في كتاب "الحروفي"
33 شمعة تضيء تجربة الشاعر أديب كمال الدين
وديع شامخ
يُعد أديب كمال الدين من شعراء العراق المتميزين والمثابرين الذين اخلصوا لتجربتهم الشعرية. فقد أنجز الشاعر في رحلتة الإبداعية تسع مجاميع، كانت مجموعته الأولى "تفاصيل" قد صدرت عام 1976 – مطبعة الغري الحديثة - النجف ثم أصدر" ديوان عربي" 1981 - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد ،و"جيم" 1989- دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، و" نون" – مطبعة الجاحظ - بغداد 1993 و"أخبار المعنى" 1996 - دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد، و"النقطة" 2001 المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، و"حاء" 2002 – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، و"ما قبل الحرف... ما بعد النقطة" 2006 - دار أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان. وأخيراً أصدر أديب "شجرة الحروف" -2007 أزمنة للنشر والتوزيع – عمّان.
بعدها أعدّ الناقد الدكتور مقداد رحيم الدراسات والمقالات النقدية التي تناولت بالقراءة والدراسة والفحص والتحليل عاصفةَ أديب الشعرية الحروفية ليضمها في كتاب عنوانه: "الحروفي، 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"، صدر مؤخراً عن عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت ب368 صفحة من القطع الكبير.
يحتوي هذا الكتاب المثير والمميز على ثمانية فصول ومقدمة كتبها د. مقداد. وجاء على النحو التالي: الفصل الأول خُصص للحديث عن التجربة الحروفية بأطارها العام عند الشاعر كمال الدين وشارك في انجاز هذا الفصل أربعة نقاد ، أولهم د. ناظم عودة الذي كتب في دراسته: "على عكس كل ما يعتقده معظم الذين درسوا أو تأملوا شعر أديب كمال الدين وجزموا بصوفيته، أعتقد أن نصّه نصّ رمزي وليس نصاً صوفياً، فالذين اعتقدوا بذلك سوّغوا اعتقادهم باستعماله الحروف رموزاً لدلالات على غرار ما كان يفعله المتصوفة، وباستعماله لأشكال التعبير القرآني كما في مجموعة (جيم)... إن الحرف الذي يرمزه كمال الدين يريد من وراء ذلك أن يتقي أشياء كثيرة ، فحيثما وجدت المراقبة سوف يكون ثمة ترميز للخطاب".
أما الناقد التونسي د. مصطفى الكيلاني فيشير الى "أن رجوع أديب كمال الدين الى أصل اللغة محاولة جريئة لا تخلو من أخطار لاستقراء جينالوجيا المعنى في تاريخه الأول الكامن في راهن الكلمة، وسعي الى إنشاء مستقبل لماضٍ أنتج قيمة لكائن استطاع أن يحوّل الأشياء الى رموز دالة بذاتها في حضور التكلّم وفي الغياب" . لكن الناقد علي الفوّاز يذهب الى أن " تجربة الشاعر أديب كمال الدين قد وضعت نفسها في فضاء نصوصي تتشكّل فيه تجلّيات المعنى كرؤيا الكشف عن جوهر غائب أو لذة غائبة هي جزء من مكونه العقائدي ورسالته التي يستحضرها كلذّة للتعويض أو رقية للانقاذ أو خطاب للتعلية أو خطاب في التقيّة".
ويختتم الشاعر والناقد وديع العبيدي هذا الفصل بتأكيده على "أن هذه التجربة هي تعبير عن العجز في تغيير الواقع أو حرف مسيرة الدمار ورفض التسليم بمنطق الشر، وقد دفع هذا العجز الى إيمان بالكلمة".
الفصل الثاني خُصص للدراسات التي كُتبت عن مجموعة "ما قبل الحرف .. ما قبل النقطة" الصادرة عام 2006. إذ تناوب على انجازه كل من د. عبد الإله الصائغ الذي أكد على أن " عند أديب لا شيء يشغل باله يقينا! نعم المتلقي- وهو ضالة المنتج بوصفه المستهالك الوحيد- المتلقي قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب! تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية حياة الشاعر وباتت شاعريته! فما حاجته الى السطوع وهو محترق؟ الى الشيوع وهو مختنق؟ بعبارة مختزلة لقد غرّقت الصوفية الجديدة تجربة أديب! الصوفية ليست قصيدة ولا جلباباً ولا بياناً ولا صلاة! الصوفية لا تشترط سوى الزهد بكل ّ شيء سوى المعشوق".
بينما يرى د. حاتم الصكر الى استراحة "أديب للحروفية الشعرية واتخاذها هوية فنية واسلوبية له، على مدى تجربته الشعرية الممتدة من عام 1976 الى 2006 عام اصدار مجموعته ماقبل الحرف ما بعد النقطة".ويشارك د. مصطفى الكيلاني ثانية بدراسة موسعة عن هذه المجموعة وتحت عنوان " حروفية الشعر من التجريب الى حادث التجربة".
الشاعر عيسى الياسري يقول عن هذه المجموعة: " المدهش أن الشاعر لم يقع في نمطية يقوده اليها تكرار استخداماته الحروفية التي امتدت الى أكثر من مجموعة شعرية .. ولعل وعي الشاعر لتفاصيل مكوّنه التجريبي والمعرفي هو الذي منحه هذه الحصانة التي وقع فيها كثيرون غيره ، حاولوا أن يجدوا لهم طريقاً مختلفاً يمنحهم تميّزاً أو ريادة خاصة".
أما الشاعر عبد الرزاق الربيعي فيقول" إنّ قراءة هذه المجموعة يعني التجوال في حديقة مليئة بالألوان الباردة والحارة، الهادئة والوحشية، الصامتة والضاجة بفوضى الواقع وصخب العالم ، تبعاً لتبدلات حياة الشاعر وانتقاله من الوطن الى منفى قصيّ له خصائصه المختلفة التي وجد في الألوان تجسيدا لها".
من جهته أشار الناقد خليل إبراهيم المشايخي الى أن المعنى العميق في النصوص بقوله: " جاءت نصوص الشاعر أديب كمال الدين زاخرة بالمعاني المستقلة العميقة التي تتماثل مع فكره الإنساني، جاعلاً لغته منصفة للولقع الفكري المعاش. إنّ كل نص من هذه النصوص يستدعي من المتلقي وقفة متأنية تتسم بعمق التأمل وصولاً لاستقراء ثيماته المبثوثة عبر كل نصّ ومعانية وصوره وأساليبه البلاغية".
ويركّز الناقد زهير الجبوري على "ان نصوص هذ المجموعة ليست سوى تنويعات متجانسة لمحورية "متمركزة" تنفجر لحظة انفعال هذه المحورية مع ذات الشاعر، فالحرف أحياناً لا يحمل قيمة دلالية فحسب، بل يستخدمه الشاعر كعنصر له خصوصية لتكون مهمته وظيفية، ولعلنا نجد التلاقح بين أدوات اللغة وبين حروفها تناظراً في خلق الرؤيا الشعرية".ويكتب في خاتمة الفصل
الناقد صباح الأنباري: " ما بين الحرف والنقطة .. نتحرى منجز الشاعر الذي تمّيز منذ وقت مبكر، بالكشف عن هموم النقاط والحروف. لقد شغلت الحروف والنقاط ولم تزل حيزاً كبيراً في تجربة أديب كمال الدين".
الفصل الثالث جاء مكرّساً لمجموعة "حاء" الصادرة عام 2002 بإضاءات الشاعر والناقد اليمني د.عبد العزيز المقالح: "في العمل الإبداعي الكبير أكثر من مجرى سري يحفره المبدع في وجدان قارئه، وكلما كان هذا العمل موجزاً أومكثفاً زاد القارئ به إغراء ودهشة، وهذا شأننا مع تجربة الشاعر أديب كمال الدين، الذي يشارك بفاعلية في تأسيس المنجز الشعري الأحدث والأجد بلغة لا تستعجم، وفي إطار أبعد ما يكون عن الشكلانية المحكومة بالإبهار الخاوي".
كما يذهب د. عدنان الظاهر الى خصوصية قراءة التجربة الشعرية بقوله ".أنا أتهيب ولوج عالم هذا الشاعر المتفرد. وضوح شعره لا يفضي إلا الى المزيد من الغموض والاحساس بالهيبة وحتى بعض الوجل".
في حين يشدد د. محمود جابر عباس على أهمية الشاعر في المشهد الشعري العراقي المعاصر فيقول" وضع الشاعر أديب كمال الدين مع زملائه شعراء السبعينيات في العراق، في نصوصهم وقصائدهم وبياناتهم الشعرية وتجاربهم المتنوعة والمتعددة والمغايرة، القصيدة الجديدة ليست على المستوى الشعري العراقي فحسب بل على مستوى المشهد الشعري العربي على عتبة حداثة شعرية جديدة ومختلفة في البنية والرؤيا والأدوات والتجارب".
الفصل الرابع كان فصل "النقطة"، المجموعة التي كُتب عنها الكثير والتي صدرت بطبعتين في عامي 1999 و2001، والتي يقول عنها د. عبد الواحد محمد: "إن هذا الديوان يفتح أمام الناقد أبواباً مختلفة لأداء مهمته النقدية. فهناك باب للنقد السايكولوجي، وباب للنقد الواقعي والسحري، وباب للنقد الاجتماعي، وباب للنقد الشكلي، أي النقد اللغوي – الأسلوبي".
أما د. حسن ناظم فيوجز التجربة كلّها حين يكتب: " النصّ الشعري الذي بدأت به، وانتهت إليه، خبرة الشاعر أديب كمال الدين نصّ يقوم على ما عُرف بالحروفية. وقد كُتب عن هذه الخبرة الشيء الكثير، وأُضفيت دلالات جمّة على رمزيتها، وما هذا الاختلاف في تأويلها سوى علامة على غنى النصّ الشعري والخبرة التي تقوم دعامة لها. وضعت الحروفيةُ الشاعرَ خارج السرب، سرب جيله السبعيني المهموم بالحداثة الشعرية على الطريقة الأدونيسية، فسلك بذلك درباً خاصاً، غامر في استكشافه وحده، وانتهى إلى هذه الغابة المتشابكة من الرموز الحروفية، والسرد المشوّق، والبناء المحكم للنصّ. الحروف التي يطلقها أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي. ومن هنا تكون الحروف وجوهاً للشاعر نفسه، فهو أيضاً ذات فريدة، وتخييلي مبدع، ومحتجّ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهو حيّ وميّت، إنه التناقض المطلق أيضاً. نصوص الحروفية عالم رحبٌ وممتع، والسرد الذي يغلّفها يتماهى بها ولا يعود إطاراً خارجياً، بل يتحول السرد إلى مكوّن أساسي للشعرية الحروفية. إنها نصوص تناجي الغيب والواقع، فتبقى معلّقة بينهما، تعيش حالة المابين، ومعها يجد القارئ نفسَه سابحاً في أحلام يقظة، ونهارات غائمة، وسلام مزيّف، وهدوء يسبق العاصفة: وتلك هي شيمة الحروف المتحوّلة، والشاعر الذي يحاول ترتيبها ترتيباً جديداً كلَّ مرّة".
الباحث والناقد صالح زامل يشير الى العلاقة بين الحرف والنقطة: "من الواضح أنّ قصيدة أديب كمال الدين خرجت من سلطة الحركة المقترحة للعين في حركة صوتية مرئية وبمرجعية تبحث عن تفرد، وإن كانت تعود للتكثيف الصوتي من خلال مجاورة الحرف للكلمة، لكن، ليس بغير اقتران مع التأمـل في تشكيل الحرف وهي القراءة التي يقترحها للحرف، وهي منهمكة في بحث الصلة بين النقطة والحرف فتتأمل في الحرف محتضناً في خانته العلوية النقطة، أو مرتكزاً عليها خانة سفلية، فتضفي للحرف المجرد بالرغم من تجريدها هي الأخرى معنى".
د. مقداد رحيم معد ومقدم الكتاب يشارك في مقالة يشير فيها الى خصوصية أديب كمال الدين في التعامل مع الحرف بقوله " يبدو أن الشاعر أديب كمال الدين منشغلاً طوال الوقت بأبجدية الحروف، كما انشغل بها المتصوفة ، ثم شعراء العصور المتأخرة على نحو آخر مختلف من حيث الدلالة الرمزية لكل حرف. غير أن أديب كمال الدين يمزج بين الطريقتين ليؤسس له منهجاً خاصاً به.. وإنّ أديب كمال الدين شاعر ذو منهج خاص به، وقد أثبتَ خلال مدة طويلة من التجريب والتعميق أنه مخلص لمنهجه هذا غايةَ الإخلاص، ذاهباً معه إلى أقصى حدّ، مستفيداً من اكتشافاته الجديدة".
أما الشاعر والناقد هادي الربيعي فقد أكد على الطريق الخاص للشاعر بقوله " يمكن لأديب كمال الدين الآن يرفع اسمه من أيّ عمل شعري يكتبه لنعرف أنه يعود إليه. وهذا الرهان الصعب على نحت بصمات أصابع خاصة في عالم يموج بآلاف الشعراء استطاع أن يحققه الشاعر بدأب الصابرين الطويل ".
القاص والكاتب فيصل عبد الحسن أكد على أهمية كمال الدين في المنجز الشعري السبعيني بقوله :" يعتبرالشاعر أديب كمال الدين أحد أهم الشعراء السبعينيين في العراق". أما الدكتور إسماعيل نوري الربيعي فقد أشار الى أن الشاعر أديب "يؤسس للبدهي واليومي حيث يقوم بعجن الحقيقة بيديه، وهو يستحضر الزمني الما قبل تاريخي، والمستقبلي الذي تبلغ فيه ذروة الحداثة. إنه يوظف (المابعد) زمني لتأسيس رؤاه القائمة على (الماقبل) هذه، ليحقق من خلالها نبوءته الخاصة". وتكتب الناقدة والشاعرة التونسية نجاة العدواني: " إنّ الشعور الفني لدى الشاعر لا يمكنه الانفصال عن الحلم خصوصاً أحلام اليقظة التي يستبطنها جاعلاً قصائده امتدادا لها، والحلم في هذه المجموعة الشعرية تغلغل في كلّ النصوص مازجاً بين الذات والموضوع فكأنّ الصور تخفي في جوهرها حقائق كامنه خزنتها الذاكرة واستحضرتها لحظة الكتابة".
ويساهم د. حسين سرمك حسن في هذا الفصل بمقالة أكد فيها على ريادة الشاعر في حقل الحروفيات "وبهذه النقطة يتربع أديب كمال الدين على عرش شعري قائم بذاته. ولكلّ شاعر عظيم عرشه ورايته. ولا يوجد تسليم رايات في الإبداع. لمن سلّم المتنبي أو الجواهري أو السياب رايته بعد موته أو ولادته بتعبير أدق؟ كلّ شاعر يموت وراية فنه ونرجسيته البيضاء بيده، يمسك بها بعنف ومحبة. كيف يسلّمها وهي الراية التي ستخفق يوم البعث ويصطف خلفها طابور العناوين؟"
وساهم الشاعر عيسى الياسري ثانية في مقالة بعنوان" النقطة تشكيل لغوي ومعادل ترميزي لازمة الذات ".أما الباحث رياض عبد الواحد فيختتم الفصل الرابع بقوله: "إنّ مافعله الشاعر أديب كمال الدين على مستوى المنجز الشعري ليس سهلاً. فهو أراد أن تكون له لغة منظورة، أي ذات بعد فني لذلك حاول الاعتماد على المختزلات (النقطة والحرف) ليؤلف بين ماهو داخلي وما هو خارجي، ويمازج بين ماهو زماني وما هو مكاني في ما يخصّ حقيقة الوجود الإنساني الذي لايقرّ له قرار".
الفصل الخامس كُرّس لدراسات عن مجموعته " أخبار المعنى الصادرة عن دار الشؤون الثقافية 1996. وقد افتتحه الناقد واثق الدايني بقوله" يتحول الشاعر على نطاق محدود، تلقائي أو مقصود الى استعمال الحروف الرامزة استعمالاً رمزياً دالاً إلا انه يمنح هذا الاستعمال بعداً شكلياً رائعاً بوضع الحروف الرامزة أمام القارئ طالباً منه التصرف بها خارج تأويلها أو معه، فإذا جمعت هذه الحروف بعضها الى بعض منحتك كلمة دالة ورامزة بقوة لتضيف الى النظم غموضاً جديداً غاية في الجمال."
الشاعر والناقد ريسان الخزعلي قال "إنّ استثمار الطاقة التعبيرية للحرف في الإبداع العراقي له جذوره التاريخية والدينية المعروفة. حيث كانت الحروف تشكل الرقعة الأوسع في صورة كتابة الرقى والتعاويذ (بطلسمية) تصويرية تبهر ولا تفتح مسالكها إلى الذهن إلا ّبالقدر الذي يتوفر على معرفية بأدوات السحر كتابياً. كما إنّ تجربة الفنان القدير (شاكر حسن آل سعيد) في استثمار الحرف بأنْ منحَه نطقاً تشكيلياً هي الأخرى كانت سابقة حتّى وإن ارتبطت بالتداولات الصوفية للحرف. غير أن جميع التجارب في هذا المجال منفصلة ومقطوعة الجذور عن القدرة الهائلة في سطوع الحروف في (القرآن الكريم).. والقوة التي تمنحها صوتياً وبيانياً في ترتيب النص القرآني بما يجعلها مؤثرات لاتـُستثنى من طبيعة الجمال الذي يقوم عليه القرآن بلاغياً. إنّ القيمة التي تقوم عليها (دالة الحروف) في (أخبار المعنى) تتأسس على تلك الإشارات مضافاً اليها الاشتغال بالجهد الإبداعي- الإبتكاري للشاعر ذاته.. حيث إن محاولات الشاعر تستنطق الحرف (قرائياً وتشكيلياً ولونياً) بتنويعات جمالية تقوم على الرنة الإيقاعية التي يشكّلها توالي الحروف".
ويساهم د. محمد صابر عبيد بمقالة جاء فيها: "إنّ السرد الشعري الذي حفل به ديوان (أخبار المعنى) يمكن وصفه بـ (سرد تحت الضغط)، غالبا ما يتمركز فيه الصوت السارد ويجتر خزينه، ولا يتورّع في أحيان كثيرة عن التكرار غير المؤدي الى وظيفة جديدة. (أخبار المعنى) قصيدة واحدة يشتغل عليها الشاعر اشتغالات متنوعة، مستغلاً بهاء الميراث الحرفي وتمظهراته، حشد كبير لإمكانات شعرية كثيفة وسردها مرّة واحدة، في محاولة جادّة لأسطرة الحرف وبعثه بصورة أخرى، والمراهنة فيه على شعرية (الكلي).ثمة نوع من التغمّض أو تبادل الوجوه، بين أنا السارد وأنا الحرف، من أجل إيهام المحاولة وتسهيل مهمة مواجهة إشكالية المعنى. إنّ الصلة مقطوعة بين آليات الاداء (الكلمة الفضة – الكلمات الرمل – الكلمات النار)، وملصقاتها المجاورة (لاجدوى – فلا جدوى – فلا جدوى ) وبين المعنى الهارب . انه ماثل في كلّ شيء شعريّ ، وغائب عنه في اللحظة نفسها . هل الحرف المقدس – أسطورة أديب كمال الدين – ضالع شعرياً في هذه المؤامرة ؟"
الناقد معين جعفر محمد يقرر: " لابد من التسليم بخضوع القصيدة الشعرية عند أديب كمال الدين لإجراءات نظمية في مجموعة " أخبار المعنى". إنها (صناعة) من نوع (فني)، فيها يمارس الشاعر أقصى مهاراته فهو ينطلق من إدراك عميق لطبيعة المعنى ومصادر تشكّله، ثم يأخذ بعدئذ، بنسف هذه المصادر ليتمكن بالتالي، من نسفه هو، فإذا كان (معنى كلمة مجموعة علاقاتها الممكنة مع كلمات أخرى..) فإن نفي الأول يتم تفادي نشوء الأخيرة، أو بتعبير أدق، بقلب السيرورة المتضمنة في طرفي المعادلة. وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى إفراغ الكلمات من معانيها، يزجّها في أنساق خارجة على أعراف البناء الجملوي وأساسياته، بحيث تكتسب علاقات إسنادية جديدة مع عناصر أخرى لا تتحمل أصلاً مثل هذه العلاقات".ويختتم الفصل د. الكيلاني بدراسة عنوانها " قراءة في قصيدة أخطاء المعنى لأديب كمال الدين .. هل هو تلاعب بايقاعات اللغة؟"
أما الفصل السادس فقد خُصص للحديث عن مجموعة " نون" الصادرة عام 1993.وتستهله د. بشرى موسى صالح ببحثها الأكاديمي: " في واحدة من محاولات شاعرنا المعاصر لخلق أسطورته الخاصة واستحداث الفعل الصوغي الخاص تقف محاولة أديب كمال الدين في خلق التقاطع مع المألوف والاستعلاء عليه بمكابدة الحرف.. في توق لخلق الأنموذج المهيمن على رؤيته الشعرية.. أنموذج (القصيدة الحروفية). ويحاول الشاعر أن يبوح بالمحفزات التي دعته الى اقتحام نصه تحت (شروط الحرف أو طائلته) والدوران معه في دورة لامتناهية، وأول المحفزات لديه يبدأ بالقرآن الكريم، والحرف جزء من أسراره، ثم بما أحسه في الحرف من قدرة على استكناه أزمنته الماضية والحاضرة وكشف المستقبلية منها وقدرته على خلق أسطورته الشخصية، ويعلن عما منحته التجربة الصوفية ومواجد المتصوفة له من مقترح حرفي وأسئلة قصوى عن الحرف وقدراته التي لاتحد.ويصرح الشاعر بالحرف ( أسطورة خاصة ) ويعرف به أداة لحفر منجمه الشعري ويشهد ان للحرف لديه".
كما شارك وديع العبيدي في هذا الفصل ليكتب: " تمثل النون الدالة الأكثر خصوبة في حروفية أديب كمال الدين لقدرتها على التشتت والتشظي والانفجار وتكوين مجرات جديدة. ومثلما تعددت دوال عشتار وعشتروت وأفروديت وفينوس في الثقافات القديمة بين الحبّ والخصب والحرب والجمال تنفتح دالة النون على متوالية من دوال."
أما عيسى الصباغ فأشار الى طقوسية تجربة الشاعر " يعمل الشاعر أديب كمال الدين على تفكيك اللغة إلى مستوياتها الأولية: أصوات ورموز كتابية، لا يعير كبير أهمية إلى المسـتوى الأول ويستغرقه الثاني في جو طقوسي مشع يعبق بشذى الأسطورة والبدايات الأولى. في مغامرته الحروفية هذه يرغب وبإلحاح في أن يوغل في ارض بكر لم تطأها أقدام غير أقدامه".
الشاعر عدنان الصائغ يقول" مثلما يحاول الحداد أن يضع الحديد الساخن فوق السندانة ، ويبدأ الطرق عليه ليصنع منه الأشكال التي يبغيها ، يحاول الشاعر أديب كمال الدين أن يضـع الحرف فوق سندانة المعنى ويبدأ عملية الطرق بتناغم متصاعد حتى يحصل على شكل القصيدة التي تشكل، بالتالي، عالمه الخاص".
ويشير علي الفواز في خاتمة الفصل الى أن مجموعة الشاعر "نون" تحتوي على " مراس وجودي لتقريب اللذة والاستغراق بمكاشفة الوجد، بكل ما تعنيه من انتشاء وبرهان ومبادلات كفائية بين حروف هي إشارات إلى معان وشهوات وإشراقات، نجد آثارها في النص الصوفي خاصة في شطحات البسطامي الذي يقول في الإشراقات (كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى) ، وإن وطأة هذا الكشف تجعل الاستعارة الشعرية هنا في موقع الاستعادة التي تحوزها ذات الشاعر وتكشف عن لذتها وأنويتها وتوحدها" .
الفصل السابع خُصص لقراءتين عن مجموعة " جيم" الصادرة عام 1989. الأولى للقاص والباحث الراحل يوسف الحيدري الذي يرى " من خلال هذا النسيج الهارموني الشعري الإبداعي فقد تجسّد صوت الشاعر أديب كمال الدين بين عشرات الأصوات الشعرية المتصارعة المتداخلة متميزاً قوياً وفي هذا شرفه الإبداعي الأصيل". أما الثانية فكانت للشاعر والناقد ركن الدين يونس الذي أشار الى مرجعيات التجربة الحروفية عند أديب عبر قصيدة إشارات التوحيدي بقوله "إنّ قراءتنا لهذا النص: (إشارات التوحيدي) دون غيره من نصوص المجموعة، قد بـُنيت على ما يحمله من خصوصية، نستطيع تلمّسها على الغلاف الأول للمجموعة الشعرية (جيم). فهو النص الذي استثمر الشاعر أديب كمال الدين المقطع الأول منه في تكوين صورة الغلاف، فضلاً عن العنونة وبذلك وضعه موضع المرادف المفسر، المزدوج الفائدة، للعنونة (جيم) ولما بين الغلافين من نصوص، أي انه مفتاح لما احتوته المجموعة من نصوص، وهو مفتاح أيضاً للكشف عما أنبنت عليه تجربة الشاعر في هذه المجموعة بشكل خاص وتجربته في المجاميع الأخرى التي أنتجها الشاعر، في مستوى استعارته للصيغ الحروفية".
أما ختام الكتاب فجاء على شكل آراء متفرقة لمجموعة من الشعراء والنقاد وهي بمثابة شهادات حيّة مُستلّة من مقالات هؤلاء الكتّاب. وقد شكّلت إضافة نوعية مهمة، وخاتمة مسك للكتاب الذي كان بحق- وكما وصفه معدّه د. مقداد رحيم - "أشبه بسلة من الفواكه والثمار المتنوعة، تثرى فيها الأنواع والأشكال والطعوم، وبذلك استطاع أديب كمال الدين بإبداعه المتفرد، الذي يُعدّ إضافة مثرية للشعر العربي الحديث، أن يحثّ الخطى ، ويحفّز الهمم الى تنشيط النقد الأدبي ، وإثرائه كذلك".
***************************
الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية – إعداد وتقديم: د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت2007 .
نُشرت في مواقع دروب وكتابات والحوار المتمدن بتاريخ 7 آب - أغسطس 2007