(ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة)
تشاكل المعنى .. تباين المضمون
د. خليل إبراهيم المشايخي
من خلال ما يولده التشاكل والتباين لدى المتلقي تراكم تعبيري مضموني تحتمه طبيعة اللغة المستخدمة لإنشاء النص ، ستكون قراءتنا لنصوص ديوان (ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة) للشاعر أديب كمال الدين، الصادر في عّمان- الأردن/عن دار أزمنة / عام 2006.
يستدعي هذا الديوان من الباحث أو المتلقي أنْ يقف عنده أكثر من وقفة لسبر أغوار نصوصه ، وكشف دلالاتها ، ومعرفة رموزها ، وسّر حروفها ، والمهيمنات التي تسيطر عليها ، واستبيان زمكانيتها..
نلحظ أن الشاعر في كثير من نصوصه يعمد إلى ممارسة الترميز باستكناه سرّ الحرف العربي وسحريته ومدياته الدلالية.. وهي إحدى الطرق الخلاقة لكتابة نص مفعم بالمشاعر والأحاسيس.. مفجّراً عبرها ينابيع الخيال بدفق حيوي .. قادحاً شرارة الوجدان للولوج إلى اللاعقلاني للدلالات.. وصولاً إلى عكس التأثيرات النفسية للواقع الإنساني ..
جاءت نصوص الشاعر أديب كمال الدين زاخرة بالمعاني المستقلة العميقة التي تتماثل مع فكره الإنساني..جاعلاً لغته منصفة للواقع الفكري المعاش.. إنَّ كل نص من هذه النصوص يستدعي من المتلقي وقفة متأنية تتسم بعمق التأمل.. وصولاً لاستقراء ثيماته المبثوثة عبر كل نص ومعانيه وصوره وأساليبه البلاغية.. وهذا ما جعلني أركّز على النص الأول (أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذّج)..على أمل مواصلة دراسة النصوص الأخرى.
يكشف هذا النص بوضوح عمق معاناة الشاعر في زمن أعلن عنه الشاعر من خلال العنوان .. زمن ساد فيه الأوغاد والسذّج والمنفيوّن داخل إنسانيتهم ليبحروا بها صوب حياة توفر لهم (عسل الوحل ، وريش البوم) وكان الشاعر واحداً منهم أو جزء منهم .. فكما قال أحد علماء التربية : (قلْ لي مَنْ صديقك أقول لك من أنت) وهذا هو سبب رئيسي لمعاناته فهو محاط بهذه الزمرة من الأصدقاء.. فضَّ الشاعر ديوانه بهذا النص لأهميته عنده. وقد إستهله باستخدام الظرف الزماني (حين) لكسر فاعلية الفعل الماضوي، وحرصه بأنْ يبدأ كلامه بهدوء نسبي:
(حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعة شاباً مقتولاً
قرب كنيسة أحزان العالم)
نلحظ من خلال ذلك أنّه مهّد لتشكيل صوري، وإيقاع نفسي بتلاحم الظرف مع الفعل لفتح مساحات دلالية وبلاغية يستطيع بوساطتها الهيمنة على الإيقاع المتداخل مع إيقاع بنائه الشعري ذي التخطيط الهندسي الفني .. لذلك يتصاعد البناء بهذا التأسيس المتين بمهارة عالية ، وفنية جمالية آسرة منذ الشروع بالبناء .. هذا ما دعاه إلى استخدام إسلوب بلاغي مناسب لبنائه الهندسي هو الانزياح.. تداخل الزمن (الساعة) بالحياة في وحدة واحدة مع الإنسان.. وبخبرة شاعر متمكن يفاجئ المتلقي بإعلانه عن توقف الزمن : أنَّ الساعة غير الساعة وهو لما يزل في عنفوانه.. وقد أضفى على كل ذلك دفقة حيوية فاعلة باستخدام الظرف كلبنة أولى في التأسيس لينمو عبرها الحدث بعد أنْ أعلن مكانه وحدده (قرب كنيسة..) وكأنّي بالشاعر أراد بهذا إبعاد وقوع الحدث الأسمي والجرمي (مقتولاً) عن المكان المقدس (كنيسة)، ليخبر المتلقي أنَّ الحدث لم يتم في الكنيسة وإنّما خارجها، حتى يحتفظ المكان بقّدسيته وطهارته.. ولجعل الارتباط قائماً بين المكان القدس والزمن (المقتول)، حاول أنْ يخبرنا أنَّ أصدقاءه الأوغاد علموا مكان الجريمة بشئ من لوازم المكان المقدس ألا وهو (صليب خشبي) .. لقد تمكن الشاعر من أنْ يهيئ للمتلقي جواً جنائزياً معاشاً ينث عطراً متشحاً بالسواد ومكللاً بالورد وبالأسى مثلما نراه حقيقة في المشاهد الجنائزية المسيحية بالاعتماد على تعابير موحية ولغة شفافة سلسة مفممة بالأحاسيس يتساوق الإيقاع الداخلي فيها أفقياً ليزيد قصدية عباراته بهاء وألقا. وليحكم بناءَه الهندسي في آخر المقطع لجأ إلى( مقول القول) مستخدماً أسلوب الاستفهام على لسان أصدقائه ليبعد أنساق تعبيره عن هوة الغموض ويكتفي بحضور التأويل في باطن البنية الكلامية ليثير شغف المتلقي ويستفزّ مشاعره كاشفاً سذاجة أصدقائه وجهلهم:
(جاء أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذّج
ووضعوا صليباً خشبياً
قرب دماء الجثة
ووضعوا ورداً لا اسم له
وآساً وفاكهةً معفّرةًً بالتراب
قالوا : مَنْ هذا المقتول ؟
وما معنى الساعة؟) ص9
حاول الشاعر أن يجعل المركز الذي إنفجر منه المعنى بهذين السؤالين عن العاقل وغير العاقل ممسكاً فضاء النص بزخم دلالي كبير. وفي المقطع الثاني يبدأ الشاعر بناءَه الفني بالظرف نفسه وبالحدث الماضوي نفسه المسند إلى الفاعل الظاهر تعقبه فضلة وهي (شبه الجملة) جعلها الشاعر من أساسيات البناء اللغوي بحيث يتخلخل المعنى ويتصدع البناء الدلالي إنْ تمَّ الأستغناء عنها.. إذ يستدل فيها بالذات غير العاقلة (الساعة) وهي الذات المهيمنة (الدال) على الذات العاقلة (المرآة) المدلول.. جاعلاً من ذلك بؤرة التركيز ليتمكن عبره من أنْ ينثَّ أفكاره منصهرةً بمعاناته وملونة بآلامه جرّاء ما حصده من ماضٍ كان هو أحد أبطاله المنشدين له..ويمكن أنْ يستشف ذلك من خلال تركيز الشاعر على إستخدام الحدث الماضوي بشكل مكثف : (جلست – كانت – جاء – قالوا ...)
( حين جلستُ إلى المرأة
كانت جسداً بضّاً
من عسلِ الوحلِ وريشِ البومة
كانت ملآنةً بالعريّ الذهبيّ
وبالعريّ الفضيّ وبالعريّ الأسود..) ص10
قد يعنُّ على ذهن المتلقي سؤال : أنّي يكون للوحل عسل ؟!! لكنَّ الوقوف ملياً أمام هذا التعبير وقراءته قراءة متأنية واستحضار الزمن الصعب، سيجد المتلقي أنَّ الشاعر إستخدم الترميز بشكل واضح لا يرهق ذهن المتلقي وصولاً إلى الغاية التعبيرية..
إستخدم الشاعر الكناية عن دربة ودراية لما فيها من إنتاج دلالي موازٍ لسطحها وهو (الملزوم)، وإنتاج دلالي مستبطن فيها وهو (اللازم)، أي المعنى اللغوي (الظاهر) والمعنى (الما ورائي) للغة الذي يتوصل إليه ذهن المتلقي.. إذ يقوم بحركة ذهنية تراجعية يتمكن أنْ يفهم أنّ الشاعر أراد الأخبار عن مغريات الحياة التي عاشها فعلى الرغم من مغرياتها لكنها حياة مفعمة بالذل والهوان :
المرأة < الجسد البضّ < الأغراء < السلطة المهيمنة
لقد وفق الشاعرالاخبارعن السلطة المهيمنة (المرأة) بالتعابير اللونية بترميز دلالي واضح:
الذهبي < المال + الجاه + العيش الرغيد
الفضي < الحياة اللينة / الناعمة / الهادئة
الأسود< الكبت + الظلم + الهوان
فإذا كان الإنسان يأتي إلى الدنيا حراً ويغادرها حراً فأنَّ الشاعر أديب كمال الدين في مخاطبته لله تعالى دون التصريح باسمه يغاير هذا القول لأنه بمجيئه ومغادرته كان مقتولاً وهذا وحده كاف أنْ يثير العجب!!
( آ ...
كيف يكون –
يا مَنْ قال : " كنْ فيكون" –
مقتولاً جئتُ إلى الدنيا
وسأغادرها مقتولاً أيضاً ؟!) ص11
بهذا التخطيط الهندسي الذي يدل على دربة ودراية يؤسس الشاعر لبناء الجزء الرابع من صرحه الأبداعي.. كاشفاً عبر ذلك سرّ عذاباته ومعاناته وآلامه ؛ وأنه ما عاد يستذوق العسل الذي عرف مصدره ، لكنَّ أصدقاءه الذين استعذبوا عسل الوحل:
( واحتجّوا على متن النص :
أخرج أولهم سكيناً ليهددني
وقام الآخر بشتمي
وقام الثالث بكتابة تقرير سحريّ أو سريّ
عن غيمتي الخضراء
ودرجي الهابط إلى الأسفل
وأيامي : أيام الريش .)
نجح الشاعر في أنْ يجعل المتلقي يعيش عذاباته ويحس بمعاناته.. فأيام الشاعر (أيام الريش) ما عادت (أيام ريش البوم) وأكله ما عاد من (عسل الوحل) .. صارت أيامه غيمة واعدة بالخير والنماء والبركة .. ويصل النص إلى ذروته في المقطع الخامس إذ يبدأ الشاعر بدفقة شعرية هادئة مستغلاً الزمن كعنصر إثارة لفكر المتلقي كي يوقظ فيه إحساساً بالتأمل على مهل في تساوق الزمان والمكان:
( بعد سنين من كتابة نصي هذا
قُتِلتُ قرب نهرٍ ميت
في آخرِ قارّاتِ العالم)
لقد وفق الشاعر في تفعيل الحدث الماضوي وجعله أكثر تأثيراً في نفس المتلقي ببنائه للمجهول مرتكزاً على المكان لجعل بؤرة التركيز كامنة في الدلالة المكانية (قرب نهر ميت – في آخر قارات العالم) .. فالنهر الذي هو رمز العطاء والخير والبركة وعنفوان الحياة أضحى مجرداً من كل ذلك..
وبما أنَّ الحديث عن سرّ الحرف ومعنى النقطة إستخدم في كتابات الصوفيين والعرفانيين وعلماء اللغة العرب في عصور مختلفة وبطرائق مختلفة ولأغراض كثيرة وهذا يدل دلالة واضحة على أنَّ الشاعر أديب كمال الدين قد استفاد من ثقافته التراثية والمعاصرة مما جعله ذلك يبرع في استخدام سرّ الحرف ومعنى النقطة بما يوافق الضمير الأنساني الحي نائياً به عن (عسل الوحل – وريش البوم) فلم يعجب ذلك أصدقاؤه الأوغاد:
( قالوا : لم نفهم ما قال !
كان يكتب حروفاً ونقاطاً صوفية
ويصف الدنيا كسريرِ امرأةٍ من عسلِ الوحل .
........
قالوا : لم نفهم !
هل كان إلهياً أم كان خرافياً ؟
إنسياً أم جنيّاً ؟!)
لقد تميزت نصوص هذه المجموعة بقوة التعبير، وصدق المشاعر والأحاسيس وبلاغة الترميز وهيمنة الشاعر على الإيقاع الداخلي وانسيابيته منصهراً مع الإيقاع الوزني الذي إختاره لنصوصه ببراعة فنية فائقة وبعزف ساحر على أوتار الحرف وقيثارة النقطة. وأراني لا أبتعد عن قول الحقيقة لو قلت أنَّ هذا النص يقف في مقدمة النصوص التي يمكن أنْ تدرج تحت عنوان (نصوص ما بعد الحداثة الشعرية العربية).
************************************
مواقع المثقف وكتابات والهدف الثقافي - 18 أكتوبر – تشرين أول 2006 .كما نُشرت في صحيفة الزمان بتأريخ الأول من نوفمبر - تشرين ثاني 2006
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 115 - 120