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية من لا بقية له
أنا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالإثم
أنا ألف جريح
ونون فتحتْ لبّها لمن هبّ ودبّ.
أنا النقطة
أنا خرافة العصر وسرّته
بحثتُ عن اسمي لم أجده مع الهراطقة
ولا مع الزنادقة ولا العبادلة
ولا مع الرهبان ولا الكرادلة
ولا مع المهزومين ولا المنتصرين
ولا مع المتمترسين ولا المهاجرين
ولا مع الطبالين ولا اللصوص.
أنا النقطة
فيّ احتوى العالمُ الأكبر
والألمُ الأفدح
فيّ اختفتْ ابتسامةُ الطفل وحفيفُ الشجرة
فيّ اختفتْ موجةُ البحر وندى الربيع
فيّ تجمهر الماضي
وخرج باتجاه المستقبل في مظاهرةٍ حاشدة.
أنا النقطة
عرفتُ الحقيقةَ وعجنتها بيدي
قبل أن يصل الإنسان إلى الكلمة
وقبل أن يصل إلى القمر
وقبل أن يبتكر المقابر الجماعية
بل انني عرفتُ الحقيقةَ عاريةً
عري هابيل وقابيل
فأعطيتها ملابسي المثقوبة
ورعبي الذي اتسع فشمل آسيا الطغاة
وأفريقيا المجاعة
وأمريكا الأعاجيب.
أنا النقطة
أنا مَن يهجوكم جميعاً
أيتها الحروف الميتة
سأهجو نفاقكم وسخفكم
سأهجو أكاذيبكم وترّهاتكم
وكفاحكم من أجل الأفخاذ والسياط وكؤوس العرق.
آ...
ما أشدّ حزني
ما أعمق دمعتي التي وسعتْ آلامَ البشر
ما أفدح خطيئتي: خطيئة المعرفة
ما أعظم زلزالي وخرابي الكبير
أنا النقطة.
********************************
دراسة ألقيت في أمسية خاصة احتفاء بصدور مجموعة (النقطة) أقامها اتحاد الكتاب والصحفيين العراقيين(المنفى) - عمّان 19نيسان 2002 وشارك في أعمالها د. حسن ناظم، علي عبد الأمير، ناظم عودة، وديع شامخ، مسلم الطعان، حسن النواب، صالح زامل حسين، وقدمها: محمد غازي الأخرس
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 217 - 224