قراءة في ديوان شجرة الحروف للشاعر أديب كمال الدين
اللاحروفية عند الحروفي
ذياب
شاهين
في قراءتي لديوان الشاعر الحروفي “أديب كمال الدين” المعنون (شجرة الحروف) والذي أرسله إلي مؤخرا من أستراليا وأنا في دولة الإمارات، حاولت أن أقرأ شيئا مختلفا عن المهيمنة الرئيسة في الديوان، وهي الحروفية وما يتمحور حولها من جماليات في مستوى الكتابة وما تلبسه من لبوسات في مستوياتها الدينية والرمزية والصوفية وغيرها، وذلك لرغبتي في القراءة المختلفة، ولقناعتي أن منجز الشاعر “أديب كمال الدين” سيظلم لو قمنا بتأطيره ضمن الحروفية فقط، خصوصا أن لديه استثمارات أخرى غير الحروفية، وهي لا تقل قيمة عنها بل تضارعها من حيث الأهمية.
نصوص الشاعر”أديب كمال الدين” في واقعها أساطير معاصرة، يكتبها الشاعر موظفا خبراته الحياتية والقرائية، وكي نفهمها ونقرب وجهة نظرنا للقارئ لابد من تعريف الأسطورة التي هي حسب “رولان بارت” عبارة عن كلام، وهو تعريف بنيوي كما هو معروف اعتمد في وضعه” بارت “على ثنائية (لغة – كلام) التي قال بها “فردينان دو سوسير”، والكلام بالرغم من كونه مدلولا لدال سابق أو يحيل عليه، إلا أنه أيضا دال لمدلول ثان ٍ يأتي بعده محال عليه، وهو ما وضحته خطاطة “بارت” المعروفة، وهي (أي الأسطورة) ذات وجه مرائي تكشف شيئا أو عدة أشياء و تظهر ما يخالفها، إن الأسطورة تكتبها السلطات الحاكمة وتوظفها توظيفا كاملا لمصلحتها مهمشة الناس ومعلية من شأنها هي، وعناصر الأسطورة قد تكون واقعية وربما حقيقية إلا أن هذه العناصر تستخدم لتحريف الحقيقة ومسخها وأخيرا قلبها، أي إعادة صياغتها لتخدم ما تود وترغب أن تقوله السلطات وما تؤمن به أو تريد من الناس أن يؤمنوا به على الأقل.
إن الشاعر هو من يكتب الأسطورة، ولن تعدم وجود شعراء يصيغون عناصر الحدث الحقيقي لكتابة أسطورة تحتوي على عناصر الحقيقة مفتتة وكأنها ليست هي، وتؤدي أيضا وظائف بعيدة عما كانت تؤديه وهي خارج متنها الأسطوري، ففي النظم الدكتاتورية يكتب الشاعر أساطيره لمصلحة السلطات الحاكمة ولمصلحته الخاصة أيضا، فتتحول الهزائم ونكبات الشعوب إلى انتصارات واحتفالات لها بداية وليست لها نهاية، إلا أن هنالك شعراء ومنهم الشاعر” أديب كمال الدين” يكتبونها ضمن رؤية أخرى بعيدة عما تريده السلطات أو ضد رغبة السلطات، أو أحيانا تدين السلطات، ومن هنا تكتسب شرعيتها وقوتها بالرغم من أن الأسطورة ليس من واجبها أن تقول الحقيقة حسب “بارت”، إن قراءتنا لنصوص هذا الديوان (اللا حروفية) حصرا، ستتكئ على الرؤية أعلاه لغرض معرفة كيفية عمل عناصر الأسطورة وكذلك استقراء العناصر اللا أسطورية فيها أيضا.
في نص (وصف) يستثمر الشاعر بعض عناصر المتون الدينية المقدسة والمعروفة في بنائها، ولكون هذا المتون حافلة بكثير من الجرائم ضد الأنبياء والقديسين وغيرهم، وجدنا الشاعر يحاول إعادة وتوظيب هذه العناصر كتابيا ضمن رؤية شاملة ولكنها غير محايدة(ص7):
سقطت دمعة الشاعر على الورقة.
إن بكاء الشاعر وسقوط دمعته يعني أنه منحاز لضحايا المتن الديني، كما أن سقوطها على الورقة بدت وكأنها شاشة كبيرة رأى فيها الشاعر أحداث التاريخ واضحة ومجسمة أمام عينيه (ص7):
فرأى فيها أخوة يوسف / وهم يمكرون ويكذبون / ورأى دم الذئب / ورأى أباهُ شيخاً وحيداً يتمتم: / يا أسفي على يوسف يا أسفي.
الملفوظ (رأى) يحيل إلى ملحمة “جلجامش” إلا أن بطلها (أي جلجامش) رأى كل شيء، وقد صورته الملحمة بأنه بطل وإله (ثلثاه إله وثلثه بشر)، أما النص هنا فهو يتحدث عن الشاعر بوصفه رائيا وقارئا وواصفا، الشاعر(الكاتب) لا يلتزم بالتسلسل العمودي (الزماني) للأحداث، فهو حين يبتدئ بيوسف يعود إلى الوراء ليتحدث عن نار إبراهيم وهي حدثت قبل يوسف كما هو معروف (ص 7):
ثم نظر مرة أخرى / فرأى نار إبراهيم /
ولكنه يستدرك حدثا آخر جاء بعد يوسف بكثير، وهذا يعني أن رؤى الشاعر لا تمسكها الخطية الزمنية أي أنها لا زمنية ومنفلتة من زمنيتها، وهو ما يؤكده المقطع التالي الذي يتحدث عن الصليب(ص 7):
ورأى صليب المسيح / ورأى الموتى ينهضون / والعميان يتشبثون/ ببعضهم، يصرخون/
وهذا يعني أن عناصر المتن الديني مفتتة وغير منتمية لنصوصها، وهي الآن باتت منتمية لنص الشاعر ومحكومة بزمن النص المكتوب، وهو ما يؤكده المقطع التالي الخاص بالنبي موسى الذي ينتمي لزمن سابق لزمن المسيح( ص 8 ):
ثم رأى موسى/يعبرُ بحراً من الرعب/
في المقطع الثاني يؤكد الشاعرُ رؤيته، وتبقى دمعة الشاعر هي من تكشف له الماضي، لكنها لا تغامر كي تستشرف الماضي بل تبقى ضمن خيارها بوصفها رؤية وليست رؤيا، فهي رهينة الماضي مؤطرة بأحداث دينية وتاريخية (ص 8):
هكذا في دمعة واحدة/ رأى الجبل ينهدُّ هدّاً /وموسى يستغيث: أنا أول المؤمنين/ ثم رأى عاداً وثمود/ ورأى أصحاب الأخدود/.
تستمر رؤية الشاعر من خلال دمعته لتصل إلى أحداث تأريخية دامية، كما أنه يشير إلى خيط خفي يربط ما بين بدر وما حدث لاحقا للحسين في معركة الطف وكأنهما سبب ونتيجة (ص8):
ورأى صحارى محمد وأصحابه عند بدر/ ثم رأى رأس الحسين/ يحمل فوق الرماح.
في المقطع الثالث من النص يعمق الشاعر الرؤية ذاتها ويكثفها، وبالرغم من أنه لا يستقرئ حاضرا ولا يستشرف مستقبلا، لكنه لا ينفي كون الحاضر والمستقبل هما نتاج أحداث الماضي، لذا فهو يشير بدون مواربة إلى حقيقة مرعبة هي أن هذه الدورات الدموية متكررة وتحدث في كل زمن وكأن الدمَ هو الوقود الأزلي لانبعاث الحياة من الموت وليس أمام الكاتب سوى الوصف (ص9):
هكذا في دمعة واحدة/ أضاءت له الدنيا جميعا/ فاحتار كيف يقول/ثم رأى أن يصف المشهد ليس إلا!
في نص آخر تحت عنوان (قصيدتي الأزلية) يستثمر الشاعر الأساطير السابقة مبتدئا بأسطورة الطوفان العظيم ومركب نوح (ص19):
هكذا أُلقِيتُ في الطوفان.
إن الشاعر هنا يكتب أسطورته (قصيدته) وكأن الحياة سفر أزلي متصل يبدأ بالطوفان لتنظيف الأرض من المارقين، ولأن نوح لم يكن معنيا بإنقاذ الشعراء نجد أن الشاعر يتسلل إلى مركب نوح خلسة بعد أن أعجزه صدود نوح عنه بعد أن صم أذنيه عن سماع صراخه ولم يأبه لصيحاته وتوسلاته (ص19):
كنت أصرخ:/ يا رجلا مبحراً إلى الله/ خذني معك/ وإذ لم يأبه نوح لصيحتي/ تسللتُ إلى المركب: المعجزة/
إن المركب الذي أنقذ الصالحين من الموت تحول إلى سجن للشاعر، فقد نزل الجميع مباركين وفرحين إلا الشاعر، فقد كان قراره بصعود السفينة قرارا فرديا ولكن النزول من السفينة (الجلجلة) لم يكن بيده (ص20):
حتى إذا هدأت العاصفة / وقيل يا أرضُ أبلعي ماءك/ هبط الكل من سفينة نوح/ فرحين مباركين/ إلايَ /
وإذا كان نوح (ع) قد صم أذنيه عن سماع صوت الشاعر في بدء الطوفان ورفض اصطحابه، فالشيء ذاته حصل بعد توقف هطول الماء وابتلاعه من قبل الأرض، بل إن نوح استنكر وجود الشاعر بالرغم من اقراره بصلاح نوح ورسالته (ص20):
وثانية صرخت بنوح:/ يا رجلاً صالحاً / يا رجلاً عاد من طوفانه: الجلجلة / قال نوح: من أنت؟/ قلت: أنا الإنسان/ قال: من؟/قلت: أنا المؤمن الضال/ قال: من؟/ وتركني في المركب دهراً فدهراً/
إن رحلة الشاعر رحلة خيالية تخترق الزمن، وهي رحلة فردية تقوده فيه الأقدار ويواجه مصيره منفردا لا أحد يشاركه المصير وليس له أتباع… ولا يوجد لديه حمامة أو غراب كي يخبراه فيما لو انحسر الماء أم لم ينحسر، إن بقاء الشاعر في السفينة معناه أنه قد بقي على فطرته ولم يتلوث بما كان يحصل خارج السفينة (ص20):
حتى إذا غيّب الموتُ نوحاً / تحرّك المركب / تحرّك بي وحدي / لأواجه طوفان عمري/ في موج كالجبال/ أنا الذي لا أعرف الملاحة ولا السباحة/ وليس لي حمامة أو غراب/.
إن الشاعر” أديب كمال الدين” يتخذ من الأسطورة قناعا لرحلته الزمنية وهي رحلة وجودية (انطولوجية) بامتياز حيث تنشطر الأسطورة لديه إلى صورة ومرآة ولا تكاد تفرق بينهما فإن غابت الصورة غابت المرآة وكأنهما متن وهامش ولكنهما متعادلان في مستوى القيمة الرمزي. أي لا سيادة لأحدهما على الآخر، وهو هنا يستثمر تقنية القناع بصورة متفرّدة وغير مسبوقة، إذ لا يتخذ من شخصيات الأسطورة قناعا له بل يتخذ من متنها قناعا ليقول ما يريد ويغدو الحدث الأسطوري حدثا مركبا يضم الحدث الأصلي والحدث النصي أي الذي كتبه في نصه وهو غير منظور، ويغدو نصه مرآة محدّبة تضم وتجمع كلا الحدثين وكلا البطلين، أقصد بطل الأسطورة والشاعر وكأنهما مرآة لبعضهما البعض.
ما يؤكد كلامنا أعلاه ما نقرأه في المقاطع الباقية من النص ذاته حيث إن الحدث الأسطوري بقي متصلا ولم يحدث فيه أي قطع، وهذا الاتصال يظهر بينا في ثنايا النص، فبعد أن انتهى الطوفان استمرت الأسطورة بالنمو من خلال أحداث أساطير أخرى أو أحداث دينية مقدسة، فالناس الصالحون الذين أنقذهم “نوح ” لم يتوانوا عن اضرام النار لرسول وهاد آخرهو إبراهيم، ومرة أخرى يُلقى الشاعر وسط (الحدث) النار( ص21):
هكذا أُلقيتُ في النار/ بعدما أضرمَ النارَ أهل أور/ لإبراهيم وألقوه فيها/ انتبهوا إليّ / كنت أغرق في الدمع من أجله. / قالوا: إنه من أتباعه فألقوهُ في النار أيضاً / هكذا أٌلقيتُ في النار أيضاً/
وهنا تتدخل السماء لإنقاذ إبراهيم لتكون عليه النار بردا وسلاما، أما الشاعر فلا أحد ينقذه، وكأن الأرض والسماء تعاقبانه أو تتواليان على عقابه، إن النار التي أُلقيَ فيها الشاعر نار أزلية، وهي نار أخرى غير نار إبراهيم، بل هي نار من الألم والحقد والحرمان، وإذا كانت هي كذلك فأنّى لرحلة محاطة بثالوث الألم والحقد والحرمان أن تغدو بردا وسلاما ؟ ( ص21):
وإذا كانت النار على إبراهيم برداً وسلاماً/ فإنها لم تكن لي / سوى نار من الألم والحقد والحرمان/ اشتعلتْ/ ولم تزل تشتعل فيّ / في كل يوم/ هكذا إلى يوم يبعثون/
في المقطع الثالث من القصيدة يستعير الشاعر متنا ثالثا من الأسطورة بوصفها في وجه من وجوهها حدثا دينيا مقدسا، إن الزمن النصي متغاير كالزمن الأسطوري ويلبس لبوسات متغيرة باختلاف الزمن، وبعد أن كان زمن الطوفان زمنا هوائيا وزمن ابراهيم زمنا ناريا، فإن الزمن الثالث كان زمنا مائيا وهو زمن البئر (الظلمة) (ص22):
هكذا أُلقيتُ في البئر/ ألقاني أخوتي/ وعادوا إلى أبي عشاءً يبكون/
إن ظلمة البئر الذي أسقط فيه الشاعر ظلمة قاسية، يتحول فيها الشاعر إلى هلام، حتى أن السيارة لا يمكنهم إنقاذه، فكيف يمكن لهم أن ينقذوا هلاما، وما الذي يغريهم فيه كي ينقذوه إذ أنه لم يكن غلاما ولم يكن جميلا، فتركوه وحيدا تنهشه الظلمة والخوف والانتظار في سجنه المريع (ص22):
لكنّ السيارة إذ وصلوا إلى البئر/ ما قالوا: يا بشرى هذا غلام/ بل قالوا: واأسفاه هذا هلام/ وتركوني في البئر/ يمزّقني الظلام والخوف والانتظار/.
في ختام هذا النص تبقى الأسطورة (أسطورة الشاعر) مفتوحة على الاحتمالات كافة، وهي احتمالات قدرية قد تحدث أو لا تحدث وتعتمد على الصدفة المحض، وحتى لو خرج الشاعر فخروجه سيكون خروجا متأخرا بعد أن لحقت به خسائر فادحة (ص 22):
ربما سأخرج من البئر يوم يُبعثون/ أو ربما يُقال للأرض ابلعي ماءك/ فأخرج من مركب نوح/ أو من نار إبراهيم/ وقد أكلني الرعب/ ولفظني الموج/ وأطفأت المأساة عيوني/.
في نوع آخر من النصوص اللاحروفية نجد العلاقة بين الشاعر وقصيدته علاقة مركبة فهي الشاهد والدليل على تورطه باقترافها، فحينا يقدمها الشاعر بوصفها دليل رغبة مرتبكا لفاتنة تجلس في جانبه(ص13):
أعطيتُ قصيدتي الجديدة/ بأصابع الارتباك والرغبة/ إلى الحسناء الجالسة بجانبي في الباص/
وقد تكون قصيدة الشاعر رسالة محبة ومودة للطفولة الجميلة، فهو لما يزل بعد ذلك الطفل الأبدي الذي يجد في القصيدة لعبته المحببة والأثيرة (ص 13):
ثم أعطيتُ قصيدتي الجديدة/ للطفل الذي يلعب في الحديقة العامة / قلت له: العبْ معها/ ولكَ أن تصنع منها لعباً لا تنتهي/.
القصيدة هدية الشاعر للطبيعة الحية والحرة والمتحركة والحالمة، لذا فالشاعر حين يسلمها للنهر بمحبة طاغية فهي تمثل اعترافا منه أن من شاركه في كتابة القصيدة هو النهر أيضا، فالقصيدة لم تعد ابنة الشاعر فقط بل هي ابنة النهر أيضا ( ص14):
ثم أعطيتُ القصيدةَ للنهر/ قلتُ له: خذها/ إنها ابنتك أيضاً/.
وإذا كان كل من المرأة والطفل والنهر لم يستجيبوا لهدية الشاعر، فإن السلطة (الشرطي) هي من يخاف القصيدة، إذ كيف لشرطي أن يقرأها ويخمن مضمونها الإنساني والكوني، إن الشرطي (السلطة) يخاف القصيدة وبالتالي فهو يلاحقها (ص14):
وحده الشرطي اقترب مني/ وصاح بصوت أجش/ ماذا في يدك؟/ قلت له: قصيدة جديدة/
إن الشرطي هو الذي اقترب من الشاعر خائفا ليسأل عما في يده، ولم يهد له الشاعر قصيدته وهذا عكس ما حصل مع المرأة والطفل والنهر. وبالطبع فالشرطي له طريقته المختلفة في قراءة القصيدة، فهي بالنسبة إليه متهم يجب التحقيق معه واستخلاص المعلومات منها تحت كرسي التعذيب، ولذا لم يتوان عن ادخالها الغرفة الجهنمية (ص15):
فأخذها مني/ ودخل غرفته السوداء/ دخل ليربط القصيدة إلى كرسي حديدي/ ويبدأ بجلدها بسوط طويل/
وكما لاحظنا في أعلاه فالنص كان قد بني دون الاتكاء على الحروفية وهو مستلّ من الحياة المعاصرة وما يؤمن به الشاعر، والشيء ذاته يمكن ملاحظته في نص: (القليل من التراب) الذي يشعرن فيه حزمة طويلة من تفاصيل الحياة التي يختلط فيها ما هو سياسي بما هو اجتماعي وثقافي ( ص16):
سيبقى القليل من الأكاذيب/ وترّهات مدائح الشعراء للملوك الظلمة/ وسخافات الشعراء المخنثين والشاعرات السحاقيات/ سيبقى القليل من مواعظ المدرسين المرتشين والزوجات الغبيات/ والقليل من الأوامر الإدارية بالتعيين والفصل والطرد والقليل من التقارير السرية/.
في المقطع الثاني ينتقل الشاعر إلى ما هو خاص ومرتبط بأحداث الطفولة والصبا والبلوغ (ص17):
سيبقى القليل من ذكريات الطفولة/ وصور العيد السعيد/ وأحلام البلوغ ورسائل الحب وصور العائلة/.
ولكن كل ذلك سيبقى محض تراب فالأحداث تراب والذكريات تراب ولا يتبقى في الآخر إلا القليل من التراب (ص17):
نعم كل شيء سينقلب إلى تراب/ وسيبقى أيضا القليلُ من التراب!/
في نص آخر تحت عنوان (شجرة الثعابين) نقرأ استثمارا لمراحل العمر الإنساني بدءا بالطفولة حيث نقرأ (ص 23):
حين بدأتُ أحبو/ ثم أخطو قليلاً قليلاً/ تسلقتُ شجرةَ الطفولة/ بعينين فرحتين/ تتطلعان إلى بهجة التفاح/ وفرح الموز/
إن السقوط من شجرة الطفولة يعني الوقوع في دائرة المراهقة حيث اكتشاف الجسد والذات وتبلور الأنا (ص24):
استمر سقوطي عاماً فعاماً/ ولم أصل إلى الأرض/ كنتُ خفيفاً بما يكفي / لأسقط على شجرة ثانية/ تدعى شجرة الحب/ تسلّقتها بعينين فرحتين/ تتطلّعان إلى لذة التفاح /
لكن السقوط من شجرة الحب باتجاه شجرة الرغبة وقطف التفاح يعقبه سقوط محتم وأخير هو السقوط على شجرة الموت، إذن هي رحلة وجودية (انطولوجية) بامتياز (ص25):
لكن رغم مرور السنين /لم أصل إلى الأرض/ ربما لأنني كنتُ سعيداً كما تقول الدعابة/ ربما لأنني كنت سعيداً بما يكفي/لأسقط على شجرة ثالثة/ تدعى شجرة الموت/
في النص أعلاه يتشابك ما هو وجودي بما هو أسطوري، فجهنم والتفاحة والثعبان، هي عناصر مهمة من أسطورة الخليقة وقصة آدم، وهنا نلاحظ أن الشاعر يكثف رؤياه موضحا أن طريق الحياة هو ذاته طريق الموت وشجرة الثعابين تضارع شجرة الخطيئة الأولى حيث الخروج إلى المطلق الإنساني والدخول في الدائرة النصية المغلقة، ولكن يبدو أن شجرة الموت تثير الضحك عند الشاعر لكونها أعلى القمة الإنسانية ولكن هذا الضحك سيعقبه بكاء حتما (ص 25):
هذه المرّة/ كان الأمر خطيراً/ فشجرة الموت لا تحب المزاح/ لا تحب الطفولة ولا الحب/لكنها شجرة مضحكة/ كانت طويلة كجهنم/ وساقها ملساء كجلد الأفاعي/.
هنا نجد استثمارا للزمن الشخصي الآني فبعد أن استثمر الشاعر الزمن الدايكروني(العمودي) للأسطورة نجده يستثمر زمنا آخر، زمن مكثف ومركز وقصير في رحلة الإنسان الحياتية. أي نحن إزاء زمنين، زمن الأسطورة وأبطالها وزمن الشاعر وأحداثه، وإذا كانت الرحلة الأولى رحلة نصية مبثوثة في سائر النصوص المقدسة ويحياها الشاعر بخياله، فالرحلة الأخرى رحلة حقيقية يعيشها بأعصابه (ص26):
فشجرة الموت/كما قيل لي/ مسكونة بالندم/ وقيل مسكونة بالملائكة/ وقيل بل بالأجراس السود/ وقيل بل بالثعابين/
في نص (الغريب) يستثمر الشاعر الحكائي والسحري في البناء الشعري، وكما هو معروف فالغرائبية هي من تتحكم بالسحري عن طريق الحكاية وهي غالبا ما تكسر أفق توقع القارئ مما يقود للدهشة والمتعة والمغايرة(ص27):
توقف الغريب/ عند النبع/ وقت الغروب/ توقف ليشرب وحصانه الماء/ فوجد عيناً بشرية/ ويداً بشرية/ وقناعاً من الذهب/ وبيضةً من الذهب/ وكتاباً كبيراً/.
النبع هنا كان نبعا سحريا، عنده أعطيات يمكنه إعطاءها لمن يمر قربه، هو ليس كمصباح علاء الدين ما أن يمسحه الغريب بكفه حتى يخرج إليه الجني ملبيا طلباته، والشاعر(الغريب) لم يكن بحاجة ليفعل ذلك معه، بل إن مجرد وصوله عند النبع وتأمله الطويل في مائه كان كافيا كي يسأله النبع عما يمكنه أن يعطيه للشاعر وليس ما يطلبه الشاعر منه (ص28):
أيها الغريب/اخترْ شيئاً واحداً ولا تزد/ وأعلم أن العين ستجعلك ترى الغيب/ واليد ستصنع منك المحارب الشجاع/ والقناع سيجعل النسوة/ في كل زمان ومكان/ يتسابقن للقياك/ والبيضة ستصنع منك أثرى الأثرياء/ والكتاب سيجعلك الحكيم الأعظم/
فعلا هي أعطيات باذخة، ولكنها غير مجدية للغريب المبتعد عن وطنه، فهو لا يبحث عن القوة والفروسية فهو لا يريد أن يكون بطلا ولا يريد قراءة الغيب ويصبح عرافا، ولا يريد من النساء كي يتراكضن خلفه، ولا يطمح بالثراء ولا الحكمة. إن الغريب يبحث عمن يداوي روحه من سأمها، يبحث عن ترياق يعيد إلى روحه البهجة لذا فهو يسأل النبع قائلا (ص29):
أيها النبعُ/ هل عند دواء للسأم؟/ قال النبعُ: لا/ وهل عندك دواء للغربة؟/ قال النبع: لا/ وهل عندك دواء للموت؟/ قال النبع: لا/ .
إن أسئلة الغريب للنبع، هي في واقعها روحية ووجودية كشفت لنا عما يريده الغريب، وبالتالي أشعرت هذه الأسئلة النبع بلا جدواه، وأشعرته بفقره وعدم قدرته في جلب السعادة للغريب، لذا يشعر النبع بالخجل من نفسه ويذوي رويدا رويدا ويموت دون أن يترك أثرا (ص29):
خجل النبع من كلام الغريب/ وصار ماؤه يشحب شيئاً فشيئاً/ حتى أصبح، / بعد أربعين يوما/ أثراً بعد عين/.
في نص(تحولات) تبدأ الشرارة الشعرية على شكل هاجس ينمو في الداخل، لاكتشاف الأنا من خلال الآخر المكمل والمكافئ، والقُبلة تمثل بداية في تلمس الشعور الإنساني النبيل والخالص، القُبلة هي الباب لاستكناه ما في القلوب، من خلال حرارتها تعرف ما في داخل قسيمك الإنساني الثاني (ص52):
حين قبّلتكِ لأول مرّة/ نبتتْ في بطنكِ الجميل وردةٌ حمراء/ وحين قبّلتكِ الثانية/ حلّق طيرٌ أبيض فوق جسدينا العاريين/.
إن توالي القبل يقود إلى توالي الأحداث الإنسانية الملونة، فالوردة الحمراء والطائر الأبيض هي أكثر من بشرى في عالم مجدب، وهذا الجدب يمكن معالجته وتوظيبه وجعله أكثر حركية ونشاطا وربما صخبا من خلال القُبل، القُبل تجعل عالم الشاعر مليء بالرياح والرعود والصواعق(ص52):
حين قبّلتكِ الثالثة / هاجت عاصفةٌ زرقاء/ وحين قبّلتكِ الرابعة / سقطتْ علينا صاعقةٌ لا شرقية ولا غربية / فأحرقتْ جسدينا الفرحين/.
القُبلات تمثل جسرا بين الحياة والموت، فكما يكمل الرجل المرأة، فإن الموت يكمل الحياة، وإذا كانت الوردة الحمراء رمزا للعالم الحي، حيث الدم والجنس والرغبة، يكون الطائر الأبيض رمزا للموت حيث يتفرق الروح عن الجسد لتشهق للعلى مثل طائر أبيض تاركة الجسد الإنساني مسجى على الثرى (ص52):
فذهبتُ أنتِ وردة حمراء إلى الحياة
وذهبتُ أنا طائراً أبيض إلى الموت.
في ختام قراءتنا لهذا الديوان نود أن نشير إلى وجود نصوص أخرى مبنية على اللاحروفية من مثل نصوص (القبطان) و(رغبات) و(صبي) و(أحجار) و(طيران) و(حيرة ملك) و(فؤوس)، وهي تنزع للتقنيات السابقة ذاته، حيث السرد والتكثيف واستثمار الحكائي والأسطوري بطريقة الغرائبي والسحري منطويا ومنبثا في داخله الكثير من تفاصيل ما عاشه الشاعر في حياته سواء داخل الوطن (الزنزانة) أو في خارج الوطن (المنفى) وكل منهما يقود إلى الآخر، وذاك ما أنبأتنا به نصوص الشاعر ” أديب كمال الدين” بكل نبل ومحبة.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
* (شجرة الحروف) شعر: أديب كمال الدين - عمّان- دار أزمنة 2007
نُشرت المقالة في مواقع دروب والمثقف والحوار المتمدن وكتابات وألف في 31- 5- 2009
كما نُشرت في كتاب
(جماليات
الشعر من القراءة إلى التأويل)، تأليف:
ذياب شاهين، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات 2011.