خطوط الحرف السرّية
قراءة نقدية في شعر أديب كمال الدين
د. بشرى موسى صالح
* مدخل : هزّة الحرف في صراخ المجاهيل :
******************************
في قوانين القراءة النقدية الحديثة تترشح مقترحات قرائية كثيرة لتكون مقتربات للوصول الى النص الشعري الحديث إيماناً بمغادرة الطقس السطحي الى المناخ الغائر تحت السطح وفي محاولة للربط بين الظاهر والعميق .لذا نجد ان القائلين بإعلاء شأن القراءة أو منهج القراءة في نقد يهتمون برصد أي شيء للوصول الى كلّ شيء، نجدهم يهتمون بكل ماتقدمه اليهم (نماذج) الشعر الحديثة والمعاصرة من أشكال تجريبية خطوة أولى في سبيل ادراك (دينامية النص)، ومن هنا جاء اهتمام (القارئين) بمظاهر النص كلها: شكل الحروف، علامات الترقيم، علاقة البياض بالسواد، النقاط، القطع،التدوير.. الخ، للوصول نحو الغرض الاستكشافي فإن القراءة: (تقترح مفاتيح خاصة ليست هي مفاتيح الآخرين، وتبتكر الى النص طرقاً جديدة ليست هي طرق الأخرين)(1) .
ومن هنا كان أمام هذا (القارىء) الفاحص المنقب أن يفتت القناعة التقليدية التي ترهن نفسها بدلالة صاحب النص اي التي ترى ان مهمتها تنتهي عند حدود الكشف عما يريد الباحث بثه في نصه لتدور في فلك التوصيل التقريري ولتكشف لنا الستار عن (المعنى) أو (المغزى).وإذا كنا قد رصدنا حتى هذه اللحظة جانباً من جوانب الاشكالية النقدية المعاصرة فان الجانب الآخر يتمظهر بما ترسب في ذهن الشاعر المعاصر (التقليدي) ذاته من رواسب تلك القناعة فحاول ان يحاصر إبداعه في (تقويل النص) للمعنى بلعبة سطحية يلعبها مع الناقد فيوضح تارة ويغمض أخرى.أما الشاعر المعاصر المتطلع الى أفاق ترفض الثوابت والقوانين الناجزة الجاهزة في الشعر فقد أدرك ان نصه لايقول شيئاً (محدداً) في الحين الذي هو مرشح لأن يقول كل شيء وتـُبتعث منه مشاريع قراءة مفتوحة لاتمتثل للانغلاق بل للانفلاق.وتطلع شاعرنا العراقي المعاصر الى تحقيق هذه الغاية في مغايرة المألوف ممهدا السبيل الى الفعل القصدي في إنشاء أو ابتداع (أسطورته) الخاصة التي لاتعني البعد المعروف للاسطورة بل استشفاف البعد الرمزي للفكر الانساني واستحداث الفعل الصوغي الخارق.ولا نريد الخوض في المستويات الابداعية المتحققة في فعل الانشاء هذا والتفاوت بين شعرائنا في تجسيده فليس هذا موضوعاً لنا الآن بل ان ما نسعى الى استكشافه هنا هو محاولة الوصول الى هذا البعد في شعر واحد من شعرائنا العراقيين وهو أديب كمال الدين.
* المقترب الحرفي ومحفزاته في شعر أديب كمال الدين (2) :
***************************************
في واحدة من محاولات شاعرنا المعاصر لخلق أسطورته الخاصة واستحداث الفعل الصوغي الخاص تقف محاولة أديب كمال الدين في خلق التقاطع مع المألوف والاستعلاء عليه بمكابدة الحرف.. في توق لخلق الأنموذج المهيمن على رؤيته الشعرية.. أنموذج (القصيدة الحروفية). ويحاول الشاعر أن يبوح بالمحفزات التي دعته الى اقتحام نصه تحت (شروط الحرف أو طائلته) والدوران معه في دورة لامتناهية، وأول المحفزات لديه يبدأ بالقرآن الكريم، والحرف جزء من أسراره، ثم بما أحسه في الحرف من قدرة على استكناه أزمنته الماضية والحاضرة وكشف المستقبلية منها وقدرته على خلق أسطورته الشخصية، ويعلن عما منحته التجربة الصوفية ومواجد المتصوفة له من مقترح حرفي وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لاتحد.ويصرح الشاعر بالحرف ( أسطورة خاصة ) ويعرف به أداة لحفر منجمه الشعري ويشهد ان للحرف لديه مستويات (3) .
وإذا أردنا لهذه المستويات أن تتحدد لكانت :
1. المستوى الهيئي (الشكلي) .
2. المستوى الدلالي .
3. المستوى التحويري .
4. المستوى الطلسمي.
5. المستوى القناعي ويتخذ أشكالاً مختلفة منها :
أ . الصوفي ب . الأسطوري ج . التراثي.
وإذا ما صح لهذه المستويات أن تتفرع في الاطار التنظيري تعسّر ان تفعل هذا على جسد النص حيث يبدل أدواره الحرف في قصيدة أديب وتصبح هذه المستويات غالباً قسمات لوجه واحد ولو أردنا ان نضع مقترحاً أو مقترباً قرائياً لأسطورة الحرف عند أديب لتمثل في امتزاج هذه المستويات وانصهارها في حروفياته .
* شذرات من حروفياته :
*****************
إنّ الدخول الى تجربة أديب كمال الدين من مقترب الحرف بمثابة (وضع يد قرائي) على جهد الشاعر في ادارة اتجاه القصيدة نحو منطقة خاصة يحاول الشاعر ان يرشدنا اليها دالة على نصه وعلامة شاخصة فيه. ولعل القراءة النقدية المبنية على هذا المقترح المترشح: (مقترح الحرف) تتطلب ان يؤشر (القارىء) التقاطاته التي يسمح بها نص أديب من دون تفتيت للجهد الحرفي لديه، أو اضاءة تجلياته بتسوير متعجل يقف مانعاً أمام تطور الخلق الحرفي غير ان هذا لايمنع من أن نصرّح بأنّ الدخول الى نص أديب من مقترب الحرف يستلزم خبرة سابقة بالرمز الصوفي و(الشظية) الحرفية فيه، والتجليات الإشارية لدى المتصوفة ودرجات الحرف ومعانيه عندهم التي لايستدل عليها بهيئاتها وأشكالها المجردة أو الدلالية في النص بل بأولية العلم بالمعجم الصوفي ومصطلحاته ومكابداته.. واذا ما أردنا أن نفرّق بين تجربة أديب مع الحرف وتجربة الشعراء المجددين ممن كان للتراث الصوفي مكان في مرجعيتهم الشعرية (أودنيس تحديداً) (4) لألفينا أن شغف أديب بالحرف ليس إلاّ شغفاً بشظية صوفية (متمثلة بالحرف) لا بالبعد الصوفي المتكامل أو المرجعية الصوفية الفكرية أو الدينية.
إن الحرف لديه وسيلة لاستكناه أبعاد لاتحد في طاقتها على التجدد : أبعاد شكلية ودلالية تتخذ أقنعة مختلفة وأشكالاً متغايرة. ويصعب علينا ونحن نرصد شذرات من تجربته الحرفية ان نقول بانتهاء سلطة التجريب في دلالة الحرف لديه لأنّ التجريب الحرفي قد أخذ عنده حيزاً مفتوحاً ولانهائياً وقد أشار الشاعر ذاته الى طموحه بأن يفيد من (الكلمة ـ الحرف) الى الأقصى فقد فجّر الحرف فيه أسئلة قصوى وامكانات لاتحد (5) .
وسنحاول أن نقرأ قصيدة (حروفيات) لأديب وتتألف من ثلاثة عشر مقطعاً ( 6 ). تطالعنا قصيدة حروفيات بثنائية ضدية (حرفية) هي ثنائية (الشكل والدلالة) تحاول أن تنتظم في القصيدة من مستهلها متجلية في تنويعات نسقية تؤكد ما ذهبنا اليه في أول حديثنا من كون المستويات الحروفية في شعر أديب تتناسق حتى لتبدو وكأنها قسمات لوجه واحد . يفتتح أديب (حروفيات) قائلاً:
وا أسفاه
صرتُ أنتقلُ من حرفٍ الى حرف
ومن نارٍ الى نار.
يشير هذا المفتتح الى مايعنيه الشاعر من تشكّل حدود هذه الثنائية وما تنوء به من ثقلها عليه فيأسف لهذا الانشطار بين هيئة الحرف (موضع عشق الشاعر) ودلالته المقنـّعة (المرأة). انه ينتقل ، إذن ، من هيئة الى هيئة أو من دلالة الى أخرى ، في علاقة (دلالية) آسفة متمثلة بالمسند اللساني (وا أسفاه) التي يكررها مطلعا لمقطعين هما الأول والخامس وثالثة قبل نهاية المقطع الخامس .وفي المقطع الثاني يكشف الشاعر عن استحضار البعد الطلسمي والميل إلى لغة الإلغاز وهو مستوى من مستويات الحرف لديه :
ياسيدة النون
رفقاً بنفسك ، رفقاً بي
فلقد عبرتُ حاجزَ الخوف
وعبرتُ حاجزَ الحرمان
إذن
لم يبق لنا سوى حاجز الموت .
يأتلق المستوى الطلسمي، إذن ،(مع سيدة النون) وتنقدح الثنائية من جديد بين (السيدة) و (النون) بين الهيئة والدلالة، وحين نقترح مفتاحاً لحل الطلسم نقول: إن سيدة النون هي (سيدة الحرمان) فيتحول (النون) من المحور الهيئي التجريدي الى محور الدلالة بوجهيها النفسي والحسي . وتفسح الثنائية الضدية الأولى (الهيئة ـ الدلالة) المجال لنمو ثنائية أخرى هي ثنائية (أنت ـ أنا) وهي لاتخلي السبيل اليها بل تسير معها جنباً إلى جنب .وتبدأ حدود الثنائية الجديدة مع عبرت (أنتِ) حاجز الخوف وعبرتُ (أنا) حاجز الحرمان وتمتاز هذه الثنائية بكونها أئتلافية ودية تميل الى الانصهار والامتزاج حتى ولو على سبيل عبور حاجز الموت معاً والتحول من أنت وأنا الى (نا): لم يبق (لنا) سوى حاجز الموت.ولايستطيع أديب أن يتخلص من (المستوى الهيئي) في حروفياته ويبقى هذا المستوى آسراً له ويبقى مغرما بمستواه التشكيلي:
نقطتكِِ وسعتْ ثواني أيامي
وهلالكِ وسع يقظتي ومنامي
كيف ، إذن ، أفكّر فيكِ وأنت فيّ ؟
إنه لا يكتفي بما ترصده (النون) كلمة لا حرفا ً فيعود الى محاورة الدلالة من خلال رسمها التشكيلي وصولاً نحو تحقق الثنائية الاولى (الهيئة ـ الدلالة) فهو يتغزل بالهلال والنقطة رموزاً لدلالات نفسية وحسية ولعل المقطع الآتي يجلّيها بوضوح :
لأول مرّة أنتبه إلى كنوزكِ التي تسير
رأيتها بحاجبي الذي يبصر الماوراء
ورأيتكِ وقد رأيتني وأنا أرى
فاسرعتْ كنوزكِ تتحرك
في بهجةٍ وقلقٍ وغموضٍ عظيم .
فدهشته أمام (رمز الحرف) هي ذات دهشته أمام كنوزها التي تسير . أنها كنوز النون بل كنوز (سيدة النون)، وتستقفنا أداة الرؤية في هذا المقطع ففيها انزياح عن فعل الرؤية المألوف على الرغم من تداولية الصورة :
رأيتها بحاجبي الذي يبصر الماوراء
فليست (العين) التي ترى في هذا النص بل هو الحاجب ولعل هذه الرؤية (الحاجبية)
تجسم لنا الدهشة في حضرة الكنوز (ولعلنا جميعا ً نقوم بذات الفعل إزاء ما يدهشنا فترتفع حواجبنا في حركة لاشعورية). ومن تجليات الثنائية الثانية (أنتِ ـ أنا) الانشطار ثم الالتحام فيقول:
كيف، إذن ، أفكر فيكِ وأنتِ فيّ ؟
وفي مقطع أخر :
ورأيتكِ وقد رأيتني وأنا أرى .
ولعل نظرة سريعة الى اشتباك الضمائر تفصح لنا عن حركة هذه الثنائية.ويعود الى الأسف في المقطع الخامس ليبث مواجده من الاكتواء بنار النون ونورها فالنون قد صارت قارباً يحتضن الشمس ويعلن أن الدنيا بين يديه ولكن، وياللأسف، لا يحتضن الاّ المحال وأنىّ له أن يحتضن الشمس :
وا أسفاه
كيف أستطيع أن أحبكِ وأنتِ على هذا النحو :
قارب احتضن الشمس
وأعلن أن الدنيا بين يديه
وا أسفاه
كان كلام القارب صحيحاً.
ويبقى الشاعر على وداده بثنائيته الأثيرة فلابد من الهيئة (شكل القارب وشكل النون) نتقابل دلالة الحرمان. ويعود في مقاطع تعقب هذا المقطع الى تنويعات حروفية على نغم الثنائية الأساس (الهيئة ـ الدلالة) أو على الثنائية الثانية (أنت ِ ـ أنا) يناسخ فيها بين هاتين الدلالتين ليبدأ في المقطع التاسع بالتبشير بثنائية ترميزية حروفية جديدة والخروج على (كنف) النون :
ياللهول
كيف يجسر الألفُ المتصعلك
أن ينظر الى امبراطورة النون ؟
وفي محاولة لحل البعد الطلسمي نقول : انّ الألف المتصعلك هي أنا الشاعر ولا يفوتنا ان نلتفت الى ان الألف هي أول حرف من أحرف اسم الشاعر (أديب) مما يؤكد محور الثنائية الأولى (الهيئة ـ الدلالة). وببراعة استطاع أديب أن يفتح مستوى (شكلياً ـ دلالياً) جديداً متمثلاً بصورة الألف أو رسمه النحيف المتصعلك وما يرمز إليه دلالياً في القصيدة من الفقر و (الحرمان) على المستوى الحسي وصورة النون أو رسمها الممتلىء وما ترمز إليه في القصيدة من امتلاء على المستوى الحسي أيضاً. ويبدأ الشاعر ليغترب عن النون ولتغترب عنه:
حقاً لا أعرف ماذا يحدث لنا
أنا أسبح في بحر لا أعرفه ولم أره من قبل
وأنتِ تسبحين في شيء لا تعرفينه
أهو ماء أم رمل أم هواء ؟
أفي هذا المقطع تصريح بزعزعة الثنائية الثانية (أنت ِ ـ أنا) والخروج على ائتلافها أو انصهارها في (نا) وافتقار التجربة الى بعد التوحد بل الانعتاق منها ولكن الى أين، الى حيز اللامعروف والسباحة في بحر مجهول؟ وبثورة الشاعر على امبراطورية النون يدخل في فضاء حروفي جديد وهو فضاء الكاف يدخله في محاولة تعويضية:
أيتها الكاف .. لا ملجأ إلاّ اليكِ
أنتِ ألقيتِ في قلبي محبةَ النون
فأحرقي النون بمحبتي
أو قودينا ـ وأنتِ الرحيمة - إلى أعالي الأنهار.
ويبقى البعد الطلسمي مفتوحاً لأكثر من مقترح مع (الكاف) أولها المباشر بان يكون أول حرف من أحرف اسم سيدة جديدة ولكن تجربة أديب الحروفية لاتسمح بهذا القدر من التبسيط والمباشرة أو اطلاق الحروف في لعبة شكلية تجنح نحو خلق أجواء تجريدية تشي بالتراكم او التكديس الحرفي غير المبرر بغاية فنية أو دلالية .ومن هنا يفتح المجال بوجه أن تحمل الكاف الهيئة ، وهي الحرف الأخير من (اليكِ )، بعدا ً دلاليا طبقاً للثنائية الأولى في القصيدة ( الهيئة ـ الدلالة) فالكاف هي اليك بكل ماتوحي به من بعد حسي. ولعل الذي يرشح هذا البعد ماتوسّل به الشاعر إلى الكاف في أن تكون ملاذاً له فيضع أمام (سيدة الكاف) خيارين: أن تحرق النون أو (الحرمان) بالحب أو أن ترحمه وتعود به مع سيدة النون من بحر المجهول: (أنا أسبح في بحر لا أعرفه ولم أره من قبل. وأنتِ تسبحين في شيء لا تعرفينه) الى أعالي الأنهار وشواطيء الأمان. ويفتح المقطع الثاني عشر المستوى الصوفي من تشكيلات الحرف في قصيدة أديب فيمارس الطقس الصوفي في حضرة الكاف فيعيد على مسمعها مواجد، ويخلع في طقس الاعتراف هذا آثار مأساته (قلادة الوسواس وقلادة الحرمان) ويستعيد للخلاص ويعرف الصوفي ان الخلاص في الموت عشقا ً ليدرك الشاعر آنذاك ان الخلاص في اللاخلاص، فالفرح كلّ الفرح في الموت عشقاً والخلاص في اللاخلاص :
كلّ ليلة أقف أمامكِ أيتها الكاف
لأعلن لكِ نشيد دعائي هذا
وبمجرد أن أضع القلم على المنضدة
سأقوم أمامكِ لأنزع عنّي قلادةَ الوسواس وقلادة الحرمان
وأبكي كصوفيّ عرف الخلاص
ففرح وفرح وفرح حتى أرداه الموتُ عاشقاً
عرف الخلاص : ان لا خلاص!
ويختتم أديب قصيدته بفتح ثنائية ضدية جديدة هي (الموت والحب) وهي ثنائية تشتغل على المستوى الصوفي إذ إن الموت هو الحياة:
من جديد أقف أمام بوابة الموت
لأعلن أن اسمها بوابة الحب
أصرخ باتباعي فأراهم يؤيدونني مشفقين
ويبتسمون لي مشجّعين وهم يرون صرخاتي
تسقط على الأرضِ طيوراً ميتة.
ونعود الى القول: ان ما يجربه الشاعر من تنويعات حروفية وماشكلته من مستويات في قصائده لا يتيح الفرصة للحكم باستقلال مستوى هذه المستويات في نصه الشعري فقد أراد الشاعر أن يدور مع الحرف دورة لانهائية تضم السطحي والعميق، العبثي والفني، التجريدي والدلالي .
وإذا ما أردنا ان نمد قراءتنا لقصيدة أديب (حروفيات) وجدنا أنها تغطي عدداً من قصائده الأخيرة بالمستويات الدلالية ذاتها مما يعزز قولنا في إن أنتقاء الشاعر للحرف والدورة اللانهائية معه قد أصبح (هماً) فنيا ً لديه بعيدا ً عما قد يتبادر الى الذهن من أن موقف أديب من الحرف يقتصر على المستوى الطلسمي رغبة منه في إضفاء ضرب من السرية المفتعلة على قصائده ، أو أنه يقتصر على الشذرة الحروفية للموروث الصوفي ـ القرآني التي يعرفها القاصي والداني متأثراً بعدد من الشعراء الذين سبقوه من أمثال أدونيس وصلاح عبد الصبور وتوفيق الصايغ وغيرهم .ولعل قصائد أديب الأخيرة تفصح عن تحوّل جديد في الصياغة الحروفية لديه يختلف ، عما كان قد مر عرضاً في دواوينه السابقة . هذا الاختلاف يكمن وراء تركيزه على خطاب الألف والنون ، فالشظيات الحروفية المتناثرة في قصائد الشاعر السابقة قد التأمت في (النون): الهيئة الأقرب الى نفس الشاعر، والألف المقابل لها ، وقد يتيح هذا لنا القول بأنّ النون قد تحوّلت من المستوى الترميزي الى مستوى قناعي يتخذ أشكالاً متغيرة منها الصوفي والأسطوري والتراثي فضلاعن المستوى الشخصي أو الذاتي.
ومن قصائده الأخيرة قصيدة عنوانها : (خطاب الألف خطاب النون) يقول في أولها :
إذا ضاعت النون مني ذات يوم
فمن الذي سألتجيء إليه ؟
سألتُ الأبجديةَ جميعها حرفاً حرفا
فلم تعطني جواباً شافيا
إلاّ النقطة باركتني
وقالت : إذا خانت النون فعليكَ بي
أنا نقطها
أنا سرّتها
أنا فحواها
أنا ذكراها الضائعة .
وتبدو هذه القصيدة وكأنها امتداد لقصيدة أديب (حروفيات) التي حاولنا قراءتها من خلال ثنائيتي (الهيئة ـ الدلالة) و (أنتِ ـ أنا) . ولعل ماتمنحه القراءة من نشاط تأويلي يتيح لنا أن نمد قراءتنا السابقة لتضم هذه القصيدة والقصيدة الأخرى التي ستليها استناداً الى المعطيات النصية التي يبوح بها متنا القصيدتين الأخريتين. ومن المثير للغبطة والدهشة معاً أن تبوح قصيدة أديب (خطاب الألف خطاب النون) ( 7 ) بهذا التحول أو التخصص (بخطاب النون) لتصبح رمزا ًبل قناعا ولتنصهر في النون حروف الأبجدية الأخرى و (تسكر) في حضرتها فيقول في المقطع الثامن:
ربّما لم يعد لحضوركِ أو غيابكِ عندي
أشارة محرقة
فلقد تحوّلتِ يانوني الى رمز
تحتفل قصائدي به كلّ ليلة حتى الفجر
حتى أجد حروفي سكارى وما هي بسكارى.
ويفتح أديب بمفتاح النون قصيدة أخرى بعنوان (جغرافيا) (8) تتفرع منها النون الى تنويعات جغرافية (طبيعية) و(بشرية) حتى ليمكننا أن نقرأها (قراءة جغرافية) ولكن هذه القراءة لاتنأى على أن تكون ترسيخاً لثنائية (الهيئة ـ الدلالة) و (أنت ـ أنا) وما يندرج تحتها من المستويات التي وقفنا عندها ويبتدأها باستهلاله الأثير الهلال والنقطة:
(1)
ليس غريباً أن أبتهل إلى نقطة الحرف
وأجلس قبالتها مذهولاً في مسرّاتها
ومجيئها من الشرق إلى الغرب
محملةً بالدفوف والدموع والطبول
ليس غريباً ، بعد هذا ، أن أبتهل إلى الهلال
وأدعوه لينقذني من نفسي .
(2)
ما ان تراكِ الأبجدية
حتى تنفض عنها ثيابها
النومَ والنسيانَ واللامبالاة
لتأخذ من كفّكِ شمسَ الحنان
وينبوعَ الصحو
وإناءَ الانتباه
وملعقةَ الحب
وملحَ الطمأنينة.
وتبقى الكاف ملاذاً له حين تخذله النون فيعود إلى الشكوى اليها في هذه القصيدة أيضاً وفي المقطعين الأخيرين تحديداً :
في نونكِ سحر
وفي ألفي زلزال
* * *
متى ستمسح الكاف
نقطةَ نونكِ من رأسي
كي يتوقف نزيف حرفي
فأنام .
وأخيراً نقول: ان النون قد تمكنت من نص الشاعر بدلالتها الحسية والنفسية ولعل ما يفصح عن هذا التمكن ماحشدته النصوص من وسيلة لغوية أو قرينة متمثلة بمحاورته لها محاورة (آسفة) متمثلة ب (وا أسفاه) التي يكررها في قصائده الثلاث حيث ترد واأسفاه في قصيدة (حروفيات) و(خطاب الألف .. خطاب النون) وثلاث مرات في قصيدة (جغرافيا) حتى لأصبحت النون سحراً لايستطيع الفكاك منه: (في نونك سحر وفي ألفي زلزال).ويفضي بنا هذا الى التنبيه الى البعد الحروفي المهيمن الذي امتلكته (النون) إذ احالها من المستوى الرمزي المباشر الى المستوى القناعي الذي اتخذ أشكالاً متغيرة ومتكاثرة في شعر أديب كشفت عن بعضها هذه القراءة.
ومن هنا لم نجد غريباً أن يصدر الشاعر ديواناً عنوانه (نون) ليكمل خط سير أسطورته الشعرية المتمثلة بكينونة الحرف السرية وما امتلكته النون من بعد مهيمن على دوائر الحرف الشعرية لديه فبدت النون اختزالاً قناعياً لأبجدية الحروف وللمستويات التي يخرج اليها وتوظيفها شعرياً ضمن سلطة التجريب اللانهائية التي يمنحها فضاء قصيدة النثر.
المصادر
(1) حاتم الصكر : تحديث النقد الشعري بمجلة الآداب ، العدد 11 ، بيروت ، 1988 ، ص 32.
(2) له : تفاصيل 1976 ، ديوان عربي 1981، جيم 1989
(3) ينظر: أديب كمال الدين ، هزني الحرف وأطلق فيّ صراخ المجاهيل ، مقابلة مع الشاعر ، جريدة الجمهورية ، بغداد ، 16 أيلول 1991 ، ع 7985، ص 7 .
(4) ينظر : حاتم الصكر ، من الحرف الى المعنى ، جريدة القادسية بغداد ، 7 تشرين الثاني 1991 ، ص 5
(5) ينظر : أديب كمال الدين :( المقابلة ) ، الجمهورية، ص 7 .
(6 ) أديب كمال الدين : مجموعة( نون) ، مطبعة الجاحظ ، بغداد
(7) أديب كمال الدين : مجموعة( نون) .
(8) أديب كمال الدين : مجموعة ( نون ) .
*********************************
نُشرت في مجلة آفاق عربية 3- 4 آذار – نيسان – 1999
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 301- 312