صدرت حديثاً عن
منشورات ضفاف ببيروت،
المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر
العراقي أديب كمال الدين تحت
عنوان (رقصة الحرف الأخيرة)،
وقد احتوت على تسع عشرة قصيدة
اتخذت الحرف ملجأً روحياً للتعبير
الأدبي. قصائد المجموعة هي: (كاف
السؤال، توريث، قاف القضبان، راء
المطر، حاء الحلم ، البحر
والمرآة، الكل يرقص، البحر صديقي،
ميم المشهد، الموتى يرقصون عند
الباب، القصيدة الأنوية، قاب
قوسين، قصيدة السيرك، سين العظام
والحمام، تناقضات، قصيدة اللقلق،
صلاة صوفية، رقصة ملعونة، تكرار).
وقد اعتدتُ بعدّي قارئاً
أنْ تكون عتبة العنوان المحرك
الاول التي تدفعني الى القراءة
وأن أقف وقفة متأنية أستلهم منها
آلية التأويل والبحث عن صلة النص
بالعنوان، وعتبة العنوان هي تاج
عتبات الكتابة، وهي من دون أدنى
شكّ العتبة الاظهر والاقوى
والاكثر استفزازاً لمحركات
القراءة وميكانيزماتها. إن عنوان
المجموعة الشعرية (رقصة الحرف
الأخيرة) كان له خاصية جذب
فريدة مكنني من الغوص في متن النص
الذي أُستهل بلفظة ديناميكية (رقصة)
يستيقظ فيها القارئ ويجعله يتشوق
لقراءة هذه الرقصة، ومن ثمّ جاءت
لفظة (الأخيرة) مكملة لهذه
الشحنة الديناميكية العاطفية،
فاتخذ أديب كمال الدين من عتبة
العنوان ودلالاتها الرمزية وسيلة
تعبير عن الحياة بشؤونها وشجونها
المختلفة، ووهبها ما تجود به
انفعالاته وأحاسيسه وأخيلته،
فتفرّد بها وصارت دالة من دوال
شعره، فالشاعر وجد في الحروف
ورقصاتها المختلفة غزارة أسراره
ومكامن نفسية هائلة، وبهذا يظهر
الاختناق النفسي منذ العنوان إذ
أعطى مكانة متميزة للذات، ومن ثمّ
تمثل الذات جزءاً ملتصقاً في
مجموعته الشعرية،
فالعنوان الذي تحمله
المجموعة الشعرية يطوّق وجهاً
للشاعر، يمهّد لمعاناته النفسية
الذي يحبس شخصيته ويعذبه، وفي
مقابل هذه الضاغطات النفسية للذات
نتساءل هنا: وجهُ مَن هو العنوان
(رقصة الحرف الأخيرة)؟
أتراه وجه توريث اليأس من الحياة:
ولأنّي أعيشُ في الجحيم
حقاً وصدقاً
فلم أجد الكتاب ممتعاً
رغم لغته الهائلة. ص 23
أم تراه وجه لأمنيات
مفقودة:
صحتُ: ما اسمهُ المطر ؟
قالت الغيمةُ فجأةً : أيّ
مطر؟
قلتُ لها: مطر بغداد؟
مطر الفرات،
مطر الحرمان، مطر السفارة
الثلجيّة،
مطر السجن ،
مطر البلد البعيد. ص 42
أم تراه وجه الحروب
والسلام المفقود:
البحر
لا يفهمُ في الحروبِ
والدمِ والحصار
لا يفهمُ في القتلِ
والكراهيةِ والخيانة. ص 68
أم تراه وجه القارئ الغارق
في همومه اليومية المغدور في
الحياة؟ كل هذه التوترات النفسية
بجميع أنماطها أسقطها الشاعر على
النص؛ ولذا يشير العنوان الى
تساؤلات عدّة للشاعر ويمكن عدّ
العنوان بمثابة سؤال أو صرخة أو
تمهيد لمناجاته النفسية التي جاءت
مترجمة بتسع عشرة قصيدة بين ثنايا
المجموعة الشعرية، لذلك تعالج هذه
المجموعة برمتها مسألة الاغتراب
الذي يعانيه الشاعر، اغتراب على
صعيد العلاقة بالذات والآخر
والمجتمع والوطن والحياة والمرأة
والموت، وللشاعر حصته من هذه
الغربة فعدم معرفته وعدم تكوين أي
رأي فيه يساهمان في تعزيز قلق
الشاعر واضطرابه:
كيفَ حلمتُ باللقلق؟
انا الراكض أبد الدهر
وراءَ خيطِ الشمس؟
*
منذ صباي أُسْجَنُ في
حلمِ اللقلق
ربّما لأنني كثير الجلوس
إلى النافذة. ص 120
ولهذا فإن (رقصة الحرف
الاخيرة) هي مجموعة شعرية
سوسيولوجية نفسية تخطف الأنفاس
بأسلوبها المباشر ولغتها الشفافة
ومفرداتها البسيطة، لم يعمل
الشاعر فيها على تعقيد الأسلوب أو
جعل التعابير المستعملة بعيدة عن
متناول القارئ، بل حرص الشاعر على
أن يتخذ من النص مناسبة للحديث عن
ذاته وأفكاره الخاصة وما يتداعى
في ذهنه من مشاعر وذكريات،
محتكماً في نقل انطباعاته حول
النص على الذوق أساساً، بعناصر
متفاعلة ومتشابكة يظهر التفاعل
بين النص والمتلقي، كما أنه اعتمد
الواقعية والموضوعية لتشعر أن روح
الشاعر ترفرف فوق الأمكنة
والأزمنة التي مرّ بها بقساوتها،
ولهذا نستشف شحنات عاطفية قوية
على مدار المجموعة الشعرية دعته
أن يتفوه بكلمات مؤلمة حد البكاء
حين رأى الانتهاك بكل تمفصلاته.
تخضع المجموعة الشعرية
عموماً الى إظهار (أنا) المؤلف
عبر (أنا) السارد أي الشاعر
والهيمنة عليه، وربما كانت عملية
الاسهاب في حشد الاحالات النفسية
وتكثيفها وتركيزها على هذا النحو
فيه أحياناً يرسم بدقة هذه
القصدية المباشرة ويشير اليها،
وبما أنّ ( الأنا) التي هيمنت على
فضاء النص عبر رقصات الحروف
الناطقة بتكراراتها مما يدخل في
نطاق الحلمية لدى الشاعر؛ لذا فإن
العلاقة بين عتبة العنوان وطبقات
المتن علاقة وثيقة جداً ودائمة لا
تتوقف حتى نهاية المجموعة، فعكست
المجموعة في طبقة مركزية من
طبقاتها رؤية ايديولوجية تنهض على
محاكاة الواقع ونقده ومعالجته،
فدلالات الحروف وما أنتجها من
حوارات لم تكن بعيدة عما يجري في
الخارج، بل على العكس كان الخارج
الاجتماعي والسياسي والثقافي يمثل
جوهر الرؤية التي سعت المجموعة
الى التركيز عليها وتعويمها عبر
آهاته النفسية. وربما كانت هذه
الرؤية قد أثرت على عدم استثمار
طاقات العناصر الاخرى المتعلقة
بالصنعة؛ لأنها ضغطت على الخارج
اكثر من حفرها في الداخل، ولا شك
أنها مجموعة شعرية ترتبط بعلاقة
ما مع صاحب النص فهو من خلال
التكرار وإلحاحه عليه حاول تأكيد
فكرة ما تسيطر على خياله وشعوره،
وبذلك فإنه يعكس جانباً من الموقف
النفسي والانفعالي، ومثل هذ
الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال
دراسة التكرار داخل النص الشعري
الذي ورد فيه، فكلّ الانزياحات
التكرارية تحمل في ثناياها دلالات
نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها
طبيعة السياق الشعري من اجل توكيد
( أنا ) الشاعر. وهكذا كانت هذه
المجموعة الشعرية عنواناً جادّاً
في مسيرة الشعر، بما تميّزت به من
صدق في التصوير، وجمالية في
التعبير، وتقنية في السرد لاسيما
تقنية الاسترجاع، وانسيابية في
الحكي، وتلقائية في اللغة
والأسلوب، لجديرة حقاً بالتناول
أكثر المواضيع إلحاحاً وحدّة،
ازدحمت بالصورة واشتبكت بالرؤى،
وحاولت أن تتحرّى الحقيقة بشجاعة،
لذلك يمكن القول بأنّها تشكّل
اضافةً لمسيرة الشعر العراقي.