قراءة في المجلد السابع للشاعر أديب كمال الدين
أديب كمال الدين : تأصيل الحروفية
ريسان الخزعلي
لاشتكيتُ حروفاً عشقتُها حدَّ الجنون
فلم تأبه بي أبدا.
ولا شتكيتُ حروفاُ هدّدتني وطاردتني
ليلَ نهار
حتى ألقت القبض عليَّ،
فقبّلتني وطعنتني سِرّاً وجهرا ً
ثُمَّ هجرتني ودرْوَشتني سرّاً وجهراً
إلى أن مُتُّ أو شارفتُ على الموت.*
ثلاثةُ
مُعلّمين علّموني كتابَ الحرف،
أعني كتابَ الرّماد.
كانَ الأوّلُ أرضيّاً
لا يعرفُ شيئاً غيرَ الجسدِ والذهب،
والثاني سَماويّاً
يدعو إلى يس وطه وكهيعص،
والثالثُ غامضاً كالقَدَر
لا يفعلُ أيَّ شيء
سوى أن يصفَعَني كلّما أخطأت.
دمرّني المُعلّمُ الأوّل
إذ هيّأَ لي الجسدَ على السّرير.
فمِن أينَ لي ببرهانِ يوسف
لأسحقَ صيحاتِ الإغراء والإغواء؟
وأتعبني الثاني
إذ اختارَ لي
رحلةَ المشي على الجمر
ليلَ نهار،
ورحلةَ الجِمالِ التي يقتلُها العطش
وهي تحملُ الماءَ على ظهرِها
في الصحراء.
وما أنصفني الثالث،
إذ أعطاني ثلاثَ كؤوس
وصاحَ بي: اخترْ كأسَك!
أعطاني كأسَ الماءِ فتجاوزتُها،
وكأسَ الخمرِ فرفضتُها،
وكأسَ النّارِ فشربتُها
لأتحوّلَ في الحال
إلى كتابِ رماد.
إن موضوع "الحروفيّة" في شعر وتجربة أديب كمال الدين لابدَّ أن
يكون مرتبطاً بمعرفة سرّية الحرف في القرآن الكريم، وطلسْميتهُ
في الرقى والتعاويذ والتوّقيعات. ولابدَّ أيضاً من جذر عميق،
ديني/ تاريخي/ عائلي، يُغذّي شجرة هذه الحروفيّة ويُديم
استطالتها، وإلّا كيف يمكن تفسير هذه السعة في تشكيل وتأويل
الحرف وجعلهُ دالاً على أكثر من مدلول؟ وإنَّ الجذر الذي أشرت
إليه يتضح في قوله النثري/ الشعري - قصيدة "حتّى قيل":
"من رحمِ الحُلم ولِدت
حتى قيل إنّني منذ الولادة
كنت حرفاً يُراقص نقطته
أو نقطة ً تعشق سِرّها
أو حاء سقطت من كلمة الحُب
أو باء غرقت في شهوة الحُلم".
نعم، تحتَ
شمسِ صوتِكِ الوارفة، يا
كوكبَ الشّرق، يتدرّبُ
الحرفُ على الطيران عندَ
كلّ قصيدة: مَرّةً
بلبلاً، مَرّةً
حمامةَ شوقٍ، وثالثةً
طائراً لا اسمَ له، ورابعةً
يتحوّلُ الحرفُ إلى
جناحٍ عظيم يملأُ
الشّرقَ والغرب. فإذا
اكتملتْ صيحاتُ حُبّكِ وأيقظتِ
الرّوحَ من موتِها والقلبَ
من زلازلهِ المُزمنة، تحوّلَ
الحرفُ كلّه إلى
سماواتِ سِحرٍ تبدأُ
من النّيل ولا
تنتهي في الفرات.
"نعم، كان َ محظوظا
بما يكفي
ليخط َّ لنفْسه
أبجديّة
تتألف من سبعة آلاف حرف
ونقطة واحدة".
"حاولي
فقصائدي عذبة ٌ كماء
النبع
بسيطة كأغنية ريفيّة
وطيّبة ٌكرغيف يحلم ُ به طفل جائع
افترش رصيف الله..".
الشاعر المبدع أديب
كمال استغرقتهُ قصيدة النثر كثيرا ً– وهو العارف بالعروض،
وقصيدة الشعر بشكليّها - بعد مغادرته العراق، والتعليل: إن
مراودة، وتشكيل الحروفية بفيض شعري ودلالة واسعة، قد لا يستجيب
لها التوتّر الإيقاعي بالقدر الذي توفّره سيولة النثر، وقد
فعل :
"أجمل ُ قصائد الحرف
تلك َ التي لا تعرف ُ
سبب كتابتها
ولا سبب َ فرحك َ بها
ولا تعرف بماذا تنتهي".
إن قراءة هذه الأعمال تستوجب الكثير من الإنصات، ولا يسعها مثل
هذا المرور الذي يكتفي بالاحتفاء.
نُشرت المقالة في جريدة الصباح في 23 نيسان - أبريل 2024 |
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة