أخبار المعنى: أخبار الحرف واللون والرأس المقطوع
ريسان الخزعلي
(1)
الخطاب الشعري
الخطاب الشعري في (أخبار المعنى) للشاعر أديب كمال الدين، خطاب مغاير، خطاب غير مكتشف بهذه السعة، خطاب لا يقوم على اليومي المألوف، خطاب ذهني ـ تشكيلي، يضع الحياتي خارج منطقة الشعر ويسعى في الوصول إليه من خلال الإشارات والشفرات الدالة، خطاب يقوم على الوحدات والعينات المتشابهة المعنى، الإيقاع السريع الحركة (فعلن، فعلن) تطويعات الحرف واللون لضرورات العمل الشعري الفنية والجمالية.. خطاب يقوم على التأويل والفهم الديني والتصوفي لدلالات الحروف وتوظيفها في الأنساق الشعرية التي تحفر بعيداً في المعنى عن المعنى.. إنه خطاب لا ينشغل بالبهجة والمتعة التي توفرها بهجة الحياة في الشعر، لأنه منشغل بالمتعة الذهنية أكثر من سواها. لذلك فإنّ خطاباً من هذا النوع لن يتسع إلاّ بقدرات نوعية لاحقة تمنحه صفات أخرى من الحركة.. من هنا فإنّ الشاعر قد انشغل بموضوعة الحرف طويلاً في مجاميعه: (جيم، نون، أخبار المعنى) لتأكيد هذه القدرات بدراية عالية:
حوصرتْ دمعتي حين قتلاي قاموا إليّ
بسيفٍ طويل.
حوصرتْ لغتي: ألف دال وياء وباء..
قلتُ للحرفِ: أنتَ الذي يعرف النخلَ يسكنه.
(2)
بين الحرف واللون
إنّ استثمار الطاقة التعبيرية للحرف في الإبداع العراقي له جذوره التاريخية والدينية المعروفة. حيث كانت الحروف تشكل الرقعة الأوسع في صورة كتابة الرقى والتعاويذ (بطلسمية) تصويرية تبهر ولا تفتح مسالكها إلى الذهن إلا ّبالقدر الذي يتوفر على معرفية بأدوات السحر كتابياً. كما إنّ تجربة الفنان القدير (شاكر حسن آل سعيد) في استثمار الحرف بأنْ منحَه نطقاً تشكيلياً هي الأخرى كانت سابقة حتّى وإن ارتبطت بالتداولات الصوفية للحرف. غير أن جميع التجارب في هذا المجال منفصلة ومقطوعة الجذور عن القدرة الهائلة في سطوع الحروف في (القرآن الكريم).. والقوة التي تمنحها صوتياً وبيانياً في ترتيب النص القرآني بما يجعلها مؤثرات لاتـُستثنى من طبيعة الجمال الذي يقوم عليه القرآن بلاغياً. إنّ القيمة التي تقوم عليها (دالة الحروف) في (أخبار المعنى) تتأسس على تلك الإشارات مضافاً اليها الاشتغال بالجهد الإبداعي- الإبتكاري للشاعر ذاته.. حيث إن محاولات الشاعر تستنطق الحرف (قرائياً وتشكيلياً ولونياً) بتنويعات جمالية تقوم على الرنة الإيقاعية التي يشكّلها توالي الحروف:
(مَن يفتحُ سينَ سرير اللذة..)
(شكل الجيم المجنونة بالجنة والجن..)
أو الانتقال (السحري) من النطق الهجائي للحرف إلى النطق القرآني:
(ولها هاء همومي، واو وعودي، حاء حنيني، طاء طيوري، ياء دعائي)
في حين تأخذ الألوان صفتها اللونية من دالة الحروف وليس العكس:
(سأناديكَ بأسمائي: الأخضر ينبوعي
أتجلّى فيه ولا يتجلّى في أعضائي
والأسود طيري، الأبيض فجري
والأحمر فلسفتي وعيون طغاتي..)
(3)
الرأس المقطوع
تأخذ فكرة (الرأس المقطوع) ودلالتها الدينية من تأويلات الشاعر وتحديثاته الصورية. إنّ الفكرة هنا تنصاع للواقعة المعروفة وتتحد بها اتحاداً ذاتياً، بحيث تصبح الواقعة هي الفكرة، والفكرة هي الواقعة، إذ إن التشبيه ـ الرأس المحمول على الرمح ـ هو تشبيه تكاد لا تخلو منه معظم قصائد المجموعة في دلالة قصدية تربط التشكيلي الحاصل من (المشهد) إلى إيحاء قادم ومرتبط بهيئة الحروف. والدلالة هنا تقوم على نقل الصورة (صورة الرأس على الرمح) إلى (دالة حرف) بإشارة بارعة إلى الألف المسكن (أ) وهنا يكون استنطاق الحرف والاحالة اليه هو الإخبارعن المعنى و معنى الإخبار في ذات الوقت:
ـ صرخات الجدّ المحمول على رمح المعنى.
ـ خطأ في خطأ الرمح الداخل في الرأس.
ـ .. انتبهوا رأسي فوق الرمح إله يبحث عن معنى.
ـ .. رأيتُ الكفّ تشيرُ إلى حاء الرأس.. المرفوع على الرمح.
ـ .. تاريخ زبرجد أجدادي المحمولين على رمح المعنى.
ـ .. وضع المعنى الرأسَ على الرمح.
ـ.. رأساً يُحْمَل فوق الرمح إلى أقصى الأقصى.
ـ القمر المقطوع الرأس.
( 4 )
إيقاع الصورة
في (أخبارالمعنى) تقوم فاعلية الصورة الشعرية على مدركات عقلية تنمّ عن وعي شعري ـ معرفي متنوع مرتبط بالظواهر الفيزياوية حيناً أو الإشارات الأسطورية والدينية في أحيان أخرى مما يضفي على العمل الشعري صفة الالتصاق بتحديدات الإخبارعن المعنى:
.. أضحكُ، أقفز، أحنو، أتباركُ، أنمو، أتماسكُ، أطلقُ كلماتي، كي أدفن نفسي كالبرقِ بشقّ من طين.
*
.. منذ شروق الشمس إلى غيبوبتها المرّة
وسط الامطار.
*
سأكون السين، أنا السين
منذ مجيء الهدهد من سبأ الناس.
*
.. قمتُ فقام إلى موتي الأخّاذ حمورابي يتظاهر بالخيبة.
أنكيدو يركبُ رمحاً من ريش النار
كلكامش في باب العصر يغنّي
ونبوخذنصر يرسم روحَ المعنى في قلبي
ويعاشر أفخاذَ النسوة مجنوناً مثلي.
إنّ إيقاع الصورة مرتبط بالاخبارعن معنى المعنى (معنى الصورة) في فهم إضافي متكامل لأخبار المعنى، في عمل شعري متميز يقوم على وحدة عضوية (متشكّلة من الحرف واللون والرأس المقطوع والإيقاع الموسيقي الواحد) قادمة من المعنى وذاهبة إليه:
.. رجع الرأسُ إلى جسدي.
قال: "أنا المعنى". فبكيت.
********************************
نُشرت في صحيفة علامات1 تموز1998
و"الحروفي: 33 ناقداً يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية"- إعداد وتقديم د. مقداد رحيم - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت 2007 - ص 277 -280