أديب كمال الدين ومشاغله العتيدة
أ. د. عبد الإله الصائغ
كثيرا ماكنت أقف مندهشاً ومنشدهاً أمام مملكة الحرف العربي وتكويناته وطلاسمه! وأسترجع في ذاكرتيَّ السمعية والبصرية الحكايات العجائبية التي تربط بين اسم الله الأعظم وبين عدد من الحروف! وقد شاعت في خمسينات القرن العشرين طبع وتحقيق كتب المكاشفات من نحو مكاشفات ابن عربي ومكاشفات التبريزي.. الخ! وكنت أفجع نفسي بالأسئلة من مثل ما الكمون في جدل الحروف؟ وكيف تلابس الحرف والنقطة في كينونة واحدة؟ قادني سحر الحروفية العربية الى الكتب التي تتعامل مع علم الجفر والجفر يعني لاهوت الحروفية! وقليلاً ما نتلبث عند دلالة الحرف في اللغة التي تؤول الى الطرف والجانب وبه سُمّي الحرف من حروف الهجاء والحرف الناقة المهزولة قارن كعبا بن زهير بن ابي سلمى المزني:
حرفٌ أخوها أبوها من مُهَجَّنَةٍ وعمُّها خالُها قوداءُ شمليل ُ
والحرف الجهة الواحدة والمصلحة الخبيئة قال تعالى (ومن الناس من يعبد الله على حرف) وجاء في حديث ابن عباس (أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف)! قال الأزهري الحرف هذا وذاك وكل كلمة تقرأ على الوجوه من القرآن فهي حرف وقوله (ص) نزل القرآن على سبعة احرف كلها شاف واف. وأراد بالحرف اللغة! والحرف من الأضداد فهو الثبوت على الشيء وهو أيضاً الإنحراف بالشيء! ومنها التحريف والإنحراف والحرف الصناعة! وفي لغات العرب حَرف وحِرف وحُرف بالفتح أو الجر أو الضم! اما النقطة فهي الإضافة فمثلا النقطة التي تضاف الى الحرف تدخله في الإعجام! والنقطة التي تضاف الى الثوب أو الجسد أو الرجل إنما تدخل المنقوط عليه أو به في كينونة النقطة كأن تقول نقَّطت الثوب أو الجسد عطراً أو تقول نقطت العروس قارن صورة الحبيبة في عيني ميمون بن قيس البكري (الأعشى الكبير جاهلي) :
وتَبْردُ بردَ رداءِ العروس بالصيف نقطت فيه العبيرا
وتسخن ليلةَ لا يستطيع نباحاً بها الكلب إلاّ هريرا !!
والنقطة الملاحظة والإشارة والموضوع ! كأن تقول أهم نقطة عندي أي أهم شيء لديَّ ! قال أبو المهلهل اللخمي (جاهلي قديم) :
ولي نقطة تغتالني كلَّ ليلة وشرُّ مساعيرالرجالِ نقاطها !
والنقطة ليست الصفر بهذا الكيف! لأنّ النقطة طاقة في علم الكم والصفر نفاد الطاقة ! ووفق قطرب (محمد بن المستنير) يكون الحرف متوفراً على ستة معان تنتسب الى عائلة دلالية واحدة والنقطة متوفرة على ستة معان تنتسب أيضاً الى عائلة دلالية واحدة قارن :
وكانت العرب الغابرة تختزل النقطة في كتابتها وتعرف موضعها من سياق التركيب حتى نهد أبو الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو ت 69هـ) فوضع قانون إعجام الحروف بتكليف من الخليفة علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه) واكتشف الخليل بن أحمد الفراهيدي 175 هـ دلالات الحروف وهو يشتغل على مخارج الحروف في معجمه العظيم (كتاب العين) أي حرف العين اكتشف الخليل بعيداً عن كتاب العين التشريحي دلالات للحروف عجائبية وللمثال فقط قال الخليل ( الشين هو الرجل الكثير النكاح ! والصاد الشيء إذا ارتفع ! والطاء الشيخ الشبق ! والظاء صوت حركة الثدي إذا تثنت صاحبته) وقد تلبّث شراح القرآن الكريم عند عدد من الحروف التي ابتدات بها بعض السور! أما ابن خالويه الحسين بن أحمد ت 370هـ ضمن كتابه النفيس إعراب ثلاثين سورة من القرآن العزيز فقد وجد انّ للحروف التي يبتديء بها القول القرآني جزء من إعجاز القرآن ويضرب لذلك أمثلة ظنية! وقد استطاع ابن سينا أبو علي الحسين بن علي ت 428 هـ في كتابه أسباب حدوث الحروف صناعة الحروف خارج الجهاز النطقي عند الإنسان ! قارن (الشين يتكون من خلال نشيش الرطوبات العديمة اللزوجة وعن نفوذ الرطوبات في خلل أجسام يابسة ضيقة المنافذ بقوة ! الصاد من وقوع جرم ذي دوي أو كان معه قرع بشيء له تقعير يسير! والطاء من خلال تصفيق اليدين وفي الراحتين أدنى تقبيب ينحصر فيه هواء ذو دوي ويسمع عن القلع ايضا!) بينما وجد أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي ت 392 هـ انّ للحرف منفرداً قدرة على تخليق الصورة الفنية! قارن الخصائص (مثلا بحث : الباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكفّ على الأرض والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث والنبث للتراب وهذا أمر تراه محسوساً فأيّ شبهة تبقى بعده)!1 الصورة 110 الحديث 169 ثم صار الحرف والنقطة علماً لاهوتياً أطلق عليه علم الجفر(أي علم الشفر والشفرة) : ! قال المقدس النقوي ت 448 هـ (الباء يتلو الألف مرتبة لا يفارقه كتباً الاّ بانحراف طرفيه وبقاء الباقي بعد الانبساط وهو بهاء الحق إذا الحق هو الحق المطلق والجميل المطلق فمرآته مرآة الحسن والبهاء وهو حقيقة الاسم الحاكي من صفاته الذاتية وهو متصف بصفة الفناء وهو خال عن نفسه بخلاف الثاني ... السين فهو الباء بزيادة التصرف في وسطه وحبله كالطرفين فصار الباء أضراساً ثلاثة وهو سناء الحق وضوء برقه ونوره الظاهر بنورانية الحاكي عن مبدأ وجوده كما انّ سناء البرق ظاهر بنفسه ويكون شعاعاً للبرق ودالا عليه بحيث لا يكاد يفارق أحد اللحاظين عن الآخر عن إدراكه ولمعانه .... الميم هو المستدير الحاكي عن معنى دائرة الامكان ويقابل الألف من حيث انه صفة الاستقامة المتقابلة للاستدارة .... وهو العلو والبرزخ الحاكي عن الواجب بهذه الصفات وهو مقام الربوبية الفعلية التي تقتضي وجود المربوب..) ويقول عبد الفتاح السيد الطوخي في كتابه هداية العباد في أسرار الحروف والأعداد طبعة المكتبة الثقافية بيروت 1992 ص 86 (... ومن أسرار الحروف أن للحرف جملة وهي بعده الأبجدي كما انّ للحرف جسماً وروحاً ونفساً وقلباً ودماً وعقلاً وقوة وطبيعة وقوة كلية فصورة الحرف جسمه وضربه في مثله روحه وضرب روحه في ثلاثة نفسه وضرب روحه في أربعة وثلاثين قلبه ومجموع الجسم والروح والنفس والقلب يضرب في أربعة فيكون العقل وتربيع العقل يولد قوته الطبيعية وضرب قوته الطبيعية في عشرة يكوِّن قوته الكلية ..)
وقد وجد الشعراء في الحروف أرقاماً غير ملتبسة فوضعوها للحساب بعد مفردة أرّخ أو أرّخت مثلاً قال الشاعرعلي بازي وهو المشهور بالتوريخ الشعري قولاً تجرأ فيه على السيّد أبي الحسن الأصفهاني الذي أفتى بتحريم حضور مجالس الروزخون صالح الحلي:
أبو حسن أفتى بتفسيقِ (صالح) قراءته أرّختها غير صالحة
وقال أيضاً يهجوه:
مُذ تردّى الشقيّ بالغَي جهلا وإمام الزمانِ طُراً جفاه
قلتُ يا مَن قد أرّخوا أحقيق قد رمى الله صالحاً بشقاه
قال الشاعر رضا الهندي مؤرخا تأسيس مسجد أشاده أحمد بن الشيخ جعفر:
قلتُ لما كملت أركانه وغدا يسطع في الكون سناه
أرّخوه مسجد جدده أحمد تمّ على التقوى بناه
أطرف توريخ قاله مصطفى جمال الدين معرضا بزواج رجل يدعى منتظر :
لما تزوج منتظر أرّخته غاب القمر!
بل ان بعض القصائد اعتمدت بعض الحروف رقيات لها مثل سينية البحتري المؤسسة على حرف السين :
وتماسكت حين زعزعني الدهر التماسا منه لتعسي ونكسي
ومثل رائية الهندي :
أمفلج ثغرك أم جوهر أرحيق رضابك أم سكّر!
لكن للحرف عند الصوفية منزلة علية ومكانة جلية فهم يعتدونه مملكة مغلقة لا يدخلها سوى العارفين والنقطة طلسماً لايفكّه سوى الواصلين! ألم يأتك نبأ النفري في موقف المحضر والحرف؟ إذن قارن (أوقفني في المحضر وقال لي الحرف حجاب والحجاب حرف وقال لي قف في العرش ، فرأيت الحرم لا يسلكه النطق ولا تدخله الهموم ورأيت فيه أبواب كلّ شيء ورأيت الأبواب كلها ناراً للنار حرم لا يدخله إلا العمل الخالص فإذا دخله صار إلى الباب فإذا صار إلى الباب وقف فيه على المحاسبة ورأيت المحاسبة .. وقال لي لا يعرفني الحرف ولا يعرفني ما عن الحرف ولا يعرفني ما في الحرف وقال لي وإنما خاطبت الحرف بلسان الحرف فلا اللسان شهدني ولا الحرف عرفني ... وقال لي الذين عندي لا يفهمون عن حرف هو يخاطبهم ولا يفهمون في حرف هو مكانهم ولا يفهمون عنه وهو علمهم، أشهدتهم قيامي بالحرف فرأوني قيماً وشهدوه جهة وسمعوا مني وعرفوه …)!
هذه المقدمة الطويلة ليست طويلة إذا أدركنا أهمية معرفة اشتغالات الشاعر أديب كمال الدين! فقد استطاع هذا الشاعر خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتى أنسن الحرف وأنسن النقطة! فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وانما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحيانا والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرات والحبيبات حتى يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة) باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ ديوان عربي! يمكن للقصيدة هنا أن تطوِّع عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كل مفردات القصيدة وأعني كل مفردات التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن بطقوس الرؤية لدى الرائي! الحرف كلّ شيء وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة الطاهرة حرف واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار الموت والحياة الإبداع والاتباع حرف ! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوسا! أن تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان الى الطبيعة!! أن تتصبب عرقاً وأنت تكابد موسيقا الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك وأن تدخل وعيك بمجذوبيتك! اهذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن الانتماءات المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لاشيء يشغل بال القصيدة عند أديب! لاشيء يشغل باله يقينا ! نعم المتلقي (وهو ضالة المنتج بوصف المتلقي هو المستهلك الوحيد) المتلقي قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب! تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته! فما حاجته الى السطوع وهو محترق؟ الى الشيوع وهو مختنق؟ بعبارة مختزلة لقد غرٌّقت الصوفية الجديدة تجربة أديب! الصوفية ليست قصيدة ولا جلباباً ولا بياناً ولا صلاة! الصوفية تشترط ان لا تشترط سوى الزهد بكلّ شيء سوى المعشوق! فإذا كان المعشوق حرفاً فما حاجة العاشق للآخر إن لم يكن حرفا!! فلنحاول فقط مراقبة الفعل (تخليق الحروف قصيدة) من جهة المجاز/ الموسيقا! سأرتب سانحة لمراقبة الفعل سوية وأعني القاريء الأول الذي هو أنت أيها القاريء العزيز كما أعني القاريء الثاني الذي هو أنا! وتكون المراقبة بهيئة علامات مكثفة غب ان استغرقتنا التوطئآت ! ولنضرب في هذه القصيدة مثالاً لما تواطأنا عليه في التوطئة! من هي الباء؟ أو ماهي الباء؟ أو لماذا الباء؟
ب = بوابة الشاعر
ب = كانت أنثى بلا ملامح ولا اسم! وكما تقول ملحمة حينما في الأعالي (حين لم تكن الأسماء لم تكن الأشياء) فلكي تكون اطلق عليها اسم الباء ثم اطلق عليها اسم النقطة .
ب = جملة اعتراضية لبيان الحيرة! قيل لي كلّ الباء في النقطة!
ب = هي أنثى ربما تكون شبيهة تياما في حينما في الاعالي تشبع مخلِّقَها طعنات وشهوات وروائح!
ب = لم تشف جروح الشاعر من طعنات الباء رغم انه تقرب اليها بسبعين ملحمة وسبعين قصيدة وسبعين بيتاً! وسبعين وسبعين ...!!( يقول أبو عمرو بن العلاء ت 154 هـ العرب سبعيون)!
ب = هي أنوثة متجسّدة وليست رموزاً متجرّدة! وآية ذلك خضوعها للجهات الأربع ذات اليمين ذات الشمال! النص جسد الأنثى وفق آلية Personification (الأنسنة) وبذات الآلية جسد الزمن فسلطه عليها! وبذات الآلية جسد اللذات وهي قبلا صور تجريدية معنوية وليست صوراً حسية! ثم يكتمل التحول الصوفني فإذا ها بين ذراعي ضمير المتكلم وهو معادل مردوك في حينما في الأعالي! فتكون اللثغة علامة ساطعة الوضوح عن المسكوت عنه ! فما النهدان والساقان سوى علامة مكملة للثغة! ولن تفوتنا ان تياما هي التي تلثغ بمفاتنها وليست اللثغة حالة تشي بها الصورة الفنية ! وقبل ان يقفل النص باب نقطة 1 واحد تنبهنا آليات تحليل النص الطعم الذي ابتلعناه ! فالصورة ليست جنسية كما أوهمتنا بل هي حالة من الوصول الصوفي والشطح لحظة يتحد العاشق بالمعشوق! نقطة .
نقطة 2 : استدارة كاملة فلم تعد الصورة الشبقية حسية تلقائية كما النقطة 1 بل لجأ النص الى الهتك والكشف لتكون الرؤية بسعة الرؤيا ! اعتراف النص بكابوسية المشهد الأول ! المكر الفني قاد الى التضاد الدلالي! الرؤيا (الحرف/النقطة) سطوع لا تحتمله العين فالمعادل الموضوعي للحالة (قلع العينين)! ان يغمض الرائي عينيه فهذا يعني انه يتهيأ للحلم ولكن ان يقلع الرائي عينيه فتلك محنة أخرى! النص لا تعامل بسوى الحرف فهو مولاه (سيده / خادمه) وهو الثنائيات المتعايشة مع تضاداتها على مستوى المعنى الأول! فاذا كانت أنثاه حرفاً وبوابة معا ثم يؤول الأمر به الى ماهو عليه! فما من طلب سوى أن يقطع رأس الحرف كي يكون المشهد ادخل في مجرى السياق ! يقطع رأس الحروف لكي يعلّقها على بوابات المدينة العابثة (الحزينة!!) ولكن النص يفاجيء التوقع باللاتوقع! ليس ثمة حروف ليقطع رؤوسها! بعبارة ثانية حاسمة ليس ثمة فاعل ليصنع منه النص مفعولا! والسؤال هو كيف حصل الفعل دون فاعل ودون زمن؟؟ فليجرّب النص سلوكاً آخر ليجرّب الخروج الى الشارع بعري كامل وبهذا الكيف يمكن ان تستفز الصورة لتلقي ببواطنها الى خارج جلدها! ومرّة أخرى يرتطم التوقع باللاتوقع والتماثل باللاتماثل وفق ارشيبالد مكليش! قارن لم تكن هناك حروف بالمرّة! ثم قارن عارياً تماما! اهناك ريب في لاكينونة الحروف أم شك في لاكسائية المتكلم؟ مرّة أخرى تنحسر الصورة ليتضح ان ليس ثمة شارع لكي يمارس العري التام في مسافاته! إذن الأنثى هي الحرف والحرف هو العري! والباء التي هي هما وهم تستجن في تصاقب المعنى والنغم في بائي بوابتي بليتي بلبلتي! لقد اقفل المشهد الثاني حركيته وانحسر خلف كواليس التلقي كمرجعية مثلا! من أجل ان نبدأ مع النقطة الثالثة دون بلبلة! نقطة .
النقطة 3 : لماذا يلتجيء المشهد الصوفني الى أفعال الكينونة والى تصاريف كان قارن نقطة 2 استنفد المشهد ستة من (الكينونة) وفي المشهد 3 استنفد أربعة! وكان المعنية فعل ناقص وتام معا! كان الماضي والحاضر والمستقبل لكي ينحصر المشهد في أزليتها! كان خروجي مدوّياً أمس واليوم وغداً كما نقول وكان عدوي متربّصاً بي أي على مدى الأزمنة الثلاثة! والعرب تصنع مثل هذا مع كان! ونحو لم تكن لديّ حروف فبعض يدخلها في كان التامة باعتداد لديّ حروف مثابة المسند الواحد وبعض يرى أن حروف اسمها ولديّ خبرها! وبعيداً عن تسويغات النحاة وهي عادة مجرد تسويغات ليس الاّ فان كان النص الصوفي ممتدة على الزمكان الأزلي والأبدي! كان خروجي مدوّياً! بمثل هذا الدويّ ندخل المشهد الذي خرج منه صوت المتكلم ! يتعين علينا ملاحظة كيف يغرب المتحدث صورته في متخيل المتلقي ابتداء من (أمشي عليه بقدميّ الملتصقتين ببطني) الى (كنتُ مَن يحمل رأسه بنفسه فوق رمح عظيم) التغريب معلول العلة التالية علة أن يحار الناس في أمره (أهو جنّي أم أنسي؟ أهو صوفي أم ملحد؟ أهو قربان أم خرافة؟) هكذا وضعنا قبالة أضداد هي في واقعها ليست أضداداً فالجني والأنسي يتعايشان في أهاب الإنسان الواحد وكذا القربان والخرافة استحالا حالة واحدة في الزمن المخرب واذا كان ذلك كذلك فالصوفي والملحد حالة واحدة في الموروث الجمعي! ألم يُقتل الحلاج العظيم بتهمة الكفر والالحاد؟ ألم يُمثّل بجسده الشريف؟ ألم يُحرق بأمر أمير المؤمنين ويُذرّ رماده من فوق المنائر لحظات الآذان والتكبير! اليوم محنة الإنسان أشد نكالاً من عصور الظلام منذ أمية قريش الى عباسية هاشم الى عثمانية الترك وصفوية الفرس! كان ذلك الزمان أرحم من زمان كلنا فيه القاتل والمقتول والسجين والجلاد! كلنا مؤمن في نفسه كافر في عيون غرمائه! كان المفكّرون يخشون الحكام والقادة لكن لهم عمقاً آمناً لدى الناس! أما زماننا هذا فبات الارهاب خليقة والناس أشد نكالاً على المفكّرين! فمن حقهم أن يخلطوا الصور لكي يقتلوا الضحية بالصورة التي هم يرسمونها له! نقطة .
النقطة 4 : هل يتعين على النص أن يضللنا بفعل ماض (خرجت)؟ وهل يتعين علينا أن نصدق؟
النقطة 5 الأخيرة: محور النقاط قارن (ياكـَرَبي وبلائي يابهائي و لوائي ياشبابي المدمّى) بمعنى ادخل ان التنص بكليته الصوفنية والدلالية تمحور حول ثلاثة نداءات وخمسة منادين يا= كربي+ بلائي .يا = بهائي + لوائي . يا = شبابي المدمى!
وشعرية الدلالة هنا تحوم حول الحالة الغامضة لناذا كرس النعت(المدمى) للشباب بينا ترك الكرب والبلاء والبهاء واللواء دون نعوت! وعند هذه النقطة التي أثرتها والتي تصلح لقراءة ثانية أخرى أضع نقطة الخاتمة.
**********************
موقع عراق الكلمة 3 ديسمبر- كانون أول 2006
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 63 - 73