ليسَ هناكَ من بحر،
فالبحرُ تحوّلَ إلى شاطئ.
وليسَ هناكَ من شاطئ،
الشاطئُ تحوّلَ إلى رمل.
وليسَ هناكَ من رمل،
الرملُ تحوّلَ إلى آثارِ أقدام.
وليسَ هناكَ من آثارِ أقدام،
آثارُ الأقدامِ تحوّلتْ إلى
ذكريات.
وليسَ هناكَ من ذكريات،
الذكريات تحوّلتْ إلى دموع.
وليسَ هناكَ من دموع،
الدموع تحوّلتْ إلى بحرِ سفينةِ
نوح.
ونوح مرَّ مِن هنا بسفينته ومضى!
(آثار
أقدام/ شعر: أديب كمال الدين)*
تشتغل القصيدة الحديثة في مستوى
بنيويّ مركزيّ من مستوياتها على
تعميق فكرة التوالد الدلاليّ
بأساليب مختلفة ومتعدّدة
ومتنوّعة، ولاسيّما في نموذجها
الأكثر هيمنة وحضوراً وشيوعاً
(قصيدة النثر) حين تتخلّى عن قيم
إيقاعية وزنيّة أساسية في معمار
القصيدة العربية التقليديّ، على
نحو يدفعها باتجاه بناء قيم جديدة
تعويضية تسهم في شعرية الكلام نحو
تشييد قصيدة ذات رؤية تشكيلية
وتعبيرية مختلفة، ولكلّ قصيدة
قانونها الفضائيّ الخاصّ في تطوير
رؤيتها الشعريّة داخل أسلوبية
بناء نوعيّة لا تُشبه غيرها، إذ
تنفتح على عناصرها المكوّنة
لتبتكرَ طريقتها في إدارة
العمليات الشعرية داخل القصيدة،
على نحو من التخطيط والصنعة
والمهارة واستحضار الخبرة الشعرية
في أعلى درجات كفاءتها وصيرورتها.
قصيدة ((آثارُ أقدام)) للشاعر
أديب كمال الدين تشتغل من عتبة
عنوانها على تفعيل الحسّ
البَصَريّ في التشكيل الشعريّ،
فالجملة الخبريّة المُفتتَحةُ
بنكرة جمعيّة (آثار) التي تتألّف
منها عتبة العنوان تنحو نحواً
بَصَريّاً في الرؤية والتتبّع
والملاحظة والملاحقة، والصيغة
الخبريّة المتمثّلة في الدالّ
الجمعيّ (آثار) تحيل على دلالة
سيميائيّة لوجود آخر اختفى من
مشهد الرؤية البصريّة مخلّفاّ
وراءه ما يدلّ عليه، وحين يضاف
دالّ (آثار) إلى (أقدام) يتشكّل
المعنى وينرسم على نحوٍ ما في ذهن
التلقّي، بحيث تبقى العلاقة بين
الأثر وصاحبه المُفترَض قائمةً في
مستقبلات القراءة، وقابلةً لأن
تأخذ أشكالاً عديدة بحسب مجريات
المتن الشعريّ وتمظهر طبقاته بعد
عتبة العنونة، وبحسب ديناميّة
التحولات في طبقاته.
المتن الشعريّ في القصيدة مؤلّفٌ
من سبع وحداتٍ شعريّة تتداخل
بطريقة صوريّة لولبيّة، تبدأ كلّ
وحدة منها بـ (ليس)، وهي من أخوات
(كان) دالّة على نفي الحال،
باستثناء الوحدة الشعريّة السابعة
والأخيرة، وهي الوحدة الاستيعابية
التي تؤول إليها تحوّلات القصيدة
وتستقرّ في حاضنتها، فالوحدات
الست تتحوّل بطريقة لولبيّة
متداخلة دلاليّاً وصوريّاً
وتفاعليّاً على نحو جدليّ بآلة
نفي الحال (ليس)، حتى تضع نتائجَ
رحلتها بين يديّ الوحدة الشعريّة
الأخيرة.
الوحدة الشعرية الأولى تبني
مقاربتها بين دالّين متداخلين هما
(بحر) و (شاطئ)، لا يصلح تصوّر
أحدهما من دون الآخر، لا بحر بلا
شاطئ ولا شاطئ بلا بحر، غير أنّ
هذه الوحدة الشعرية الأولى تنفي
وجود البحر وتثبت وجود الشاطئ على
نحو استبداليّ يحوّل الشاطئ إلى
ذاكرة للبحر، وهي معادلة
سيميائيّة تستجيب للفكرة الدلالية
الماثلة في عتبة العنوان (آثار
أقدام)، فآثار أقدام البحر هنا هي
هذا الشاطئ البديل:
ليس هناك من بحر،
فالبحرُ تحوّلَ إلى شاطئ.
إنّ فكرة (التحوّل) التي تنهض
عليها القصيدة ابتداءً من عتبة
العنونة هي الفكرة الجوهريّة
فيها، وهي فكرة كونيّة تقوم على
التداعي المُستمرّ للأشياء، فنفي
وجود البحر في الجزء الأول من
الوحدة الشعرية هو بحاجة دلالية
إلى جزء لاحق من أجل اكتمال صورة
المعنى، لأنّ طريقة الإخبار في
الجملة الشعرية الأولى (ليس هناك
من بحر،) تتطلّب إجابة عن حالة
استفهامية ضمنية نحو تشكيل الصورة
المتكاملة، وهو ما تتكفّل به
الجملة الثانية (فالبحرُ تحوّلَ
إلى شاطئ.)، فغياب البحر يقابله
حضور الشاطئ، وهي صورة تخييلية
لأنه حين يغيب البحر عمليّاً يغيب
معه الشاطئ، غير أنّ الصورة
الشعرية هنا تشتغل على آليّة فعل
الذاكرة، بمعنى أنّ الشاطئ ذاكرة
البحر وآثار أقدامه في المتصوّر
الذهنيّ للمخيال الشعريّ.
تنبع الوحدة الشعريّة الثانية من
رحم سابقتها حين تنتهي إلى دالّ
(شاطئ) كي تبدأ بها الوحدة
الثانية في سياق آليّة النفي
نفسها:
وليس هناك من شاطئ،
الشاطئُ تحوّلَ إلى رمل.
ما أن تحوّل البحر إلى شاطئ حتى
تحوّل الشاطئ إلى رمل داخل سياق
فكرة التحوّل من المركز إلى
الهامش، فاختصار البحر (المركز)
إلى (هامش) الشاطئ ليتحوّل إلى
مركز، واختصار الشاطئ (المركز)
إلى (هامش) رمل، يشتغل في سياق
التوالد الشعريّ الدلاليّ إلى
شبكة تحولات متداعية يتحول فيها
المركز إلى هامش والهامش إلى مركز
وهكذا:
وليس هناك من رمل،
الرمل تحوّلَ إلى آثارِ أقدام.
وبزوال (البحر والشاطئ
والرمل) بوصفها كائنات شعريّة
مكانيّة، تنتقل المركزيّة إلى
(آثار أقدام) بوصفها عتبة
عنوانيّة تتمركز أساساً على رأس
النصّ وتتوسّط متنه أيضاً، على
نحو يضاعف من مركزيتها حال
تعلٌقها بالجسد وهو يطبع المكان
بطابعه الدالّ عليه على مستوى
الأثر، وفي هذه اللحظة الشعريّة
المركزيّة تغيب الأمكنة (البحر/
الشاطئ/الرمل) ذات الطبيعة
المادّية الحسيّة، كي تحضر بدلاً
عنها اعتباراً من (آثار الأقدام)
ذات الطبيعة الإشاريّة الرمزيّة
دوالّ معنوية، ترفع الصورة
الشعريّة من منطقة دون مستوى
النظر إلى منطقة أعلى مستوى
النظر:
وليس هناك من آثارِ أقدام،
آثارُ الأقدامِ تحوّلَتْ إلى
ذكريات.
الجسد الممثّل بالأقدام هو الجسر
الذي تتحوّل منه حيوات القصيدة من
الأسفل المتعلّق بآثار الأقدام
نحو الأعلى (ذكريات)، وحالة
الذكريات هنا هي خلاصة سلسلة
تحولات دوالّيّة تبتدئ بالبحر
وتنتهي بآثار الأقدام على نحو
متدرّج شبه منطقيّ
(البحر/الشاطئ/الرمل/ آثار
أقدام)، حين يتمّ التحوّل من نسق
أفقيّ إلى نسق عموديّ متمثّل بـ
(ذكريات)، في سياق تشكيل صوريّ
يوائم سيميائيّاً بين (آثار
الأقدام) بوصفها ذكريات الجسد
وتركاته على الرمل، وانتقال هذه
الصورة المرئيّة إلى صورة
تخييليّة ترتفع نحو الذهن لتصبح
(ذكريات).
الذكريات مادة تخييليّة تكمن في
قبوٍ مظلمٍ بلا قرار يدعى
(الذاكرة)، تتعرّض لقدرٍ من
التغيير والتعديل بحسب مناسبة
استحضارها وطريقتها وتوجيه رغبة
صاحبها، وهي في القصيدة تعبّر عن
شكلها وهويتها ومضمونها الإنسانيّ
بطريقة جسديّة سائلة (دموع)،
ويكشف هذا التحوّل معنىً مُعيّناً
دالاً دلالة سيميائيّة على طبيعة
المرجعية التذكّريّة داخل سلسة
التحوّلات (البحر/الشاطئ
/الرمل/آثار أقدام/الذكريات)، إذ
تعود مرةً أخرى إلى طبيعتها
السائلة من دموع الطبيعة الهائلة
(البحر) إلى دموع الإنسان التي
تقطّرها العيون (دموع)، من ماء
أرضيّ ثابت الدلالة إلى ماء جسديّ
متغيّر الدلالة والمعنى والقيمة
والحكاية:
وليس هناك من ذكريات،
الذكريات تحوّلَتْ إلى دموع.
غير أنّ هذه (الدموع) ما تلبث أن
تتكاثر وتتسع كي تعود إلى جذرها
المائيّ الأصل في نموذج منتخب من
نماذجه، حين تختفي من شاشة
الدلالة لتترك آثارَها في بحر
خاصّ هو (بحر سفينة نوح) إيذاناً
بالطوفان:
وليس هناك من دموع،
الدموع تحوّلَتْ إلى بحرِ سفينةِ
نوح.
إنّ (بحر سفينة نوح) هو البحر
الكليّ الشامل المطلق الذي يُلغي
اليابسة ويمحو ما عليها، هكذا
تفترض نبوءة القصيدة طوفاناً
تحقّقه الدموع الجارفة المغدورة
تاركة سفينة نوح وليس على متنها
سوى الغامض المجهول، فليس ثمّة
إشارة إلى ما كانت تحمله أصلاً في
القصّة القرآنيّة ((من كلٍّ
زوجينِ
اثنين)) إلّا إذا كانت
ضمنية لا تحتاج إلى علامة.
وحين يختتم الراوي
الشعريّ سرد قصته الشعريّة
اللولبيّة بهذه الجملة
التنويريّة:
ونوح مرّ من هنا بسفينته ومضى!
فهذا يعني عدم نيّة نوح في الرسو
على جبلٍ ينقذ حمولة السفينة
لتبدأ حياة جديدة، إنّها صورة
قياميّة تتجلّى في قوّة حضور آخر
دالّ فعليّ متحرّك من دوال
القصيدة (ومضى!) مختوماً بعلامة
التعجّب (!)، للدلالة على مغادرة
نهائيّة تقترح القيامة بعد أن
تنمحي (آثار أقدام) من على رملٍ
غمرته مياه بحر سفينة نوح وغادرت
المكان نحو المجهول بلا أثر.
**************************************
(*) الحرف والغراب، أديب كمال
الدين، الدار العربية للعلوم
ناشرون، بيروت، ط1، 2013: 104.