بسم الله الرحمن الرحيم
في مرآة الحرف
شعر
أديب
كمال الدين
In the Mirror of the Letter
Adeeb Kamal Ad-Deen
منشورات ضفاف، بيروت، لبنان،
ط 1 ، 2016
الأعمال الشعرية الكاملة
المجلد الخامس ، منشورات ضفاف ،
بيروت، لبنان 2019
(الترقيم حسب
طبعة
المجلد الخامس )
بسم
الله الرحمن الرحيم
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي
وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ.
سورة يوسف. الآية 86
في مرآة الحرف
113
************
- أغنية إلى الإنسان
115
- نهر سحريّ
117
- قال الذئب: أنا هو البحر!
121
- أحلمُ أن تكون النُّقطة بحراً
131
- الآخَر
133
- لا ولا ولا
135
- ليل نهار
137
- تسع وصايا لكتابة القصيدة
140
- بعد أن ...
143
- تعريف
148
- إذا
150
- الغريق الأبديّ
158
- فجر أعمى
160
- طائر الحُرّيّة
162
-
حوار مع نجاة الصغيرة
165
-
حروف مُلوّنة كالشمس
167
- تمثال نجميّ
170
- مرآة حروفيّة
171
- بالطبع، لم يكن كابوساً!
173
- هوايات ما بعد الحرب
176
- جراحة أسطوريّة
179
- ما قاله الحرفُ للشاعر
181
- ثلاث صور للبحر
184
- المرأة ذات الشّعر الطويل
187
- ذاكرة سعيدة
189
- قطرات الدم
191
- جرعة زائدة من الألم
193
- خروج على النَّصّ
195
- الحرف يدمدم شيئاً
197
- تبادل أدوار
200
- القصيدة لم تنتهِ بعد
202
- أرجوك لا تفتح الباب
204
- قلب الطفل ويقين الطائر
206
- إيلان في الجنَّة
208
- تناص مع النُّون
209
- حرفُ الطاغية
210
- صُراخ
212
- صورة مَن؟
214
- اتصال هاتفيّ
216
- حروف وأبناء
218
- حين وضعتُ البحر في قلبي
219
- لون لا حرف له
220
- نهايات
221
- هُراء
223
- البحث عن نقطة الصفر
226
- تسلية
228
- حين غلبتْ نقطتي حرفي
229
- تحيّة
230
- تشبّث
233
- أين أنتَ أيّها الحرف؟
235
أغنية إلى الإنسان
1.
هذه أغنية أعددتُها لكَ،
أغنية بسيطة جدّاً
وقصيرة جدّاً.
أغنية تتحدّثُ
بشوقٍ كبيرٍ عن الحاءِ والباء،
وتُحاولُ
بإصرارٍ كبير
أن ترسمَ لها جَناحين
وعشّاً في آخر المطاف،
عشّاً يكفي لبيضةِ طائرٍ مَنفيّ
لا اسمَ له ولا عنوان.
2.
أفترضُ أنّكَ ستساعدني
على الاستماعِ لها
أو ترديدِ كلماتِها البسيطةِ مَعي.
ربّما ستضعُ لها ما يُشبهُ الإيقاع
إن كانَ قلبُكَ ينبضُ بشيء مِن اللطف
وليسَ مَخلوقاً مِن الخشبِ أو الحجر.
وربّما ستقومُ فترقصُ على إيقاعِها
إن كانَ قلبُكَ قد عَرَفَ الحرمان
واكتوى بنارِ الهجران.
3.
لكنْ لا ترقصْ رقصةَ القرَدَة
ولا رقصةَ الذئاب
فذلكَ يُفسدُ النّصَّ حتماً.
ارقصْ مثلي رقصةَ المُتصوّفة
أو رقصةَ الأيتامِ في الملجأ يومَ العيد
أو ارقصْ رقصةَ الغرقى
إن كنتَ بساقٍ واحدة.
أمّا إذا كنتَ تكرهُ
كلَّ شيء حتّى نَفْسك
فَلا ترقصْ على الإطلاق،
اكتفِ بوحشيّتِكَ المُستترة
ولا تحاولْ نَشْرَها على الحبال
حتّى لو استطعتَ أن ترقصَ
رقصةَ المحكومِ عليهِ بالإعدام!
نهر سحريّ
1.
كنتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً
كي لا أغرق.
في الحقيقة،
أنا غرقتُ فيه أكثر مِن مَرّة.
فانتَشَلَني حبّي السّحريّ لمنظرِ السّمك
وهو يلبطُ في ماءِ النّهرِ الشفّاف،
كما انتَشَلَتني بقايا مخلوقاتٍ آدميّة.
لابدَّ أن أعترفَ:
كانَ هناك بعض المخلوقاتِ الآدميّة
قربَ هذا النّهر السّحريّ
لكنَّ هذه المخلوقات قد تبخّرتْ
أو انتحرتْ أو احترقتْ
في الحروبِ التي حاصرت النّهر،
في الحرائقِ الهائلةِ التي أعقبتْ هذه الحروب،
في أعمالِ السلبِ والنهبِ المُذهلة
التي أعقبت الحرائق
وشاركَ فيها الجميعُ بسعادةٍ لا تُوصَف.
2.
كنتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً
فقد قيلَ إنَّ هذا النّهر يفيض.
لكنّني لم أره يفيض أبداً
بل رأيتُ أضواءَ الحانات
تعكسُ مراراتها على مائه الليليّ
ورأيتُ الكثيرَ مِمّن يشربُ الخَمْرةَ الرخيصة
يجلسُ على شاطئه كي يهذي أو يبكي
أو يغفو شبهَ ميّت.
كما رأيتُ الجسر
يتركُ مكانَه فوقَ النّهر
أكثر من مرّة
ليضيع.
هذه ليستْ نُكْتة أبداً
فالجسرُ خشبيّاً كان،
وكانَ يشعرُ بالحزنِ وبالملل
وبالرغبةِ العارمةِ في الانتحار
فيتركُ قدميه اللتين أكلهما الماء
ليسبحَ بعيداً بعيداً.
ولأنّه لا يعرفُ الغوص
لذا يُعادُ إلى موضعه بعدَ حينٍ
من الضحكِ الجُنونيّ.
3.
ورغمَ هذا الضحك الجُنونيّ،
بقيتُ أسيرُ على شاطئه حَذِراً
فقد كانَ النّهرُ يمرُّ قربَ المحكمة
وقربَ السّجن،
وقربَ بيتِ قائد الجيش،
ومدير الشّرطة،
ورئيس نقابة المُشعوذين واللصوصِ والمُهرّجين،
ورئيس جمعية الشّعراء الطبّالين والمُتكسّبين،
ورئيس نادي كمال الأجسامِ والأحلامِ والأوهام،
ورئيس نقابة أصحابِ الفنادقِ الرثّة
والسّينماتِ التي تفوحُ منها رائحةُ المراحيض
على الجمهورِ الضاحكِ السّعيد.
4.
الآن
بعدَ نصف قرنٍ مِن الوهم
لم أزلْ أتذكّر النّهر،
النّهر الذي وردَ اسمُه في كتبِ الخرائطِ
الوهميّة
والاتفاقيّاتِ الوهميّة
وقصصِ الملوكِ القتلى الواحد بعد الآخر.
أتذكّرُ جيّداً
أنّني كنتُ أمرُّ عليه صباحاً ومساء
لكنَّني لا أتذكّر أينَ كنتُ أقف
مُتأمّلاً هذا المشهد المُضحك حدّ البكاء
والمُبكي حدّ الضحك.
بعضهم يحاولُ عَبَثاً
أن يذكّرني بالمكانِ أو بالزمان
لكنَّني لا أستطيعُ بالطبعِ أن أثقَ به،
لا أستطيع أن أثقَ به على الإطلاق،
ذلك أنّني قد غرقتُ في ذلك النّهر،
غرقتُ منذ زمنٍ طويل،
غرقتُ وشبعتُ غرقاً
رغم أنّني كنتُ أسيرُ على شاطئه
بمنتهى الحَذَر،
ومنتهى الانتباه.
قال الذئب: أنا هو البحر!
1.
كانَ الذئبُ يمشي على شاطئ البحر
حينَ استغاثَ به الغريق.
ضحكَ الذئبُ ممّا يرى.
لكنَّ الغريق صرخ:
أنقذني من البحر!
ضحكَ الذئبُ ثانيةً وقال:
أنا هو البحر!
2.
أن تُطلقَ النّارَ على رأسِك
أهون مِن أن تكتبَ القصيدةَ ذاتها
ألفَ مَرّة
بحرفٍ واحد
ونقطةٍ واحدة.
3.
الحريقُ يتكرّر.
النّارُ تبزغُ هذي المرّة
من النافذةِ أو من الجدار.
لكنّها ليست النّار التي عرفتُها،
فالنّار لبستْ ثياباً تنكّريّة
لا يخرجُ منها اللهبُ أو الدخان
لكنَّ لسعتها، بالطبع،
أشدّ ضراوة ووحشيّة.
4.
ماتَ كاتبُ
الشيزوفرينيا
بعد أن بلغَ من العمرِ عِتيّا.
كانَ يتحدّثُ عن الحُبِّ ويمارسُ الكراهية،
كانَ يترجمُ للعُشّاقِ ويرقصُ مع الجلّادين،
كانَ يبكي أمامَ الله
ليرفع نخبَه عالياً للطاغية.
5.
في شبابي
حزمتُ حقائبي
لأسافرَ إلى بلدِ غوته وشيلر.
لكنَّ المعريّ ذكّرني بعماه وعماي،
وديك الجنّ قرأَ عليَّ سرّاً
مرثيتَه المُرعبة،
والسيّاب أربكني بجوعه وإفلاسه،
فهجاني الحُطيئة،
بعدَ أن نسيتُ أمرَ السّفرِ إلى الأبد،
هجاني كما يقتضي الحال.
6.
عن مرآتِكِ الكبيرة
كتبتُ الكثير
لأنّها علّمتني الكثير.
لكنني أحاول أن أنساها
وأنسى شظاياها المُتناثرةَ هنا وهناك:
في الفراشِ
وفوقَ الطاولة
وفي جوازِ السّفر
وفي كتابِ أعمالي الشّعريّةِ الكاملة.
7.
طاردتني كلابُ الدهرِ طويلاً في الصّحراء،
لكنَّ مشهد القمرِ بازغاً سَحَرني
فوقعتْ قصيدتي فريسةً للمُطاردةِ الوحشيّة
والتأمّل الفضّيّ.
8.
أن تكونَ من دونِ قدمين
ويُطلَبُ منكَ كلّ يوم
أن تمشي على حبلِ السيركِ الشاهق
وتحتكَ النّار والطبول والجمهور:
تلك هي القصيدة.
9.
لا تضعْ لقصائدكَ أرقاماً ولا عناوين
لأنّ حروف قصائدك
مُتشابهة حدّ اللعنة
مثلما قطرات دمِكَ مُتشابهة هي الأخرى
حدّ اللعنة.
10.
أتذكّرُكِ:
كنتِ هنا تمشين،
وأحياناً تكتبين كلماتِ الأغنية
وأحياناً تتعرّين
وأحياناً تحاولين الإصغاءَ إليّ
وأحياناً تنامين بجانبي كقطّةٍ مُتعَبة.
أتذكّرُكِ جيّداً
بأسمائكِ التي لا تنتهي
وبوجوهكِ التي لا حصر لها،
أتذكّركِ حدّ النّسيان.
11.
يحاولُ الشِّعْرُ أن ينقذني ممّا أنا فيه.
أشكرُهُ كثيراً
وأحاولُ أن أصافحه فأمدّ يدي
فأنتبه إلى أنَّ أصابعه
أصابع مُتشرّدٍ
ينامُ في الشّارعِ عارياً،
عارياً تماماً.
12.
الموتُ لا يشبهُ الذئبَ ولا الأفعى،
الموتُ يشبهُ نَفْسه فقط.
ذلك هو بيتُ القصيد.
13.
صور الموتِ التي يعرضُها التلفزيونُ كثيرة:
الموتى في كلِّ مكان،
في الشّوارعِ والمقابرِ والشققِ السكنيّة،
في وفي وفي...
حتّى بدأتُ أشكُّ بأنَّ هذه الصور
هي إعلان تجاريّ لشركةِ عزرائيل الكبرى.
14.
لم يبقَ منكِ شيء
سوى شظايا حلم.
أجمعُها فوقَ سريري كلّ صباح
بلطفٍ شديدٍ
لأنّها عبارة عن رمادٍ خالص.
15.
طوالَ حياتي لم أفعلْ شيئاً
سوى أنني تركتُ جسدي الجريح
ينزفُ وهو يغرقُ في الفرات،
يغرقُ أمامَ عيني
كطائرٍ ميّت.
16.
في زمننا المُعَولَم
توقّف الشَّاعرُ عن الحلم،
فتوقّفت القصيدة
عند إشارة المرور الحمراء طويلاً
حتّى قيلَ إنّها أخذتْ تتسوّلُ من العابرين.
17.
حينَ استلمتُ مجموعتي الجديدة
اكتشفتُ أنَّ الناشرَ قد وضعَ اسمي
كعنوان للقصيدة،
ووضعَ القصيدةَ كعنوان للحرف،
ووضعَ الحرفَ كعنوان للنقطة،
ووضعَ النُّقطةَ كعنوان لي.
18.
كيفَ لي إن أكفكفَ دموعَكِ
وأنا الأخرسُ الذي خُلِقَ من دونِ يدين
ولا قدمين؟
19.
كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الألم.
20.
كلُّ حرفٍ هو أبجديّةٌ من الشّمس.
21.
كلُّ حرفٍ
لا يتبسملُ بمحبّةِ الذي يقول
للشيء كنْ فيكون،
ليسَ بحرف.
هذا ما قاله الشَّاعرُ الذي أقاموا له
تمثالاً كبيراً من الحسدِ والكراهية.
22.
حينَ امتلأَ قلبي بالجمر
فاحتْ رائحةُ القصيدةِ بالشوق.
23.
حينَ أُلقِيتُ على بابكِ مَجنوناً
ضربني العابرون بالحجارة
حتّى سال منّي الدم
ثُمَّ نصبوا لي صليباً مِن الهذيان.
24.
أرادَ صديقي الناقدُ أن يكتبَ عن قصائدي
فاكتشفَ أنَّ الكتابةَ عنها
تشبهُ السيرَ على حبلِ السيركِ الشاهق
فوقَ النّارِ والطبولِ والجمهور.
فارتبكَ
وهو لم يزلْ على بابِ السيرك
وبيده بطاقة الدخول.
25.
كيف تستطيعُ أن تصفَ الغابة
دونَ أن تذكرَ فيها أسماءَ الشجرِ والزهور
ودونَ أن ترسمَ ريشَ الغرابِ والحمامة؟
كيف؟
26.
في الغربة
انتهتْ أحلامي كلّها،
فاضطررتُ إلى أن أرتّقَ أحلامي العتيقة
واحداً واحداً.
وكلّما رتّقتُ حلماً قبّلتُه
كما يقبّلُ العاشقُ معشوقتَه
ثُمَّ ألقيتُه بهدوءٍ في البحر.
27.
حينَ قرّرَ مُعدُّ الأنطولوجيا
أن يختارَ لي قصيدةً،
اختارَ لي قصيدةً قديمة،
قديمةً جدّاً.
لا أعرفُ لماذا اختارها:
ألِأنّها كانتْ موشومة بدمِ أنكيدو
ودموعِ كلكامش؟
28.
بعدَ خراب البصرة
وخراب بغداد
وخراب روما
وخراب سدني،
جلستُ بهدوءٍ أرتّبُ حياتي.
29.
قالتْ لي القارئةُ العاشقة:
قصائدُكَ ذات صورٍ لا تُنسى
وبحرُها غامضٌ ومُخيف،
لكنّها لا تصلح للحُبّ.
لأنّ قصائدَ الحُبّ
ينبغي أن تكونَ بسيطةً حدّ السذاجة
وعاريةً حدّ الهذيان.
30.
لكثرةِ ما أرى الغربانَ في أحلامي
قرّرتُ أن أصبغَ ليلي
باللونِ الأبيض!
أحلمُ أن تكون النُّقطة بحراً
1.
أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ بحراً
والحرفُ سفينة
لأبحرَ في البحرِ الذي لا رجعة فيه.
2.
أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ وطناً
والحرفُ سماء
لأعيشَ سعيداً
من دونِ غربان
تنعقُ برأسي أبدَ الدهر.
3.
أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ سلاماً
والحرفُ حمامة
لأستقبلَ الصباحَ بالورود
بدلاً من أخبارِ السّفنِ الغرقى في البحر.
4.
أحلمُ أن تكونَ النُّقطةُ دمعةً
والحرفُ عَيناً
لأبكي مثل يعقوب ليلَ نهار،
لعلَّ الله يكتبُ في قلبي
قصيدةَ يوسف
وقد عادَ بحمامةِ نوح.
الآخَر
1.
هل كانَ قلبي بيتاً
خلعت الريحُ بابَه
أم كانَ بيتاً
قفزَ اللصوصُ فوقَ حائطه
وهم يحملون السّكاكين
أم كانَ ملجأ أيتامٍ
التهمته النّارُ بسرعةِ البرق
أم كانَ مخزنَ حكاياتٍ خُرافيّة
تكتبُها كلّ يوم
أبجديّةُ الحروفِ المريرة؟
2.
لم أستطعْ، بالطبع،
أن أجيبَ على هذا السّؤال الذي يتسع
كلّ يوم
ويكبرُ في كلِّ ساعة.
كانَ السّؤالُ طويلاً طويلاً،
مَليئاً بالهذيانِ والدخانِ والشظايا
ونقاطِ التفتيشِ والارتباكِ والممنوع.
وكانَ الآخَرُ يطلبُ منّي
أن أقدّمَ الدليلَ تلو الدليل
على صحّةِ ما أقول
أنا الذي لم يكنْ لديَّ، أصلاً، ما أقول!
3.
كنتُ أحاولُ أن أقنعه
بأنني، مثله، بحاجةٍ إلى إجابةٍ مُقنِعَة.
لم يكنْ يصدّق، بالطبعِ، ما أقول.
ولذا كانَ يبتسمُ لي
ابتسامةً صفراء حيناً
أو يهزُّ لي يدَه استهزاء حيناً آخر.
وربّما حينَ أغيبُ عن ناظريه
يسارعُ ليكتبَ شتيمةً مُهذَّبة!
لا ولا ولا
1.
لا تقتربْ من النّار
فأنوارها خادعة كجسدِ المرأة.
ولا تذهبْ إلى مدنِ الجسورِ واللذّةِ والبواخر
فالجسورُ مُحدَّبة
واللذّةُ لغمٌ يطفو فوقَ الماء
والقبطانُ لا يكفُّ عن شُربِ الكحول
وشتمِ العابرين ليلَ نهار.
لا تلبسْ،
ولو على سبيلِ المزاح،
جناحَ الطائر
فالفجرُ قتيلٌ على عتبةِ الدار.
ولا تشاهدْ فلمَ الدموعِ والحرمانِ والمرايا
السُّود
فقد شاهدتَه ألفَ مَرّةٍ ومَرّة
ولم تفهمْ منه
أو مِن دموعه الثقالِ شيئاً.
2.
يا مَن أنفقَ العمرَ مُتأمّلاً
في الآفاق
وفي نَفْسه الضائعة،
لا تكلّم البحرَ بعدَ اليوم
فهو لا يحبُّ الحديثَ مع الغرباء،
رغمَ أنّه غريب هو الآخر.
ولا تثقْ بالأسطورة
فهي أكذوبة التاريخ،
ولا بالرواية
فهي مَهووسة بمَن لا أسماء لهم
وهم يتساقطون مِن حائطِ الذاكرة
أو مِن شُبّاكِ الفندق.
لا تثقْ باللوحة
فهي خَرْبَشة ألم
ولا بالتمثال
فهو عابد جَسَد.
وأخيراً
لا تمتدح القصيدة
فهي ستنتهي بعدَ سطرٍ مِن الآن،
دونَ مغزى أو معنى،
وهي تكرّرُ: لا ولا ولا!
ليل نهار
1.
أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه العين؟
لا
لأنّها تفيضُ بالدمعِ ليلَ نهار.
إذن، فهو الفرات
أو ذلك القارب الذي حملنا وسطَ الفرات
ووسطَ شمسِه اللامعة
وأسماكِه التي تراها العين
وتكادُ تُمْسكها الأصابع؟
2.
أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه الأصابع؟
لا
لأنّها لا تكفُّ عن تذكّرِ جسدِكِ البَضّ
ولا تكفُّ عن الدعاء ليلَ نهار
وأنتِ لا تعرفين الدعاء.
إذن فهو القَدَر
أو تلكَ الليلة التي وجدتُكِ فيها
تبيعين، بثمنٍ بَخْسٍ، أسرارَكِ للسحَرَة
وثيابَكِ للنار؟
3.
أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذه النّار؟
لا
لأنّ ناركِ ذات لهبٍ ودخان
وهذه النّار
نار تنكّريّة لا دخانَ فيها ولا لهب،
لكنّها تُهاجمني ليلَ نهار
بإبرةِ العقرب
وطعنةِ السّكّين
وسيفِ الضياع.
4.
أظنُّ أنّكِ مَن منحني هذا الضياع؟
نعم
أنتِ
ولذا صرتُ أكتبُ عبثاً
للنارِ وللسحَرَة،
للقَدَرِ ولشمسِه اللامعة،
للفراتِ ولأسماكِ الفرات
حاءَ الحرمان
وباءَ البُعد
ليلَ نهار.
تسع وصايا لكتابة القصيدة
1.
القصيدة الطويلة مُملّة.
لا تكتبْها
إلّا إذا أردتَ أن تكتبَ عن الرحلةِ كلّها:
رحلة كلكامش مثلاً.
والقصيدة القصيرة تشبهُ عودَ الثقاب
فقرّبْ سيجارتَكَ منها
قبلَ أن تُشعلَ عودَ الثقاب.
2.
القصائد السيّئة كالأصدقاء الحمقى.
حاولْ أن تلغيها مِن الذاكرة
قبلَ أن تُسطّرها على الورقة.
3.
إذا كتبتَ قصيدةً عن المطر
فاحذرْ أن تكتبها
ما لم تكنْ روحُكَ -
قبلَ جسدكَ -
قد تبلّلتْ بالمطر.
4.
لكلِّ قصيدةٍ شمسٌ.
(هل تعرفُ ذلك؟)
ولكلِّ قصيدةٍ منفى.
(هل تُصدّقُ ما أقول؟)
لذا دمدمْ قصيدةَ المنفى
وأنتَ في الوطن.
ودمدمْ قصيدةَ الوطن
وأنتَ في قطارِ الجنّةِ الذاهبِ إلى جَهنّم.
5.
وبمناسبةِ ذكْرِ جَهنّم
فاكتبْ ما استطعتَ عن جَهنّم الأرض
لأنّها اتسعت الآن
وكادتْ تلتصقُ بجَهنّم السّماء.
6.
إذا كنتَ تحبّ البحر
وتريد أن تكتبَ عنه،
فلا تأخذْ صورةً معه
وأنتَ ترتدي الملابسَ الرسميّة
كما يفعل المُغفّلون
بل اذهبْ إليه عارياً
تماماً كهابيل وقابيل.
7.
الشّعراءُ المُؤدلَجون مُضحكون
لأنّهم يكتبون طوالَ العمرِ قصيدةً واحدة،
قصيدة تستعينُ بكلِّ الكناياتِ والاستعارات
لتثبتَ أنَّ الطغاة،
رغمَ كلّ أنهار الدمِ التي فَجّروها،
كانوا مُجرّد حمامات سلام.
8.
إذا كنتَ شاعراً فكنْ عاشقاً
حتّى تكتمل عندكَ قصيدةُ الجنون.
9.
المرآةُ تشبهُ المرأة
لكنَّ المرأة لا تشبهُ المرآة
إلّا إذا قبّلتَها.
هكذا هي القصيدة.
بعد أن...
1.
بعدَ أن ماتَ غرابُ نوح
تركَ لي سِرّاً ريشَه الأسْوَد
وصراخَه المُخيفَ في كيسٍ أسْوَد.
وقال:
لا تعبثْ بالريش
فتسودّ أيامُك
ولا تسمع الصراخ
فتُصاب بالصمم.
لكنّني فتحتُ الكيس
ونثرتُ الريشَ في البحر
فاسودَّ البحر
ثُمَّ نثرتُ الصراخَ في الهواء،
فبكتْ حروفي طويلاً من الألم
ولم تزلْ.
2.
بعدَ أن مشيتُ ألفَ عامٍ على الشاطئ
وجدتُ ذاتَ فجرٍ عجيب
بقايا سفينة نوح.
فدخلتُها بعينين دامعتين
وقلبٍ يرفرفُ كحمامةِ نوح.
صلّيتُ فيها ألفَ عام
وبكيتُ ألفَ عام
ونمتُ على خشبِها العاري العتيق
ألفَ عام
وتأمّلتُ الشّمسَ والقمرَ فيها
ألفَ عام.
لكنّني،
وا أسفاه،
لم ألتقِ أحداً مِن الناجين.
3.
بعدَ أن غرقَ عباس بن فرناس
تركَ لي جناحيه الكبيرين
وأوصاني أن أكملَ المشوار.
لبستُهما،
وبسرعةِ البرقِ، سقطتُ
مثل عباس بن فرناس في البحر.
لكنَّ البحرَ كان بي رحيماً
إذ تركني جُثّةً طافية
على مائه أبد الدهر،
جُثّة سعيدة تنطقُ بأسرارِ الحروف
وتفكُّ مغاليقَ الكلام.
4.
بعدَ أن ماتَ هرمان هيسّه
تركَ لي مخطوطتَه الكبرى: سدهارتا.
فقرأتُها بجنونٍ ليلَ نهار،
وقرأتُها بجنونٍ بلُغاتٍ شتّى
حتّى أدركتُ أنَّ المرأةَ إناءٌ من ذهبٍ
وأنَّ الذهبَ إناءُ المرأة
وأنَّ اللذّةَ إناءٌ من هواء
وأنَّ الهواءَ إناءُ اللذّة.
5.
بعدَ أن رقصتُ طويلاً في شبابي
مع زوربا،
تعبتْ قدماي حدّ الإعياء.
فجلستُ طويلاً على رملِ الشاطئ،
وربّما نمتُ
فرأيتُ حُروباً شتّى
ومراكبَ تغرق
وجُثثاً تطفو
وعواصفَ تترى.
فلمّا أفقتُ
وجدتُ زوربا أكذوبةً جميلة
ورقصتَه وهمي الأعظم.
6.
بعدَ أن ماتَ الفرات
تركَ لي وصيّتَه على الشاطئ،
قالَ فيها:
اذهبْ إلى دجلة
وقلْ لها بما جرى،
فإن حدّثتكَ فهو المُراد.
وإن لم تحدّثكَ
فخذْ حروفَ اسمي الأربعة
واحرقْها واحترقْ بها:
في الفاءِ سترى فوضى لا حدّ لها،
وفي الراءِ سترى رُعباً بحجمِ الجبال،
وفي الألِفِ سترى شاعراً تائهاً،
وفي التاءِ سترى مركباً يغرق.
اركب المركبَ وتعال
فلا جدوى مِن كلِّ هذا المقال.
7.
بعدَ أن ماتَ جلالُ الدين الروميّ
تركَ لي سرّاً وصيّتَه الهائلة،
قال: أيّها الحُروفيّ،
صلِّ صلاةَ الحُبّ،
صلِّ صلاةَ الحاءِ والباء:
في الفجرِ نقطتين،
في الظهرِ نقطتين،
في المغربِ ثلاثَ نقاط.
وفي الليلِ قُمْ فارقصْ
حتّى مطلعِ الفجر
رقصةَ الطائرِ الذبيح.
تعريف
1.
حينَ سألتني حبيبتي السّاحرة
عن تعريفٍ للشِعْر،
تعريفٍ حُروفيّ بالطبع،
قلتُ لها:
الشِّعْرُ نون
لكنَّ نقطةَ النُّونِ ليستْ في المُنتصف،
للأسف!
2.
قالتْ: لم أفهم الجواب.
ألا تعرّف الشِّعْرَ لي
بلُغَتي: لُغَةِ السّحَرَة؟
قلتُ لها:
الشِّعْرُ عندَ السّحَرَة
مثلّثٌ غيرُ مُكتمل،
مثلّثٌ بضلعين فقط.
الضلع الثالث الأهمّ
ينبغي خلْقه من الهذيانِ والبُخورِ
والهلْوَسَة،
مِن بقايا عظمِ هُدهُدٍ
غابَ عن سُليمان
ولم يعدْ إليه حتّى الآن!
إذا
1.
إذا كانت النُّقطةُ هي الرصاصة،
فَمَن يكون الحرف:
أهو القنّاص
أم القلب الذي استقرّتْ فيه الرصاصة
إلى الأبد؟
2.
إذا كانت النُّقطةُ هي الأسطورة،
فَمَن يكون الحرف:
أهو كلكامش
أم أنكيدو
أم الأفعى التي سرقتْ عُشبةَ الخلود؟
3.
إذا كانت النُّقطةُ هي الموت،
فَمَن يكون الحرف:
أهو التابوت
أم القبر
أم الميّت الذي أُهيلَ عليه التراب؟
4.
إذا كانت النُّقطةُ هي الحرب:
فَمَن يكون الحرف:
أهو السّيف
أم القُنبلة
أم ذاك المُلثّم القادم مِن بعيد؟
5.
إذا كانت النُّقطةُ هي القاعة
فَمَن يكون الحرف:
أهو المُعلّم
أم المُهرّج
أم الطبّال؟
6.
إذا كانت النُّقطةُ هي الحقيقة
فَمَن يكون الحرف:
أهو حامل الحقيقة
أم ناشر الأكاذيب الذليل؟
7.
إذا كانت النُّقطةُ هي المَحبّة
فَمَن يكون الحرف:
أهو الكره
أم الحقد
أم السّمّ في العسل؟
8.
إذا كانت النُّقطةُ هي حلمي
فَمَن يكون الحرف:
أهو عَبَثي
أم حائط عَبَثي
أعني قصيدتي العارية؟
9.
إذا كانت النُّقطةُ هي طيبتي
فَمَن يكون الحرف:
أهو تردّدي
أم ارتباكي
أم سَذاجتي؟
10.
إذا كانت النُّقطةُ هي القلم السّرّيّ
فَمَن يكون الحرف:
أهو كتاب الموتى الذين يذهبون فلا يرجعون
أم كتاب السَّحَرة الملآن بالضحكِ
والتُرَّهات؟
11.
إذا كانت النُّقطةُ هي الفراغ
فَمَن يكون الحرف:
أهو ثقب الفراغ
أم فراغ الثقب؟
12.
إذا كانت النُّقطةُ هي الجريمة
فَمَن يكون الحرف:
أهو القاتل
أم الذهب
أم الدم؟
13.
إذا كانت النُّقطةُ هي الوردة
فَمَن يكون الحرف:
أهو العاشق الذي قبّلها بلطفٍ عميق
أم العابر الذي قَطَفها لاهياً؟
14.
إذا كانت النُّقطةُ هي ليلة العيد
فَمَن يكون الحرف:
أهو حذاء العيد
أم دراهم العيد
أم فجره السّعيد؟
15.
إذا كانت النُّقطةُ هي الملكة
فَمَن يكون الحرف:
أهو المَلِك
أم العرش
أم التاج والصولجان؟
16.
إذا كانت النُّقطةُ هي الزَّلزَلَة
فَمَن يكون الحرف:
أهو المُخلّص
أم المُشَعْوذ
أم الدجّال؟
17.
إذا كانت النُّقطةُ هي العُري
فَمَن يكون الحرف:
أهو التعرّي
أم الفضيحة
أم مقصّ الرقيب؟
18.
إذا كانت النُّقطةُ هي الأرق
فَمَن يكون الحرف:
أهو الهذيان
أم التعب
أم الفجر الذي ضيّعَ العنوان؟
19.
إذا كانت النُّقطةُ هي المرأة
فَمَن يكون الحرف:
أهو الجسد العاري
أم تفّاحاته الأربع
أم المُشاهد المَذهول؟
20.
إذا كانت النُّقطةُ هي أنتِ
فَمَن يكون الحرف:
أهو قلبي الغاطس في دمه
أم رأسي المحمول على الرماح؟
21.
إذا كانت النُّقطةُ هي السّؤال
فَمَن يكون الحرف:
أهو الذي قال:
بلى ولكنْ ليطمئنَّ قلبي،
أم الذي قال:
إن هيَ إلّا فِتنَتُك؟
22.
إذا كانت النُّقطةُ هي زليخة
فَمَن يكون الحرف:
أهو يوسف
أم قميص يوسف
أم البرهان الذي رآه يوسف؟
23.
إذا كانت النُّقطةُ هي النخلة
فَمَن يكون الحرف:
أهو السّلام
أم حلم السّلام
أم المُتكلّم في المهدِ صبيّاً؟
24.
إذا كانت النُّقطةُ هي البحر
فَمَن يكون الحرف:
أهو نوح
أم سفينة نوح
أم غراب نوح وحمامته؟
25.
إذا كانت النُّقطةُ هي التُفّاحة
فَمَن يكون الحرف:
أهو آدم
أم حوّاء
أم الذي وسوسَ لهما
آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟
26.
إذا كانت النُّقطةُ هي اللعنة
فَمَن يكون الحرف:
أهو الوطن الذي يعدُّ عليكَ أنفاسَك
أم المنفى الذي يعدُّها
ويسجّلُها أوّلاً بأوّل؟
27.
إذا كانت النُّقطةُ هي النُّقطة
فَمَن يكون الحرف:
أهو الباء
أم الجيم
أم النُّون
أم الجنون؟
الغريق الأبديّ
1.
أحياناً أذهبُ إلى البحر
لأكتبَ قصيدتي عَن البحر.
وأحياناً يذهبُ البحرُ إلى نَفْسه
ليكتبَ قصيدتي.
2.
لا البحر يفهمُ حُروفي
ولا أنا أفهمُ أمواجَه.
هو يتظاهرُ بأنّه يفهم كلَّ شيء
وأنا أتظاهرُ بالأكذوبةِ ذاتها.
في آخرِ مَرّة
اقترحتُ عليه
أن يأتي إليَّ ليكتبني.
فَفَعل!
وكانت النتيجةُ كارثةً كُبرى
بكلِّ المقاييس،
كارثة لا يفهمها أحدٌ،
حتّى أنا:
أنا الغريقُ الأبديّ.
فجر أعمى
1.
طوالَ حياتي
كنتُ أنتظرُ الفجرَ لأهرب.
لكنّني انتظرتُ الهروبَ طويلاً
لأنَّ الفجرَ كانَ يقضي معي
حُكماً بالسجنِ المؤبّد.
2.
كنّا نعيشُ في زنزانةٍ واحدة.
هو يرتدي الملابسَ البِيض
وأنا أتجوّلُ في الزنزانة
عارياً تماماً.
3.
كنتُ أراه
وأتلمّسُ ثيابَه البِيض
مُعجباً بنعومةِ ثيابه البِيض.
في حين كانَ الفجرُ لا يراني
لأنّه، باختصارٍ شديد،
كانَ أعمى.
4.
أعمى
ومحكومٌ عليهِ بالسجنِ المُؤبّد.
يا لهُ مِن فجرٍ رائعٍ وعظيم!
طائر الحُرّيّة
1.
الحُرّيّةُ طائر
ينبغي تعليمه الطيران.
2.
طائرُ الحُرّيّةِ ليسَ كباقي الطيور.
فهو، للأسفِ، كثير النّسيان.
3.
في القفصِ، مثلاً، ينسى نَفْسه.
أي ينسى كيفَ يطير
فيقعُ مَغشيّاً عليه.
4.
قد يبكي فهو رقيقٌ،
وجميلٌ،
وبريء.
5.
قد تأخذُه الأحلامُ إلى دائرةِ الأوهام.
قد ينزفُ طفولتَه المُرّة
قطرةً
قطرة.
6.
قد يقتلُه العطش.
قد يقتلُه الليل.
قد توجعُه القُضبان.
7.
لا يعرفُ كيفَ يستوعبُ الكارثة.
فهو لم يدخلْ مدرسةَ محو الأميّة الخاصّة
بالكوارثِ والزلازلِ والفيضانِ أبداً.
8.
آهٍ عليكَ أيّها الرقيق كنسمةِ صَيف،
الجميل كفجرِ العيد،
العذب كقُبْلة.
9.
ماذا تنفعُ الآه
يا طائرَ الحُرّيّة؟
لا بدّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان
لتعرفَ معنى حاء الحلم
وحاء الحُبّ
وحاء الحنين
وحاء الحقد
وحاء الحرمان.
لا بدَّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان
لتعرفَ معنى اسمك.
لا بدَّ أن تأخذَ حظَّكَ مِن القُضبان
لتعرفَ معنى الله.
حوار مع نجاة الصغيرة
لا تغنّي يا نجاة
فعيونُ القلبِ سَهرانةٌ
منذ أن خلقَ اللهُ إنسانَه مِن الطين.
ولا تبثّي بقلبي الحنين،
فقلبي مِن الحجرِ قد صِيغ
لكنَّ هذا الحجر أنَّ
وأنَّ
وأنَّ
حتّى تفجرَّ نهراً مِن الماء
أي نهراً مِن الشِّعْر،
ونهراً مِن الشِّعْر
أي نهراً مِن الشَّوق
ونهراً مِن الشَّوق
أي نهراً مِن الحاءِ والباء.
إذنْ، لا تغنّي يا نجاة
ولا تبثّي بقلبي الأنين،
فعيونُ القلبِ سَهرانةٌ
منذ أن خلقَ اللهُ الحاءَ في
مَطلعِ
الفجر
ثُمَّ سارعَ فخلقَ الباء
عندَ شروقِ الصباح.
حروف مُلوّنة كالشمس
1. حينَ بدأتَ حياتَكَ بصرخة
******************
في الليلِ ثَمَّة دمعة.
وفي الفجرِ
ثَمَّة نخيل يرقصُ في الريح
وكلاب تعوي.
وفي الظهرِ
ثَمَّة شُبّاك وأطفال يلعبونَ الكرة.
2. لماذا لم تخرجْ لتلعبَ معهم؟
********************
في صباكَ حلمتَ أن تكونَ طيّاراً.
لكنَّ القَدَرَ فجأةً
ودونَ سابق إنذار
استبدلَ كلمةَ الطيّارِ بكلمةِ الطائر
ثُمَّ استبدلَ الشبّاكَ الخلفيَّ بالمشهدِ
الحقيقيّ
ثُمَّ استبدلَ المرآةَ العاريةَ بالمرأةِ
العارية.
3.
هكذا بدأت القنابل
*************
هكذا بدأت القنابلُ
تَسَّاقَطُ على رأسِك.
يا لها من حياة!
القنابلُ أعادت المشهدَ مُجَدّداً
فالحربُ تتناسلُ بلذّةٍ واشتهاء.
والطاغيةُ يبتسمُ بأسنان بِيض،
يبتسمُ كالكلبِ في التلفزيون.
4. هذي المرّة
*********
هذي المرّة
غيّرت الحربُ وجهتَها
مِن الشّرقِ إلى الجنوب
ثُمَّ مِن الجنوبِ إلى الجنون.
وأنتَ استعنتَ بالحرفِ على الحروب
وبالنُّقطةِ على مشاهدِ الهذيانِ
والهَلْوَسَة.
لكنَّ مشهدَ الزجاجِ المتناثر كلّ يومٍ
من الشبّاك
أحرقَ أصابعكَ جميعاً
وملأَ رأسَكَ بالشظايا.
فحاولتَ الطيرانَ من جديد
وأنتَ تفتحُ البابَ الخلفيَّ للمهزلة.
5. أنتَ الآن
**********
أنتَ الآنَ طائرٌ حقيقيّ
تكتبُ القصائدَ كلّ ليلة
لجمهورٍ امتلأَ رأسُهُ بالشظايا
فَيُصفّقُ لها
وربّما يرقص معها.
ما مِن هدايا نلتَها
سوى قطراتٍ من دمٍ تنزفُ
مِن عينيكَ كلّ ليلة
فتكتب بها قصيدتَكَ عندَ الفجر
بقلبٍ سعيدٍ
وحروفٍ مُلوّنةٍ كالشمس.
تمثال نجميّ
الحرف الذي اخترتُه نجماً مُضيئاً لكِ
ولصقتُه بالسّماء
سقطتْ نقطتُه أمامَ عيني
وتشظّتْ مئات المرّات.
فكانَ عليَّ أن أجمعَ هذه الشظايا
كلّ يومٍ بصبرٍ عجيب
لأصنعَ منها تمثالاً لكِ،
تمثالاً أحبَّهُ الأطفال
دونَ أن يعرفوا السبب.
واتَّخَذه المَنفيّون
دَليلاً لأحلامِ السّنين
وبقايا الحنين.
وأُعجِبَ به المُطَلسِمون
لغموضِه الباذخِ ووضوحِه الغريب.
أمّا العُشّاق
فقد أحبَّوهُ حُبّاً جَمّاً
لأنّهم كانوا يعرفون
أسرارَ لغةِ النجوم.
مرآة حُروفيّة
1.
أن تعيشَ مِن دونِ نقطة
يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ حرف.
وأن تعيشَ مِن دونِ حرف
يعني أنّكَ تعيش مِن دونِ مرآة.
2.
يمكنكَ، ببساطةٍ، أن تصنعَ المرآة.
خذْ شَظيّةً كبيرة
مِن زجاجِ نافذتِكَ المُحطَّمة
واغسلْها جيّداً مِن ذكرياتِكَ المريرة.
اغسلْها بالماءِ أو بالدموع.
وضعْ على وجهِها الثاني
قطراتٍ مِن دمِك.
دعها تجفّ تحتَ ضوءِ الشّمس.
وانظر الآن: ماذا ترى؟
قلْ لي بهدوءٍ شديدٍ: ماذا ترى؟
أرجوك لا تصرخْ
لا تستغِثْ
لا تذرف الدموع
لا تُدمدمْ
لا تَسخرْ
لا تضحكْ ولا حتّى تبتسمْ.
فقط، قلْ لي : ماذا ترى؟
وسأقسمُ لك
أنّني سأحتفظُ بسرِّكَ إلى أبدِ الآبدين.
بالطبع، لم يكن كابوساً!
1.
حينَ فتحتُ النافذة
ونظرتُ إلى الأعلى
وجدتُ السّماءَ في مكانِها.
حمدتُ الله
ورجعتُ إلى النوم.
بالطبعِ، لم يكنْ كابوساً!
2.
المرأةُ التي كانتْ ما بين الأشجار
لعبتْ قليلاً وتعرّتْ كثيراً
ثُمَّ تعرّتْ قليلاً ولعبتْ كثيراً.
كنتُ مُشاهداً مُرتبكاً كالعادة،
كنتُ مُشاهداً ينتظرهُ القتلُ السّرّيّ
أو الموتُ المَجانيّ
أو الزَّلزَلَةُ بمعنى الواقعة
إن شاركَ في اللعبة،
اللعبة التي أُعدّتْ له خصّيصاً
بالطبع.
3.
كيفَ السبيل إليكِ يا نورَ عيني؟
كانَ المطربُ الحزينُ يبكي
بدموعٍ ثقال
قريباً منّي،
مِن نبضةِ قلبي،
وعلى مسافةِ ألفِ عامٍ مِن العبثِ الأسْوَد.
4.
كثرت القصائدُ التي كتبتُها،
كثرتْ وتكاثرتْ
فأحاطتْ بي مِن كلِّ جانب
وكادتْ تسدّ عليَّ الطريق.
5.
جميلٌ أن يكتبَ الشَّاعرُ لنفْسه فقط،
أعني لحرفه فقط،
أعني لنقطته فقط.
جميلٌ أن يكتبَ الشَّاعرُ فقط.
6.
كثيرٌ من الشّعراءِ يجيدُ مهنةَ التسوّل:
بعضُهم يتسوّلُ الدولارات
أو النِّساء
أو الشهرة
أو المجد
أو الهذيان
أو النوم.
أنا، بالطبعِ، من النوعِ الأخير.
7.
كيفَ أنهي قصيدةً
بدأتُها بسؤالٍ عن مكانِ السّماء؟
هذا بالطبعِ مُجرّد سؤال.
ولم يكنْ كابوساً
أبداً!
هوايات ما بعد الحرب
1.
البارحة عُدنا مِن الحرب،
الحرب التي أعلنَها طاغيتنا المهووس
بالقصورِ والخيولِ والسّيوف،
طاغيتنا السّعيدُ العنيد.
عُدنا أكثر سعادةً مِن طاغيتنا:
فهوَ قد انتصرَ في الحربِ سَهواً
وركبَ الحصانَ الأبيضَ سَهواً
ونحن عُدنا نضحكُ بجيوبٍ خاوية
وأصابع مُرتجفة
ووجوهٍ كالحة
وأيامٍ ترقصُ كالجُثث.
2.
في الحربِ التي أشعلها
طاغيتنا السّعيدُ العنيد،
كنّا مُبتهجين حدّ اللعنة
ومسرورين حدّ القَرَف
وفرحين حدّ الجُنون
نرقصُ، كالأطفالِ تحتَ المطر،
تحتَ قنابلِ المدفعيةِ المُدهشة
وصواريخِ الطائراتِ التي كانتْ
تسَّاقَطُ علينا ليلَ نهار
كقطعِ الحلوى.
3.
ولكي نبدّدَ هذا الكمَّ الأسطوريَّ مِن
السعادة
فقد تركنا أيدينا وأرجلنا
تجلسُ في الخطوطِ الخلفيّةِ للجبهة
لتحلَّ الفوازيرَ وتطلقَ النكات
وتسمعَ أغنياتِ الغرام
فيما كانتْ رؤوسنا
تراقبُ بهلعٍ نافورةَ الدم.
وعندما لا تستطيعُ أن تسيطرَ على انفعالاتِها
كانتْ رؤوسنا
تتدحرجُ على الخطوطِ الأماميّة
كالكُراتِ الصغيرة.
4.
ولذا، حينَ انتهت الحرب،
ظهرتْ لدينا هواياتٌ جديدة
مثل هواية جمع الرؤوس التي نسيها
أصحابُها
لسببٍ أو لآخر
أو هواية جمع سلاسل أرقام الجنود القتلى.
وصارَ بعضُنا مُزوّراً بارعاً
لجميعِ وثائق الحربِ والدمِ والندم.
مثلما صارَ بعضُنا
يتحدّثُ عن الوطنِ بعشقٍ جُنونيّ
ليلَ نهار
دونَ أن يستطيع
تذكّرَ اسم الوطن!
جراحة أسطوريّة
1.
كانَ لي قلبان.
ماتَ أحدهما
لأنَّ كلبَ الدهرِ قد عَضّه مُبكّراً
أو لأنّه سقطَ مِن درجِ الطفولةِ البريء
أو لأنَّ قطارَ الحرمانِ سحقهُ دونَ رحمة.
والثاني كانَ مُتورّماً
بالحزنِ الأسْوَد
والقلقِ الأزرق
والعبثِ الأصفر.
2.
في صالةِ العمليات
نجحَ الأطبّاءُ في إزالةِ الأورامِ وهم يضحكون
مِن غرابةِ الألوان:
أسْوَد، أزرق، أصفر.
وحينَ انتهوا مِن ضحكهم الأبيض،
فرحتُ
لأنني للمرّةِ الأولى
صرتُ أضعُ يدي على صدري،
صرتُ أضعُ يدي
على موضعِ القلبِ في صدري
دونَ أن أبكي.
ما قاله الحرفُ للشاعر
قالَ الحرفُ لشاعرهِ:
أعرفُ أنّكَ خلقتَ النُّقطة
كي تنقذني مِن سَأَمي، وحشةِ ساعاتي
ومِن موتي اليوميّ.
وأعرفُ أنّكَ خلقتَ النُّقطة
مِن ضلعي:
مِن طينِ الحُبّ
وعَسَلِ القُبلَة
ووميضِ العَين
ودمعِ الغيمة
ودِفءِ الشّمس
وعُري المرآة
وريشِ الأحلام.
لكنَّ النُّقطة تُقْلِقُني دَوْماً،
ترقصُ لي، تُفرحني حيناً،
لكنْ ما أن تصعد أعلى حلمي
أو تهبط أسفل فجري
حتّى يتغيّر معناي.
وإذ تصبح، بقدرةِ قادر،
أكثرَ مِن نقطة
أصبح حرفاً مُختلفاً جدّاً.
وحينَ تخفي صورتَها السّحريّةَ في الأثناء
أصبحُ غريباً من دونِ طريق
ومُهرّجاً من دونِ قِناع
وطفلاً ضَيّعَ حقيبتَه المدرسيّة.
قالَ الشَّاعر:
أعرفُ ذلكَ يا حرفي، أعرف.
أضافَ الحرف:
النُّقطةُ تُربكني
وتُهَلْوِسني وتُدمدمني.
فإذا تركتْني ضعتُ
كما يضيعُ الخاتمُ في البحر.
وإذا حَضَرَتْ أصبحتُ المسجُون
يجرُّ سلاسلَه وسطَ صُراخِ الحُرّاس
وضحكِ النّاس.
أجابَ الشَّاعرُ وهو يغالبُ دمعتَه:
قَدَركَ النُّقطةُ يا حرفي.
ارسمْها غُصنَ زيتونٍ
فإذا النُّقطةُ أضحتْ
حَمامتكَ البيضاء
أو ارسمْها جمرةَ نار
فإذا هي غُرابكَ ليلَ نهار.
ثلاث صور للبحر
1.
على صفحةِ البحرِ الهادئةِ حدّ الموت
رسمَ القمرُ صورتَه البيضاء
كاملةَ العُري.
ذهلتُ وأنا أقفُ على الشاطئ
إذ رأيتُ حرفي مَرسوماً على صورةِ القمر
بكاملِ البهجةِ والعُنفوان.
فسارعتُ إلى دخولِ البحر
لأقبّلَ حرفي المُقمر،
لكنني،
وا أسفاه،
غرقتُ في الخطوةِ الأولى.
2.
في اليومِ الثاني،
ذهبتُ إلى البحر
فرأيتُ الشّمسَ بكاملِ أنوثتِها
وهي تسكبُ لونَ حرفي الأحمر
على زرقةِ البحر.
لوّحتُ للشمسِ بيديّ
ثُمَّ صرختُ مُهَلِّلاً بها
ثُمَّ بدأتُ أرقصُ رقصتي الصّوفيّة.
ضحكَ النّاسُ وهم يرتدون المايوهات
مِن تلويحتي وصرختي ورقصتي.
واقتربتْ منّي إحداهنّ،
قالتْ: لمَن تُلوّحُ وتصرخُ وترقص؟
قلتُ لها: للبحرِ، أعني للشمس.
ضحكتْ وقالت:
الشّمسُ لا تفهمُ هذا
بل تفهمُ هذا:
وأخذتْ تنزعُ مايوه السّباحة!
فانحنيتُ للشمسِ
وقد امتزجَ دمُها بالبحرِ تماماً،
انحنيتُ بتحيّةِ الوداعِ ثلاثاً
ثُمَّ التفتُ لأجدَ المرأة
قد تعرّتْ تماماً.
فالتفتُ مرّةً أخرى
وأنا أبحثُ بعينين دامعتين عن الطريق.
هل كانَ طريقُ النجاةِ أم كانَ طريقُ الغريق؟
3.
في اليومِ الثالث،
ذهبتُ إلى البحر.
لم أجد القمر،
لم أجد الشّمس،
ولم أجد المرأة.
بل وجدتُ البحرَ كما هو
دونَ زيادةٍ أو نقصان!
هل كانَ أسْوَد؟
نعم.
هل كانَ أحمر؟
نعم.
هل كانَ أزرق؟
نعم، نعم، نعم.
ثُمَّ التفتُ فوجدتُ البحرَ قد أحاطَ بي
وهو يحاولُ أن ينتزعَ حرفي مِن يديّ،
أعني قصيدتي مِن يديّ
وأنا أجلسُ وحيداً فوقَ سريري الضيّق،
في غرفتي الضيّقة،
أجلسُ مَذهولاً كإلهٍ غريق.
المرأة ذات الشّعر الطويل
1.
اختفى الحرفُ في الرمال
وربّما في البحر
وربّما في اللامكان.
لكنّهُ تركَ لي نقطةً غريبة،
نقطة تنظرُ إليَّ بعينين مليئتين بالألم.
2.
بعدَ أن أصبحَ مُعلّمي فيلسوفاً للأدباء
وأديباً للفلاسفة
صارَ يطلبُ منّي أن أهيّئ الجواب
قبلَ السّؤال.
ولمّا سألتُه عن السببِ، قال:
ما مِن جوابٍ عندي لأيّ سؤال!
3.
المرأةُ ذات المرآة
طارتْ فوقَ الغيمات.
والمرأةُ ذات السّرير
سقطتْ في المُستنقع.
والمرأةُ ذات النُّون
تاهتْ في الممرّاتِ الطويلة.
والمرأةُ ذات النّار
ضاعتْ في جمرِ الهذيان.
أمّا المرأةُ ذات الشّعرِ الطويل
فقد حملتْني بشعرِها الطويل
حتّى باب الحرف
ثُمَّ ألقتني في بئرِ النّسيان.
ذاكرة سعيدة
1.
بعد سبعين عاماً
مِن تسلّقِ جبلِ النفي والمنفى
والوعدِ والوعيد،
مِن تسلّقِ جبلِ الحرمانِ والدخان،
مِن تسلّقِ جبلِ العبثِ الأكبر،
تتدحرجُ جمجمةُ الألِف
أي همزته اليتيمة،
تتدحرجُ على شكلِ كُرةِ الثلج.
وكلّما تدحرجتْ كبرتْ
وامتلأتْ قصائدَ وعذابات،
وامتلأتْ دموعاً مُتحجّرةً بالطبع.
حتّى إذا وصلتْ إلى البحر
استسلمتْ إليه بشجاعةٍ هائلة
واستقرّتْ في قلبه العظيم.
2.
هل تراها؟
إنّها هناكَ وسطَ البحر.
إنّها هناكَ وسطَ الضياعِ والعَدَم.
انظرْ: تلكَ هي جُمجمتي،
تلكَ هي ذاكرتي السّعيدة!
قطرات الدم
1.
جالساً كنتُ عندَ الشاطئ وقتَ الفجر
حينَ مرَّ أمامي
ثلاثةٌ مِن حروفي الغرقى.
قالَ الأوّل: مَرحباً أيّها الحروفيّ.
وقالَ الثاني: سلاماً أيّها الغريب.
وابتسمَ الثالثُ لي
وأشارَ بأصابع مُرتبكة
بتحيّةٍ مُرتبكة.
فيما كانتْ قطراتُ الدم
تَسَّاقَطُ مِن قدميه المُتعبتين الحافيتين.
2.
في الظهرِ كتبتُ قصيدةَ: الحروفيّ.
وفي العصرِ أتممتُ كتابَ: الغريب.
وعند الغروب
جمعتُ قطراتِ الدم
قطرةً قطرة
ورسمتُ بهنَّ دائرةً
جلستُ في وسطِها
صامتاً كالحجر.
جرعة زائدة من الألم
1.
ربعُ أغنية،
نصفُ رقصة،
ثلاثةُ أرباع جسد؛
ذلكَ هو سرّي الذي أضاعَ الطريقَ إلى الأبد.
2.
ربعُ امرأةٍ أو طفل،
نصفُ رجل،
ثلاثةُ أرباع قارب؛
تلكَ أسرةٌ سعيدة
غرقتْ توّاً في بحرِ الظلمات.
3.
ربعُ فرات،
نصفُ إله،
ثلاثةُ أرباع أسطورة؛
تلكَ بابل التي بلبلت التاريخ
وهي تبحثُ عن أبنائها مُثيري القلاقل
والفِتَن.
4.
ربعُ عاشقة،
نصفُ مجنون،
ثلاثةُ أرباع سرير؛
تلكَ قصّة حُبّ كاملة
يتداولها زوّارُ مواقعِ الإنترنيتِ بالملايين
على أنّها قصّة آدم وحوّاء.
5.
ربعُ حرف،
نصفُ نقطة،
ثلاثةُ أرباع صرخة؛
تلكَ قصيدةٌ حروفيّة
انتحرَ شاعرُها البارحة
بعد أن تناولَ جُرْعَةً زائدةً مِن الألم.
خروج على النَّصّ
1.
كانوا يحذرونني في كلِّ يوم،
بل في كلِّ ساعة:
لا تخرجْ على النَّصّ!
قلتُ: وأينَ هو النَّصّ حتّى أخرج عليه؟
لم يكنْ هناكَ نَصٌّ على الإطلاق!
وكانتْ تحذيراتهم مُجرّد هَلْوَسَات،
هَلْوَسَات مِن العِيَارِ الثقيل!
2.
قلتُ لنفْسي :
لِمَ لا أكتبُ نَصّاً وأخرجُ عليه؟
3.
كانَ الحرفُ نَصّي الوحيد
وقد خرجتُ عليه فقلتُ: النُّقطة.
ثُمَّ خرجتُ على النُّقطةِ فقلتُ: الحاء
ثُمَّ خرجتُ على الحاءِ فقلتُ: الباء
ثُمَّ أحرقتُ الحاءَ والباء
ونثرتُ رمادهما في دمي.
4.
هذا هو خروجي على النَّصّ،
خروجي العَتِيد.
خروجي الذي أمارسُه في كلِّ يومٍ،
بل في كلِّ ساعة،
كلّما شعرتُ أنَّ السّكّينَ صارتْ
أقرب إلى حبلِ الوريد.
الحرفُ يدمدمُ شيئاً
1.
قالَ العاشقُ السكران:
أنا مَصْدومٌ، مَخْذولٌ حدّ اللعنة
وأريدُ أن أنتحر الآن.
هل سيكونُ الموتُ غَرَقاً
موتاً سهلاً وسريعاً؟
فأجابَ النّهر:
ادخلْ رأسَكَ في مَوجي
كي تصحو مِن خمرتِكَ السّوداء.
الموتُ سرٌّ أعظم.
ولأنّكَ في مُقتبلِ العمرِ
فلا طاقةَ لكَ
بتحمّلِ سرِّ الموت الآن.
2.
قالت الشَّاعرةُ الشّابّةُ للشاعرِ الكهل:
ستموتُ قريباً
وسأسرقُ قصائدَكَ ورموزَكَ وحروفَك
وسأسرقُ ثيابَكَ أيضاً.
قالَ الشَّاعرُ الكهل:
حروفي لا تُسْرَق.
فالقاصي والداني يعرفُها بِاسمي.
وثيابي ثيابُ عابرِ سبيل
حيكَتْ من صوفِ الحرمان
لا مِن ذهبِ الدنيا أو ذهبِ السلطان.
3.
قال الجسدُ للروح:
سأقتصُّ منكِ،
سأعذّبكِ بنارِ الشهوات
وأنينِ الحسرات.
وستنهارين.
فاللذّةُ أكبرُ في زمنِ العُري الأكبر
والعبثِ الأكبر.
ضحكت الروح
وقالتْ للجسدِ المُتفاخرِ كالطاووس:
أنا أقوى منكَ
فأنتَ تهرمُ في كلِّ يوم
وأنا أتجدّدُ أبداً كالضوء.
4.
قالت النُّقطةُ للحرف:
تعبتُ من هذي الرحلة حدّ الإعياء.
كنتُ أريدُ الموتَ لأنجو
لكنّي لم أنل الموتَ كما خطّطتُ لنفْسي.
وكنتُ أريدُ المجدَ سريعاً
فأنكرني شِعْري عندَ صياح الديك.
وكنتُ أريدُ أن أقهركِ أيّتها الروح
لكنَّ ملاككِ كانَ صغيراً وضئيلاً وقويّاً
أقوى مِن شيطاني.
لم يجب الحرفُ كما فعلَ النّهر
أو الشَّاعرُ الكهل
أو الروح
بل دمدمَ شيئاً في سرّه،
شيئاً يشبه: الكلُّ فناء
أو الكلُّ هباء!
تبادل أدوار
1.
وقت الفجر
تطلُّ غرفتي على البحر،
تطلُّ على شمسٍ إلهيّةٍ وأمواجٍ زرق.
لكنْ حينَ تقولُ الشّمسُ وداعاً
يتبدّلُ الحالُ تماماً،
إذ يهبطُ البحرُ إلى غرفتي
ويدفعني بهدوء غريب
لأقفَ في مكانِه البعيد،
ويبدأ بالضحكِ منّي.
أحاولُ أن أضحكَ مثله فلا أستطيع.
وبسرعةِ البرق
تتحوّلُ قهقهاتي المُزيَّفة
إلى دموعٍ سُود.
2.
تحوّل العشُّ إلى بيضة
وتحوّلت البيضةُ إلى جناحين
وتحوّل الجناحان إلى طائر
وتحوّل الطائرُ إلى نقطة
وتحوّلت النُّقطةُ إلى حرف
وتحوّل الحرفُ إلى قصيدة.
والقصيدةُ كتبتني في دفترِها السّرّيّ
بيضةً للمحبّة
وجناحين للغربة
وطائراً للحلم
ونقطةً للألم
وحرفاً للعَدَمِ السّعيد.
3.
الآنَ وقد تمَّ تبادل الأدوارِ بنجاحٍ ساحق
ينبغي أن أقولَ شكراً لكلِّ شيء،
وبخاصّةٍ للبحرِ الذي يضحكُ منيّ
كلّ ليلة
وللقصيدةِ السّعيدةِ بدموعِها السُّود.
القصيدة لم تنتهِ بعد
1.
حينَ زلزلت الأرضُ زلزالَها
وابيضَّ قلبي مِن الرعب
وتناثرتْ قطراتُ دمِه
على بوّابةِ الموتِ الحديديّة،
سارعتُ مَذهولاً
لأكتبَ بهذه القطرات
قصيدتي الحُروفيّة.
2.
في بيتِ السَّاحر
كانتْ عظامُ الموتى تصرخُ مِن الجوع.
فيما كانَ العظمُ الكبيرُ يقرأُ
قصيدةَ الكراهية.
هل كانَ عظم جلّادٍ
أم شاعر زنديق؟
3.
كانَ حلمُ البارحةِ مُثيراً جدّاً:
بدأَ بمشهدِ الموتى وهم يقفزون
مِن نافذةِ القطار
وانتهى بمشهدِ اللصوص
وهم يهشّمون تمثالَ كلكامش الكبير.
3.
القصيدةُ لم تنتهِ بعد:
فالعظمُ الكبيرُ لم يزلْ
يقرأ قصيدةَ الكراهية.
والموتى أعادوا فرحين
مشهدَ القفزِ مِن النافذة
أكثرَ مِن مَرّة.
واللصوصُ انتقلوا
ليهشّموا تمثالَ أنكيدو.
فيما ملأتْ قطراتُ دمي
بنجاحٍ منقطعِ النظير
ورقةَ قصيدتي الحُروفيّة.
أرجوك لا تفتح الباب
1.
الوردةُ الحمراءُ ما بين ثديي الفتاة العارية.
السّيفُ العتيقُ مُعلّقٌ بسماءِ الغرفة.
الثلّاجةُ الكبيرةُ التي جمّدَ فيها المنفيّ
قلبَه وكبدَه وعينيه.
البابُ الملآنُ بالعناكبِ الصغيرة،
والشبّاكُ الملآنُ بالتُراب.
وسطَ هذا الخراب
كانَ هناك حرفٌ ينتفضُ مَذبوحاً
كالطائرِ تماماً.
2.
في الليلِ وفي النهار
تتحرّكُ الوردةُ الحمراء
ما بين ثديي الفتاةِ كالطائرِ تماماً
جيئةً وذهاباً.
يومضُ أو يتمايلُ السّيفُ المُعلّق
ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمال.
وتنفتحُ الثلّاجةُ الكبيرة
فتظهرُ الأعضاءُ المُجمّدة:
القلب،
الكبد،
العينان.
3.
أرجوكَ لا تفتح الباب
ولا تنظرْ عبرَ الشبّاكِ الملآن بالتُراب.
قلب الطفل ويقين الطائر
1.
مُنبهراً كنتُ ومَدْهوشاً
بما كتبَ صديقي الشَّاعر
عن نبي الطوفان.
لكنّي صُعِقتُ
بل زُلزِلتُ
حينَ عرفتُ بأنَّ صديقي الشَّاعر
قد سرقَ العنوان
ونبضَ الحرفِ الهائم
من كتابِ الصّوفيّ جلال الدين.
2.
في جوفِ الليل
وفي الجهةِ الأخرى من العالم،
طرقتُ بابَ الصّوفيّ جلال الدين،
قلتُ له:
إنَّ صديقي الشَّاعر
قد سرقَ منكَ العنوان
ونبضَ الحرفِ الهائم.
فربّتَ على كتفي وقال:
لو أنّه
عرفَ كيفَ يصل إلى قلبِه،
أعني إلى قلبِ الله،
لما اضطَرَّ إلى سرقةِ العنوان
ولكانَ مِن الناجين
معَ نبي الطوفان.
قلتُ: يا هذا العارف بالله
أوَ كانَ صديقي مُضطَرّاً؟
قال: نعم!
إذ كيفَ له أن يتكلّم
عن نبي الطوفان
وهو الذي لم يطرقْ أبداً بابَ الله
بقلبِ الطفلِ ويقينِ الطائر؟
إيلان في الجنَّة
البارحة
كنتُ في الجنَّة
ورأيتُكَ تمشي ضاحكاً يا إيلان
مُرتدياً حذاءَكَ الذي غرقتَ وأنتَ ترتديه.
فرحتُ حينَ علمتُ أنَّ الملائكة
قد احترموا رغبتَكَ الهائلة
بأنَّ تلبس حذاءكَ القديم
ولا تستبدله بحذاءٍ من اللؤلؤِ والياقوت
قد أحضروه لك.
وأزددتُ فرحاً
حينَ علمتُ أنَّ الرحمن
سمّى جَنّةَ الأطفالِ الغرقى والقتلى والأيتام
بِاسمِك،
بِاسمِ طفولتِك البريئة التي بكاها العالَم
مِن أقصى العالَمِ حتّى أقصاه.
تناص مع النُّون
لا تسألوا عن النُّونِ أو نقطةِ النُّون
فقد باحتْ قصيدتي الحروفيّةُ التي هي كلّ
حياتي
بكلِّ حياتي،
قالت : النُّونُ سرٌّ عظيم
قَسَمَ به خالقُ الكافِ والنُّون
فكانَ فرحاً لمَنْ لا يفارقُ الدمعُ عينيه،
وكانَ وطناً لمَنْ لبسَ الريشَ ذاتَ فجر
وطارَ فوقَ البحر.
طارَ عالياً
عالياً
عالياً
حتّى كانَ قابَ قوسين أو أدنى
من غيمةِ الذين يذهبون فلا يرجعون.
حرفُ الطاغية
حرفُ الطاغيةِ حرفٌ مَلعون،
حرفٌ لم تستطعْ موسيقى بيتهوفن ولا موزارت
ولا روايات فيكتور هوجو
ولا مَلاحم تولستوي ودستويفسكي
ولا مَحبّة طاغور
ولا دواوين غوته
ولا أناشيد شيلر
ولا أفلام شابلن
ولا قصائد لوركا
ولا مُذكّرات كازنتزاكي
ولا غزليّات الشّريف الرضيّ
ولا دموع الحلّاج
ولا مواقف النفّريّ
مِن تخفيفِ نقطتِه الأنويّة
وجنونِها المُستترِ المَفضوح.
فهو يعربدُ الآن،
بطلاقةٍ مُدهشةٍ مُذهِلةٍ كونيّة،
بأربعين لغة
وخمسين قناةً تلفزيونيّة
وستّين شاشةً إنترنيتيّة
وسبعين نوعاً مِن الأكاذيب والتُرَّهات!
صُراخ
1.
حينَ طلبتِ مِنّي الطيران،
قلتُ لكِ: أنا لستُ بطائر.
ليسَ لديَّ ريش.
لا أملكُ جناحين.
لا أعرفُ الطيران.
لا أستطيعُ أن أرى في الليل.
ليسَ مِن هواء هنا كي أطير.
2.
لم تعجبكِ كلُّ هذه الأجوبة بالطبع.
وكانَ مَشهداً سحريّاً
حينَ أطلقتِ عَليَّ النّار
بقلبٍ مذهول
وعينين باكيتين
وصوتٍ مَبحوح.
لكنّي،
لحسنِ الحظِّ أو لسوء الحظّ،
لم أمتْ
بل بقيتُ حيّاً
لأرى الشّرطيَّ
والصحفيَّ
والناقدَ
والجَرّاحَ
والسَّاحرَ
والمجنون
يتجمهرون حَولَ جُثّتي
ليتَعرّفوا عليها.
3.
كانَ مشهداً مُضحكاً جدّاً
ومُبكياً جدّاً
لأنّهم كلّهم لم يتعرّفوا عليّ
حتّى أنتِ!
وكنتُ أمامَهم أصرخُ بِاسمي،
أصرخُ بصوتٍ مُدوٍّ ليلَ نهار.
لكنْ يبدو أنَّ صُراخَ الموتى
لا يمكنُ سماعه مِن قبلِ الأحياء
أو مِن قبلِ مَن يمكن
تسميتهم بالأحياء.
صورة مَن؟
مِن أينَ لكَ
بكلَّ هذه القصائد التي تنزلُ كالمطر،
بحنينِ المطر
واشتياقِ المطر
وغموضِ المطر؟
- قالَ لي الشَّاعرُ-
هكذا يسألُ النّاسُ دوماً.
فتعالَ معي لأريكَ سرّي الجميل.
فأنزلني إلى سردابِ السّنين
ثُمَّ فتحَ باباً عَتيقاً
ثُمَّ فتحَ دُرْجاً عَتيقاً
ثُمَّ أخرجَ كتاباً عَتيقاً،
كتاباً مُلِئتْ سطوره بحروفِ العُشّاق،
وحروفِ القتلى والغرقى والمنفيين
وحروفِ الزاهدين والمحرومين.
وفي آخر الكتاب
رأيتُ صورةً مُغطّاةً
بالتُرابِ والعشبِ والدم،
صورةً يَنِزُّ منها الدم.
صرختُ: صورة مَنْ؟
لم يجب الشَّاعر
- رغمَ أنّي كرّرتُ السّؤالَ ثلاثاً -
بل قالَ بما يُشبهُ التمتمة:
هذا هو السّرّ!
ثُمَّ حملَ كتابَه العتيق
ولم يرجعه إلى الدُّرْج
بل أدخله إلى موضعِ القلب.
ومضى مثلما الحلم
دونَ أن يقولَ وداعاً.
اتصال هاتفيّ
1.
حينَ اتصلتِ بي البارحة
تبادلنا نصفَ قرنٍ من الألم.
أنا أعطيتُكِ الكلماتِ الشّاحبة
وأنتِ أعطيتِني الدموعَ المُستعارة.
2.
كانتْ كلماتي الشّاحبة
تبحثُ عنكِ
أنتِ يا مَن رسمتْكِ ذاكرتي
سريراً طائراً في سماءِ الغياب.
مثلما كانتْ دموعُكِ المُستعارة
تبحثُ عنّي
يا مَن رسمتني ذاكرتُكِ
سكّيناً لامعاً في الظلام.
3.
انتهى الاتصال
بعدَ دقيقةٍ أو دقيقتين مِن الدمْدَمة.
انتهى وقد اختفتْ كلماتي الشّاحبة
فوقَ سريرِكِ الطائر
دونَ أن تتركَ أيَّ حرفٍ حيّ.
مثلما اختفتْ دموعُكِ المُستعارة
فوقَ سكّيني اللامع
دونَ أن تتركَ أيَّ معنى يُذكر.
حروف وأبناء
حينَ ماتَ مختارُ القريّة
خلّفَ ولدين جميلين.
الأوّلُ سين
ممتلئاً كانَ بحروفِ الخير،
زرعَ بُستاناً للفقراءِ وثلاثةَ أبناء.
أضافَ الابْنُ الأوّلُ للبستانِ نهراً،
وأضافَ الثاني بيتاً للغُرباء،
والثالثُ أغنيةً وقصائد.
هذا عن سين،
ماذا عن صاد؟
ممتلئاً كانَ بحروفِ الحقد،
زرعَ مأدبةً للحربِ وثلاثةَ أبناء.
كانَ الابْنُ الأوّلُ مجنوناً كغُرابٍ ملعون،
والثاني مخموراً ليلَ نهار،
والثالثُ يصرخُ ألماً في رأسه
حينَ يقرأُ حرفَ الحاءِ أو الباء.
حين وضعتُ البحرَ في قلبي
حينَ وضعتُ البحرَ في قصيدتي،
بكتْ قصيدتي
لأنَّ البحرَ لا يكفُّ عن الصخبِ
والتعرّي والهذيان.
وحينَ وضعتُه في حقيبتي،
بكتْ حقيبتي
لأنّه كُتِبَ عليَّ الرحيل:
رحلة الليلِ ورحلة النهار،
رحلة المجنونِ ورحلة الفيلسوف،
رحلة المنفيّ ورحلة المَلْهوف،
رحلة كلكامش ورحلة أنكيدو،
رحلة الحرفِ ورحلة النُّقطة.
لكنْ،
حينَ وضعتُ البحرَ في قلبي،
ارتبكَ قلبي
لأنَّه كُتِبَ عليَّ الرحيل إلى الجنَّة
بسفينةِ الغرقى والمفقودين.
لون لا حرف له
يتغيّرُ النّاسُ باستمرار.
أغلبهم، بمرورِ السّنين،
يختارُ الأسْوَدَ أو الأزرقَ أو الرمادي.
السّعداءُ منهم يختارون،
بعدَ أن يشبعوا من كأسِ الغربةِ والألم،
اللونَ الأبيض.
والأولياء،
بعدَ أن يتعبوا من قطعِ صحراءِ الزهْدِ الكبرى
جيئةً وذهاباً،
يختارون الأخضر.
أمّا الأنبياء
فإنّهم بعدَ أن يشبعوا
مِن النّارِ والرجمِ والصلبِ والتيه،
يختارون لونَ الحقيقة.
ذلك اللون الذي لن يعرفهُ أحد
ولن يسمع به - سواهم - أحد.
نهايات
1.
قالت النُّقطة:
الموعدُ، الدَّرَجُ، القُبْلَة،
الثدي، النّارُ، العشق،
المحكمةُ، الأغنيةُ، الموت
الدمعُ، الجفنُ، الحاكم.
قالَ الحرف:
المفاجأةُ، السّريرُ، الثدي،
القُبْلَةُ، الشفةُ، اللسان،
الحلمُ، الفرحُ، الرضاب
الليلُ، الموتُ، الخديعة.
2.
افترقَ الحرفُ عن النُّقطة
في ليلٍ أسْوَد كالسكّين.
3.
وجدت النُّقطةُ حُروفاً كثيرة.
رسمتْ معها بنجاحٍ أسطوريّ
مواعيد وقصائد حبٍّ لا تُحصى.
أما الحرفُ فارتبكَ كثيراً.
لم يستطعْ نسيانَ القُبْلَةِ الأولى،
أي النُّقطة الأولى.
وهكذا ضاعتْ أربعون عاماً
هباءً منثوراً.
4.
ثُمَّ ثُمَّ ثُمَّ
نسيت النُّقطةُ اسمَ الحرفِ تماماً.
أما الحرفُ فلم ينسَ النُّقطةَ أبداً.
5.
النهاياتُ لا تعني شيئاً
حلوة كانتْ أو مُرّة،
أعني: نهايات الحرفِ أو النُّقطة!
هُراء
1.
للتمتّعِ بأجسادِ النُّونات
القصيراتِ والطويلات،
العارياتِ والكاسيات،
ينبغي للألِفِ أن يكتبَ قصيدةً
عن نقطةِ السّحرِ السّوداء،
قصيدة لا ينبغي لأحدٍ
أن يفهمها سواه.
2.
لكنَّ الألِف
بقي ساهماً جالساً في هدوء عجيب
مثل بوذا
سبعين عاماً
دونَ أن يكتبَ مثل هذي القصيدة.
3.
لماذا لم يكتب الألِفُ هذي القصيدة
وهو العارفُ بكلِّ شيء،
الراغبُ حدّ الجنون بكلِّ شيء؟
ألأنّه لم يحرق السّرَّ مثلما ينبغي؟
(هُراء،
فلقد أحرقَ السّرَّ منذ الصبا
وصارَ رماداً تذروهُ الرياح).
ألأنّه لم يرَ الهدهد؟
(هُراء،
فلقد رآهُ مِراراً
بل كانَ الهدهدُ معه
في كلِّ حين وآن).
ألأنّه لا يملكُ عظامَ قبرٍ مَهجور؟
(هُراء،
فقد كانَ ينطقُ بسرِّ العظام
عظماً فعظماً).
4.
إذن، لماذا؟
5.
سؤالٌ أربكَ الألِفَ طوالَ العمر
وعذّبه
وشتّته
ومزّقه
وأبكاه.
بل دروَشَه
وهَلْوَسَه
وجنّنه.
وما مِن جوابٍ سوى كلمة واحدة:
هُراء!
البحث عن نقطة الصفر
حينَ مشيتُ في الغابة
اخترتُ الشّرقَ، دونَ قصدٍ، وجهةً لي
فالتقيتُ بشبابٍ حالمين
يثرثرون كثيراً بكلماتٍ جُوف
ويرسمون للناس
ثياباً من ريشِ الطيور.
فاتجهتُ غرباً
فوجدتُ رجالاً ونساء يدخّنون بشراهة
ويشربون الكحولَ حدّ الثمالة.
يشتمون كلَّ شيء يرونه في الطريق
ويفحصون باستمرارٍ مدافعهم وبنادقهم.
ثُمَّ اتجهتُ شمالاً
فوجدتُ أُنَاساً يرتدون السراويل الفضفاضة
ظننتُهم،
ولم أكنْ مُخطئاً،
قنّاصي فُرَصٍ ورؤوس.
فرجعتُ إلى الجنوب
فالتقيتُ بجمعٍ مِن الطيّبين حدّ السذاجة
لكنّهم لا يعرفون أيَّ لغةٍ كانتْ
سوى لغة الإشارة.
هنا آثرتُ أن أرجعَ إلى نقطةِ الصفر.
قلتُ بهذا إلى صاحبي
-وهو عليم بقَصِّ الأَثَرِ كما يدّعي
-
فضحكَ منّي
وقال: الصفرُ أكذوبةُ الشّرقِ والغرب
والشّمالِ والجنوب.
واستمرَّ يضحكُ مِن حيرتي
حتّى اختفى.
قلتُ لنفْسي: ما العمل؟
إلى أينَ المسير يا نورَ عيني
والصفرُ لا وجود له في الخارطة؟
تسلية
1.
قصيدتي تصرخُ كلّ صباح:
النُّقطةُ امرأةٌ غريبةُ الأطوار
والحرفُ مُمثلٌ مَسكين
يريدُ أن يمثّلَ دورَ الشَّاعر
على خشبةِ المسرحِ الكبير.
لكنَّ الجمهور اللاهي حدّ اللعنة
لا يسمحُ له إلّا بدورِ المُهرّجِ السّعيد
أو العاشقِ الولهان.
2.
لذا قرّرَ الحرفُ
أن يمثّلَ دورَ الشَّاعرِ وراءَ الكواليس
على الأقل.
على الأقل من أجلِ التسلية،
التسلية التي استمرتْ حياةً بأكملها!
حين غلبتْ نقطتي حرفي
سألني الغرباءُ ذات حياة:
ما تقولُ في نَفْسك؟
قلتُ لهم: لقد غلبتْ نقطتي حرفي.
فبكى مَن بكى
ودمدمَ مَن دمدم
وادّعى مَن ادّعى
وضحكَ مَن ضحك
وذهل مَن ذهل
وارتبكَ مَن ارتبك.
وماتَ مَن مات.
تحيّة
بعد أربعين عاماً مِن النفيّ المُنظّم،
ستختارُ دمعتي أن تردَّ على تحيّتِكِ
في شارعٍ مِن تُراب.
نعم،
فقد ضاعَ في حياةٍ اسمها العاصفة
ما تبقّى مِن قميصِك،
ومِن حرفِك،
ومِن نقطتِك.
سرقتْ جمرةُ الدهرِ كلَّ شيء لديّ،
وأنا مِن جمرةٍ جئتُ
وإلى جمرةٍ سأعود.
تحيّتك
إذ حاصرها الشّوقُ
صارتْ بقيّةَ روحِك،
خرجتْ إليّ
وكانتْ من الطيبِ والشّمسِ والقمر،
وكانتْ بقيّةُ نقطتِك.
سرقوها؟
نعم! سرقوها!
وكيفَ لي أن أعرف
وأنا الحرفُ الذي ترتيبُه الصفر،
وعنوانُه الصفر،
ونبضتُه بعدَ كلّ هذا السيرك المُنظّم
هو الصفر؟
كيفَ لي أن أعرف
وأنا الذي مضغة قلبه من الطيبِ صِيغَتْ
وبالشمسِ أضاءتْ
وبالقمرِ البعيدِ حلمتْ،
كيفَ لي؟
سرقوا نقطتَك؟
نعم!
وحتّى حينَ ستغيّرين اسمَك
فسيسرقكِ أصحابُ البئرِ من جديد.
فلا تحزني كثيراً
لأنَّ الموتَ صديقي الوحيد،
صديقي الذي لا يكفُّ
عن إرسالِ أزهاره السُّود لي كلّ يوم،
هو مَن سيلقاني بوجهٍ مِن وجومٍ خفيف
حينَ أخرجُ إلى شارعٍ مِن تُراب
لأردَّ على تحيّتِكِ التي هي مِن تُراب،
لأردَّ على تحيّتِكِ في المنفى المُنظّم.
وسألقاه حتماً
ولنْ أتذمّر منه
ولن أشتكي منه.
سأقولُ له في هدوء ولطف:
لا بأسَ أيّها الموت،
ربّما كانتْ تحيّتكَ لي مِن سلام
بعد أربعين عاماً مِن جحيمٍ مُنظّم!
تشبّث
إنّها ليستْ مِرآتي
ولكنّي بالخطأ
أو بما يُشبهُ الخطأ
رأيتُ وجهي فيها.
إنّها ليستْ قصيدتي
ولكنَّ حرفي كتبَها
أو دَمدَمَها على الأدقّ،
وأنا أرتّبُ على عَجَلٍ حقيبتي
لأهربَ إلى سقفٍ آخر
لا ينهارُ على رأسي
أو إلى زمنٍ آخر
لا يُلقي بي
أو بما تبقّى مِن جسدي
إلى الشّارع.
إنّها ليستْ حياتي،
لكنْ حدثَ أن مُتُّ،
متُّ منذ زمنٍ طويل،
فلمّا أفقتُ وجدتُ روحي
قد تشبّثتْ بهذه الحياة الغريبة
كما يتشبّث المَشنوق
بحبلِ المشنقة!
أين أنتَ أيّها الحرف؟
1.
سأتعلّقُ بالحرف،
أيّ حرفٍ كان.
فقط لأخفي ارتباكي،
فقط لأكفكفَ دمعي،
فقط لأقضي ساعاتِ يومي بهدوء
دونَ أن أسقطَ من النافذةِ إلى البحر.
2.
احتجَّ شاعرٌ ما على الحرف.
قال: ما لكَ والحرف؟
فأريته قلبي مَرميّاً على قارعةِ الطريق.
بكى واستدار
ونسي أن يقولَ: وداعاً.
3.
الطبولُ كثيرة.
فَعَلى أيّ طبلٍ سترقص؟
على طبلِ الملائكة
أم على طبولِ الشّياطين؟
أم على طبلِ الملائكةِ نهاراً
وعلى طبولِ الشّياطين ليلاً؟
4.
ما أنتِ إلّا كارثة
أخطأ اللغويّون فسمّوها: المرأة،
وأخطأ الشّعراءُ فسمّوها: المرآة،
وأخطأ الحُروفيّون فسمّوها: النُّقطة!
5.
لا طاغور نفعني ولا إليوت،
لا ديك الجنّ ولا المعريّ،
لا الشّريف الرضيّ ولا المُتنبيّ،
لا السيّاب ولا البريكان.
كلّهم خرجوا مِن الحفلة،
مِن بابِها الخلفيّ،
وهم يَجُرّون خيباتِهم الثقيلة.
6.
علامَ، إذنْ، تتمسّك بالشِعْر:
هل ستخلقُ حرفاً جديداً
أم ستضيفُ هذياناً جديداً إلى السابقين؟
7.
الطبولُ كثيرة
والدموعُ كثيرة
والخيبةُ تتكرّرُ كلّ يومٍ بنجاحٍ عظيم.
8.
أينَ أنتَ، إذن، أيّها الحرف
تعال وأنقذْني مِن دوّي الطبول!
Adeeb Kamal Ad-Deen
Adeeb Kamal Ad-Deen
(Babylon, 1953) is a poet,
journalist and translator who has
degrees in Economics 1976 and
English Literature from the
University of Baghdad 1999 plus a
Diploma of Interpreting
(Arabic-English) from Adelaide
Institute of TAFE, South Australia
2005.
He has published 19 poetry
collections in English and Arabic
and won the major prize of Iraqi
poetry in 1999. His poetry has been
translated into many languages such
as: Italian, French, Spanish and
Urdu. A huge number of articles and
books have been written about his
poetry style, and many researchers
have
earned
doctorates and masters
degrees in the Universities of Iraq,
Algeria, Iran and Tunisia by writing
critiques
of
his works.
As a translator, he has translated
into Arabic short stories and poems
from Australia, Japan, New Zealand,
China and the USA.
Adeeb Kamal Ad-Deen now lives in
Australia as an Australian citizen.
His poetry has been published in The
Best Australian Poems 2007 (edited
by Peter Rose) and The Best
Australian Poems 2012 (edited by
John Tranter), on many Australian
websites and in magazines and books,
such as Southerly, Meanjin and
Friendly Street Poets.
www.adeebk.com
|