مفتاح الإحالة في (ما قبل الحرف... ما قبل النقطة)
رياض عبد الواحد
ما الذي يشكل الفكرة قبل ولادتها، أهو الحرف الذي تبتدئ به الفكرة خطوتها الأولى أم
انه يتشكّل في ما قبلية صافية يمكن أن ترى الأشياء من دون أن يكتشفها أحد، لأن
تشكّلها تشكّل غير انفعالي ولا افتعالي مضطرب. هذه الما قبلية تحيلنا إلى الزمن
الصفري الذي يخلو من التراكم والتناقض ويتآلف مثل النور.
قد تكون هذه المنطقة/ الما قبلية/ من مبتكر نوراني صاف ينبثق عنه الحرف النبيل. إنه يحيا الماضي ويندمج مع اللحظة الآن متفرداً لا منفرداً وينطلق نحو الأفق الأبعد بروح عرفانية تبحث في أصل النقطة من موقع آخر المستقيم من أجل اكتشاف كل النقاط الواقعة عليه. إنه في حقيقته يبحث في مآل الما قبلية لأنها بدء المعاناة العالقة عليه وآخر الهزيع الروحي المكوّن له، إذ إنه بحث في أصل المعاناة التي توفر مخرجات مغايرة لكينونتها الأصلية والمتمثلة بالطمأنينة اللاحقة لنفس توّاقة، لنفس تبحث عن (نقطة ماء في صحراء الربع الخالي)..!!
لكن هل يجوز الفصل بين الما قبل والما بعد من أجل خلق منطقة وسطى تأخذ قصب السبق لمسك الأمور من منتصفها، وتحيل كل نقاط المستقيم إلى نقطة تذوب في المطلق كي تتخلص أو تبتعد بهذه الذات العالقة بغير الكلمة ولتتشبث بمنطقة ناشزة بسبب التحولات الروحية باحثة عن الدال المكاني الذي يحاول كسر رتابة التقاطعات الأفقية والعمودية التي تتشكّل بها وفيها النقطة، ليكشف لنا ببصيرة تتلامح مع ما هو لغوي/ تشكيلي/ وهذا ما يضعنا أمام تأمل طويل وتبصّر أطول من أجل المسك بمناطق غير مأهولة سابقاً بواسطة لغة تختزل الوجود وتحيله إلى مدونة قد نراها على كيفية جديدة وغير معهودة لكنها الحقيقة الأولى وما أعسر الدخول إليها وفيها.
يضعنا نصيص مجموعة الشاعر المبدع أديب كمال الدين آنفا أمام لقطة مدروسة بعناية متناهية، فما بعد النقطة مستمر لم يقف عند حدود المنوّه عنه لغوياً/ ما بعد النقطة/ إذ ان الفراغ المنقوط قد سبق العبارة وهذا ما يعطيه استمرارية قادرة على مسح ما بعده إلاّ ان /الما بعده/ أيضاً عبارة عن نقطة تكوّنت بنحو حرفي.
في القصيدة الأولى/ أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذج/ نلاحظ شرائح من المجتمع داخل هذه الصورة غير أنهم أصدقاء، ونلاحظ أيضا أن الأوغاد والسذج جمع تكسير فيما جاءت كلمة/ المنفيين/ على صيغة جمع المذكر السالم لأنّ الوغد + الساذج ليسوا أسوياء بل إنهم نتاج مغاير لنموذجهم الأول، إلاّ ان/ المنفيين/ هم الذين لم يخدشوا التكوين الأول لإنسانيتهم (مع الأخذ بنظر الاعتبار الشاذ عن هذه القاعدة) أو يكسروا البنيان الأصل على الرغم من قساوة الظروف الذاتية والموضوعية التي تحيطهم. إذن التكوين الأول/ الما قبلية/ هي التي تحقق/ الما بعدية. تبدأ القصيدة بالتعامل مع الزمن بيد ان هذا الزمن لم يخرج عن بعده التاريخي المقترن بالقتل:
حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعةُ شاباً مقتولاً
إنّ الشاعر قد أجاد بهذا المسلك الذي لم يخرجه عن معطاه، إذ ان قضيته الأساسية هي الما قبلية والما بعدية .هاتان الفكرتان تبرزان من فكرة بسيطة لكنهما تتعقدان كلما تقدمنا إلى أمام. فالشاعر يسخر ماهو فلسفي لصالح ماهو شعري. لذلك فإنّ التصور العياني/ الحسي أضفى وجوداً حقيقياً للمتصوّر الشعري الخيالي لهذا قرنه الشاعر بالساعة - الزمن التي هي مقياس الحركة والتغيير.
ويقوم الشاعر بتقنية حرف صيرورة الحدث/الزماني ليعيده مرة ثانية إلى ما هو تاريخي حسب التسلسلية التاريخية للحدث. فالشاب المقتول موجود قرب/ كنيسة/ لاحظ كيف ان/ المكان /هنا هو الدليل التاريخي على مأساة الإنسان أي ان مأساة الإنسان مكانية زمانية معاً لهذا اختار الشاعر مرّة ظرف زمان حين ومرّة ظرف مكان قرب:
1ـ حين جلستُ إلى الساعة
2ـ كانت الساعةُ شاباً مقتولاً
3ـ قرب كنيسة أحزان العالم
4ـ جاء أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذّج
5ـ ووضعوا صليباً خشبياً
6ـ قرب دماء الجثة
7ـ ووضعوا ورداً لا اسم له
8ـ وآساً وفاكهةً معفّرةً بالتراب
9ـ قالوا: مَن هذا المقتول؟
10ـ وما معنى الساعة؟
في السطر الخامس وما بعده يتعامل الشاعر مع الزمن المقتول من مفهوم حضاري معاصر
بدليل القرينة التي تشير إلى ان من يغتال الزمن هو الآخر الذي يدعي الحضارة
والتقدم، ثم ان هذا التداخل الصعب بين معرفة المقتول ولا معرفته تحيلنا إلى تداخل
الحدث والشخصيات في آن واحد، فالشخصية الراوية شخصية مركبة تدخل مرّة في قلب الحدث
ثم تخرج خارجه لتقف على دكّة الاحتياط.
في المقطع الثاني يحدث تحوّل إذ يخرج الكلام هذه المرّة ليكون هو بمواجهة الآخر وإن كان كلاماً نفسياً - حديثاً إلى النفس - غير ان دلالته تحقق هذه المرّة بموصوفات غير معقولة لكنها لا تستحيل شعرياً، إذ يلعب الرمز- المرأة وجوداً غير وجوده المتلخص في الكلمة المكونة لها ومشتقاتها فالشاعر يزوغ زوغاناً محسوباً بدقة. نعم قد تجسد المرأة بكل مفردات الوصف غير الطبيعي الصورة الحقيقية لكل من النفس التي تتبلور على هيأة كلام إلا ان هذا الكلام يتشاكل مع الصورة المجسدة لما هو داخلي:
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضا؟!
إنّ القضية برمتها تكمن في "سر الكتابة" لهذا يحاول السارد/ الشاعر أن يتحاشى
الآخر بكل تكويناته وأن يفك سر المقتول في المقطع الرابع عشر. هنا تبتدئ فكرة
الزمان وكأنها حاضر الأشياء مضت، وحاضر الأشياء حاضرة، وحاضر الأشياء ستأتي، هذه
الأقسام المختلفة توجد في الذهن فالحاضر للأشياء الماضية هو الذاكرة
memory
والحاضر للأشياء الحاضرة هو الإدراك المباشر
direct perception
والحاضر للأشياء المستقلة هو التوقع
expectation.
وبهذا يصبح فضاء النص في وسط المحنة/ الغور الذي هو/ الذات/ المنبسطة كفرشة عليها
كل القيم الفكرية العميقة والمتمثلة بالمدرك الحكائي الأول الموزع بين النقطة
والحرف:
كان يكتب حروفاً ونقاطاً صوفية
ويصف الدنيا كسريرِ امرأةٍ من عسلِ الوحل
ويصف المنفى ككتابِ مجانين وعراة!
إذن، النقطة والحرف ليست زخرفاً خارجياً بل هما المعادل الناضج للنقاء والأصالة
إزاء عالم مجنون يصيح الشاعر في مواجهته لوحده. فالماضي بكل ثقله يتجسد أكثر من
غيره بدليل تكرير الأفعال الماضية: جلس، جاء، وضع، قال، قلع، أخرج، حضر...الخ.
إضافة إلى هذا الماضي يشكل ضغطاً نفسياً عالياً على الآن الحاضر، لذلك ينسجم الشاعر
بحركة استرجاعية قوية من أجل اقتناص فرصة لتفتيت تلك الصور الماضية بمطرقة الآن. من
هذا يظهر التمفصل الحاصل بين نقطتي زمنيين هما الماضي ـ الحاضر، وهذا التمفصل حمل
معه بروق المستقبل الذي اتخذ كياناً لغوياً يستقر في مكونات دالة على رؤى تحمل
شيئاً من المستقبل:
هذا درج يمضي حتى الغيمة
أو حتى أيام الريش!
أما القصيدة الثانية التي اخترناها فهي (ضجة في آخر الليل). تتكون بنية القصيدة من
تفاعل حركتين متضادتين ينشطر عنهما وجود جديد يتمثل ب:
صمت الناس
أعني الكلمات
صمتت الكلمات
أعني الناس
هذا النسق يتشكل من صيغة ثابتة هي (الفعل + فاعله) على مستوى التشكيل اللغوي/
الزماني يمتثل هذا النسق زمن الماضي الذي تتبادل فيه الأشياء أمكنتها بطريقة
التبادل الهندسي والوضوح في المرسم الآتي
يصمت الناس تصمت الكلمات
يصمت الناس تصمت الكلمات
هذا التبادل يعني التكميل أي الإحلال فلا كلمات من دون ناس ولا ناس من دون كلمات،
فالكلمات هو الحد الفاصل لتبيان الإنسان (وعلّمناه الحكمةَ وفصلَ الخطاب). أما
النسق الثاني فيتكون من:
فعل+ فاعل مستتر+ مفعول به + تكملة (مضاف اليه + صفة)
فاختفتْ وسط بيت حياتها المنيف
لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول
وسط صهيل الكلمات
أعني وسط صهيل الناس!
هذا الانحلال الذي يؤشر فعل التداخل المضطرب المقرون بالأفعال المضارعة (يبكي،
يصرخ، يولول) يحاول كسر النسق الأول ليفتح النص على رؤية مغايرة متشعبة من الآخر
بواسطة الاندماج معه حتى ليصبحا شيئاً واحداً لا يمكن التفرق بينما.
إنّ هذه المجموعة تحتاج إلى دراسة مطوّلة لأن فاعلية الإيهام بها فاعلية متشظية تأخذ أكثر من منحى ومسارهما يستتبع جهداً تأويلياً غير منغلق لأنه إيهام فاعل ممتد في حركة الزمن والذات امتداداً موغلاً في قضية متداخلة مع حركات الذات مرّة وحركة الزمن اللولبية مرّة أخرى.
%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%
الإحالات
1ـ د. حسام الالوسي/ الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم/ الدار العربية
للدراسات والنشر/ 1980/ ص 142
2ـ ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة/ مجموعة شعرية/ أديب كمال الدين/ دار أزمنة/ عمان/ الأردن.
نُشرت في صحيفة المنارة 21 آذار- مارس 2007 العدد 365