ظاهرة التكرار الإيقاعي في (النقطة)
أ. د . عبد الواحد محمد
1ـ تمهيـد
بعد قراءة قصائد ديوان (النقطة) الثلاثين لاحظت أن جميع عناوين القصائد تبدأ بكلمة محاولة ، ويبدو أن الشاعر فعل ذلك عامداً، ربما ليوحي الى القارئ بأن ما فعله في كل قصيدة لا يعدو سوى (محاولة) أولى قد تتبعها محاولات أخرى في الثيمة التي اختارها، وبذلك تظل قصائده مشاريع مفتوحة لمحاولات شعرية مستقبلية قادمة، في سماء (الحروفية) التي لانهاية لها. وهذا يعني انه في حالة طموح دائـم للتحليق الطليق بين نجوم سماء الحروفية.
إنّ جميع القصائد مقطّعة تقطيعاً رقمياً ماعدا قصائد هي: محاولة في أنا النقطة ومحاولة في الحروف ومحاولة في الجنون ومحاولة في الرصاصة. وبالطبع كان لهذا التقطيع أثر بارز في إتاحة المجال للشاعر بأن ينفلت من قيود الزمن والرتابة ورعب المنطق الجامد، وأن يتسلل خفيفاً الى بوابات الحلم النحيل كموعد ضائع والطيب كنارٍ بدوية والى امرأة أحلى من العسل وأصابع كفّ تجعل الحلمَ ـ أيّ حلم ـ بابَ اليقين. وفي النقطة وجد الشاعر (حلماً مليئا بالدفء الباذخ) إذ كانت النقطة تمسك الشمس بيد، وتمسك الحلم بيد أخرى .
وكرّس الشاعر ست قصائد فقط عن (النقطة) التي هي عنوان الديوان وهي: محاولة في أنا النقطة ومحاولة في دم النقطة ومحاولة في سؤال النقطة ومحاولة في دخول النقطة ومحاولة في حقيقة النقطة ومحاولة في فرح النقطة وهذه القصائد بحد ذاتها تشكّل، إذا جُمعت سوية، مدخلاً رحباً الى عالم الديوان. وإذا ألقينا نظرة على القصائد في الصفحـات40 و53 و62 نلاحظ، تدرّجاً في المحاولات تبدأ بالسؤال، وتنتقـل الى الدخول وتستقر الى الحقيقة، ومن ثم ينتهي بها المطاف في فـرح النقطة ومع ما تحظى به هذه القصائد من استقلالية، الاّ أنها لا تنفصل عن التيار العام للقصائد الأخرى .
إنّ هذا الديوان يفتح أمام الناقد أبواباً مختلفة لأداء مهمته النقدية. فهناك بـاب للنقد السايكولوجي وباب للنقد الواقعي وللنقد الواقعي السحري وباب للنقد الاجتماعي، وباب للنقد الشكلي أي للنقد اللغوي ـ الأسلوبي، والنوع الأخير هو الذي نعتمد عليه في هذه الدراسة القصيرة. وفي ضوء النظرة اللغوية ـ الأسلوبية نلاحظ أن تكرار علامة بارزة ومهيمنه هيمنة تامة في جميع القصائد، والتكرار برأي بعض النقاد يعكس أذاناً مؤهّلة جيداً للموسيقى واللحن في اللغة ـ كما أنه يميل لخلق قصيدة كلامية وليست مكتوبة ويأتي التكرار تحت تأثير اللحظة العاطفية والذهنية التي طالما تتأجج عندما يكرّس الشاعر نفسه بؤرة مشعة لعاطفة تجتاحه أو فكرة تخلب لبّه.
2 ـ التكرار
يكون التكرار بالمفردات المستقلة وبالعبارات وبالجمل، ويأتي بأشكال مختلفة هى تكرار ال
anaphora
ويعني تكرار الكلمات والعبارات الأولى في أبيات متعاقبة، وتكرار ال
epistrophe
ويعني تكرار الكلمات والعبارات الأخيرة نفسها في نهاية الأبيات وتكرار ال
symploce
ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها في بداية ونهاية الأبيات، وتكرارال
anadiplosis
ويعني تكرار الكلمات والعبارات نفسها الواردة في نهاية الأبيات، في بداية الأبيات التالية ، والأمثلة على ذلك ( حسب التسلسل السابق) كالآتي:
1 ـ تكرار اللفظة في أوائل الأبيات :
أنا النقطة
أنا بريقُ سيف الأصلع البطين
أنا خرافةُ الثورات وثورات الخرافة
أنا معنى اللامعنى وجدوى اللاجدوى
أنا دم أخذته السماء ولم تعطه الأرض
أنا بقية من لا بقية له. ص 14
****
( كانت النقطةُ دمَ الجمال
دمَ المراهقة
دمَ اللذة
دم َالسكاكين
دمَ الدموع
دمَ الخرافة
دمَ الطائر المذبوح
كانت النقطة دمي
أنا تمثال الشمع ) . ص 21
***
( واأسفاه ياحروفي الغامضات
واأسفاه يا نسائي الضائعات
واأسفاه يا أقنعتي التي لا تكفّ عن فضحي
واأسفاه يا سنيني التي تلاحق بعضها بعضاً
دون معنى أو بعض معنى
واأسفاه يا عريي الذي أحاط بي
كما يحيط الجنودُ برجلٍ أعزل ) . ص 23
****
( من أنت ِ
حتى أكتب إليكِ إلياذتي المعاصرة
اكشفي عن أنانيتك
حتى أريكِ يتمي
واكشفي لي عن بخلك
حتى أريكِ نخلتي
واكشفي لي عن غموضكِ ومؤامراتك
حتى أريكِ وضوحي وسذاجتي
وأكشفي لي عن موتك
حتى أريك قيامتي!) ص 23
2 ـ تكرار اللفظة في أواخر الأبيات :
( لستُ سوى طفل
سقط في البحر ... بحر الحروف
فغرق حتى بكته الحروف) ص 24
****
( سألتُ كلّ شيء عن كلّ شيء
فلم يجبني أيّ شيء عن أيّ شيء)
****
( هكذا فأنا أجلس في نفسي
لأحرس نفسي )
***
( حبكِ قاد شعري
إلى كنه الحروف والنقاط
وقادني إلى العظمة
إلى جنون العظمة!)
3 ـ تكرار الألفاظ في أواخر الأبيات في بداية الأبيات التالية لها :
(كانت النقطة جوهرة
جوهرة بحجم تفاحة كبيرة) ص 17
****
( طار اللقلق
لقلق طفولتي) ص 22
****
( لا يزال اللقلق يحوم حول قلبي
قلبي الذي صادره الموتُ والجوعُ والنار)
****
( الدنانير وحدها تتكلم
تتكلم وتتكلم وتتكلم ! ) ص 56
***
( المرأة في المرآة
والمرآة في الحمام ) ص 59
4 ـ تكرار الألفاظ في أوائل وأواخر الأبيات
( من أنتم ـ قال المقهقه ـ رجال من الشرق ؟
من أنتم ـ قال المقهقه ـ رجال من الغرب؟) ص 82
****
( حبيبتي
تجيء كلّ يوم
بألفها الذي يشبه ألفي
وبيائها الذي يشبه يائي
وبعذابها الذي يشبه عذابي ) ص 107
5 ـ من الممكن أن نضيف نوعاً خامساً من التكرار تقع فيه الكلمة المكررة في وسط العبارة كالآتي:
( بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي
واللاجدوى مقابل صباي
واللامعنى مقابل لذتي
واللامستقر مقابل جثتي ) ص 51
***
(المرأة في المرآة
والمرآة في الحمّام
والحمّام في الطبل
والطبل في الدينار
والدينار في الفقر
والفقر صديقي ) ص 59
ولابد من الإشارة الى أن ترتيب أنواع التكرار حسب تسلسل الأرقام يؤشر التدرّج في نسبة استخدام كلّ نوع منها ومن ذلك يظن أن النوع الأول ، مثلاً، يسود في جميع القصائد ويليه النوع الثاني، وهكذا. ومن الجدير بالذكر ان تكرار الألفاظ بأنواعه الخمسة ليس هو التكرار الوحيد من نوعه، بل نجد الى جانبه ما يطلق عليه التكرار النحوي، ويتمثل هذا التكرار بتراكيب نحوية كاملة أو جزئية، وأقصد بذلك الجملة الاعتيادية التي تتألف مثلاً من الفعل + الفاعل + المفعول به، أو نكتفي بالفعـل + الفاعل اضافة الى العبارات الظرفية والمجرورة. إنّ استخدام هذه التراكيب بشكل متكرر يؤلف حالة من التوازي الذي ينطوي على الإيقاع وتوكيد التنوع وتضاد الآراء . لكن نظام الألفاظ في هذه التراكيب النحوية معرض للتغير، حتى يصير من الممكن أن تبدل هذه الوحدات اللغوية مواقعها لاسيما في الشعر، لغرض معالجة نقطة التركيز أو لكسر رتابة نموذج معين.والآن، لو أخذنا قصيدة (محاولة في الحب) كمثال تطبيقي لما رمينا اليه، لوجدنا أن القصيدة تتألف من تسعة مقاطع شعرية، حيث تتشابه التراكيب النحوية تماماً في المقاطع الأربعة الأولى، بينما تدخل تنويعات إضافيـة في المقاطع الخمسة الأخيرة فجميع الجمل الأولى في المقاطع 1 و2 و3 و4 هي حبيبتي جنّية صغيرة ، حبيبتي نخلة باسقة حبيبتي أغنية عميقة و حبيبتي بستان تفاح ، على التوالي: وجميع الجمل الثانية تبدأ ب(مليئة)، وجميع الجمل الثلاثة تبدأ ب (عليّ أن أجد طريقاً..) وجميع الجمل الأربعة تتألف من : الضمير( أنا+ أسم + الذي + تكملة). أما المقاطع الخمسة الأخيرة فتكاد أن تتبع نظام التوازي النفسي باستثناء تنويعات قليلة. ومن هذه التنويعات أن الشاعر واصل استخدام (حبيبتي) في بداية المقاطع، لكن الفرق بينها وبين (حبيبتي) في المقاطع الأربعة الأولى هي أن الأخيرة: (حبيبة + ي) تؤدي وظيفة نحوية مختلفـة عن وظيفتها في المقاطع الخمسة. إنّ (حبيبتي) في المقاطع الأخيـرة تؤدي وظيفة فاعل ، لنأخذ المقطع 7 مثالاً:
(حبيبتي
تزورني كلّ يوم
مليئة بالرقم سبعة
وإشاراته وارتباكاته وصيحاته) ص 106.
ومع أنني لا أريد أن أدخل في مجال النقد الدلالي/ التفسيري/ فأننـي ألاحظ هذه الضربة الفنية بين رقم المقطع (7 ) وعبارة (مليئة بالرقـم سبعة) حيث يمثل الرقم سبعة رمزاً للأنثى، ولو أن النقطة لا وجود لها ظاهرياً هنا، فإنّ المرء يشعر أنها تتحسس طريقها الى الرقم سبعة، استجابة لإشاراته وارتباكاته وصيحاته.
نص القصيدة
محاولة في الحب
شعر : أديب كمال الدين
(1)
حبيبتي : جنّية صغيرة
مليئة باللذةِ والدمعِ والدفء .
عليّ أن أجد طريقاً لترويضها
أنا الساحر الذي أُحْرِقَ حيّاً حتى الموت.
(2)
حبيبتي : نخلة باسقة
مليئة بالتمرِ والحلمِ وأعشاش الحمام.
عليّ أن أجد طريقاً لصعودها
أنا المعوَّق الذي قطعت الشظايا إحدى قدميه.
(3)
حبيبتي : أغنية عميقة
مليئة بالطبولِ والدفوف والعنفوان .
عليّ أن أجد طريقاً لسماعها
أنا فان كوخ الذي أهدى أذنه لحبيبته الهازئة .
(4)
حبيبتي : بستان تفاح
مليء بالمواعيد والرغبة والعصافير
عليّ أن أجد طريقاً لسرقته
أنا اللصّ الذي سرقَ الزمنُ حقيبة طفولته البريئة.
(5)
حبيبتي
تزورني في كرسيي المتواضع كلّ يوم
محملةً بالتاجِ وبريق التاج
عليّ أن أجد طريقاً لمدحِ كلِّ لؤلؤةٍ في تاجها
أنا الشاعر الذي لا يحبّ أن يمدح
سوى تيجان النساء
وبريق النساء .
(6)
حبيبتي
تزور حيرتي كلّ يوم
مليئةً بالغموضِ والأساطير والألغاز
عليّ أن أجد طريقاً لفكّ ألغاز أساطيرها
وفتح غموضها المرتفع
أنا المُطلِسم الذي سرق الجنّ
طلاسمه في حوضِ السباحة !
(7)
حبيبتي
تزورني كلّ يوم
مليئةً بالرقم سبعة
وإشاراته وارتباكاته وصيحاته .
عليّ أن أجد طريقاُ لإلقاء القبض عليه
بسببِ صيحةٍ كلكامشية
أو حلمٍ فرعوني
أو خطأ بابلي في ترتيبِ أيامِ الأسبوع .
(8)
حبيبتي
تجيء كلّ يوم إلى بابي المحطم
مليئةً بالرغبةِ والدلالِ واللامعنى .
عليّ أن أجد طريقاً لملء حلمها
وتقبيلِ دلالها
وإطلاق طيور لامعناها
في غيمة معناي المرعبة .
(9)
حبيبتي
تجيء كلّ يوم
بألفها الذي يشبه ألفي
وبيائها التي تشبه يائي
وبعذابها الذي يشبه عذابي .
عليّ أن أجد طريقاً
لأضع حداً لضياع حروفها وحروفي
وارتباك حروفها وحروفي
حتى لو اضطررتُ إلى إطلاقِ النار
على الحروفِ جميعاً !
***************************
نُشرت في صحيفة العرب اللندنية 16 حزيران 2000
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 185 - 191