تقنية الاحالة لاستدعاء الأساطير في تجربة أديب كمال الدين الشعرية
عدنان حسين أحمد - لندن |
||
|
||
|
||
يشكِّل الحرف الفكرة الرئيسة في كل قصيدة من قصائد هذه المجموعة الشعرية الجديدة الموسومة بـ "أربعون قصيدة عن الحرف" للشاعر المُبدع أديب كمال الدين. وربما لا نتجنّى على أديب إذا قلنا إن تجربته الشعرية تقتصر على عالمه الحروفي، ويا له من عالمٍ واسعٍ وشاملٍ وعميق. وسِمة "الحُروفي" هي "ماركة" موثّقة باسمهِ دون غيره من الشعراء.
جاء نوح ومضى
يستهل الشاعر هذا النص المفعم بالنَفَس الدرامي بفكرة الموت، وهي للمناسبة فكرة مهيمنة على هذا الديوان، وربما على العديد من الدواوين الشعرية لأديب كمال الدين، فالحرف يموت الآن، أو في اللحظة التي نقرأ فيها هذا النص أو نسمعه: "أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة تتحمّل كلَّ هذا العذاب السحريّ والكمائن وسط الظلام والوحدة ذات السياط السبعة". والملاحَظ أن الشاعر والحرف الذي يقف بموازاته كانا ينتظران سفينة نوح، لكن نوحًا لم يرَهما على الرغم من أنهما لوّحا له بكل الأشياء المرئية واللامرئية لأنه "كان مهمومًا بسفينته وطيوره". لم يفقد الشاعر الأمل على الرغم من يتمه الأبدي وضياعه الأزلي وهو يقف إزاء الفرصة الأخيرة لذلك ظل يصرخ حتى الرمق الأخير طالبًا النجدة من نبي يبدو أنه لا يرى ولايسمع لأنه غارق في محنته.
دراهم كلكامش
"يا إلهي، لمَ يبكي هذا الطقل؟ أمِن أجل الدراهم حقًا؟". في المقطع الثالث نكتشف أن الطفل الذي فقدَ دراهمه السبعة هو الشاعر نفسه الذي كبرَ وتزوّج وهاجر وكتب مئات القصائد التي تتمحور حول حروفه الشعرية التي تعد زوّادته الرئيسة في الحياة. وعلى الرغم من أن الشاعر أديب كمال الدين مسكون بهاجس الموت، لكنه لا يزال ينظر الى تلك الحديقة الصغيرة التي يقف فيها كلكامش ويتساءل بحرقة واندهاش: "أين هي الدراهم يا إلهي؟". تزداد اللعبة تشويقًا حينما ندرك لاحقًا أن "كل درهم كان عبارة عن سرٍّ وجده كلكامش" ثم ضيّعه مع الشاعر في تلك الحديقة الصغيرة. وترسيخًا للمسة البوليسية نفاجأ، مثلما يُفاجأ الشاعر، بأن "كلكامش قد زوّر تمثاله (حينما نزع عن وجهه لحيته الطويلة) ليعيش بعيدًا عن السرّ، ولكن ليس بعيدًا عن دراهمه السبعة". في المقطع الخامس يمعن الشاعر في حيرته التي تأخذ شكل أسئلة متسلسلة "منْ يعرف السر؟ كيف ضيّع كلكامش سرّه؟ منْ سرقه منه؟ كيف ضيعتُ دراهمي السبعة؟ منْ سرق دراهمي السبعة؟" هذا التشويق الدرامي ينتقل بشكل طبيعي لقارئ النص وكأنه يشاهد فيلمًا بوليسيًا من أفلام الجريمة. وحينما يشارف النص على نهايته نكتشف أن لا أحد يعرف هذا السر الغامض والمحيِّر حتى أنكيدو وأوتونابشتم وصاحبة الحانة. يا ترى، من ذا الذي يعرف السر اذًا؟ ومثل القصص القصيرة جدًا والوامضة جدًا يؤجل أديب كمال الدين نهايته التنويرية الى المقطع السابع والأخير ليقول لنا، نحن المتلهفين لمعرفة السر، أنه هو الوحيد الذي يعرف كيف ضيّع دراهمه السبعة قدّام لحية كلكامش في: "حياة عابرة كملمسِ الأفعى العابرة كلحية كلكامش العابرة هي الأخرى نحو غروب أثقل من الحجر".
المُتبرقِع
"بجَسدٍ دون رأس وضعَ آبائي الأرضَ فوق كتفيّ وقالوا: مبارك أنت!"، والثاني واقعي مُفجع تحوّل لاحقًا الى أسطورة مُوغلة في حزنها وأساها وطقسِها الدرامي المؤلم تُحيل الى واقعة استشهاد الامام الحسين في كربلاء: "قال المُتبرقعُ بدم الشهادة: رأسكَ مثل رأسي غير أن رأسي حُمِلَ فوق الرماح حَمَلهُ الكَفَرة الفجَرَة". لابد من الأخذ بعين الاعتبار هذه المقارنة بين الرأسين المقطوعين. فالأول رأس شاعر مرهف يفلسف الوجود في قصائده، غير أن شبح الموت يطارده في حلِّه وترحاله. أما الثاني فرأس إمام متبرقع بدم الشهادة. كان ثائرًا ويحلم بنشر العدل والمساواة بين الناس. غير أن الفرق الوحيد بين الشخصيتين الرئيستين هو أن الشاعر قُدِّر عليه أن يحمل "الأرضَ" فوق كتفيه، كما سيحمل رأسه بين يديه، أما الثاني فقد حُمِل "رأسه فوق الرماح" في اشارة صريحة الى "الكَفَرة الفَجَرة" الذين حملوا رأسه من كربلاء الى الشام. يتفاقم الجو الدرامي في هذا النص المشحون بالأسى والفجيعة حينما نكتشف في النهاية أن محنة الشاعر هي أكبر من محنة الامام الشهيد لأنه سيحمل رأسه المقطوع بين يديه طوال عمره، " والأرض كلّ الأرض مثبتة فوق كتفيك فانظر الآن ماذا ترى؟!". سنترك ما سوف يراه الشاعر بعينيه المثبتتين في رأسه المقطوع، والمحمول بين يديه لمخيلة القارئ وشطحاته وتصوراته الفنتازية.
تناص مع الموت
"ربما لأن الموت هو نديمي الوحيد أو صاحبي الذي يُحسنُ الرقص قربي حين أنهارُ وسط الطريق". في هذا النص الشعري ثمة مناخ احتفالي استشفه من ثلاثة مصادر، إذ أحالنا الشاعر الى أفريقيا والأسكيمو وأستراليا. فحينما يحضر الموت يقرع الأفارقة الطبول كطقسٍ مقدّسٍ ومهيب. أما أهل الأسكيمو فهم يطلقون الطيور، فيما يعزف الأستراليون موسيقى بهيجة. وما على القارئ إلا أن يتلمّس العلاقة الخفية بين الموت من جهة، وقرع الطبول، وأطلاق الطيور وعزف الموسيقى البهيجة من جهة أخرى. وكالعادة، لا ينسى أديب كمال الدين حرفَهُ ونقطتهُ، فهما زوّادته في هذه الدنيا المُلغزة والمرعبة في نهايتها. غير أن حرْفَه قد إنهارَ أمام الموت، فيما بكت النقطة أمام هادم اللذات ومفرِّق العشاق والمحبين. ولا شك في أن القارئ الكريم سينتبه معي الى حجم الضياع الذي يعانيه الشاعر أو حرْفُه أو نقطته، لا فرق حينما يواجه كل منهم موته المريب: " ستبكي في حضرة الموت مثل أعمى أضاعَ الطريق الى البيت؟" وحينما تتعثر قدرات الشاعر في فك "شيفرات" الموت السرّية يلتجئ، مثل عامة الناس، الى التأويل البدهي المحسوم سلفًا حيث يقول "لك المجد يا إلهي خلقتَ الموتَ ليكنسنا في هدوء مريب مثلما تكنُس الريح أوراقَ الشجر المتناثرة على الأرض". ولكي يواجه الموت وحده فقد وضعنا الشاعر في زاوية حادة ومؤلمة تشي بالخوف. فالحرفُ الأثير لديه طار، وحلّق كالنسر وسط السماء، أما نقطته المضيئة فقد تحولت الى غيمة عظيمة لكنها تركته بين يدي الأشباح " الأشباح الذين أحاطوا بي كما أحاط اللصوص بدرويشٍ نصف عارٍ ونصف مجنون!". في نص شعري لاحق اسمه "معًا على السرير" نكتشف أن الموت يضطجع مع الشاعر على سرير واحد. والأغرب من ذلك أن الموت يتظاهر بالنوم وكأنه ينتظر "سانحة الحظ" لكي ينقضَّ على روح الشاعر ويخطفها الى مكان ناءٍ وبعيد "على أنغام الموسيقى العذبة!".
الحرف والنقطة
"إلهي أحببتكَ أكثر مما أحبّكَ الأنبياء والأولياء فهم أحبّوك لأنكَ أرسلتهم بمعجزاتِ النارِ والنور." وهذا يعني أن روح الشاعر النقية الصافية يمكن تبزّ حُب الأنبياء والأولياء والصالحين. النص ينفتح، على الرغم من قِصرَه وتقشُّفه الواضح، على معجزات أُخَرْ لم يشِر اليها صراحة، لكنه يوحي بها مثل المعجزات اللغوية والطبية والسحرية التي تسللت الى مخيلتنا الجمعية. لنعُد الى الكفّة الثانية التي تواجه كفة الأنبياء والأولياء. ففي بيتين شعريين مُكثفَين وموجَزَين نعرف السبب أو السرّ الدفين. لنقرأ المقطع التالي الذي يقول فيه الشاعر: "أما أنا فأحببتك لأنكَ أوّلي وآخري وظاهري وباطني". يكشف هذا التوصيف الصوفي حقًا عن طبيعة العلاقة القوية التي تربط هذا الكائن المُجرَّد من أية مصلحة شخصية عابرة، لأنه لا يبغي سوى التماهي مع خالقه الذي نفث في بدنه روح الشعر والحياة ومنحه رصانة الحرف وقوّة النقطة. يتأثث هذا النص بأبياتٍ شعريةٍ جميلة تُعزز طبيعة العلاقة الحميمة مع الله حيث يصفها الشاعر وصفًا دقيقًا يتضمن الشكر والثناء والعرفان لله تعالى لأنه يقِيه من أشياء كثيرة مثل المطر والجوع والصواعق والوحشة وانزلاق الأرض وما الى ذلك. غير أن الشاعر يضع كل هذه الأشياء جانبًا ليقول مؤكدًا..أما أنا فأحببتك "لأنك الوحيد الذي يستمع الى دموعي كلّ ليلة دون أن يتعب من أنين حرفي وتوسّل نقطتي!" إذًا، لا يكتمل النص إذا جرّدناه من ثنائية الحرف والنقطة. فهما ركيزتان أساسيتان في هيكل النص الشعري الذي يكتبه أديب كمال الدين. كما أن النهاية التنويرية والاشراقية الواضحة تكشف خصوصية هذا الشاعر المتصوف قلبًا وروحًا وحظوته عند الله الذي لا يتعب من دموع الشاعر المدرارة، ولا من أنين حروفه، وتوسلات نقاطه، وتضرعاته التي لا تنتهي عند حد. التشخيص
"الحرفُ الذي لا معنى له سيُشعل للنقطةِ حربًا لا معنى لها". الملاحَظ أن الحرف هو قرين النقطة في تجربة أديب كمال الدين الشعرية، لكنه في هذا النص تحديدًا عدوها اللدود، فلا غرابة إن أشعل لها "حربًا لا معنى لها" وهذه الحرب العبثية "اللامعنى" لها تذكَّرنا بحروب طاغية العراق اللامعنى له، أو النمر الورقي الذي تقوّض هيكله الخادع في أول هزّة ريح حقيقية. وعلى الرغم من شمولية دلالة الطاغية التي يمكن أن نرحلِّها الى أي طاغية آخر في هذا العالم إلا أن سهم الدلالة لا يتجه صوب طاغيتنا الذي سرق من أعمارنا ثلاثة عقود ونصف العقد. فحروبه العبثية هي التي أكلت الزرع والضرع بغباء قلَّ نظيره بين البشر. تتخذ هذه القصيدة منحى آخر حين يلعب الشاعر لعبته الفنية الذكية، ويرحِّل الدلالة، من إجبار الناس كلهم أو غالبيتهم للمشاركة في حروبه العبثية، الى إجبار "الحروف كلّها" للمشاركة في حروبه الغبية حتى تستسلم له كل الأبجديات، في اشارة واضحة الى قدرته الفائقة في تضليل الآخرين أو اقناعهم. وفي نهاية هذا النص المُحكَم يُفاجئنا أديب كمال الدين، كعادته دائمًا، بالومضة الشعرية التي تمّس وترًا مرهفًا في أعماق القلب حينما يقول اثر استسلام الأبجديات "وتتحول الكتابةُ الى هذيان عظيم!". وهكذا يكون الشاعر قد قادنا من المشهد الغوغائي المريب الى الهذيان اللغوي العظيم. لعلي لا أبالغ إن قلت أن أغلب نصوص هذه المجموعة الشعرية تنطوي على إحالات مركَّبة وعميقة ودالة، لكنها تحتاج الى عين نقدية ثاقبة تقف بموازاة تجليات الشاعر أديب كمال الدين، وتنغمس في خِضَّم شعرّية نصوصه المتوهجة التي تستجيب لروح العصر، وتثير أسئلته المُربِكة على الصعيدين المحلي والعالمي. ولكي نُعزِّز هذه الأفكار بالأدلة الدامغة نتمنى على القرّاء الكرام أن يقرأوا هذه القصائد الأربعين التي أتحفنا بها شاعر الحرف، وسيِّد النقطة بلا مُنازع، لكي يتأكدوا من صحة ما نذهب اليه. ******************* اسم الكتاب: أربعون قصيدة عن الحرف اسم الشاعر: أديب كمال الدين دار النشر: أزمنة، عمّان، الأردن سنة النشر: 2009 ************************* نُشرت في موقع إيلاف بتأريخ 25 – 10 – 2009
|