شاعر من بلاد الكَنغر
قراءة في " شجرة الحروف" لأديب كمال الدين
سُوف عبيد - تونس
هو في الحقيقة شاعر من بلاد الرافدين لكنه استقر منذ سنوات في بلاد أستراليا! أما كيف انتقل إليها فلست أدري القصة الكاملة لرحيله من بلاد السّواد إلى بلاد الكنغر!
إنه الشاعر أديب كمال الدّين الذي أصدر ديوانه الأخير - شجرة الحروف - وقد تعرّفت إليه سنة 1984 بمناسبة انعقاد المهرجان الأول لشعر الشباب ببغداد ذلك المهرجان الذي حضره العشرات من الشعراء العرب من كل حدب وصوب ومن جميع الأجيال ومن أغلب الاتجاهات الأدبية فكان فرصة للتعارف ولربط الصلات تلك التي كانت منقطعة أو تكاد بين الكثير من أدباء الوطن العربي... وقتها كانت أحلامنا لا تُحَدُّ وأمانينا لا تُعَدُّ في إنجاز نقلة نوعية للشعر بكتابة القصيدة المنشودة، تلك القصيدة التي تعبّر عن الوجدان الجديد المنبثق من هواجس النصف الثاني من القرن العشرين...سواء كانت تلك القصيدة سليلة المنجزات التراثية أو المعاصرة أو نتيجة للمحاكاة الثقافية الأخرى...أو لهذا وذاك وتلك فلا يهم! المُهم هو أن تكون إبداعا يتميز بالصدق والمعاناة والطرافة بحيث أنها تقول ما لم يقله السابقون والذين هم على قولهم قالوا....
لقد توفّق الشاعر أديب كمال الدين في هذا الدّيوان ـ وإلى حدّ بعيد ـ أن ينجز نصه بمواصفات وبصمات تكاد تكون خاصة به وتلك لعمري مسالة على غاية من الأهمية في الشعر والفن....
إنّ البساطة والانسيابية واستبطان العادي اليومي بما فيه من خلجات وأشجان ورؤى تجعل قصائده ذات أبعاد شفافة وأغوار عميقة في نفس الوقت:
أقصى ما أحلمُ به
أن أطيرَ فوق الجسر
حتى لا أرى العابرين فوقه
نحو ساعات يومهم
ولا العابرين تحته
نحو الموت الأسود
لكنّ أجدادي المتبرقعين بالأخضر
طاروا جميعاً
بعضهم طارَ فوق العمارات العالية
والآخر طارَ فوق الغيمة عالياً عالياً
حتى لم يعدْ يعرف أين هو!
إن هذه القصيدة عبارة عن ومضة تلوح في خاطر إنسان المدن المكتظة بالاسمنت والحديد والدخان والضجيج وبالناس اللاهثين وراء ضروراتهم اليومية وقد وقف الشاعر عندها متأملاً ومشدوداً إلى التناقضات الصارخة بين ماضيه وحاضره كأنه معلق بين السماء والأرض......
ويعمد أديب كمال الدين إلى الغريب والعجيب في كثير من قصائده كي يضفي على عالم شعره كوناً من الخيال المريع والمربك من أجل التصوير الكاريكاتوري باللغة شأنه ذلك شأن الجاحظ في رسم شخصيات البخلاء للتشنيع بأمرهم، ففي قصيدة – حيرة ملك – نقف على مثل ذلك الأسلوب النقدي التهكمي:
لم أكن ملكاً مثل باقي الملوك
كنتُ – ولم أزلْ – طيّباً إلى حدّ السذاجة
ومرتبكاً أغلب الوقت،
عادلاً إلى حدّ أن أظلم نفسي
وأترك شعبي
يحيطُ بقصري في كلّ ليلة
حاملاً المشاعلَ والفؤوس
صارخاً، شاكياً، لاعناً........
ولكنْ
لِمَ اعتادَ شعبي
أن يتظاهر في كلّ ليلة؟
ولِمَ اعتادت الملكة
أن تشاركهم في الهتاف؟
(وربّما شاركهم ولدي وقائد جندي!)
ولِمَ يحملُ المتظاهرون المشاعلَ والفؤوس؟
الكلّ يعيشُ في مملكتي دون خوف.
الماءُ متاح
والشمسُ متاحة.
الملحُ متاح
والعملُ والحبُّ والرقص
فلِمَ كلّ هذا الصياح وذاك النواح؟
فالقصيدة إذن تصوّر شخصية الملك في تساؤلات غير عادية وتجعله كالملاك الطاهر المحب للخير وللسلام والوئام ولكنها تخفي الممارسات الدكتاتورية لديه تلك التي نكتشفها في آخر القصيدة حيث تقوم على عنصري التشويق والمباغتة.
وفي قصيدة – ممتع، غريب، مدهش! – يجعل من تقنية الحوار المسرحي إيقاعاً للتعبير عن حالة الحيرة تلك التي يعيشها المبدع لمّا يصل إلى حد الانفصام ينه وبين ذاته فيصبح متماهياً في غيره من الكائنات والمعالم والأشياء بل يصل به الأمر إلى التماهي في اللامحدود وهو يسائل نفسه في المرآة :
* ما اسمكَ أيها الشاعر؟
- اسمي الطائر.
* وبعد؟
- السمكة.
* السمكة؟
- نعم.
* ذلك ممتع!
* ما لون البحرِ أيها الشاعر؟
- السفن والنساء.
* وما لون الحريّة؟
- الخبز والملح.
إن شأن أديب كمال الدّين شأن كل مثقف أصيل بحيث أنه مهما يمضي في التجريب الفني أو يتوغل في سياق البحث عن الطريف في المعنى أو في الأسلوب فإنه يظل وفياً إلى الجذور وإلى القيم الثابتة ورافعاً المصابيح إذا سادت الظلمات وإذا ادلهمت الطرقات فيحمل البشارة رغم ضراوة الفاجعة قائلاً:
لكنكِ، يا بغداد،
ستقومين من الموت
أعني ستقومين من الدم.....
نعم، يا بغداد،
ستضيئين الدنيا ثانيةً
بثيابِ الشمس
لا بثيابِ الدم،
فأنتِ العنقاءُ وأنتِ الشمس!
إذن الفرق واضح في متون الشعر الحديث بين تلك القصائد الغامضة التي تزخر بالتوليد اللغوي الأجوف حين تفتقد إلى المعنى الايجابي فتنشد الغريب من التعابير الخاوية وبين هذه القصائد وغيره في ديوان ـ شجرة الحروف ـ تلك التي تقوم على البحث والتجديد استناداً إلى مشروعية المضمون المعبر عن القيم الإنسانية والطافح بالشعور المكتوي بوهج التجربة.... ذلك هو الفرق بين شعر المحابر وبين شعر الوجدان كما في قصيدة – طائر النقطة –
في صباحٍ عجيب
هبطتُ في بلادِ الكنغر
وهبطتْ معي نقطتي مضيئةً سوداء
وحرفي طائراً من أنين
هبطتُ أحملهما بكفّي مسروراً
أحملهما كأيّ كائنٍ خرافي
ظنّ أنّه وصلَ الجنّة.
إن هذا الشعر الحديث الذي أضحى يسود منذ الثلث الأخير من القرن العشرين في سائر المنابر الأدبية قد اختلط في قصائده الحابل بالنابل ولكن علينا أن نميز في غضونه بين ما هو فعلا ناجم عن وعي وإدراك وقدرة ومعاناة وبحث وبين ما هو إفراز لحالات أخرى قد تكون لشهوة الكتابة لا غير، وإن الخبرة والمعرفة وحدهما قادران على تنزيل كل نوع المنزلة الجدير بها أما مقابلة الشعر الحديث بالتعميم والرفض والتشكيك فانه موقف يحتاج إلى الكثير من التمعن والتبصر الموضوعي!
لذلك فإن الشاعر أديب كمال الدين يعتبر أحد أهم ممثلي القصيدة العربية الحديثة المنتشرة هنا وهناك رغم المحاصرة والكبت.
إنها مشروع لم يكتمل بعد وما تزال تبحث عن قراءات تكتشف أبعادها ومكوناتها وخصائصها.
المسالة تتطلب الوقت فالشعر سابق للنقد!
وإنّ غداً لناظره لقريب .
*************************
نُشرت في مواقع المثقف والنور والندوة بتاريخ 25 تشرين الأول - أكتوبر 2007، كما نُشرت في صحيفة القدس العربي بتاريخ 2 تشرين الثاني- نوفمبر 2007