الحروفية في مشغل النص الشعري
عدنان
حسين أحمد
يستدعي الحديث عن تجربة الشاعر أديب كمال
الدين الإلمام بمستويات الكتابة لديه، والتعرف على مساربها ومنعرجاتها،
خصوصاً وأن
شاعرنا "صاحب شجرة الحروف، والحارس الأمين عليها" يتوفر على ثقافة
تراثية،
وروحية، وأسطورية، ناهيك عن خزينه المعرفي الحداثي الذي يستمده من
قراءاته المتنوعة
التي تشكِّل جانباً حيوياً في بناء نصه الشعري الحداثي الذي يتفرد به
وكأنه "براءة
إختراع" أُسندت
إليه بعد ثلاثة عقود من الإخلاص للحرف المتوهج والنقطة المضيئة.
لا يجد
قارئ الأربعين نصاً في " شجرة الحروف " صعوبة تذكر في تحديد مرجعيات
النصوص التي
تشظَّت منها، ولكنه سيواجه صعوبة "النصوص السهلة الممتنعة" التي
اجترحها من حوادث
ووقائع تاريخية نعرفها جميعاً حد الإشباع كما في قصيدة "وصف" التي
استهل بها شجرة
حروفه المتألقة. فمَنْ منا لا يعرف قصة يوسف، ونار إبراهيم، وموسى الذي
خرَّ صعقاً،
وعاد وثمود، وأصحاب الأخدود، ورأس الحسين المحمول على أسنة الرماح؟
لكننا لا نعرف
بالتأكيد كيف فجّرت دمعة الشاعر الوحيدة هذا السيل المتلاطم من الصور
الشعرية التي
يتلاقح فيها التاريخ مع الأسطورة، والحقيقة مع الخيال، والشك مع
اليقين. ولكن هذا
الغموض سينجلي حينما نكتشف أن دمعة الشاعر أو "نقطته المقدسة" قد
أضاءت له الدنيا
جميعاً وأسقطته في فخ الحيرة، فاكتفى بوصف الرؤية الشعرية للأحداث
والوقائع الجسام
بعد أن مرَّرها في مصفاة الرؤيا الروحية التي تفادت الشرح والتطويل
واكتفتْ بصورة
بَصَرية، تشكيلية واحدة حلَّت اللغز العصي، وأمسكت بالمعنى المراوغ.
نجح الشاعر
أديب كمال الدين في توظيف الآيات القرآنية وإستثمارها بطريقة سلسة بحيث
جعلها جزءاً
متماهياً في النص،
وليست مقتبسات غريبة عنه بعد أن مرَّرها ضمن أنساق البنية الداخلية
العميقة
للنص الشعري بوصفه وحدة متماسكة متكاملة. وقد دأب على هذا السياق في
توظيف روح
الأسطورة والخرافة والحكاية التراثية في نصه الشعري بحيث لا تتحول هذه
المواد
المُوَّظفة الى حجر عثرة تعيق إنسيابية القراءة أو تعرقل فهم المتلقي.
تماماً كما
أخذ من الصوفية روحها العذب، ونفحها الطيب، وخلاصتها الفلسفية.
تتصف
أغلب قصائد
شجرة الحروف" بنفسها السردي مما جعلها أكثر قرباً من قصيدة النثر
الحقيقية القائمة
على ثيمة ما "أو ثيمات متعددة" ضمن وحدة القصيدة كبنية واحدة لا
تحتمل التشتيت أو
التجزئة القسرية. كما تتوفر بعض القصائد على "حوار" يستجيب لدرامية
النصوص
الشعرية مما جعلها أقرب الى الشعر الممسرح، وخصوصاً ذلك النمط من
القصائد المأساوية
التي تتمحور حول الموت بوصفه فكرة مهيمنة على ذهن الشاعر الذي يعرف من
كثب حجم
الفجيعة التي تنتظر الكائن البشري الذي لا يعدو وجوده أكثر من ضيف طارئ
في هذه
الحياة الخاطفة. سأتخذ من النص الثالث من "شجرة الحروف" والذي عنوّنه
الشاعر بـ "
قصيدتي الجديدة" مثالاً للسرد وإن جاء على شكل متوالية قصصية، وللحوار
وأن تجسَّد
بواسطة طرف واحد هو ضمير المتكلم، وأناه الشعرية، مبدعة النص، وخالقته.
تبدأ هذه "
الأقصودة " حينما يعطي الشاعر قصيدته الجديدة الى الحسناء التي كانت
جالسة الى
جواره طالباً منها أن تضعها بين النهدين،
وتتعرَّف الى سرِّها، ومعناها الأزلي، لكنها تشاغلت بهاتفها النقّال
المكتظ
بالمواعيد. ثم أعطاها للطفل الذي يلهو في الحديقة العامة، لكنه صرخ
باكياً، وولى
بعيداً عن "قصيدة الشاعر الجديدة" على رغمٍ من توفرها على عناصر
الإغراء العديدة
كالألعاب القوس قزحية. ثم أعطاها، في محاولة ثالثة، الى النهر كي
يقرأها، ويدرك
كنهها، ويتعرف الى معناها الأزلي، لكن النهر الذي شبَّهه الشاعر "بإلهٍ مُلقىً على
الأرض" ظل يحلم بالأقاصي البعيدة. أما الضربة الشعرية، أو لنُسمِّها
اللحظة
التنويرية تأتي في المتوالية الرابعة للأقصودة. وحده الشرطي اقتحم عليه
خلوته
مستفسراً "ماذا بيدك؟" قصيدة. ماذا تقول فيها؟ إقرأها لتتعرف الى
سرها ومعناها."
هنا يأخذ النص منحىً تدراجيدياً حيث تتأنسن القصيدة، لكنها تدخل الى
غرفة سوداء،
وتُربط الى كرسي حديدي، وتُجلد بسوط طويل، وتُضرب بأخمص المسدس على سمت
رأسها حتى
تنزف حروفاً كثيرة، ونقاط أكثر، لكنها لا تعترف بسرها ومعناها الأزلي
للشرطي. تختصر
هذه القصيدة، بطبيعة الحال، ثنائية الجلاد والضحية في العراق، وفي بقية
البلدان
المتخلفة التي تتعامل مع الإنسان بوصفه "شبه مواطن" لا محل له من
التبجيل
والاحترام.
تتجاور القصائد ذات النفس القصصي مع شقيقاتها ذات النفس التأملي التي
تفلسف
رحلة حياة الكائن البشري المحفوفة باليأس في نهاية المطاف. ويمكن أن
نتخذ من قصيدة "
الغريب " أنموذجاً لهذه المجاورة بين النص القصصي الذي يسرد حكاية ما،
والنص
التأملي الذي يدخلنا عنوة الى غابة السؤال الفلسفي. فقصيدة " الغريب "
ربما تختصر
حياة العراقيين الممضة على وجه التحديد، وهذا لا يعني تجريدها من سمتها
الكونية
الأشمل. فالبطل الغريب الذي يخيّره النبع بين العين البشرية التي تجعله
يرى الغيب،
واليد البشرية التي تصنع منه محارباً فذا لا يُجارى، والقناع الذهبي
الذي يجعل
النسوة يلهثن خلفه، والبيضة الذهبية التي تجعل منه أثرى الأثرياء،
والكتاب الكبير
الذي يصنع منه أحكم الحكماء. لكن الغريب رفض العين واليد والقناع
والبيضة والكتاب
الكبير، لأنه جرّب الغيب، والشجاعة، واللهو، والثراء، والحكمة، لكنها
جميعاً لم
تنقذه من عذابه الدائم، وضياعه المكتوب في المنفى الأبدي. إن ما يطلبه
هذا الغريب
الكوني من النبع هو دواء للسأم القاتل، والغربة المقيتة، وللموت
المرعب. لا يجد
النبع حرجاً في الإجابة بالنفي، لكنه يخجل من كلام الغريب، ويتضاءل
شيئاً فشيئاً
حتى يصبح بعد أربعين يوماً أثراً بعد عين! تصلح هذه القصيدة فضلاً عن
نفسها القصصي،
الحواري، التأملي، الفلسفي أن تكون أنموذجاً للنص العجائبي الذي يعتمد
البنية
الإعجازية التي تمكِّن العين العادية من رؤية الغيب، وتجعل النبع ينسحب
الى منبعه،
ويظل مجراه.
اجترح الشاعر أديب كمال الدين خلال تجربته الشعرية التي بلغ رصيده فيها
تسع مجموعات شعرية بدءاً بـ " تفاصيل" ومروراً بـ "ديوان عربي" و"جيم"
و"
نون " و"أخبار المعنى" و "النقطة " و" حاء " و" ما قبل الحرف.
. .ما بعد النقطة" وإنتهاءً بـ "شجرة الحروف"
اجترح خصوصيته " الحروفية
" التي
كدَّ عليها في مشغل نصه الشعري طوال عقود ثلاثة. وقد كسب الرهان على
رغم من أن نقاد
الأدب العراقيين قد شككوا في أصالة مشروعة الشعري "الحرفنقطوي"، أو
بتوصيف أدق لم
يضعوا ثقتهم الكاملة فيه. غير أن توالي مجموعاته المكرسة للنص
الحرفنقطوي مثل "
جيم " و" حاء " و" نون " قد أثبتت عكس تصوراتهم دائماً، وربما تكون "شجرة الحروف"
هي الأحق بأن تحمل الوسام الحرفنقطوي فهي المجموعة الأشمل التي ضمت بين
دفتيها
أقوى
الثيمات التي يتعاط معها الشاعر المسكون بالقلق الوجودي.
وجدير ذكره
أن "
شجرة الحروف " قد صدرت عن دار " أزمنة " في عمَّان عام 2007. وقد زينت
غلافها الأول
لوحة للفنان التعبيري العراقي ستار كاووش.
|