ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة
تحوّلات الزمن .. وعذابات المنفى
عيسى حسن الياسري
( قالت النقطة :
مرّ عشرون عاماً
أو ثلاثون
ربما أربعون
لم أعد أتذكر الرقم
لكنني أتذكر أنني قدتكَ الى الهاوية ).
في مجموعته الشعرية الجديدة – ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة – يواصل الشاعر – أديب كمال الدين – مغامرته الحروفية التي بدأها منذ مجموعته الشعرية الثالثة – جيم - التي صدرت في بغداد عام 1989. والمدهش أن الشاعر لم يقع في نمطية يقوده اليها تكراراستخداماته الحروفية التي امتدت الى أكثر من مجموعة شعرية. ولعلّ وعي الشاعر لتفاصيل مكوّنه التجريبي والمعرفي هو الذي منحه هذه الحصانة التي وقع فيها كثيرون غيره حاولوا أن يجدوا لهم طريقاً مختلفاً يمنحهم تميّزاً أو ريادة خاصة ..
لذا نجده وفي كلّ مجموعة من مجاميعه وقد اكتشف أرضاً جديدة تصلح أن يبذر فيها قمحه الذي لا ينمو الاّ في أحضان حقل لم يجد المسافرون إليه طريقاً فظلّ محتفظاً بعذريته ونقائه .. وكأنه لا يصلح الاّ لبذار هذا الشاعر .. وأجد هنا انّ المكوّن المركّب لتجربة الشاعر .. وإقامته الدائمة عند ظلال هذه التجربة .. ومجاورته لها كأيّ قدّيس لا يقدرأن يبارح صومعته تحت أكثر الفصول شراسة .. هو الذي بنى هذا التقارب الروحي بينه وبينها الى الحد الذي جعل مغادرة مكانها أو زمنها عملية عسيرة تشبه انفصال الروح عن الجسد .
وحين نتجوّل عبر مسالك تجربة الشاعر نتعرّف جيداً على عمق المعاناة التي يعيشها وكذلك كابوسيتها المروّعة . ولكنه يجد فيها قدره ورحلته – الأوديسية – التي عليه أن يتمّها ليكسر انتظار القدّيسة – بنيلوب - ليريحها من الجلوس الى أنوالها ليل نهار حتى تؤجل الانقضاض على نظافة الجسد والروح اللتين تريد أن تحتفظ بهما لذلك المسافر الذي لم تستطع كلّ المحن التي تعرّض لها أن تصيب ذاكرته بالعطب وتنسيه ذلك الرمز الأسطوري الذي يظل يطلق نداءاته التي تتحوّل الى مراثٍ تحدث أكثر من طريق عبر جدران الريح لتصل اليه .. حيث تمنحه الإصرار على أن يبقى حياً من أجل لحظة اللقاء السعيد . من هنا تحوّلت حروف الشاعر الى كنز من الأساطير والرؤى والاحلام بل وحتى اللقاء مع رعب الاحتضار ومواجهة فيالق الزمن وقراصنته البارعين في القتل وتدمير أغنية الحياة التي يحاول الشاعر أن يمسك بطريقة إنقاذية ولو بفاصلة واحدة تعيد للإنسان ثقته بالحياة وبالعالم الذي يعيش.
( حين جلستُ إلى الساعة
كانت الساعة شاباً مقتولاً
قرب كنيسة أحزان العالم .......)
هذا هو زمن الشاعر .. إنه الزمن الشديد المغايرة مع تلك اللحظات الآليّة التي تلفظها الساعة كما يلفظ آكلُ التمر النوى .. الزمن هنا هو لحظة قتل الإنسان .. قتل الشاعر ذاته الذي يحاول أن يعطي للساعة التي تكون شريحة صغيرة من شرائح الزمن رمزها الدلالي المتحوّل فنياً الى معادل حي أو كائن إنساني لقي حتفه على يد الزمن ذاته .. إنه استخدام استثنائي لموت ربيع الإنسان والتوقف الأخير لعقارب خطواته التي ظلت تحاول أن تترك فوق الطريق علامات لزمن لا يناله الهرم . ولكن هذا الزمن ممثلاً بالساعة انتهى كما جثة أنزلت للتو من خشبة صليبها كما هو في قصيدة – أصدقائي الأوغاد والمنفيّون والسذّج – .. وفي قصيدته – هو أزرق وأنتِ زرقاء – يضعنا أمام مقاربة لونية تجمع بين لانهائية البحر وألوانه وتضاريس جسده المائي وبين هذه القارة الهائلة التي نسمّيها المرأة حيث تقاطيع الجسد البحري الذي لا يعبره أحد الاّ ويكون مصيره الغرق.ولكي يؤكّد الشاعر أزلية المرأة ولانهائيتها كما هو البحر .. فإنه يدوّن وبإحالات إيمائية شبيهة بحركات الراقص التعبيري الى بعض ممن أخذتهم المرأة الى أعماق تيارات جسدها التي تدوّم كزوابع قطبية حيث – أيوب- و- أتونابشتم – الذي نفته الالهة .. وجلجامش – الذي يشكل إحالة ترميزية للشاعر ذاته فكلاهما يبحث عن وطن أسمه المرأة – الخلود .. والتي يخاطبها قائلاً :
( أنتِ تشبهين البحر
لاشك في ذلك
ولكن أيّ معنى يختفي خلف هذي الحقيقة ؟ )
تحوّل آخر من تحوّلات المرأة عند الشاعر تمثّله قصيدة – تمثال – إذ أن كلّ ما أدهش الشاعر من التماثيل التي مرّ بها عبر مسالك ذاكرته قد تحطّمت .. وتدحرجت رؤوسها .. ولم يبقَ منها سوى بضعة أحجار باردة كأجساد الموتى .. تمثال المرأة وحده هو الذي ظلّ متماسكاً في ذاكرة الشاعر المسكونة بالموت والمنافي .. ولم تقوَ فؤوس الزمن على تدميره .. وهذا ما يجسّد عذابات الشاعر وأحزانه لأنه لا يملك قدرة – بجماليون – حتى يبعث الحياة في تمثال تلك المرأة البعيدة :
نعم
كلّ تماثيل ذاكرتي
كانت مهشمة ، بدون رؤوس
وحده تمثالك
كان كاملا
ولا ينقصه إلاّ الكلام !
في هذه اللوحة التعبيرية المدهشة .. يكثّف الشاعر أديب كمال الدين رؤيته الإبداعية لعالم المرأة الذي يظل عصيّاً على الاندثار أمام كلّ الأزمنة .. وكلّما حاولنا أن نهشّمه بمعاول أنانيتنا وجهلنا ظل يحنو علينا .. وهو هنا يحيل وعينا الى أساطير الطفولة ليبعثها حيةً من خلال قلب الأم الذي ظل يبكي الابن الذي أجهز على حياتها .
في قصيدته - يابائي وبوابتي- نجدنا نقف أمام مكابدات الصوفيين رغم أبنية القصيدة المجسّدة حسّياً .. حيث يدخل الشاعر في تجربة ذاتية يتجاذبه فيها قطبان : قطب المرأة كجسدٍ شهي يفتح للشاعر جداول خموره وعسجده وضفاف بحيراته الدافئة .. وقطب جسد المرأة المغاير والمعمّد بإلوهية تعبّدية تحرر الشاعر من كثافته المادية وتحوّله الى كائن أكثر شفافية من أحلام طفولة الحياة :
( يا مَن قتلتني في العشرين
وظلت تلاحقني حتى السبعين
أما مِن راحة ؟ )
في قصيدته – جثة في البئر – يفيد الشاعر من الموروث الشعبي موظفاً إياه بطريقة ترميزية تقارب بين ماهو أسطوري مثيولوجي وما هو ديني . لكن من خلال تجريد – يوسف - المعادل التأويلي من قداسته واستبداله – بيهوذا – قاتل يسوع .. وعبر بشاعة الاستبدال يخلق الشاعر معادلاً رمزياً لشرط استمرار الحياة .. وحين يكون النص منبثقاً عن انثيال ذهني عفوي فإنه ينفتح على أكثر من قراءة حتى يتحوّل الى رؤية مستقبلية لعالم يقتل نفسه بنفسه ويأكل جثة أخيه .. وحده الشاعر يرتضي الموت عطشاً حتى لا يرتكب معصية أخوة – يوسف – الاول .. وهو يومئ هنا الى قداسة الإخلاص الى مَن يحبّ حتى لو أوصله إخلاصه ذاك الى الموت عطشاً في حضن الصحراء :
( أمّا أنا فاخترتُ الصحراء هذه المرّة
قلتُ لنفسي
وأنا ألفظُ آخرَ أنفاسي :
نعم
العطش أرحم
الموت - أعني الصحراء - أرحم .....)
وحين يرى الشاعر الى جسامة الأدوار التي كُلِّفَ أن ينهض بها وهي أدوار أولئك الأولياء والصوفيين والشعراء المعذَّبين .. والذين انتهت حيواتهم نهايات تدميرية .. يهتز من مأساوية هذا الدور.. كما في قصيدته – اذهبوا الى الجحيم – ويحاول أن ينهي دوره بأسرع مايمكن .. فمن العبث أن يُكلَّفَ بهذا الحمل المأساوي من الآلام والجراح وأعواد الصلب والحرق وذرّ الرماد في مياه الأنهار .. إنه لشيء موجع أن تؤول اليه كلّ هذه المواريث التي لا تمنحه شيئاً سوى الموت والخراب الروحي .. وهذا مايجعله وهو مشرف على الهزيمة أن يردد صيحة – بتهوفن - لحظة احتضاره – لقد انتهت المهزلة صفّقوا يارفاق – لكن ولأنه يرفض أن ينهزم يترك – بتهوفن – وراء ظهره من أجل أن يتلبّس بسالة – شكسبير – ويردد قولته الشهيرة – نكون أو لا نكون - :
( كلّ شيء تبخّر في هدوءٍ عجيب
صفّقوا أيها الأصدقاء
صفّقوا ..
إنها ساعة الافتراق
ساعة الرعب
ساعة أن نكون أو لا نكون ).
وأخيراً يستعرض الشاعر رحلته عبر أقانيم الزمن ليخطّها في مدوّنة شجرته الوحيدة .. هذه الشجرة التي تعادل أزلية الشاعر ولا نهائيته .. فهو الذي بدأ منذ رحلة الخلق الأول .. حيث غرق أكثر من فلك يجلس فوق دفّته مَن يحملون سحنة نوح ورواة الطوفان .. إنه كتاب الخليقة التي لايمكن لها أن تدوّن وقائعها من دون أن تجعله جزءاً من كوارثها وطوفاناتها وموت كلّ الأنبياء الذين كانت تستنجد بهم .. إننا هنا أمام كلّية أزلية تمتد من اللانهاية الى اللانهاية . مع هذا فهو لا يملّ من انتظار قيامة الحياة ممثلةً بتلك المنتظرة التي لا تجيء والتي تتخطّى قدرة الشاعر على توصيفها .. إنه انتظار شجرة وحيدة في الصحراء والتي تكون هدفاً للصواعق التي تبحث عن أيّ شيء مرتفع حتى تنقضّ عليه ..
إنّ الشاعر أديب كمال الدين .. يصل في مجموعته الشعرية هذه الى مستوى إبداعي يتحوّل فيه الحقل اللغوي الى حقل شعري بالغ الكثافة .. إنه هنا أشبه بالصياد الذي يلقي شبكته في المياه العميقة .. و ما يستخرجه من صيد يرميه في زورقه .. وهو لا يفصل بين مكوّنات صيده ولا يفضّل بعضه على بعض .. فكلّ ما يدخل في بناء قصيدته حتى أكثر أنواع صيده رثاثةً يتحوّل الى لقى ثمينة وأغان بالغة العذوبة والألم .
**************************
مواقع ألف ياء والحافة والهدف الثقافي والمثقف22 كانون الثاني – يناير 2007
كما نُشرت في مجلة ( صدى المهجر) - العدد الثالث - شتاء وربيع 2007 -ص301 - 305
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص99 - 103