أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية (حاء)
شعرية التعالقات النصية من الحرف إلى الكلمة
د. محمود جابرعباس
وضع الشاعر أديب كمال الدين مع زملائه شعراء السبعينيات في العراق، في نصوصهم وقصائدهم وبياناتهم الشعرية وتجاربهم المتنوعة والمتعددة والمغايرة، القصيدة الجديدة ليست على المستوى الشعري العراقي فحسب بل على مستوى المشهد الشعري العربي على عتبة حداثة شعرية جديدة ومختلفة في البنية والرؤيا والأدوات والتجارب، والتي تعينهم على تلمّس الكيفية البنائية والكتابية والخطية التي يكتب بها النص الشعري الحداثي الذي يتقاطع مع من سبقهم من شعراء الستينات، أو الرواد في البناء والأساليب وخصائص التركيب والصياغات والثيمات، والبحث عن أسرار النصوص وعوالمها المستعصية الخفية التي تسعى إلى تأسيس رؤية شعرية نابعة من التجربة المعيشية لكل شاعر من شعراء هذا العقد الشعري المهيمن، والذين يطمحون إلى تطوير تجاربهم واستمرارها والتي تتحول عندهم إلى مكونات دلالية وتركيبية مدهشة ونشطة في الحداثة الشعرية التي تتجلى على السطوح والأعماق معاً دون التقيد بالنظم الشعرية التقليدية السائدة، أو ما كانت عليه القصيدة الجديدة (قصيدة التفعيلة) من هيمنة وسطوة في الكتابة الشعرية وفي الوسط الأدبي في تلك الحقبة، والبحث الدائمي عن أبنية وأنماط وأصناف شعرية جديدة وقادرة على تأسيس سياقات شعرية وأنساق بنائية جديدة تقيم حداثتها على أساس من التعالقات النصية والملفوظية بين مستويات التعبير والأداء ومستويات الخطاب الشعري واللغوي ومظاهر تعالقاتها التي تبني نموذجها المختلف على أساس الأبنية الدلالية الكلية في بنية النص وتمرر القصيدة في كتابة ذاتها من (تابوهات) القواعد الجمالية والشكلية المتعارف عليها لتشكّل التجربة المعيشة عند كلّ واحد من شعراء السبعينيات في العراق ككل، تمرداً لافتاً على المألوف والعادي والثابت والساكن ولكلّ واحد منهم في تلك المرحلة محاولة طموحة لترتسم خطوات الذات الشعرية المتفردة والخاصة بدقة وأناة والانعطاف ببنية القصيدة باتجاه وحدات نصية وتركيبية جديدة تماماً على مسافة تحقيق الفجوة، بين الدال والمدلول وتوظيف العلاقات النحوية والصرفية والصوتية والإيصالية والتأويلية الجديدة التي تتيح للشاعر تكوين نسيح تعبيري متكامل وفي مجموعات مركبة ومعقدة بحيث نرى في النهاية (بانوراما) شعرية جديدة تماماً تكشف أوضاع النص وتميزه عند كل واحد منهم التي تكون متوازية حيناً ومتقاطعة حيناً آخر ولكنها جميعاً قد تضافرت في إحداث الخلخلة الشعرية والتوتر والقلق والاضطراب في اللغة الشعرية، مما جعلهم مجتمعين يهدفون إلى خلق وإيجاد لغة شعرية جديدة تتيح لهم تسجيل الرؤى وخلق المجهول من خلال تعدد وتنوع واتساع الشفرات التعبيرية التي تغني تجاربهم وقصائدهم ونصوصهم.
إنّ إحدى أهم محفزات خلق الشاعر لعالمه وفنه الخاص به، والذي سيكون بالتأكيد مستقلاً عن تجارب الآخرين، وهو ما أفضى إلى ظهور أصوات شعرية متميزة في شعرية القصيدة الجديدة في العراق، على الرغم من تعدد وتباين واختلاف هذه التجارب فكانت تجارب الشعراء (كمال سبتي وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وسلام كاظم وأديب كمال الدين وكاظم جهاد وأحمد عبد الحسين وعدنان الصائغ وشاكر لعيبي وخالد جابر يوسف وغيرهم)، والتي تنامت في قصائدهم البساطة في انتقاء الموضوع، والغور في أعماق الواقع والحياة والكائنات المحيطة والإنسان، والبحث عن لغة شعرية ومنتقاة، مكثفة ومقتصرة، والحفر في منطقة شفافة من خراب العالم من حوله التي نراها في تجاربهم بعد أن خسر الشاعر الحياة الأولى وهو ينتقل إلى حياة جديدة، أو من منفى إلى منفى آخر، والبحث عن فردوس مفقود، يقف حزيناً وحده، وصامتاً تجاه الحياة وغربتها وآلامها، ولذلك نقلتنا تجاربهم إلى صورة شعرية ولغة تركيبية هادئة وصادمة في الوقت نفسه، ولا تكاد تتلبس هذه الحياة المتخيلة قناعاً أو اسماً حتي نجدها في قناع أو اسم آخر، لينجو الشاعر وقصيدته من طوفان الأحداث، ومصير الحياة وهشاشة الواقع التي أكدت أن الشعراء السبعينيين كانوا في مواجهة شعرية لم تكن عنايتها منصبة ومنوطة بتوصيل المعنى ذاته، وإنما كانت منصبة على أحداث وصهر هذه المتناقضات في بنية متنافرة وفجوة توتر دلالي واسع يكون جماليات شعر الحداثة وسياق انتظامها النصي والملفوظي.
وكان الشاعر أديب كمال الدين أشدهم جموحاً وتأرقاً في السعي إلى كتابة قصيدة حداثية وجديدة متقنة تكافئ القصيدة الشعرية العربية التي بدأت تظهر بوضوح في لبنان ومصر وسوريا، وأن يكتسب نصه ملامحه المتميزة من تجليات أسلوبه وتنوع تركيباته وخواصه التعبيرية والأدائية التي تضبط درجة الغليان والاختلاف والمغايرة في إحداث التحولات الأسلوبية التي تكون معيار المصداقية الشعرية التي تحفر تجاربه وانشغالاته التي ستتحقق على قاعدة صلبة من الأوضاع التعبيرية والترميزية والقناعية والموروثة والمعاصرة التي اختارها الشاعر لنصوصه، لتكون دليلاً يتمثل في تعزيز ذلك النوع من الرؤية الشعرية الجديدة التي تهدف إلى المغامرات التجريبية والفانتازية التي تخلق الإشكاليات الشعرية والتي تحمل قدراً طاغياً من الإشعاع الشعري الذي يولد في اللغة طاقاتها الكامنة العميقة التي تكون كسراً لمرجعيات شعرية جاهزة ومألوفة وتأسيساً لمرجعيات مبتكرة وجديدة.
هكذا كانت مجموعته الشعرية الأولى (تفاصيل- النجف الأشرف 1976) محاولة جريئة وواعدة يحدث في حينها، باتجاه وعي الشعر وممكناته وكيفياته وسحره بوصف أن الشعر فضلاً عن كونه نداءً داخلياً فإنه تنظيم فني وتعبيري وجمالي حتّى وإن كان ذلك يحصل بعد التدفق الأولي لمكابداته ومجاهداته ومحرقاته التي تواجه الحياة الضاجة الصاخبة بتلويناتها وانكشافاتها وملابساتها وتعقدها وانغلاقاتها، ولكنها ترتكز من جهة أخرى على التفاصيل الصغيرة والهامشية في الحياة اليومية ومعاناتها والتي كانت أقرب إلى معاناة هذه الحياة ونبضها، وتلّونها بقزح التنوع والانفراد والتدفقات العفوية ولكنها الواعية والواثقة باعتبار أن وعي التجربة في بداياتها كانت معبر الشاعر إلى اليقين الشعري في مجموعته الثانية (ديوان عربي - بغداد 1981) الذي يمثل المنحني الشعري الذي يسعي إلى تعميق الرؤية الفنية والجمالية والشعرية التي تؤرخ للتجربة وهيبتها وجمالياتها التي تتدفق بنسمة من الهدوء الواثق، ولكنه المليء بالتشنجات ومشاعر القلق، وهي التوترات التي تظهر في بنية النص، وتمنحه شكلاً عفوياً وبنية واضحة تستمد شعريتها من محرقة النص ولواعجه وإشاراته الخفية والمضمرة التي تندرج في سياق شعري مخصوص ومتفرد عند الشاعر أديب كمال الدين في مجموعته الشعرية الثالثة (جيم -بغداد - 1989) الذي حاول فيه خلق أوضاع تعبيرية وبنيات شكلية وخطية نرى فيها عدداً من الاشتباكات النصية والدلالات المتفاوتة والتحولات الأسلوبية الذي يخلق فيها الشاعر تجربته وقصيدته وبنيته، وهو يستخدم تقنيات شعرية وآليات تناصية تكرس شعرية التطالعات النصية التي نلمس فيها جدلية التجربة من خلال تفكيك اللغة إلى مرجعياتها الأولي ومنظومة العناصر الأولية لها، فإذا كانت الكلمة هي البدء فإنّ الحرف والنقطة هي البدء أيضاً التي تنكشف من خلالهما وعبرهما الدلالات الحافة الموحية التي يتم تفعيل (النقطة والحرف والكلمة) جزءاً جزءاً لتبلغ التجربة عنده ذروة التألق الشعري في مجموعته الشعرية الرابعة (نون -بغداد- 1993) التي يشير فيها إلى استراتيجية التجربة الشعرية التي تمنح هذه النصوص بؤرة ارتكاز تنصب في تحقيق الشعرية واقامة التوازنات الدلالية بين البنية والرؤيا والصياغات التي تجعل التعبير ذروة كل شيء واكثر إيغالاً في تشكيل الرؤية الشعرية التي تتجلي في دواخلها انساق المنظومات الدلالية وجمالياتها في مجموعته الشعرية الخامسة (أخبار المعنى-بغداد- 1996) التي شغلته فيها فكرة التشكيل الحرفي الذي ينقل الثقل الدلالي والترميزي والشعوري إلى المكنونات التعبيرية والجمالية والخطية التي تتعلق بتحقيق أعلى درجات الكيفيات التعبيرية الجديدة التي تتجسد فيها الرؤى، وهذه التجارب التي يبلغ الشاعر فيها ذروة إيصال التعبير الشعري إلى شعريته التي تشجّرت وتعددت في بنياتها المحتشدة في السطوح والأعماق النصية التي تشفّ عن عملية اشتغال وتركيز ومهارة شعرية متميزة ومتفردة، كما في مجموعته الشعرية السادسة (النقطة -بغداد- 1999) و(بيروت –عمّان- 2001) التي استطاع الشاعر من خلالها أن يستكمل بها تخليق الشعرية الحداثية وشحنها بطاقات وآليات وتقنيات تشكيلية وخطية اشتغل الشاعر عليها بمهارة وحذق وحدد منظوراته الشعرية من خلالها لتسهم في تخليق الكتابة الشعرية الجديدة وتنويعاتها الدلالية وشفراتها المستقرة في البنية السطحية والعميقة.توغل قصيدة الشاعر أديب كمال الدين، ونصوصه المختلفة في عالمها التشكيلي والخطي عندما تقارب الحروف وتشكيلاتها حرفاً حرفاً والذي تتيح له استجماع العناصر المشتتة واستحضارها ونسجها في اتساق وتماسك، وتنظيمها في وحدة تعبيرية وأسلوبية شاملة كمظهر بنائي وجمالي مهيمن علي وحدات النصوص وتركيباتها والذي تجسد ذلك في مجموعته الشعرية السابعة الصادرة مؤخراً (حاء -المؤسسة العربية للدراسات والنشر– بيروت- عمّان 2002) الذي اتسم بالشغل على الحروف واستثمار صيغها ومعادلاتها ومرجعياتها التي تعزز شعرية القصيدة لديه والتي استطاع الشاعر محاورتها وإقامة ألوان من التقابلات التشكيلية الداخلية في عملية تناص حاذق وماهر يتجلّى في إقحام عالم الحروف الجواني التي تتخلق فيها سياقات خفية بين الحرف والمعنى، وتتمظهر عنده بالطريقة الملموسة جداً والأكثر قوة وشاعرية وتطبع قصيدته بطاقات تعبيرية فذة تشكل لوحة تشكيلية تمتشج البنية بالرؤيا، والأدوات والحروف والنقاط والأسطر والجمل مضيفاً إلى نصوصه أبعاداً جمالية لها دلالاتها، إذ فيها يتعانق المضمون مع التركيب اللغوي مع الانفعالات النفسية لتنسجم جميعها في وحدة تؤدي أثرها الجمالي والفني والتعبيري الذي أراده المبدع حيث يعتمد الشاعر أديب كمال الدين في نصوصه المختلفة، وفي بناء قصيدته على ما يؤثثه لها من تواتر الوحدات الحرفية التي تشترك في التنسيقات الأساسية والتنويعات الصوتية التي تجعل منها ظاهرة لافتة للنظر في الشعر العربي الحديث يجب الاحتفاء بها، خاصة مع استمرار انشغال الشاعر بتكويناتها وتجانساتها الصورية المكثفة لإيصال فكرة النص التي تشكل البيئة الأساسية التي تستقطب الكلام الذي ترد فيه الحروف وتجذب دلالات الحروف لتدور حولها لأنّ الامتداد الحرفي وغواية الحروف التي استطاع الشاعر استغلال إمكاناتها صوتياً ودلالياً في خلق إيقاع يؤازر الدلالة الكلية للنص، ويحتضن الانفعالات الذاتية التي تشكل مفارقات نصية وملفوظية للأساس المنطقي الذي يكمن تحتها، وإن دلالة الحرف والنقطة هنا تعوض عن دلالات الكلمة والجملة والمقطع عبر التركيز الحرفي الذي يخترق من خلاله صوتية الحرف وبعده الإيقاعي للوصول إلى طريقة كتابية جديدة وخاصة به الوصول إلى خلق عالم رمزي وكون تخييلي وتشكيل مغاير عبر اختراق سكونية اللغة ووظيفتها التقليدية والمعجمية إلى الحد الذي تنتاص فيه خاصيات الحروف لتصل إلى الشعر الصافي، وصنع صوفيته الشعرية التي تستحيل إلى طاقة شعرية متجاوزة للزمان والمكان، وحينئذ يستكمل الشاعر مشهده الحرفي وتوحده الجمالي به من خلال أربعين نصاً شعرياً احتوته المجموعة الشعيرة الجديدة (حاء) التي استطاع فيها الشاعر أن يؤكد حضور وفاعلية التحول الشعري في قصيدته والتي تتضافر فيها التقنيات التعبيرية والتشكيلية في تكوين بنية النص وتوليد دلالاته المشعة وربطها بمنظومة الشاعر البنائية المصاحبة لهذه التجربة وتعد قصيدته (ملك الحروف) من بين قصائده التي أقامت حواراً بين بنية النص التي تدفع الحرفية للكلمة التي تقوم بتركيب النص وتأثيثه على أساس الفاعلية الحرفية التي تدفع بالبنية النصية إلى الانتظام في تشكيل يتصاعد فيه التوتر والاحتدام والانصباب في بؤرة النص المنظمة في مستوياتها التعبيرية والدلالية والرمزية بهيكلية نامية ومتصاعدة ومتماسكة والتي تعطي (للحروف) معني مغايراً ومميزاً يرتبط بالكون التخييلي الذي يتم تسعيره وفعاليته الشعرية وتجلياته الصوفية لترتفع بذلك درجة تعبيرية القصيدة وشعريتها المتميزة بالإشارات المحتشدة، والمتسقة، والفاعلة في سطح النص وعمقه والتي تتسق مع حركات النص وتموجاته وصبّها في البؤرة الكلية المركزية للنص كما في هذه المقاطع:
النقطةُ فضّة
والحرفُ ليرةُ ذهب
فما أسعدني أنا ملك الحروف.
*
النقطةُ بخور
والحرفُ رقصةُ السحرة
فما أسعدني أنا ملك الجن
صاحب الجناح الأخضر الكبير.
*
النقطةُ وحي
والحرفُ تنزيل
فما أسعدني أنا مَن يحملُ إشارةَ العارف
بين عينيه
ويلبسُ عمامةَ الشهيد.
وتقدم قصائده الأخرى (كلمات وجيم شين وكيس الحروف وحاء وجيم سين دال ونونيات جديدة وأمجاد النقطة ورسالة الحروف) تجانساً حقيقياً بين المكونات التشكيلية للنقطة والحروف ومكوناتها التعبيرية والبنائية المنظمة للدلالات الكلية، إذ إن تقنية الحروف قد غطت مساحات النصوص ومخزونها البنائي والروحي والوجداني وتجسداتها الذاتية والموضوعية المنسجمة في تشكيل الحروف والنقطة والكلمة التي يتم توظيفها شعرياً في تحقيق التآزر النصي والانسجام البنائي العميق الناشئ من استثمار واستغلال مستويات المفارقات الحرفية الماثلة في النصوص وشبكاتها المتراكبة التي توافق الأوضاع اللغوية والتركيبية مذاقها الخاص، وامتداداتها الترميزية المباطنة للتجربة الشعرية،والقادرة علي تخليق لون من الشعرية البنائية التي تتحد خواصها التعبيرية مع الأبنية التركيبية للحروف والنقاط التي يوظفها الشاعر كما في هذا المقطع من قصيدته (حاء):
حاءُ الحياةِ حلم ورماد
وتاؤها ألم ونوم ونسيان.
*
هي ذي مدن لا معنى فيها
وأخرى لا شمس فيها
وأخرى لا ماء فيها
وحين نصلُ إلى الشيخوخة
نصلُ إلى مدنٍ لا هواء فيها.
*
عجبَ الحروفيّ من هذه الحاء
فلقد رآها مرّةً راقصةً أسطورية
ومرّةً رآها توابيت عارية
ومرّةً رآها ذهباً وجمراً ودموعاً وسكاكين
فاحتار
قيل له: اخترْ
لهذه الحاء كلمةً واحدة
ولا تزدْ
فقال: حاءُ الحياة..
ومات.
وينطلق الشاعر في قصيدته (حوريات الفردوس) من رؤية مأساوية وذات أبعاد واقعية
وتاريخية للكشف عن الأسارير النفسية وتنهدات الذات الذائبة في موانئ النفي والغربة
والاستلاب المؤدي إلى الموت والأحلام التي تستحيل إلى كابوس ودمار وخراب عندما يضرب
الإنسان والشاعر بآلة تدميرية لا يقوى على مواجهتها سوى
بوهج الحروف المنطلقة من استعادة الزمن الماضي، والقبض على الحياة في الزمن الحاضر
والتي يرغب فيها الإصرار على المضي قدماً في تحقيق رؤيا طامحة إلى الحرية والانعتاق
من هذا الواقع المر الذي يمازجه بخياله وبتناص مع تحفيزات الحروف والنقاط
وتشكيلاتها التي تسعى
إلى تشييد بنيتها الأسلوبية من خلال القص والحكي والسرد الذي هيمن على غالبية
قصائده وينهض بها الديوان برمته، والتي تعني في جوهرها مؤثثات ومكونات داخلية
تدعمها آليات التداعي والتذكر والاستبطان والحوارات المونولوجية المفضية إلى شعرية
البنية النصيّة، وفي خضم هذه الدينامية الشعرية يجري تفصيل القصيدة وهندستها
ومعماريتها والحفر بأناة وصبر في السنن العلامية والإشارية لتركيبية الحرف والنقطة
لاستحثاث المخيلة الشعرية الثرّة التي تفصح عن توترها وتأججها التركيبي والدلالي
والرؤياوي التي برع فيها الشاعر بشكل مدهش وآسر كما في هذا المقطع من قصيدته
(حوريات الفردوس):
وتلمسّتُ قبري دافئاً كإصبع طفل
والتراب منه يسّاقط بالعبث
يسّاقط بالفرح
أنا الذي بصمتُ حاءَ الفرح
وحاءَ الحريةِ والحنين والحب
أجلسُ قرب قبري
ألعبُ بطيور بيض
أنامُ وأصحو
أدخلُ وأخرج
أبتسمُ وأرتجف
وطيوري تحلّق حول قبري
حروفاً من نور.
وتصل هذه النزعة التركيبية والتشكيلية الحروفية والنقطوية قمتها في ديوان الشاعر أديب كمال الدين (حاء) التي تتجاوز رغبة الشاعر في تأثيث قصيدته بممكنات وكيفيات الحروف واستثماراتها البصرية والخطية، وكيف تستقيم للبنية النصية والملفوظية شعريتها وتوضيبها تخييلياً لا بد له من مهاد نصي وشعري عندما يجتاز عتبة البنية الشكلية لها في إقامة واجتراح نمط متخيلها الشعري استكمال صوغه في صلب التجربة الحداثية الجديدة.
***********************************
ص
نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية- العدد 1416 – 27 كانون الثاني 2003
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 153- 161