الحرفُ الذي أبصرَ الظلال
عن التجربة الشعرية لأديب كمال الدين
محمد علي محيي الدين
في بيروت، حيث الحرف يضيء منارات
الحلم، وحيث الكلمة تنبت من الحنين
وتتكئ على جدران الذاكرة، صدر عن
منشورات ضفاف والاختلاف في العام 2024
الجزء الثامن من الأعمال الشعرية
الكاملة للشاعر العراقي المغترب أديب
كمال الدين، حاملاً عنوانًا مميزًا:
"مختارات حروفيّة". هو ليس كتابًا آخر
يُضاف إلى رفوف الشعر، بل هو بركان من
الحروف، ينفجر ليحمل إلينا شظايا من
أسئلة لا تنطفئ، وأجوبة تتوارى في ظلّ
الحيرة.
207
قصيدة، اختارها الشاعر من مجلدات
أعماله الشعرية السبعة بحيث شكّلت
أطوارًا مختلفة من رحلته داخل مختبر
الحرف: "مرايا الحرف"، "إخوتي في
الحرف"، "حرف السجود"، و"حرف المتدارك
وماشابه". ومن هذه العناوين وحدها
يتبدّى للقارئ أننا أمام تجربة ليست
معنية بالشعر فحسب، بل بالشعر بوصفه
طقسًا معرفيًا، وبالحرف بوصفه كونًا
كاملًا من الظلال والمعاني
والانكسارات.
لقد كان أديب كمال الدين شاعرًا
شريدًا بين الحروف، غريبًا عنها،
وأليفًا لها في آنٍ واحد. لم يرَ فيها
مجرد أدوات للبناء اللغوي، بل آلهة
صغيرة تتقن فعل الخلق والتدمير، وتعرف
كيف تخبّئ الأسرار في النقاط، وكيف
تفتح الجراح بالألف والسين، وتخيط
الذاكرة بالكاف والنون. في عالمه
الحروفي، الحرف ليس شكلاً بل جوهر،
ليس لغة بل وجع، ليس تركيبًا بل
انكسارًا باهرًا يمرّ من بين عيني
الشاعر إلى أفق مجهولٍ لا يُطال.
كان عالم الحرف عند أديب كمال الدين
عصيًّا على التصنيف. لم يُرد أن يكون
جزءًا من السرب، ولم يتخذ الحداثة
الشعرية كما أرادها جيله معطفًا يقيه
الأسئلة، بل واجه الأسئلة كلها
مجرّدًا من أي درع سوى حروفه. وهكذا،
شقّ لنفسه طريقًا خارج الأنساق، وجعل
من الحروف محراثًا لحقل اللغة، ومن
النقطة بذرةً لقصيدة لا تنتهي.
لقد بنى الشاعر صرحه الشعري على فكرة
وجودية مرهفة، تَصعُبُ الإحاطة بها،
إذ لم تكن الحروف عنده مجرد رموز أو
دوال، بل كائنات تنبض، تحتج، تعلن
العصيان، وتبكي. حملها في حنجرته كما
يحمل المنفيُّ وطنَه في قلبه، وصاغ
منها سردًا شعريًا يأخذ شكل الأسطورة،
ولكنه لا يركن إليها بوصفها ماضيًا،
بل يخلع عنها قدسيتها التقليدية
ليجعلها مرآةً تنعكس فيها ذاتُه
التائهة، ونصُّه القلق، وألمه الشفيف.
في هذا الكتاب، كما في مسيرة الشاعر
كلها، تتجلى قدرة استثنائية على تحويل
عناصر اللغة إلى طاقة كونية. هو لا
يبدأ من الجملة ولا من الصورة، بل من
النقطة، تلك التي طالما ظنناها صامتة،
فإذا بها في شعره تصرخ، وتستدعي ما
وراء الغياب. النقطة هنا ليست علامة
ترقيم، بل بداية الدرب إلى الحلم، إلى
الموت، إلى الحكمة، إلى الحب، إلى كل
ما لا يُقال.
أما الحرف، فإنه يتحوّل في هذه
القصائد إلى جسدٍ حالم، يتقلّب في
الريح ويعوي بين ركام المدن. الحرف لا
يوحّد بل يبعثر، لا يشرح بل يدهش، لا
يعطي المعنى بل يهرب منه. وهكذا، تمضي
القصائد كأنها طقوس عرفانية تسير نحو
معرفة لا تكتمل، تتعثّر بالنقطة،
وتنهض بالحرف، وتتلوّى في متاهة
المعنى دون أن تدّعي الخروج منها.
ومن هذا الأفق يتبدّى لنا أن تجربة
أديب كمال الدين لم تكن مجرّد انشغال
بأسلوب، بل كانت مغامرة وجودية فريدة،
تعمّدت في جراح العراق، ونُقعت بماء
المنافي، واستلهمت نداءات المتصوّفة،
واشتغلت على الحرف لا بوصفه شكلًا
وإنما باعتباره رؤية، فلسفة، وصرخة.

لقد أخذ الشاعر على عاتقه أن يقول ما
لا يُقال. أن يغوص في المعنى كما يغوص
الغريق في العدم، محاولًا أن يلتقط في
لحظات الاختناق قبسًا من حياة لا
تموت. إنه يسعى لا لتفسير الكون، بل
لمرافقته في دهشته. لذلك بقيت حروفه
مفتوحة على جميع القراءات، متاحة لكلّ
تأويل، عصيّة على التأطير، مثل الضوء
حين يُغني عتمة القلب دون أن نراه.
أديب كمال الدين شاعر بلا وطن لغوي
ثابت، لأن وطنه هو الحرف، والحرف لا
حدود له. وفي زمن تضيق فيه اللغة
بالمجاز، وتضيق الأمكنة بالمعنى، كان
الشاعر يوسّع الحرف ليصير كونًا،
ويفجّر النقطة لتصير لحظة خلق.
إنّ "مختارات حروفية" ليست ختامًا
لمسيرة، بل امتدادٌ لرحلة ما تزال
تتعثر في دروب الضوء، وما تزال تساءل
اللغة، وتساءلنا معها. هي كتابُ
شِعرٍ، نعم، لكنها قبل ذلك وبعده،
كتابُ وجود، كتابُ قلق، كتابُ حب،
كتابُ غياب، كتابُ شاعر قرّر أن يكتب
العالم من جديد، لا من بدايته... بل
من نقطته.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
نُشرت في
جريدة أوروك-
بتأريخ 23 حزيران 2025.
|