قراءة في ديوان ( ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة )
مالكة عسال
يفلقُ
الشاعر أديب كمال الدين صدرَ الإبداع الأدبي عن ديوان شعري جديد تحت عنوان "ما
قبل الحرف .. ما بعد النقطة"، عن دار أزمنة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2006،
يتضمن
40 قصيدة ما بين الطويلة والقصيرة يتوّجها في النهاية حوار من طرف المبدع
عبد الكريم الكيلاني . وتتسع الأضمومة ل 159 صفحة بين دفتيّ غلاف أنيق تتوسطه
لوحة جميلة. حين توزّع ناظريك في قصائد الأستاذ أديب كمال الدين تجدها تتمحور
حول ثلاث تيمات أساسية:
1- المرأة / الوطن
2 - الحرف / الشاعر
3 - الموت / النهاية
-1 التيمة الأولى : لقد التاع الشاعر بمرارة الغربة، شرب كؤوس العذاب، قاسى حرقة الحنين للأهل والأحباب وغصة الابتعاد عن الوطن، حيث لم تبقَ عالقة قي ذهنه غير ذكرى مؤلمة للطفولة الممزوجة برعب الحروب، والدم والموت والشوق حتى أفقدته طعم وجوده، خاصة وأن الشاعر مهووس بحبّ وطنه حد النخاع، وطنه الهارب وسط إعصار الضياع. أصبح الشاعر يجسّده قي شخص امرأة ، يحبها ، ويعشقها ويمجّد مفاتنها ويشبهها لجبر ما في عمقه من انكسار :
أنتِ تشبهين البحر
لاشك في ذلك . ص:18
وعشقها حد الهوس:
إن عصفَ بي
وعذبني الحب . ص:91
وخلف قناع المرأة / الوطن يجوس بنا الشاعر بين عدة منابر لجرد ما يكابده من جرح جراء الفراق مستعيداً الذكرى والحلم :
لأستعيد معك
ذكرى المدن العظيمة التي احترقت بعيدا
وأستعيد معك شيئاً من الحلم
على سريرنا الضيق . ص : 53
فالشاعر يتقلب على سرير المواجع مكتوياً بحنين وذكريات وأحلام الطفولة والوطن: أتذكرُ دجلة كراقصةٍ تخرج من الملهى
تقتلها الخيبة والإعياء . ص:74
هل يمكن أن تمسح عن شاشةِ النوم
صورَ الطفولةِ العارية ؟ ص:105
2 - التيمة الثانية: تبدّى بالشاعر الضياعُ فانسرب في ذاته متأملاً الحياة وما تنطوي عليه من أسرار مبهمة فاكتشف أنها مجرد مسرحية خرافية لا معنى لها ولا مقصد. اسودّت في عينيه حد التعطش لومضة نور تنير فضاءه المطنب في العتمة، فالتجأ الى الحرف، ليقدم لنا طبقاً من الألوان الشعرية مستنهضاً أحياناً شخصيات تاريخية :
كان دوري دور ابن المقفع
والتوحيديّ
والشريف الرضيّ
ودور مالك بن الريب
وصولاً إلى السياب . ص:45
ويتخطّى الشاعر وطنه هامساً في آذان أوطان أخرى :
كيف لي أن أطير بجناحيّ نسر
من بلاد الكنغر
إلى مدن السحر
كيف لي أن أعانق فاس ومكناس . ص:57
لقد كان الشاعر يجد نفسه في الشعر واللغة عندما ترحل به متاهات الدنيا،وطبعاً كان يقصد بالحرف الشاعر هو نفسه " أديب كمال الدين " الذي استبدت به الغربة حد النزف ليكشف عن همه الطفولي والعزلة والحرمان ما لاتقدر الإبل على حمله ، يصرخ في الحرف بدمه وبعشقه لوطنه ليجّسد بالحرف الرعب والأحداث والوقائع والخيبات التي تملّته مدة أربعين سنة علّ الوضع يتغير فتنجلي كربته وتنطفئ كآبته :
اعتدتُ لأربعين عاما
أن ألقي الحجارةَ فيها
علّ نبعاً سحرياً يبزغ منها . ص :117
فقد أحبّ الشاعرُ الأبجديةَ التي خلصته من سواقي الحياة الأليمة، ففيه فجر ما بوجدانه ، وبه ترجم مشاعره ،ومنه اتخذ بلسماً لجراح تكدّست جراء التهجير والغربة والابتعاد . بل دخل بنا عصب الحرف بشكلّ طريف محبب ليمسرحه مع النقطة ويخلق بينهما حوارا :
قالت النقطة : مَن أنا ؟
قال الحرف : أنا مَن ؟
ويعشق الأديبُ الحرفَ لأنه الوسيلة الوحيد لفكّ لغز كلّ حي أو ميت ففجّر منه أنهاراً وخرافات :
بل إنني فجّرتُ منكَ نهرا
وفجّرتُ منكَ مئذنةً وقبرا
وفجّرتُ منكَ خرافةً للشعراء والمجانين . ص: 38
فالحرف كان أولاً وأخيراً ملاذ الشاعر" أديب كمال الدين " الذي دفن فيه نفسه ، ليجدها من جديد في رحلة الخيال والتأمل موحّداً ذاته وروحه والأشياء ، منغمساً في قراراتها حتى الأعماق ،منساقاً نحو المجهول، وحين انتصب أمامه جدار إسمنت بمغالقه وإبهامه وألغازه استسلم للبحر بذاته ، بمشاعره :
فسمع البحر يدّق بآلاف الأيدي
على جوانبه قلبه
حينها قرر أن يستسلم للبحر . ص:127
- 3 التيمة الثالثة :عاش الشاعر أزمة نفسية متدحرجاً بين النكبات والأحزان ،يصرخ ولا يرد على صراخه أحد مدة أربعين عاما :
أيُعْقَل
أنا أجلس أربعين عاماً عند بابك
وأنا الحاجب
فلا يُفتح لي
ولا يُردّ على صرخاتي . ص: 139
وتتناسل الأسئلة فلا يجد لها حلولا. تتقاذفه أمواج الضياع . من هذا العطب نستشف التيمة الثالثة : "الموت" كحلّ نهائي بعدما فشل الحرف في إنهاء المعضلة الملتهبة . لقد هيمنت هذه اللفظة على ذهن الشاعر وقصائده. وطبعا لا يقصد موت الجسد بقدر ما يقصد موت الروح والمشاعر والإنسانية التي اغتالتها الحروب القذرة، وليس أبلغ من الموت الحقيقي ، من الموت عن طريق التهجير والغربة وقتل ما بالأعماق من أحلام ، حتى تغدو الحياة مجرد وهم أو أسطورة :
ومتّ في آخر قارّات آخر العالم .
ص :71
بلغ اليأس الذروة ، حتى أصبح الشاعر يبحث عن العلاقات بين الموت والأشياء
والموت
والموت
:
ما علاقة المرآة بالموت ؟
بل ما علاقة المرأة بالموت ؟
بل ما علاقة المرآة بالمرأة ؟
و ما علاقة الموت بالموت ؟ ص :76
بل أصبح يرى كل ما في الوجود ميتا . ويصل السيل مداه حد ضجر الشاعر من الدنيا بعدما
تحوّلت إلى عذاب يتجرع مرارة الرعب والحنين
والغربة ،فيتوسل إلى الله ليعجّل بموته: إلهي
أرسلْ إليّ
ذئبك : الموت .
ص: 122 ليرتاح مما يراه ، ففي الموت رحمة وراحة إلى الأبد
:
فربما
يجفّف الموت
مستنقع حياتي إلى الأبد .ص :124
الحكي والسرد : المتصفح للمجموعة الشعرية للأستاذ أديب كمال الدين "ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة" يجد شكلاً آخر مختلفاً انفرد به الشاعر عن باقي شعراء عصره : وهو السرد الحكائي ،وهذا من أروع المتع الفنية التي يتصيّدها المتلقي حين ينازل قصائده . فموجة الحكي تصاحبه بهدوء ، من بداية القصيدة حتى نهايتها ،وهذا ينطبع على جلّ قصائده :
بعد سنين من كتابة نصّي هذا
قُتِلتُ قرب نهر ميّت
في آخر قارّات العالم
جاء أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذّج
حملوني في تابوتٍ أسود
حفروا الأرض ووضعوني فيها
ص: 12وص : 13
فقد عانق الكاتبُ الأشياءَ بسردية حكائية وصفية شعرية فريدة ، مقرّباً المسافة
بينه وبينها في تلاحم ممدد ، ولم تنفلت من وصفه الدقيق حتى اللحظات التي ينكبّ فيها
لكتابة الشعر :
فيحضر على الفور
ملاكُ الحياة وشيطانُ الشعر
ليجلسا في هدوءٍ مريبٍ حولي . ص: 135
الجانب اللغوي : إلى جانب هذا وذاك عمل الشاعر على اختيار معجم سلس وواضح ، ليمرّر، بعذوبة التكرار و في إلحاح جميل، زخّات الألم التي تتضخّم في الكيان دون توقف ، فيفرّغها في حركة شعرية سلسة وبلغة شفافة ، واضحة ، خالية من أيّ تعقيد:
مليئة بناركِ وأمطاركِ وأغانيكِ ودموعك
مليئة باستسلامكِ الشجاع
ومليئة في آخر المطافِ بضياعي الأعمى .ص: 17
وهذه الصبغة التكرارية تطبع أغلبية القصائد، لتضيف مسحة سحرية عذبة ، فهو ليس تأكيداً
مملاً بقدر ما هو إلحاح متواصل ، من خلاله يدعو الشاعرُ القارئ ليتوغّل قي متنافر الأشياء واستنباط سرّ إبهامها . كما اعتمد التشطير بالمفرد قي انسياب عمودي كلمة كلمة ،كأنها تتدفق حارة من جوفه في استرسال حاد:
طاغية
وحوش
أغلال
شوارب
صواعق .ص : 118
من خلال هذه الجولة العاشقة في ديوان "ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة " للكاتب "أديب كمال الدين " اكتشفتُ أن شعره هو إفراز لحرارة الآلام ، محاولة إجابة عن أسئلة تتناسل تباعا. هو عصارة إحساس ومشاعر كتبها الشاعر بالدم للبحث عن طهر يغسل به شواطئه ومدنه العارية . فالشعر لديه لم يكن لعبة أو هواية بل كان وسيلة أساسية لفهم مايدور في خلد العالم ، وفكّ لغزه المطنب ، كرسالة حقيقية لمواساة الإنسان ضد المأساة التي تحرقه ويلتذ بنارها ، فالشعر هو الذي سيبقى خالدا ًبعد ما يفنى ما في الوجود ، لذا كان شاعرنا بحقّ شاعراً متميزا.