الحروفي: مصالحة الشاعر والنقد
عبداللطيف الحرز
أقول مصالحة الشاعر مع النقد وليس مع الناقد، لكون مصالحة الأشخاص والأفراد أمور تخصّ السيرة والتاريخ ولا علاقة لمثل هذه المصالحة بالنص الأدبي.
وأقول مصالحة الشاعر مع النقد وليس مصالحة الشعر مع النقد, لكونه لم يقع تنافر وخصام ما بين الشعر وبين النقد, رغم تباين مناهج النقد واختلاف طرائق مدارسه, وعلى الرغم من الاختلافات الشاسعة بين تجربة شعرية وأخرى. المشكلة ظلّتْ هي مشكلة الشاعر مع النقد. هذا ما تشهد له كل تلك الاحترابات والخصومات والتهجّمات من قبل الشعراء (الحقيقيين أو المدّعين أو المحترفين أو الهواة أوالمتطفلين) حتّى أدتْ سلاطة اللسان ولغة الكراهية إلى أن يبتعد ثلّة من النقاد صوب نصوص تراثية أو اجنبية, فكان النقد في أغلبه مسلّطاً على الماضي إذا كان يريد التماس نصّ عربيّ .أو كان النقد في أغلبه مسلّطاً على الأجنبي إذا كان يبتغي المعاصرة, وتبقى نصوص الشاعر العربي المعاصر في الهوة فيما بين المشغلين.
ونحن إذ نطالع كتاب (الحروفي) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007 يظهر أديب كمال الدين, استثناءً في إنطولوجيا الشعر من زاويتين: زاوية كون الشاعر أديب كمال الدين ينفصل بشكل لافت عن عباءة التجربة الأودونيسية. فرغم أن كمال الدين جزء من مرحلة كان الصخب التجديدي فيها مستنداً إلى كتابة أودنيس شعراً ونقداً, الا أن جميع نصوص كمال الدين لم تتأثر بهذا الصخب. فكأنّ أحد مصادر الغنى فيها هو هذا الابتعاد نفسه. ولعل هذه الميزة هي إحدى المميزات التي حرّضتْ وأغرت المتابعين إلى تفحّص هذه التجربة التي تمرّدت على مسار التمرد وراحت تبحث عن خصوصيات أخرى بعيداً عن حمّى وطيس النقد والنقد المضاد من قبل المحافظين والتغييريين.
الميزة الأخرى التي تهمّنا هنا والتي يمثلها كتاب (الحروفيّ) بشكل عملي، هي أن أديب كمال الدين حظي باهتمام واسع من قبل النقاد. ولم يؤثر هذا الاهتمام- رغم اختلاف وجهات النظر حد التناقض في كثير من الأحيان- على علاقة الشاعر مع النقد. وبعيداً عن ذكر أسماء عديدة من أسماء شعرائنا من العراق والعالم العربي, فإننا بالمقارنة نجد أن هذه ميزة تستحق وقفة أطول مما نوجزه هنا. فحينما راح بعض الشعراء يعادي النقد اذا لم يكن احتفاءً, انزلقت التجربة الشعرية لدى هولاء إلى التعمية اللغوية إنسياقاً خلف عمى المجاز المحض أو السقوط في المحاكاة الصحفية لتجارب سالفة هي أجنبية في الغالب. وهذا ما لم يلتفت إليه الأستاذ حسن ناظم في كتابه (أنسنة الشعر), فأنسنة الشعر لا تتحقق عبر الجدل بين الشاعر والشعر وإنما بين الشاعر والنقد أيضاً. وأحد أسباب ضمور البعد الأنسني في جملة التجارب في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين, مردّها إلى غياب العلاقة الإنسانية بين الشاعر والنقد, إذ الشاعر أخذ يصنّف الشعر على أساس الأشخاص وليس النصوص, على أساس التجمّعات والبيانات وليس على أساس صدق التجربة. وهو صدق لا يمكن التحقق منه بدون النقد.
لا يستطيع النقد أن يشتغل بدون نص إبداعي منجز. كذلك لا يستطيع الشاعر المعاصر أن يسير منساقاً خلف توهيماته الوجدانية وخبرته الشخصية فقط, فلقد ولّى زمن إنتاج الشعر عن فطرة وسليقة بالولادة كما كان يقول الاقدمون. النقد يقدحه الشاعر بتجربته الإبداعية. والشعر يثريه ويعدل مساره النقد بقوة كشفه عن المخبوء والمسكوت عنه, وصدّ المحاكاة الفجّة والمجازات المتخشّبة والسياقات المتكررة. ومن هنا أستطيع القول: إن كل هذا الاختلاف لدى بعض الشعراء وتلوّن تجربتهم بألوان شتى, ومنهم أديب كمال الدين, مردّه إلى تلك العلاقة الايجابية ما بين الشاعر والنقد.
بالطبع لا أريد لكلامي أن ينزلق في الإطراء والتقييم المطلق, فتلك فجاجة لا يطيقها كاهل النقد والفعل النقدي المنصف, خصوصاً وأن بعض الدراسات التي تصفحتها في كتاب (الحروفي) أشعرتني بإحساس مؤلم لكثرة ما تخلق لدى القارئ العادي من مسافات وهمية وصورة مغلوطة لتجربة أديب كمال الدين. خصوصاً ذلك النوع من الكتابة الذي حينما يتطرق لمجموعة قصائد لشاعر ما فإنك تقرأ كل شيء وتقرأ عدداً وافراً من معلومات تاريخية وأدبية واصطلاحية, لكنك لا تقرأ أيّ شيء له ارتباط حقيقي بتلكم القصائد بالذات. فالبعض إذ تستعصي عليه قراءة قصيدة أو تجربة أدبية, يذهب إلى تكويم معلومات خارجية تتحول إلى ما يشبه الأدخنة التي تحوم حول سور النص الادبي بدون القدرة على العثور على مفتاح مناسب للدخول إلى مملكة القراءة والفهم. ومثل هذه الأمر وقع فيه أكثر من واحد ممن شارك في كتابة كتاب (الحروفي) الذي أعدّه وقدّم له الناقد د. مقداد رحيم.
على أيّة حال فإن انجاز كتاب بهذا الحجم وبهذا الكم والكيف المختلف لأسماء ومناهج متباينة, يستحق الكثير من التأمل والاعتناء, وهو فضلاً عن ذلك يختصر للمتابع الكثير من العناء والجهد.
********************************
الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية- إعداد وتقديم الناقد: د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2007 – 368 صفحة من القطع الكبير.
والنقاد المشاركون هم: أ. د. بشرى موسى صالح، أ. د. مصطفى الكيلاني، أ. د. عبد العزيز المقالح، أ. د. عبد الإله الصائغ، أ. د. حاتم الصكر، د. ناظم عودة، د. حسن ناظم، أ.د. عبد الواحد محمد، د. عدنان الظاهر، عبد الرزاق الربيعي، صباح الأنباري، علي الفواز، وديع العبيدي، عيسى حسن الياسري، د. خليل إبراهيم المشايخي، زهير الجبوري، د. محمود جابر عباس، صالح زامل حسين، هادي الربيعي، فيصل عبد الحسن، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني، د. حسين سرمك حسن، رياض عبد الواحد، واثق الدايني، ريسان الخزعلي، أ. د. محمد صابرعبيد، عيسى الصباغ، عدنان الصائغ، يوسف الحيدري، ركن الدين يونس، معين جعفر محمد، ود. مقداد رحيم.