فتّشتُ بعينين دامعتين عن حاء
الحلم،
فتّشتُ أوراقَ قصائدي القديمة،
لم أجد إلّا حاء نوح
وحاء الحرمان
وحاء الحرب
وحاء الحنين.
في هذا النصّ الذي نُشِرَ
في مجموعة (رقصة الحرف الأخيرة) –
(منشورات ضفاف- بيروت 2015) نلتقي
وجهاً لوجه مع الطلاسم المقدّسة
التي طالما تغنّى ويتغنّى بها
الشاعر الحروفيّ أديب كمال الدين
والتي أصبحت ظاهرةً وسمةً بارزةً
في شعره وهي الحروف المقطّعة،
فنتاجه الأدبي الذي فاق ال
17 ديواناً شعرياً، لا أبالغ إن
قلت لا يخلو أيّ ديوان منها، أي
من هذه الحروف. وهذه الظاهرة
تُعرف بظاهرة التناص مع آيات
القرآن الكريم، حيث تنفتح العقول
على حقول ومحاصيل دلالية متنوعة،
وهي، بالطبع، لم تأتِ اعتباطاً،
وإنما استثمارٌ لإحدى المعجزات
الإلهية في القرآن الكريم.
ففي غموض وأسرار هذه الحروف
الكثير مما قيل عنها في الماضي
ومما سُيقال عنها في المستقبل دون
شكّ. نعم، فقد استقطبت وحيّرت
العقول في ماهيتها، فكانت وعاءً
ثراً يصبّ فيها الشاعر ما يدور في
خلده، فحاء حلمه تتعدد لها هنا
التراجم
وتتنوع. فقد يكون الحلم
المفقود الذي يبحث عنه الشاعر
وهذا ما نلحظه عندما ندخل لنسير
بين أزقّة القصيدة التي بدأت بفعل
(فتّشتُ) وهو علامة على التشتت
والانتشار والبعثرة في المكان
والزمان.
ونجد هذا التشتت والحزن من تعدد
وكثرة الحاءات التي لم يرث منها
سوى الحرمان والحرب والحنين،
وجميعها علامة ودلالة لمدلول واحد
وهو العوز والنقصان. فالحرمان عوز
لكل ما هو ضروري في الحياة سواءً
كان مادياً أم معنوياً. والحرب
حرمان من الأمن، والحنين حرمان من
الأشياء الماضية والذكريات
المستقطعة من نفوسنا مجبرين،
ولعلّه يقصد هنا الحنين إلى الوطن
البعيد عنه.
وعندما نواصل المسيرة في أزقّة
قصيدته نجدها زاخرة بالألم
والحزن، في محاولة منه للتخلص من
هذا الماضي عبثاً، فالفضاءات التي
تحوم حولها علامات القصيدة هي
فضاءات تعلن عن هيمنة الموت على
الحلم والسلطة الضاربة على الحرية
بدلالاتها المتشابكة والمتميزة في
الوقت ذاته، الإشارات الحتمية لكل
إنسان بالموت والفناء لا تتوقف عن
الصراخ، يحاول إقناع ذاته فيفشل
في كل مرة ف(كلكامش مات بالنوبة
القلبية....وحاء نوح )
وسلطة أخرى نسيان الماضي له
وتشبّث ذاته بالماضي قسراً،
فالبكاء الذي انهال بغزارة علينا
ومحاولاته بقيت مجرد محاولات
فاشلة، فقد اختار لنفسه الدروب
الصعبة مع التعقيدات والإشكاليات
التي تصيب الإنسان التي لا عدّ
لها من المصائب والكوارث:
ثُمَّ انتبهتُ إلى حاء الحرب،
كانتْ مُدمّاة من السرّةِ حتّى
العنق
في حروبِ الطاغيةِ التي طاردتني
بنجاحٍ عظيم
مِن يومٍ إلى آخر،
ومِن سنةٍ إلى أخرى،
ومِن دهرٍ إلى آخر.
ولم تتركني إلّا خشبة طافية
يتلاعبُ بها الموجُ على شاطئ
المُحيط.
فصورة الحرب والمطاردة والسلطة
الحاكمة التي تمد يديها لتقتلع
الجذور تفلح وبنجاح، إلا إن هروبه
من هذه السلطة الحاكمة، جعله
كالخشبة الطافية الراحلة الى بلاد
بعيدة عبر المحيط.
وتتكشف لدينا هنا سلطة التكتم
والهروب من الواقع، فالحاء
المحملة بالحرمان والحرب والحب
والذات المغيّبة تحت سلطة الجسد
كانت غالباً ذاتاً عابثة ساخرة من
محاولات الخلود البشري، ليلقي –
أي الشاعر- بها وبوهمها إلى
الحشّاشين المغيّبين عن الوعي.
فالثنائيات المستبدة على هذه
القصيدة كثنائية (البقاء والفناء)
نراها جليّةً من بداية القصيدة
حتى المقطع الثالث عشر، ثمّ تلي
هذه الثنائية ثنائية أخرى هيمنت
على بقية المقاطع وهي ثنائية
(الحلم والحقيقة)، ثمّ تعود لنا
إلى الواجهة علامات الموت
الإجباري لتغلق نوافذ الحلم
وتندلع نيران جحيم الحرب الشعواء.
فالأحلام تختنق وتفقد الحياة مع
توالد الحروب، وهي صرخات مدفونة
بين ثنايا النص تدعو إلى الحلم
وعيش الحياة بكل يسر وسهولة وتدعو
إلى عشق الحلم وتحقيقه مع نبذ هذا
القتل والدم والنار، لأن الحياة
قصيرة مهما طالت. ولنا في كلكامش
الباحث عن الخلود والعائد منه
بخيبة كبرى خير مثال، وكذلك في
قصة حياة نبي الله نوح عليه
السلام الذي طال به العمر فركض
إليه الموت فاتحا جناحيه شوقا إلى
فناء جسده.
نصّ القصيدة
حاء الحلم
شعر: أديب كمال الدين
1.
فتّشتُ بعينين دامعتين عن حاء
الحلم،
فتّشتُ أوراقَ قصائدي القديمة،
لم أجد إلّا حاء نوح
وحاء الحرمان
وحاء الحرب
وحاء الحنين.
2.
بسرعةٍ أطلقتُ النارَ على حاء
الحنين
فأصبتُ منها مَقْتَلاً،
لأنني لا أملكُ ما أحنُّ إليه:
الفرات وقد تجاهلني،
ودجلة لم تتعرّفْ عليّ،
وكلكامش لم أجده في المتحف
كما كانَ الوعد.
3.
آ...
كلكامش الذي ماتَ بالنوبةِ
القلبيّة
بعدما أُصيبَ عرشه العظيم
بصاروخٍ عظيم،
كما قالَ لي الصحفيون.
كلكامش الذي أُصيبَ بداء الداء
بعد أنْ سرقت الأفعى منه سرَّ
الخلود،
كما قالَ لي المؤرّخون.
كلكامش الذي تعبَ من وقوفه
العبثيّ
ببابِ المتحفِ العراقيّ
ينظرُ إلى آلافِ الدراهم الممسوحة
وهي تصرخُ وتهرّجُ ليلَ نهار،
كما قالَ لي الحشّاشون.
4.
ثُمَّ انتبهتُ إلى حاء الحرب،
كانتْ مُدمّاة من السرّةِ حتّى
العنق
في حروبِ الطاغيةِ التي طاردتني
بنجاحٍ عظيم
مِن يومٍ إلى آخر،
ومِن سنةٍ إلى أخرى،
ومِن دهرٍ إلى آخر.
ولم تتركني إلّا خشبة طافية
يتلاعبُ بها الموجُ على شاطئ
المُحيط.
5.
ما أكثر حروبكَ يا حرفي!
6.
ثُمَّ خرجتُ أبحثُ عن حاء نوح،
عن أكثر الحاءاتِ سِرّاً:
نوح الجسدِ وهو السفينة،
نوح القلبِ وهو نوح نَفْسه.
7.
ما مِن غصنِ زيتون
لارتباكِ سفينةِ الجسد
وهي تمشي في موجٍ كالجبال.
ولذا فإنّ القلبَ لا يكفُّ عن
البكاءِ أبداً،
لا يكفُّ عن البكاءِ والدمدمةِ
أبداً.
8.
أيُّ قلبٍ لا يكفُّ عن البكاءِ
والدمدمة:
قلبكَ أم قلب نوح؟
9.
قلبكَ أم قلب غرابِ نوح؟
10.
قلبكَ أم قلب حمامةِ نوح؟
11.
قلبكَ أم قلب سفينةِ نوح؟
12.
قلبكَ أم قلب بحرِ نوح؟
13.
في بحثي المجنونِ عن حاء نوح
وحاء الحرمان
وحاء الحرب
وحاء الحنين،
نسيتُ أنْ أبحثَ عن حاء الحُبّ.
14.
حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ
شَعْوذةً،
هكذا قالَ لي الصحفيون.
15.
حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ
التباساً
وغموضاً وهرطقةً،
هكذا قالَ لي المؤرّخون.
16.
حاءُ الحُبّ أكثرُ الحاءاتِ
مَبْعثاً
للضحكِ والفكاهةِ والسخرية،
هكذا قالَ لي الحشّاشون.
17.
لكنّ قلبي قال:
حاء الحُبّ أكثر الحاءاتِ
مَبْعثاً للجنون.
18.
ولذا جمعتُ قصاصات قصيدتي،
وصنعتُ منها وسادةً صغيرة،
ووضعتُها تحتَ رأسي،
ونمتُ.
19.
نمتُ سعيداً،
وأنا أحلمُ بحاء الحلم،
أحلمُ كأيّ طفلٍ ينتظرُ صباحَ
العيد،
العيد الذي سحقتْ رأسَه حاءُ
الحرب،
وحاءُ الحرمان،
وحاءُ الجحيم!