قراءة في منجز أديب كمال الدين
استخدام الحرف في القصيدة والبنية الرمزية
علي الفوّاز
يملك الشاعر أديب كمال الدين هاجساً من طراز خاص للمغامرة ورغبة كامنة في كشف خطابه الشعري على نوع من الإباحة في التصريح والمفارقة الشاقة بين محموله اللغوي و لعبته الرمزية التي عمد فيها الى تداول الحرف كمجسّ لحركة الرؤيا بحثاً عن أصل اللذة وتمثلها في المجال الرمزي من خلال تعدد صور الخلق في البنية النصية للغة والجسد والدين والأسطورة. فهو حريص على تشكيل علاقة بنائية في هذا المجال ، يستحضر فيها الكثير من الثنائيات التي تجعل لعبته الشعرية مجذوبة الى الاستغراق في عملية تقابل و ترميز متوالية ولعبة توليد لا يجفّ فيها المعنى عن إنتاج صوره ودلالاته. وهذا التمثل الشعري يجد له نسقاً بشكل ووظيفة هما فضاؤه الإستعاري الذي يشكّل فيه هاجسه في المغامرة مثلما هو مجاله (الكنائي) الذي يعيد فيه استعادة لاشعوره وباطنته الداخلية ليس بمواجهة المجال الإستعاري لجملته الشعرية، بقدر ما هو محاولة لتشكيل نصوص موازية في نثريتها تحيل دائماً الى الإشارة والتأويل وطقس اللذة وروح الجسد المتمظهر بقوة الخصب . وبهذا فإنّ الشاعر يتعامل بحساسية فائقة مع دلالات الحرف وشفرته اللغوية باعتبارها المادة الحية التي تحيل الشاعر الى العالم الخارجي وهو يبادل أدواره في المعنى أو الصورة.
إنّ تجربة الشاعر أديب كمال الدين قد وضعت نفسها في فضاء نصوصي تتشكّل فيه تجلّيات المعنى كرؤيا الكشف عن جوهر غائب أو لذة غائبة هي جزء من مكونه العقائدي ورسالته التي يستحضرها كلذّة للتعويض أو رقية للإنقاذ أو خطاب للتعلية أو خطاب في التقيّة. وهذا كلّه يتجسّد عبراشتغالات لغوية وعلاماتية تتمثل جملته فيها كنوع من الإستعارة المكتفية بذاتها رغم انتمائها لبيان النسق العام ، فضلاً عن ما تحمله من ترجيعات صورية تنسج مرجعياتها من التاريخ النصوصي للمعنى الوارد في الفقه الإمامي والاجتهاد الصوفي والعرفاني الذي يجعل الحرف والنقطة في إطار دلالي ورمزي وصوفي هو أقرب الى حساسية الشاعر في تهيئة لذته الخالصة للذوبان في طقوس الجسد العرفاني رغم توريته البلاغية في الجسد الايروسي، وهذا ما عمد اليه الكثير من شعراء المتصوفة. وازاء هذا يجد الشاعر نفسه دائماً في فضاء من الدلالات التي تمارس لعبتها في تفكيك بنية الجملة الشعرية الصورية الى بنيات ثانوية يمتزج فيها الهاجس الصوتي مع التشكيل الصوري لينسجا تشكيلاً أشبه بتشكيلات الحروفيين في الرسم ، إذ يكتسب الحرف الأيقوني والحرف الموصول مع اللون والكتلة صفات حسية وذهنية مثلما يحيل نفسه الى بنية صوتية هي في جوهرها النداء الخفي الذي يلامس المعنى والروح:
عجبَ الحروفيّ من هذه الحاء
فلقد رآها مرّةً راقصةً أسطورية
ومرّةً رآها توابيت عارية
ومرّةً رآها ذهباً وجمراً ودموعاً وسكاكين
فاحتار .
( قصيدة حاء - مجموعة حاء - ص56)
إنّ هذه الحيرة هي المقابل لرؤيته القلقة التي تبحث عن مناجم الخارج وما لا يراه الغائب في لذّته السرية والتي يمنحها صفات الكائن الصانع للمتعة ، فهي الراقصة والتوابيت العارية وهي الذهب والجمر والدموع والسكاكين ، وهذه الصفات هي أيضاً طقس تعبّدي ، لأنّ حيرته مرهونة الى ما يمكن أن تمنحه (الحاء) من لذة وإبداع وحكمة وبرهان. إنّ تسارع الشاعر نحو رمزية الحرف وتوظيفه كمجسّ سحريّ في الوصول الى اللذة والذروة والخصب يمثل استحضاراً للتماهي مع طقس أنثوي يضفي عليه سمات وعلامات ومحاسن هي في الأغلب جزء من لعبته في تأنيث الخارج ومراوداته إغواءً وانشدادا:
هذا الذي في داخلي مجنون
يتوسّل بالكلمات ليسحرك
وبالنقاط ليفتنك
وبالحروف،
فاخبريه انّ زمننا أميّ
لا يحسن القراءة والتهجّي
لا يحسن شيئاً سوى التعرّي ..
(زلزال - مجموعة حاء - ص92)
لقد عمد الشاعر أديب كمال الدين عبر هذه التجربة الشعرية التي امتدت من مجموعته الشعرية الأولى (تفاصيل) عام 1976 الى مغامرة شعرية لا ينقطع فيها النزوع الى استكناه ما يحمله المورث الصوفي من تشيكيلات بصرية وتفاصيل تدفع هذه اللعبة البصرية الى واجهة المعنى وتوهّماته والتي جعلته عند لعبة الصانع الذي يمارس رؤية المكوّنات والمسافات ويعيد صناعتها تحت هاجس لذة اللامتناهي الذي هو جوهر لعبة الشعر أو الحيرة ازاء الوجود ودخوله في تواليات الموت والولادة والخصب والكمون. ولعل استغراقه في النزعة الحروفية وتمثله لتشكيلاتها الصورية والبنائية يعكس استغراق رؤيته في البحث عن سرّية اللذة العرفانية ولذة الخصب وسحرها الكيميائي وهذا ما جعله قريباً من استكناه المكون الحروفي باعتباره الطاقة والقوة الرمزية والذي هو أيضاً الشفرة التي تهجس بسرّية المعنى وتكشف عن الالتباس، وبهذا يكون الشاعر أقرب الى كتابة (اللغة الجسدية) التي تعيش فتنة الأغواء وترسم التكوين الحروفي الذي يجعل الشاعر في حالة من الحساسية الدائمة ازاء الجسد الحروفي. وكأن الحرف يتحول هنا الى أيقونة (فتشية) كما يقول فرويد في استحضار لعبة اللذة ولعبة الإشباع الموهوم ، وهو مايجعل الشاعر يمارس لعبة الهذيان الحروفي الذي يستجلب معه صيرورة الجسد المعلن والمخبوء ويشيء باكتماله وزواله في ضوء ما يستدعيه من إشارات هي دالة المحو/ غياب الجسد وفنائه أو هي المعنى المجرد الذي يجعله عند نص (النقطة) باعتبارها البدء والخاتمة أو النقيض للعجمة وهو كذلك الدافع للطقس التعبدي الذي يستحضر معه النزوع نحو تلمس المعنى النهائي/ السعادة في البكاء عند الوليّ السعيد كما يقول في قصيدته (محاولة في حقيقة النقطة):
من حقّي أن أسأل
أنا الذي ضاجعتُ النسيانَ على فراشٍ بارد
كيف ظهرت الباءُ دامعة
وسط الياء والسين ؟
كيف أبكي وأنا عند الوليّ السعيد ؟
(محاولة في حقيقة النقطة - مجموعة النقطة - ص71)
إنّ تماهي الشاعر وذوبانه في شخصية الوليّ السعيد تعكس استعادته لصفات أناسية تجعله منفرداً عن غيره في التعاطي مع المعنى عبر سيولة الرمز الدائمة في الذات والشهود، وكأنه هو مقابل للرؤيا الوحيدة التي تجعله أمام علامية شعرية يختلط فيها الحرف بالمرأة وطقوس العبادة والصحو بتجلّيات الكائن الذى يبحث عن مباهجه الكبرى. وأجد أن الشاعر في لعبته تلك لم يسعَ الى حروفية مجرّدة كما هي عند بعض السرياليين العرب وانما مارس نوعاً من الانغماس في عتمة الحرف محاولة منه في التماس أنوثة اللغة وما يمكن أن تفصح عنه من تنويعات في الخبرة وفي تجليات الرؤيا المفتوحة على العالم مثلما هي مفتوحة على العرفان. وهذا ما يجعل الشاعر أمام لعبة لا يمكن أن تكون الاّ شعراً، لأنها تستشرف ما هو جوهري وروحاني والتي تجعله في نزوع دائب للقبض على اللذة الغائبة، لذة التوسّل والتعبّد ولذة الانكشاف على البرهان، وهذا على الأغلب يجعل السطوح، اللغة والجسد والحرف برزخه الذي يؤدى الى حدسية ترى الأشياء وهي قيد التشكّل أو متورّطة في الغواية أو الخطيئة!
أيتها النون
عذّبني جسدك
قادتني عيناكِ من صحراء إلى صحراء
ومن غيمةٍ خضراء إلى غيمة حروف.
(تبّاً لك – مجموعة : حاء - ص64)
إنّ البناء النثري للكيمياء الشعرية عند أديب كمال الدين يجد مستوياته البنائية أمام كثافة التصوير والعناية الفائقة في صنعة هذه الصورة دون إشكالية اجناسية محددة بما يجعل الكتابة مفتوحة على احتمال دائم في القراءة والتأويل والتوهم ، وهذا ما يمكن عدّه في مقدمات قراءة الشعر كجوهر الذي يكشف عن مستويات للحسي والذهني وتعويض النظام الصوتي للشعرية التقليدية بلعبة التكثيف التي هي ممارسة في الخرق الشعري!
ففي قصائد (النقطة) مثلاً ثمة حلول تعويضي داخل الجسد اللغوي في استعارة واضحة لخرق نسق الجملة ونسق المعنى من خلال شرط الكتابة التي تستبطن الصوت/النداء . وهذا الحلول ليس هو الفناء أو التدنيس أو حتى حلّ عقدة (العجمة) في الحرف ، بقدر ما هو السعي لاستحضار علاقة بصرية مغايرة تجعل الحرف مجسّا ً في فضاء العتمة ، وهو الذي يهجس بتجليات اللذة والألم مع المرأة والعالم والذات والذي يمكن عدّه مقابلاً للانهائي الذي يمتلك مزية الجريان باتجاه المعنى الواسع المنسوج بمعطيات ما يكشفه الحسي من إغواءات ، لكنها تظل مأخوذة بنزوع التوحّد مع ذات الخلق الالهية باعتبارها الذات النهائية:
استمرّ صعود ُالنقطةِ عشرين عاما
بالتمام والكمال
خلالها حلّقت الطائراتُ مرّتين
واحترقتْ مرّتين
فاستبدلت ُرائي بالألف
وعيني بالدال ودالي بالياء والباء
واكتشفتُ الخمرةَ الالهية بدلاً من الخمرةِ المغشوشة.
(محاولة في حقيقة النقطة - مجموعة النقطة - ص70)
لقد اكتسبت قصيدة أديب كمال الدين نوعاً من الحصانة ازاء مغامرته الحسية الطاعنة بالتجلّي وأخذت كثافتها صفه التشبيه بالجسد العرفاني الذي يميل رغم حساسيته الى الإفصاح عمّا في الداخل من لغة أخرى هي لغة الذات المتعالية التي تجد لذتها القصوى في كتابة تلك اللذة .
*******************************************
نُشرت في صحيفة الزمان اللندنية- الثامن من آذار 2005 - العدد 2054
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 41