مكونات الذات في ديوان (النقطة)
مسلم جاسم الحلي
صدر للشاعر أديب كمال الدين ديوانه السادس بعنوان (النقطة) وقد أصدر المجاميع الشعرية الآتية (تفاصيل 1976، ديوان 1981، جيم 1989، نون 1993، أخبار المعنى 1996).
ما يميز الشاعر في معظم قصائده فهمه للحياة لما فيها من معان ونظرات عميقة ممتزجة مع عذوبة اللفظ لتؤثر في المتلقي.. ويمتلك شعره وحدة البناء والتشكيلات المتجانسة ليؤكد دور الذات الفعالة التي تعني حياة الإنسان، هي حالات وصور وأحاسيس لا حدود لها لمعاناة كامنة، وهذا ما تعكسه قصيدة (محاولة في الرثاء):
)في الأربعين
في العامِ الأربعين
جلستُ على بابِ الحُلْم
كان الحُلْم نحيلاً كموعدٍ ضائع
طيّباً كنارٍ بدوية.)
ص5
(سائلا ًعنا نحن الحروف التي بلا نقاط
والنقاط التي بلا مستقبل
والمستقبل الذي بلا معنى
والمعنى الذي بلا مغزى
والمغزى الذي يقودنا بوحشيةٍ إلى ساحةِ الموت.)
ص6
ويمكن لنا أن نستشف حالة من الاغتراب في ثنايا قصائد المجموعة، وهي طافحة بالإبداع للتعبير عن الذات بوعي فهي فعل لغوي وطاقة تشير إلى العقل ودرجة عالية من التركيز البنائي المحكم.. وقد عبر عن حالات الاغتراب هذه بالصورة اغلب الأحيان كقوله:
(أنا المحروم حدّ اللعنة
وعذّبني الجوع
والرغيف هنا مغموس بالدم).
ص 9
وهذه المقاطع من قصيدة (محاولة في السحر) تحمل في طياتها صورة شعرية فاعلة وتدفع الموقف الشعري إلى وحدة السكون والصمت. وعندما نقلب صفحات المجموعة نقف أمام قصائد طافحة بالحركة والسكون والإبداع والشمولية في الرؤية والرؤيا:
(خرجت النقطةُ من الباب
كانت عسلاً أسود
فتبعها كلُّ ذبابِ الزمن).
ص16،
(أعجبني موتي
وحين حاولتُ أن أكرره
جننت!)
ص25،
(الزمن ذبابة
لا تتركني أنام وقت القيلولة).
ص29.
والشاعر أديب كمال الدين استطاع أن يعيد إلى الكلمات قوتها لأنها هي الأفكار، لأن الصورة الشعرية هي أقوى تعبيراً وأعظم أثراً، فقصائده شديدة الارتباط بموقف الشاعر من الحياة
المشحونة بالتناقضات بين قيم الخير والشر. إن قدرة شاعرنا المبدع على تنظيم تجربته في استعارات مليئة بصور فنية غير معقدة وهي مرتبطة داخل القصيدة:
(أطلقتُ عليه النار
وإذ تلّوى دمي بدمه
وصار يسحبُ خيطَ الدمِ بألمٍ فادح
دهشتُ لهول المشهد
ثم ضحكتُ وضحكت..
وبكيت..
ومت!)
ص33.
إن الرؤية الشعرية خارج حدود لعبة (الفعل ورد الفعل) فهي طاقة في التحليل والتركيب ثم الخلق لبناء قصيدة طافحة بالحزن، والموت يتكرر في معظم قصائده وكأنه عامل مشترك للديوان:
(موتي بعد فراقكِ بدأ كمهرجان أسطوري
وحين سألتُ عن اسمه
لُطمِتُ على فمي حتى سال دمي)
ص34،
(فوجدتها مدن موتى لا يتحاورون إلا بالنباح
ولا يقدمون لبعضهم بعضاً إلا باقات من شتائم!)
ص36،
الخوفُ ينتظرُ الموت
أم الموت ينتظر الظلام)؟..
(الموتُ على الأبواب
الموتُ هو الصديق الوحيد الذي يتذكّرني بعمق.)
ص40
الرؤيا عند (أديب كمال الدين) لا تخضع إلا لقانون الاحتمال والممكن، وهي لدى الشاعر واقع عن آلامه ومعاناته.. والمقاطع الشعرية هي الجناح الذي يطير به الشاعر في فضاء التنوع.. فتجده في نصوصه ينتقل من البسيط إلى المركب، من الصورة الايمائية أو الرؤيا إلى التأمل في فضاء العالم والحلم والمستقبل فيقول:
(على نار شمعة
أريدُ أن أذيبَ أهرامَ حزني
وعلى نار دمعة
أريدُ أن أحرق رماد شبابي).
ص40
إنه شاعر ذو نزوع موضوعي، ورؤية فلسفية تساؤلية أكثر منه شاعراً رومانسياً حالماً بعيدا عن همومه وأحلامه ورغباته.. وذلك كله لا يأتي اعتباطاً.. شعره هو استجابة واعية لأحداث عصرنا اعتباراً من الهم الشخصي والإنساني:
(أنتِ موسيقى تهرب
إلى أعماق الأمطار لتنام.)
(أنتِ خرافة تسيرُ على قدمين.)
(أنتِ أسطورة صنعتُها من اللاشيء
من اللاجدوى
من اللامعنى
من اللامستقر
وحين أفلستُ
بعتُ اللاشيء مقابل طفولتي
واللاجدوى مقابل صباي
واللامعنى مقابل لذتي
واللامستقر مقابل جثتي
لكنْ بدل أن تبتهج أسطورتي
أطلقتْ عليّ النار!)
ص44.
في القصيدة نجد أن احساسات وحالات الشاعر قائمة على التشبيه وعدم التعقيد التي يفهمها القارئ التي تشير إلى الحالة او الموقف لخلق ايماءات جديدة ليعبر عن حالته النفسية ففي قصيدة (محاولة في العزلة) نجده يمارس تأثيره في عمق البنية الذوقية وفي تناسق معانيها وتوافقها بين الشكل والمضمون:
(بعد أن سقط الأصدقاءُ والأشقاء
في بحر الكراهية
ركبتُ زورقي متجهاً إلى بحيرة دمي....
بعد كوارث لا تحصى
وصلت إلى نفسي)..
(هكذا فأنا أجلسُ في نفسي
لأحرس نفسي)
ص 45.
وفي قصيدة (محاولة في الجنون) يمكن أن نميز وجود تلك العلاقة المشتركة بين الفعل والعاطفة، وهو بحاجة إلى اختراق الحواجز النفسية والجرأة على تكسيرها.
ديوان (النقطة) تجربة تستوقفنا للتأمل في شعر (أديب) النابض بالحب والحياة ومن خلال مفرداته المملوءة بالصدق والمشاعر الملتهبة بأجواء واقعية مركبة في فعلها عميقة المعنى مكثفة في صورها ومدركة لأبعاد التجارب الشعرية الحديثة متجاوزة التجريد في بنائها على أساس الصورة والفعل واللغة:
(القمرُ على الباب
معلّق من قدميه.)
(الكلّ انطوى على نفسه
كوترٍ مقطوع.)
( المعنى معتقل في نفسه
ولا أحد يستطيع أن يفتديه
حتّى أنا.)
(البارحة متّ
وفي الصباحِ، كالعادةِ، استيقظت.)
ص79
والقصائد تعبر بأمانة عن الهم الإنساني.. وبهذه القدرة الفنية الخلاقة استطاع الشاعر (كمال الدين) أن يعبّر عن تجربته أحسن تعبير بانفعالات واحساسات جمالية حقا. إن (النقطة) ذات رؤيا خاصة تميز بها الشاعر تمثل إضافة مبتكرة تمتزج فيها الصورة والإبداع.. إنه شاعر أصيل ترتكز قصائده على الشمولية في التناول وفضاءات الوجدان، فهو يكتب نصه الشعري المعبر عن روح العصر حيث يمتزج مع معطيات الحياة. وكذلك عبر الشاعر عن الحلم تعبيراً واضحاً في ديوانه. إن حلمه الذي لا ينتهي يتصل بالحياة اتصالاً مباشراً ليحلّق في دنيا الخيال والاستغراق في الأحلام.. إنه يفتح نافذة الشعر ليصل إلى شواطئ الرضا اذ يقول في قصيدة (محاولة في الحظ):
(لم يعد الرغيفُ حلماً
صار قصيدة حب
لا تُقرأ إلاّ بين يدي الملوك).
ص91
هذه المجموعة الشعرية تتسم بالتكثيف وبساطة في الأداء ولكنها عميقة المعنى (السهل الممتنع). كما أن لها أفقاً واضحاً أو مألوفاً في الحضور الفاعل في معظم قصائده فهي صافية نقية ومؤثرة، وقد أثارت رغبتي ومتعتي في قراءتها مرة ثانية، لما فيها من موضوعات وصور شعرية مثيرة وأليفة وقريبة إلى نفوسنا:
(كان لي قلب
حين كبرتُ تحوّل إلى عصفور
ثم إلى وردةٍ
ثم إلى كلمةٍ
فدمعةٍ ورغيف)
ص93.
**************************
نُشرت في صحيفة الصباح البغدادية بتأريخ 22 نيسان- أبريل 2008