قراءة في"
شجرة الحروف":
العلاقة الأليغورية بين الحرف والذات
رياض عبد الواحد
يشتغل الشاعر أديب كمال الدين في منطقة نائية ذات تضاريس وعرة، بيد
أنه استطاع أن يجوسها بعناية وينفرد بسمات خاصة به مما أهله لتأسيس
شعرية قادرة على تأهيل ما هو ماضوي ليكون حداثياً، وهو بهذا يستبدل ما
هو اجتماعي ضيق بما هو كوني متسع ضافياً على هذا التوجه جمالية الحيز
الفراغي المؤدي إلى جمالية أخرى تتبأر في إدراك البعد بين الحضور
الفيزيقي ورهافة البعد اللغوي. ومجموعته الأخيرة المذكورة آنفاً تنبني
على هذا التطور الذي تتشابك فيه الرؤية كما تتشابك أغصان الشجرة.
فالحروف المعلقة على
شجرة اللغة تمثل الامتداد التعبيري لها، أما الشجرة نفسها فتمثل
التراكم الحضاري للغة. لذا فمشروعه الشعري ليس مجرد محاكاة عقلية، أو
مجادلة للنظر تلسكوبياً فيما هو ماضوي، إنه كشف عن حقيقة ثقافية مؤطرة
ببعد نفساني وعاطفي (أنها الاليغوريا) التي تربط ما سبق مع الحقائق
الحية. إذن أنه الكلام على نحو آخر)1
في القصيدة التي تحمل اسم المجموعة/ شجرة الحروف/ يعترف الشاعر بداية
إنها شجرة من نوع خاص، إنها جزء من اليوتوبيا التي تقوم على مبدأ الهدم
الكينوني لذاتها أي مكونها الرئيس. إذن العملية في جوهرها بحث عن
الوجود الزمكاني داخل ماهية متناهية في البعد الزمني مما يستدعي توغلاً
أعمق للصعود من القاع لتنفس الحقيقة على السطر بواسطة المنجز المتحقق
على أرض الواقع، فهو يتنافذ عبر وعيه، منجزه وتعبيره الذي هو نقطة
التصادم والالتقاء بين الوعي والأداء:
ليس هناك من شجرةٍ بهذا الاسم
أوبهذا
المعنى
ولذا أنبتّ هيكلي العظمي في الصحراء
وألبسته ُقبّعةَ الحلم
وحذاءَ طفولتي الأحمر
وعلّقتُ عليه
طيوراً ملوّنةً اتخذتْ شكلَ النون
ثم وضعتُ عليه
بيضةً صفراء كبيرة
اسمها النقطة!
الشجرة– هنا- عالم خارجي، لهذا يتحول الشاعر إلى دواخله يضعها
بديلاً عن تلك الشجرة- الرمز لتستوفي الصورة إطارها الخاص حتى تأخذ
سيرورة الفعل الدلالي- منذ البداية- اتجاهها وتشكلها ليس في حدود
الرؤية الحقيقية لكن حدود الرؤية العرفانية بسبب أن الشاعر يمنح
الأشياء أبعادها التصويرية التي لا تخضع لمنطق الحقيقة بل يتجاوزها
لإحساسات وإرهاصات ما بعدية تلتقطها (العين الداخلية للشاعر).
إن انبات /الهيكل العظمي/ حصراً تشيبه بالحروف على نحو عام أما لصق
الصحراء بذلك الهيكل فدليل على انبثاق الحرف العربي الأول من هذه
البقعة. هذا التعالق أعطى قوة ايجابية لصفة إنسانية أما / قبعة الحلم/
فهي الرؤى التي لا تكتفي بما هو ظاهر – عياني أو إدراكي- عقلي.إنها
تبحث في القسم الغاطس. تبحث عن المستتر والمخفي، عن مسك الحقيقة التي
لا يمكن لكائن من كان مسكها. فتقطير المعلومة مرده عملية استرجاع
ذاكرتي لزمن محدد هو زمن الطفولة، وبهذا تتراءى أمامنا شاشة لنقل طقوس
خاصة لا تتجاوز ما هو فطري في التصرف. إن هذا التأمل اللاديناميكي
ينقلنا من لحظة الشروق إلى لحظة الانخطاف الروحي الدائر في فلك
الحقيقة، حقيقة المكتشف لأناه عبر اللغة- الحرف. هنا لابد من تدمير ما
هو ذاتي لتحقيق الهدف لذا حصلت عملية/ أنبت هيكلي العظمي في الصحراء/.
إنه الوثوق الواقف الذي يساوي الوقوف الواثق في لحظة الزمنية.هذا
الانشطار انزياح تاريخي لوجود مشترك، الخط الفاصل بين المحتوى والشكل،
المحتوى الإنساني والشكل الحروفي الذي تميزه الذات الفاعلة فيه ويضاعفه
موضوعه الأثير المتحفظ بكينونته الزمكانية. ولم يأت اختيار حرف /النون/
جزافاً، فالنون في شكلها العام تشبه الدواة، والدواة دلالة الكتابة،
ودلالة النقطة هي الحبر، بهذا تكتمل الصورة الحروفية المعوض عنها
دلالياً.
يبدأ المقطع الثاني باللازمة نفسها/ ليس هنالك من شجرة بهذا الأسم/
لتوكيد لاوجودية الشجرة في الزمن الماضي أو الحاضر، غير أن الشاعر
ينعطف نحو المكان الذي هو من الأمكنة المغلقة بيد أنه يضع، أي المكان،
مسارات دلالية بديلة أخذت تظهر في بنية المكان.
ليس هناك من شجرةٍ بهذا الاسم
أو بهذا المعنى
حين هبطتُ من المركبِ الأسودِ الطويل
رأيتُ الناس يحملون أشجاراً:
إن البنية الوصفية اللاحقة لما ذكرنا آنفاً ينبثق عنها مجموعة من
المعابر الشعرية المتباينة التي يتداخل فيها الخاص والعام وينطلق فيها
الخيال الى أقصى مداه لإحداث إسقاطات على مجموعة من المرئيات مما يولد
انحرافاً في المنتوج الدلالي.
رأيتُ الناس يحملون أشجاراً:
بعضهم يحملُ شجرةَ الذهب
أو شجرةَ اللذة
أو شجرةَ الدم
والآخر يحملُ شجرةَ النسيان
أو شجرةَ الكحول
أو شجرةَ النار
ينطوي هذا الانفتاح على الآخر ضمن البؤرة الرئيسية المنتجة لها على
هيمنة الخيالي. إن وصف الأشجار بموصوفات حسية ولا حسية يوطد الشعور
بالضياع لأن مآل الموصوفات مآل آني، ابن لحظته فـ/الذهب، اللذة، الدم،
النسيان، الكحول، النار/ ذات وظيفة وصفية، القصد منها توكيد تفاهتها،
أو في الأقل توكيد عدم ديمومتها إذا أنها تنتهي بانتهاء المؤثر الخارجي
الذي كونها أو قد يسلبها في لحظة ما، مما يعزز عملية الإيحاء
باللاديمومة والوجود اللامتواصل.
فمددتُ يدي في قلبي مرتبكاً
وأخرجتُ شجرةً صغيرةً جداً
مليئةً بالشمس
سمّيتها شجرةَ الحروف!
إن التوكيد الحاصل على /شجرة الحروف/ مرده نية الشاعر المسبقة في
دفعنا عن التحري عما يكمن وراء الشجرة. هذا التوكيد منبثق من الذات في
عملية ترميم لما تبقى من الغنى الروحي للذات وهذا ما يتجلى بالصفة
الرئيسة/الشمس/ التي تعني الطهارة والتطهر والبشارة وانبثاق الحياة بعد
حلول العفاء على الأشجار الأخر. إن التوصيف آنفاً ينطوي ضمناً على
إدراك المتحدث لقيمة هذه الشجرة.
يتبلور في المقطع الثالث من القصيدة انتقال المسار السردي يختص بها
الراوي، إذ يسلط الضوء على معلم خارجي يغيب وراءه لكنه حاضر على مستوى
المعنى العميق وهذا ما تطرحه السطور الآتية:
لكنْ حدث أن سُجِنتُ مدى الحياة
ولكي أبدد الوقتَ في سجني الأبديّ
زرعتُ شجرةً صغيرةً جداً
في الصحنِ المعدني العتيقِ الذي يضع
فيه السجّانون طعامي
في السطر الأول تحدث انتقاله مكانية تعمق النفسي للسارد وتزيد من
التوتر والشد، لكنها – في الوقت نفسه- تخدم قضية مهمة هي العامل النفسي
المؤثر في المتلقي- فالسجن يمثل قمع الذات الإنسانية وقتل الحرية، لكن
حركة الذات الواعية داخله هي التي ستنعش البؤرة الرئيسية من موتها في
قتل هكذا مكان. إذ أن السارد استعاض عن الأكل بما هو أهم الفكر بدليل
القرينة / زرعت شجرة صغيرة في الصحن المعدني العتيق/. إن الإشارة التي
يخلقها هذا الانبعاج السردي يترتب عليها اتساع دائرة التوصيف في
موصوفات أخرى تزيد من رقعة السرد باتجاه خلق دلالات ناجحة:
فَنَمت الشجرةُ عاماً فعاماً
حتى أثمرتْ جيماً مليئةً بالطلاسم
وصيحاتِ الدمِ والحروب
ونوناً مليئةً بآهاتِ العشق
وريشِ المحبّة
ونقطةً قيل إنها نقطة العارفين.
إن مكمن الأفتتان بالحرف يكمن في منتجاته التي تفوق كينونته المتواضعة
على مستوى الكم والكيف. إنه رمز الوجود الإنساني (وعلّمناه الحكمة وفصل
الخطاب). هكذا هو مقام الحال الذي يتأسس- عند العارفين- من النفس ثم
الى الحال. إذن هو يبدأ كتأسيس من نقطة، نقطة الطلاق في الملكوت/ في
الموضوعية المطلقة. فالفرقان هو الرؤية التامة التي لا تعتمد على
الرؤية البصرية كما أسلفنا بل الرؤية الداخلية النابعة من أعمق نقطة
في الذات الإنسانية.
لا يخرج المقطع الرابع عن الثيمة الرئيسة، وإذا أن الركب/ الحياة تحمل
مجموعة متناقضة من العابرين، إلا أن المقطع الثاني أو الجزء الثاني من
المقطع نفسه يباغتنا بانحراف السرد صوب النتيجة الأخيرة، إذ أن
السارد- نفسه- يفاجئ بخروجه عن السرب المرافق له:
حين وصلنا إلى الشاطئ
استقبلنا ملك ضخمُ الجثّة
حاد النظراتِ، مخيفٌ كاللعنة
فأعطى الغريبَ الأولَ تفّاحة
وأعطى الثاني ديناراً
وأعطى الثالثَ طيراً
وأعطى الرابعَ امرأة
ثم وصلَ الدورُ إليّ
فتجهّم وجه ُالملكِ وصاح:
يا سيّاف اقطعْ عنقه!
بدءاً ينبغي الالتفات الى الدال اللساني /حين/ الذي ينعطف بمجرى السرد
نحو آفاق غير محسوبه، إذ تحول السرد بواسطة من سرد وصفي الى سرد وظيفي،
بمعنى أنه ساعد على ضبط سير المنتوج الدلالي باتجاه بيان حال الذوات
الخاضعة الى حكم الملك. وهنا تظهر مقصدية الشاعر في الوصول الى
المبتغى، إذ يتم استجلاب البؤرة الرئيسية/ شجرة الكلام/ في
مواجهة/السيف/. إنها مواجهة العصر، إذ الثقافة على مذيح السلطة. فقطع
رأس السارد/ البطل/ وإن كان سيرورة عكسية تضفي على القصيدة تشغيل آلية
الخيال عند المتلقي كونها تثير حساً انفعالياً عالياً، إلا أنه يؤشر حالة
من النكوص التدميري للذات الإنسانية وهي بمواجهة النزوع الطغياني، إلا
أن هذا التدمير يحمل بداخله بذرة الاشراق، إشراق الذات الواعية.
الإحالات:
شجرة الحروف/ شعر: أديب كمال الدين/ أزمنة للنشر والتوزيع/2007
1- الشعري والسردي/ د.محمد القاضي/ جامعة تونس الأول/ نصف قرن من الشعر
العربي/ إعداد علي الطائي/ دار الشؤون الثقافية/2000 / ص251
*****************
نُشرت في صحيفة المنارة – مؤسسة الجنوب للصحافة والنشر- بتاريخ 26
نيسان- أبريل
2008
|