التناص القرآني في أشعار أديب کمال
الدين
الدکتور نعيم عمورى
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية
وآدابها
بجامعة «شهيد چمران اهواز»
الملخّص:
سار في الآونة الأخير النقد الأدبي
مسارات عدّة وتشعب بتشعبات عديدة منها
نظرية التناص حيث لها أصول في نقدنا
القديم في قضايا الاِقتباس والتضمين
والسرقات الشعرية؛ لکن نظرية التناص
التي طرحتها جوليا کريستيفا هي نظرية
جديدة وتعني تداخل النصوص و بصورة
هادفة و لغرض معيّن. التناص في حدّ
ذاته تنوّع بأنواع متعددة ومنها
التناص القرآني الذي يندرج تحت إطار
أکبر وهو التناص الديني، في بحثنا هذا
درسنا التناص القرآني في أشعار أديب
کمال الدين ودرسنا الأشعار التي تناصّ
معها الشاعر أو استخدم القصص القرآنية
وذکرنا اسباب تناصه منها نفسيته ومنها
عطفه علی البشرية کافة التی أوجبت
استخدامه للتناص و ذلك باستخدام
التناص الذاتي لکن معنی هذا أنّه لا
ينسی التناص الظاهري ولا يغفل استخدام
الإيقاع القرآني الموجود في القرآن
الکريم ولاسيما في سورة الرحمن التي
تناصّ معها ومن ضمن النتائج يمکن
الإشارة إلی استخدم عنصر الغياب في
تناصه القرآني وأراد من الغياب عنصر
الغربة، غربة يوسف(ع) وإخوته؛ وغربة
أديب کمال الدين وباقي أبناء
الرافدين.
الکلمات الدلالية:
التناص، القرآن، الشعر، أديب کمال
الدين.
Quranic Intertextuality in the
Poetry of
Adeeb Kamal Ad-Deen
Abstract
Contemporary
literary criticism has created
various trends and has been divided
into various categories, namely the
theory of intertextuality which
stems from techniques such as
adoption and Tazmin (a form of
allusion in Iranian and Arabic
literary culture) in classical
literature. However, the theory of
intertextuality, which was proposed
by Julia Kristeva, is a new theory
which deals with deliberate
interrelatedness between the texts.
Intertextuality is divided into
various types such as Quranic
intertextuality which itself is a
subset of religious intertextuality.
In the present research, we will
investigate Quranic intertextuality
in the poetry of Adeeb
Kamal Ad-Deen
We have investigated the verses and
stories of Quran employed by
Adeeb
Kamal Ad-Deen
i n his
poetry; and the reason behind their
usage including his personality and
his attempt for expressing the
difficulties that people were
subjected to, have been elaborated;
this brings us to intrinsic or
internal intertextually, yet it does
not mean that formal intertextuality
and the music of Quran have been
ignore; quite on the contrary,
formal intertextuality, specially in
the Sura of Al-Rahman, has been
concentrated on. Among the
achievements, the element of
“disappearing” which relates to
roving and alienation as observed in
the story of Joseph and his brothers
and
Adeeb Kamal Ad-Deen and
his compatriots is worth mentioning
Keywords:
Intertextuality, Quran, Poetry,
Adeeb Kamal
Ad-Deen.
المقدمة:
في هذا البحث الذي يحمل عنوان التناص
القرآني في أشعار أديب کمال الدين
تطرّقنا إلی نظرية التناص و مدلولها
في الأدب العربي و أيضاً في القرآن
الکريم و من ثمّ دراستها في أشعار
أديب کمال الدين حیث مزج فی أشعاره
الآيات القرآنية ليستخدمها في صوفيته
و عرفانيته التي يغوص في أغوارها
ليحکي مظومية البشرية تارة ووحدته
تارة أخری ثمّ يعکف علی الشعب الذي لا
يفارقه وإن شطت به النوی أي لا يفارق
ذکر العراق و أهله و لذلك يستخدم
الآيات والقصص القرآنية ليحکي همّ
الشعب و في بحثنا تتبعنا المنهج
الوصفي-التحليلي نهدف من وراء ذلك
بيان التناص القرآني في أشعار کمال
الدين وذاك تحت إطار الأسئلة
التالية:
-
لماذا استخدم أديب کمال الدين التناص
القرآني؟
-
ما هي آليات أديب کمال الدين في تناصه
القرآني؟
فرضيات البحث:
-
تغذّی الشاعر من مناهل متعددة ليروّي
عطشه الممعرفي في شعره لکنّه وجد في
القرآن الکريم و في قصصه الکثير من
العبر کي يُعبّر بها عن أفکاره
الروحانية أو السياسية أو الاجتماعية.
-
الآليات التي استخدمها أديب کمال
الدين في أشعاره تتمثّل بالتناص
الظاهري و التناص الذاتي في تناصه
القرآني.
خلفية البحث:
لقد کتب الکثيرون عن التناص خاصة في
الشعر العربی المعاصر و عالجوا هذه
الظاهرة في دراساتهم منها:(التناص في
مختارات من شعر الانتفاضة المباركة:
حمدان، عبدالرحيم، مجلة جامعة الشارقة
للعلوم الشرعية والإنسانية، العدد3)،
(التناص الديني في الشعر الفلسطيني
المعاصر: بركة، نظمي، مجلة فكر
وإبداع، العدد ٢٣)، (توظيف التراث في
الشعر العربي المعاصر في مصر: هلال،
عبد الناصر، أطروحة دكتوراه ، كلية
البنات/ جامعة عين شمس.) و (التناص
القرآني في رواية حكايات حارتنا لنجيب
محفوظ: خلیل پروینی و نعیم عموری:
آفاق الحضارة الاسلامية، اكاديمية
العلوم الانسانية و الدراسات الثقافية
السنة الثالثة عشرة، العدد الثاني)و
... ولقد أدت هذه الأبحاث والدراسات
بالعديد من الملاحظات المفيدة، حول
التناص في الشعر و في الرواية لکن حول
الأعمال الشعرية للشاعر أديب کمال
الدين، فهناك الکثير من الدراسات منها
کتاب «الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب
كمال الدين»تأليف : د. صالح الرزوق
- سوريا،منشورات "ألف لحرية
الكشف في الإنسان"صدر عام 2011 وتطرّق
فیه إلی "الشكل العام للقصائد
والاتجاهات الحداثة و"الأسطورة والرمز
الديني و"معنى الوطن والمضمون
الاجتماعي في شعر أديب كمال الدين"و
أيضاً کتاب «إشكاليّة الغياب في
حروفيّة أديب كمال الدين» لصالح
الأنباري صدر عام2014 و فیه درس ظاهرة
الغياب في شعر کمال الدين، و کتاب«
تَجلّيات الجَمَال والعِشْق عند أديب
كمال الدين» للأستاذة أسماء غريب حیث
درست أشعاره من منطلق الصورة الشعرية
والجمالية وهناك العديد من البحوث حول
الشاعر منها مقالة« توظيف الصور
القرآنية في الشعر:قراءة في مجموعة
"مواقف الألف" للشاعر أديب كمال
الدين» لسمير عبدالرحيم أغا، حيث درس
فيه الصور الشعرية في اشعار الشاعر في
مجموعته مواقف الألف.
التناص لغة و اصطلاحاً:
التناصّ من مادّة «ن ص ص» ذو معانٍ
مختلفة، و«النصّ» في اللغة بمعنی
الرفع وأقصی الشيء وغاياته (ابن
منظور، 1988م، مادّة: نصص) وبمعنی
الظهور والإيضاح والإنتظام وغاية
الشيء ومنتهاه.(فيصل الأحمد،2003:
ص23)
وفي المصطلح «بمعنی تشکيل نصّ جديد من
نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو
النصّ المتناصّ خلاصةً لعدد من النصوص
التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت
صياغتها بشکلٍ جديد، بحيث لم يبقَ من
النصوص السابقة سوی مادّتها، وغاب
"الأصل" فلا يدرکه إلاّ ذو الخبرة
والمران» (عزّام، 2001م: ص29) ويعتبر
التناص في مصطلحه من القضايا الحديثة
حيث ظهر لأوّل مرّة علی يد الباحثة
الفرنسيّة جوليا کريستيفيا، حيث تعرّف
التناصّ فتقول: «إنّ کلّ نصّ هو عبارة
عن لوحة فسيفسائيّة من الإقتباسات
وکلّ نصّ هو تشرُّب وتحويل لنصوص
أخری»(الغذامي، 1992م: ص 326).
يشير محمد مفتاح في تعريفه: التناص
وهو تعالق نصوص مع نص حدث بكيفيات
مختلفة. كما يرى فيه ظاهرة لغوية
معقدة يصعب ضبطها وتقنينها، إذ يعتمد
في تمييزها على ثقافة المتلقي ومعرفته
الواسعة وقدرته على الترجيح مع
الإعتماد على مؤشرات في النص تجعله
يكشف عن نفسه. (مفتاح، 1985:
119 و120). ظهر مصطلح التناص عند
جوليا كرستيفا عام1966م، إلا أنه يرجع
إلى أستاذها الروسي ميخائيل باختين،
وإن لم يذكر هذا الأخير، المصطلح
صراحة واكتفى بتعدية الأصوات،
والحوارية، وحلّلها في كتابه «فلسفة
اللغة»، وكتاباته عن الروائي الروسي
(دستوفيسكي)، وبعد أن تبعته جوليا
وأجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية
للتناص في دراستها «ثورة اللغة
الشعرية»، توصّلت إلی تعريف التناص،
بأنه التفاعل النصي في نص وبعينه.
التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من
النقاد الغربيين وتوالت الدراسات
حوله، وتوسع الباحثون في تناوله،
وكلها لا تخرج عن هذا الأصل، وقد أضاف
الناقد الفرنسي جيرار جينيت أصنافاً
للتناص. وبعد ذلك إتسع مفهوم التناص،
وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة
وجديرة بالدراسة والاهتمام، وشاعت في
الأدب الغربي، ولاحقاً انتقل الاهتمام
بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع
جملة ما انتقل إليه من ظواهر أدبية
ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي،
إضافة إلى الترسبات التراثية الأصيلة.
(الغذامي، 1992م:
326). هنالك إصطلاحات كثيرة وردت كلها
في إطار واحد هو إطار التناص فكما
يسميه البعض بالتناص يسميه آخرون
التفاعل النصي أو التداخل النصي أو
العلاقة بين النصوص أو المتعالقات
النصية. وهي عبارات مختلفة في اللفظ،
وتطمح إلی الهدف نفسه بل بصورة أدق
كلها أسماء لمسمی واحد، ولعل التفاعل
النصي أنسب هذه التعابير، لأنه يحمل
في طياته صورة التأثير التي يرسمها
النص المتقدم في النص المتأخر، وهو ما
يمكن من خلاله الكشف عن العلاقة أو
الصلة بين النصوص من حيث أدبيتها
(الأمین،2011م:
5). لقد برز مصطلح التناص حدیثاً في
الدراسات الأدبيّة، وقد اِهتمّ النقاد
في هذا المجال بالمعاني المتکررة بين
الشعراء والکتاب، والبحث عن الإصالة
لدی الأدیب. فالتناص إذاً ضرورة
يفرضها الواقع الأدبي الذي يحتم على
الكاتب والقارئ ضرورة فهم النص، فلولم
يكن النص، إستجابة لنصوص متقدمة لا
نهائية لما كان له أن يفهم.(کریستیفا،
1991م
:21).
لعل هذه الحتمية أو الضرورة التي تقف
وراء عملية التناص هي التي جعلت مفتاح
يعتبره من أهم الضروريات، بل لا حياة
للأدب مالم يكن هنالك تناص. إذن
فالتناص للشاعر بمثابة الهواء والماء
والزمان والمكان للإنسان، فلا حياة له
بدونها ولا عيشة له خارجها. ( مفتاح،
1985:
120). يعد التناص تقنية فنيّة جمالية،
فليست العبرة فيما إذا وجدت هذه
التقنية في النص المقروء أم لا، وإنما
فيما إذا نجحت في أن تضيف إلی النص
بعداً جمالياً وفنياً قادراً علی
إدهاش القارئ وإستدراجه إلی النص أم
لا. هذا بالإضافة إلی أنّه يوفر للنص
بعداً معرفياً يتمثل في الإيماء إلی
النص السابق، سواء أکان موروثاً
أسطورياً أم دينياً أم تاريخياً، وهو
ما يصل بالنص إلی ما يسمی بالمعرفة
الجماليّة.
ولکن يری بعض الدارسين أنّ مفهوم
التناصّ ليس جديداً کلّ الجدة، بل
إنّه قد عرف منذ القديم وله جذور في
تراثنا النقدي والنقّاد القدماء قد
أشاروا إليه حينما ذکروا مصطلح
السرقات الشعريّة، وخصّوا بالذکر سرقة
المعاني، وقالوا إنّه باب لم يسلم منه
أحد، وهذا إقرار منهم بأنّ النصّ
يتناصّ مع نصوص کثيرة مهما حاول صاحبه
أخذ الحيطة و الحذر، فيقول الآمدي:
«إنّ من أدرکته أهل العلم لم يکونوا
يرون سرقات المعاني من کبير مساويء
الشعراء وخاصّة المتأخّرين، إذ کان
هذا باباً لم يتعرّی منه متقدّم ولا
متأخّر». (الآمدي، 1961م: ص291).
ويقول ابن رشيق:« وهذا باب
متّسع جدّاً لايقدر أحد من الشعراء أن
يدّعي السلامة منه». (ابن رشيق،
2001م: 2/280)
وکان يُحثّ علی الأخذ من التراث
والإفادة منه، وقد انتبه الشعراء إلی
أهميّة التراث والحفاظ عليه؛ لا لأجل
المحاکاة والتقليد بل للحفاظ علی
الموروث وإثراء النصوص الأدبيّة،
خاصّة أنّ مجال المعاني قد ضاق علی
الشاعر المحدث «لأنّ من تقدّمه قد
استغرق المعاني وسبق إليها وأتی علی
معظمها» (الجرجاني، 1988م: ص 241)
وارتسمت طريقة للأخذ بالمعاني وشاعت
هذه الطريقة بين الأدباء حيث قسّم
النقّاد القدماء الأخذ من التراث إلی
قسمين: محمود ومذموم، فالمحمود هو ما
يضيف إليه الشاعر إضافات جديدة في
الصورة
أو العبارة. أمّا المذموم فهو
الذي لايستطيع أن يضيف إليها شيئاً من
ذلك. ومن حيث أنّ النقّاد کان يشعرون
بقصور فهم مصطلح السرقة، قاموا بتصنيف
السرقات ووضعوا لها مصطلحات کثيرة
متدرّجة کالتّلفيق، والإلمام، والمسخ
والسّلخ، والتلميح، والإقتباس والعقد
...إلخ. ممّا يدلّ علی قصور مصطلح
السرقات.
توظيف القرآن الکريم:
يعدّ التراث الدينيّ مصدراً خصباً
لإثراء النصوص الأدبيّة، وهو من
المصادر الإلهام الأولی عند المبدعين،
وقد تمثّل هذا التراث الدينيّ في
الکتب السماويّة المقدّسة، فالقرآن
الکريم هو مصدر أساسي أفادّ منه
الشعراء العرب علی مدی عصور الأدب بعد
عصر صدر الإسلام. ومن هذا الجانب نری
الشعراء قد تأثّروا کثيراً بأساليب
القرآن الکريم، وبمعانيه وقصصه.
وقد شکّل القرآن الکريم المصدر الأوّل
للفصاحة والبلاغة والبيان في التّراث
العربيّ، فکان له أثر کبير في تکوين
معاني الشّعراء والأدباء والخطباء
وألفاظهم وصورهم وصقلها، حيث استلهموا
ـ علی مرّ العصورـ العديد من الألفاظ
والمعاني من آياته وقصصه، وحکمه
وأحکامه، ووعده وتبشيره ونذيره،
ولوّنوا أشعارهم بصورة الماديّة
الجميلة، وأفکاره العظيمة المتميّزة.
(السمرة، 1985م: ص93)
ويقسّم التناصّ القرآني إلی التناصّ
الدّاخليّ والخارجيّ؛ فإنّ استخدام
نصّ الآية في الأعمال الأدبيّة
النثريّة والشعريّة يعتبر تناصّ
خارجيّ، أمّا استخدام مضمونها فهو
تناصّ داخليّ.
التناص القرآني وأهدافه:
ظهر نوع من التناص في الدراسات
الأدبية باسم التناص القرآني وهو ذلك
الترابط النصي الواعي بين المبدع
والقرآن، فالاستخدام الواعي الممهد له
من القرآن يندرج في دراسة التناص
القرآني، فالتناص القرآني بمفهومه
العام دخل في مجالات الحياة
الاجتماعية وفي کافة العلوم ولاسيما
العلوم الإنسانية من فلسفة وتاريخ
وآداب...إلخ. وبمفهومه الخاص الذي
يکمن في الأعمال الادبية النثرية
والشعرية، والقرآن الکريم دخل في
الأعمال الأدبية وقد استخدمه الأدباء
والشعراء في أعمالهم. فإن استخدم
الأديب نصَ الآية فهذا تناص خارجي وإن
استخدم مفهومها فهذا يُعتبر تناصاً
داخلياً وهو يقوم علی استحضار نص
الآية القرآنية أو مفهومها «فالتناص
بالقرآن له هدف أدبي جمالي حيث إنّ
أسلوب القرآن هو الأسلوب الأمثل للغة
العربية ،واتخاذ بعض صوره وأساليبه
نموذجاً يضاف للصياغة الأدبية ؛مما
يکسبها رونقاً وجمالاً .هذا فضلاً عن
الهدف الديني الذي يجعل التواصل بين
القارئ والکاتب تواصلاً خلاقاً لما
يجمع بينهما من رصيد زاخر بتقديس
القرآن الکريم والتأثر بمعانيه
العظيمة»(الغباري،2003م:181) فمفهوم
التناص القرآني يظهر من التدقيق في
العمل الأدبي واظهار هذا التراث
الإسلامي حيث يستخدم الأديب التناص
القرآني مستفيداً من جمال آياته
وصياغته في عمله الأدبي واتخاذ العبرة
من القرآن والاستشهاد به ولو بکلمة
واحدة يعطي النص الأدبي رونقاً وبهاء
متزايدين، الکلمة وحدها لاتشير إلی شئ
وانما يستخدمها الأديب بأسلوب مثيل
للقرآن الکريم وذاك شرط ان يکون
ممهداً لهذا الاستخدام،فالتناص
القرآني يعطي ثقلاً أدبياً للعمل
الأدبي.
هذا
ويستخدم التناص القرآني بشکليه
الداخلي والخارجي في الأعمال الأدبية
والغرض منه -علاوة علی تجميل الاسلوب
بالأسلوب القرآني واتخاذ العبر –بيان
المقاصد الدينية والاعتقادية
والسياسية...إلخ. فمن أهداف التناص
القرآني کشف وإظهار التراث الإسلامي
الموجود في النصوص النثرية والشعرية
،ومن ثَمّ لايُعدّ التناص استرجاعاً
للمخزون الثقافي فحسب أو استعادة
للذاکرة الثقافية ، أو تداخلاً للنصوص
في العمل الأدبي دون فلسفة أو هدف،
وانما هو عملية مقصودة لأهداف ،أهمها
تحقيق العملية الأدبية للتواصل الناجح
بين المبدع والقارئ.
وبهذا تمکن الإشارة إلی أهمية التناص
بإعتباره سياقاً أدبياً خلاّقاً تلغی
فيه الحدود بين الماضي والحاضر في
سبيل تجديد الأدب وتطويره، دون زعم
لتجديد قائم في فراغ، ودون إبداع منبت
عن السياق المحيط به ،ودون إدعاء
عبقرية فردية لأديب ما إلاّ من خلال
تداخله مع نصوص أخری مبدعة.(شبل
محمد،2007م:77) بمعنی أنّ العصر يشارك
في الابداع ويمثّل قوة اللحظة
التاريخية التي تشترك مع قوة ذهن
المبدع .فالکاتب علی أيّة حال ليس قوة
مطلقة ،وکذلك لا يمکن ان يکون عمله
الفني قوة مطلقة. وعلی هذا يقوم
التناص علی العلاقة النصية التي تصل
اللاحق بالسابق وترد علاقات الحضور
إلی علاقات الغياب. ويحدث هذا في
التجاوب الدلالي الذي تشير به النصوص
إلی النصوص السابقة ،أوتردد به النصوص
أصداء غيرها الذي يکمل معناها. لذلك
فهناك أهمية للنصوص الغائبة والمسبقة؛
لأنّ أيّ عمل يکتسب ما يحققه من معنی
بقوة کل ماکُتب قبله من نصوص، مما
يمکن معه فهم النصوص في سياقها
الثقافي، ودون أن يسلب النص الحاضر
خصوصيته،(الغباري،2003م:161) فإظهار
التراث الإسلامي الموجود في القرآن في
طيّات الأعمال الادبية و وصل الماضي
بالحاضر من أبرز أهداف التناص.
دراسة التناص القرآني في أشعار أديب
کمال الدين
أديب کمال الدين ينغمس في طيّات الکتب
المقدسة وخاصة القرآن الکريم وذلك
للتناص بالآيات الشريفة، ويستخدم
الصورة القرآنية في تصويره الفني
لأشعاره وکما نعلمُ لا شك أن"الصورة
الفنية" هي قوام البنية العميقة لأي
عمل أدبي ولا سيما الشعر منه، فمجمل
أجناس الخطاب الأدبي تشترك في مبدأ
"التصويرية، ولكنها تختلف فيما بينها
في استعمال الصورة كما وكيفا، لقد
تعرضت الصورة الشعرية شأنها شأن
العناصر الفنية الأخرى إلى تطور في
المفهوم والدلالة، فقديما كانت تقف
عند حدود الصورة البلاغية المجازية من
التشبيه والاستعارة، ولكن مع انفتاح
عالم الشعر على المشهد الثقافي للحياة
المعاصرة أخذت الصورة تتنوع وتتسع
لتصبح أكثر شمولا، فباتت تستمد
مصادرها من منابع مختلفة، ذلك أنها في
سعيها إلى التوصيل والتواصل لن تكون
عملا فنيا مكتفيا بذاته. بل تثرى
بالتفاعل والتأويل الذين يعززان دورها
في بناء الثقافة" (الدليمي،1990م:87)
. ولذلك لم يعد "الشاعر المحدث" يستقي
من ينبوع ثقافي واحد او من مصادر
معينة كما الحال في العصور الماضية،
فقد عمد الشاعر إلى التناص مع الموروث
المختلف أنواعه الأسطورية والشعبية
والتاريخية والأدبية فضلا عن توظيف
تقنيات الفنون المختلفة الأدبية منها
وغير الأدبية للتخلص من اسر الغنائية
والمباشرة وإثراء القصيدة بأساليب
تستقيها من الفنون الأخرى" (المصدر
نفسه:134) لقد استثمر الشاعر أديب
كمال الدين جميع هذه الإمكانيات
مستعينا بموهبته في تصوير مشروعه
الشعري بدافع من هاجس المغايرة فكان
خطابه الشعري حافلا بمختلف التقنيات
الحديثة وأكثر ما يتجلى في مجال إنتاج
الصورة الشعرية من مصادر شتى، لما لها
من دور فاعل في تحويل النبضة الفكرية
إلى نبضة جمالية.
تغذّی أديب کمال الدين من القرآن في
أشعاره وهذا ما صرّحت به أسماء غريب
حيث تقول:«تعددت المناهل التي غرف
الشاعر من معينها كي يسطّر بنسغها
نصوص قصائده الثرّة، إلا أن المعين
القرآني يظل أنقاها وأصفاها وأكثرها
غنى وتنوعاً. ولعلّ هذا ما يبرر لجوء
الشاعر في نسج خيوط متون قصائده ليس
فقط إلى مضمون النصّ القرآني وقصصه
وعظاته، ولكن إلى تقنياته وأدواته
البلاغية والبيانية، ولربما يكون
التكرار واحداً من أكثر هذه الأدوات
حضوراً في متن الشّاعر بشكل لافت
للانتباه.»(غريب،2013م:125)
وظّف أديب کمال الدين الصور القرآنية
في النص الشعري، ونحن نعرف أن
"التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب
القرآن الكريم، فهو يعبر بالصورة
المجسمة المتخيلة عن المعنى الذهني
والحالة النفسية وعن الحادث الممسوس،
والمشهد المنظور ثم يرتقي بالصورة
التي يرسمها مجسما الحياة الشاخصة او
الحركة المتجددة فاذا المعنى ذهني
هيئة أو حركة واذا الحالة النفسية
لوحة أو مشهد " (قطب،1999م:36)
آيات
أو سور القرآن من قصص ومشاهد القيامة،
نماذج إنسانية، المنطق الوجداني،
مضافا إليها تصوير الحالات النفسية،
وتشخيص المعاني الذهنية وتمثيل بعض
الوقائع التي عاصرت الدعوة وهي تؤلف
على التقريب أكثر من ثلاثة أرباع
القرآن، وكلها تستخدم طريق التصوير في
التعبير فلا يستثنى من هذه الطريقة
سوى مواضع التشريع وبعض مواضع الجدل
(أغا،2012م، مواقع الحوار المتمدن)،
بهذه الطريقة وظف الشاعر أديب كمال
الدين الصور القرآنية في مجموعته
الجديدة "جيم" الصادرة ببيروت عن
منشورات الضفاف لهذا العام 2015 في
طبعته الثانية عبر انفتاح النص الأدبي
على النص القرآني بما فيها فوائده
الكاملة، وهي مناظر شاخصة من صور
وظلال، وإن مصادر الصور الشعرية لهذه
المجموعة هي من النبع القرآني بكاملها
حيث تتنوع الصور في معظم قصائد
المجموعة وقد استعرضها في مسمّيات
نتطرّق إليها کالتالي:
«إشارات التوحيديّ/إشارة الفجر*******
لو أنزلنا هذا الفجرَ المحمومَ على
جبلٍ للغيرةِ والشمسِ / لرأيتَ الماءَ
سعيداً والطيرَ يغنّي شيئاً / عن
ذاكرةِ العشب. / لو أنزلنا هذا الفجرَ
الأسْوَد / وعلى وطنٍ للحُبّ / لرأيتَ
الزهرَ الدافئ ينمو، يلتفُّ على
الجسدين وحيداً / ويمشّطُ شَعْرَ
القلبْ / بأصابع من ندمٍ أخضر /
ويمشّطُ شَعْرَ القُبُلات / بأصابع من
بلّورٍ أزرق. / لو أنزلنا هذا الفجرَ
المسجونَ على أرضٍ / لا تنمو فيها
الخيبةُ والصحراءْ /لرأيتَ الحرفَ
عجيباً يحكي برنينِ الماء / عن خفْقِ
الحُبِّ وفاكهةِ الله.»
(کمال الدين،2015م: 197)
شاعرنا بنبرة مهموم يُعطي عطاءه
الشعري من قلب حزين وبلد جريح ينغمس
في طيّات القرآن الکريم ويستخرج لؤلؤة
من لآلئ القرآن، يتناص بالآية الکريمة
محوّراً لها في الوهلة الأولی کما
نلاحظ في بداية شعره:
لو أنزلنا هذا الفجرَ المحمومَ على
جبلٍ للغيرةِ والشمسِ...
يتناصّ مع الآية التالية:(لَوْ
أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا
مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) (سورة
الحشر/21) لکن کما نلاحظ في مفهوم
الآية و مفهوم النص الحاضر نلاحظ
التناص العکسي وهو في ظاهر الأمر تضاد
بين المفهومين في النص الحاضر(الشعر)
والنص الغائب (القرآن) لکن سبب استخدم
شاعرنا التناص العکسي هو لفت الانتباه
لما يريد أن يبوح به في شعره وعلاوة
علی التناص العکسي استخدم الشاعر
رمزية الألوان؛ الأسود/ الأخضر/
الأزرق.
استخدام التراکيب الوصفية والإضافية
الموغلة في الرمز والرومنطيقية تشير
إلی نوع من الرفض الذاتي لشاعرنا
الصوفي ومن هذه التراکيب: الفجر
المحموم/ذاکرة العشب/الفجر الأسود/
شعر القلب/ ندم أخضر/ شعر القُبُلات/
الفجر المسجون/فاکهة الله.
کل هذه التراکيب تشير إلی معنی خاص
نجد إجابته في مکنون قلب أديب کمال
الدين، هذا الإنغماس في الطبيعة- وهو
من سمات شعراء الرومنسية- لا يأتي من
فراغ بل يأتي من لوعة وحرقة وحزن
مضاعف، وعند الرجوع إلى نصوص الشاعر
نجده يوسّع إطار الرمز حتى يشمل
الإشارة والتي هي عبارة عمّا يخفى عن
المتكلم كشفه بالعبارة للطافة معناه
وغيرها من اللغز والايماء، وبذا لا
يجعل من الرمز قسيما للإشارة كما هو
الحال عند المتصوفة الذين وضعوا برزخا
بين الرمز والإشارة مما يشي
بتباينهما، بل إن أديب كمال الدين
يجعل من الرمز جسراً يربط بين (الغيب
والحس/ الخيال والواقع) لكن بطريقة
أخرى تتم بتقريب الميتافيزيقي، ووضعه
بصورة حسية ماثلة أمام القارئ خلافاً
للرؤية الصوفية التي تعتمد تفسير
الواقع الحسي بإرجاعه إلى صور غيبية
مستترة، وبهذا يكون أديب كمال الدين
قد استند على الرؤية القرآنية التي
تعتمل الرمز بطريقة التماثل بين عالم
الغيب والشهود، فتصبح وظيفته هي
اختزال ما وراء الحس بحروف ومواقف
وإشارات والسعي نحو خلق المعنی
(غالي،2014م:
http://www.adeebk.com)
فالمعنی عنده يتوالد من رصف التراکيب
المتعددة ورمزية الألوان وما تشير
إليه هذه الألوان ومن التناص القرآني؛
وفي مقطوعة أخری يقول أديب:
« الرحمن/خَلَقَ الإنسانْ/علّمه ما لم
يعلمْ../علّمه ما كانَ يكون/ما لم يكُ
في الحُسبانْ./المأساةُ اتسعتْ، مَن
لي يا ذاكرة خَرِبةْ/أنْ أقرأ
أوجاعي/والشاطئ مهجوراً يهذي بأناشيد
الهمِّ./المأساةُ اتسعتْ، فبأيّ
أقترحُ الليلةْ/فرحي الربّانيّ، أقودُ
الليلَ أسيراً/والبحرَ صديقاً والصخرَ
ودوداً/والمرأةَ كأساً قد مُلِئتْ
بالفجرِ، غناءِ العشبْ،/ألقِ
الأقمارْ./الرحمن /خَلَقَ الأكوانَ
وسلّمني مفتاحَ الأرضِ وبايعني./لكنْ
عذّبني الجندْ/إذ آلمني أرقُ الليلِ
المطعون، فشرّدني السلطانْ. /فبأيّ
أقترحُ الليلةَ معراجي../وأقودُ
مماليكي، شمسي وغيومي نحو
الله؟/الرحمن/خَلَقَ الإنسانْ/آتاهُ
الحكمةَ طيّعةً والبلبلَ
والهدهدْ./لكنّ الأرضَ انذهلتْ
والمأساة اتسعتْ وتعرّتْ/والغربة قد
كبرتْ./فأشيري يا كلمات الرحمةِ../إنّ
الإنسانَ بحُسبانْ./كثرَ اللغطُ/وبدتْ
صيحاتُ الآخر فاتنةً بعلاماتِ
الإبهامْ!/فعجبتُ، دهشتُ، وقلتْ:/أوَ
هذا جمركَ يا حرفي،/يا مَن تخفي ألقَ
الأشياءِ وفاكهةَ الأيّامْ؟/وعجبتُ
عجبتْ/حتّى أنكرني رأسي.لكنّي/في عمقِ
الضجّةِ أبصرتُ طيورَ الله /تهبطُ في
روحي وتذيعُ بقلبي الأثمارْ./فنظرتُ
إلى الضجّةْ/وصرختُ: سلاماً للهدأةِ
إذ بزغتْ في روحي، مرحى./وفرحتُ،
بكيتْ /مثل العصفور العطشان/وَجَدَ
الغدرانْ.» (کمال
الدين،2015م:7-9)
تتجلی لنا من خلال التناص القرآني
صوفية وعرفانية شاعرنا أديب کمال
الدين، حيث نلاحظ التناغم التام بين
أفکاره وبين السرد القرآني فاستخدامه
للقرآن لم يقصد به الإيقاع الموسيقي
فحسب بل يبحث عن أغوار المعاني
القرآنية وما يوجد في مفاهيم الآيات
فتناصه وإن بدا ظاهريا لکنّ استخدامه
ذاتي، بداية النصين الحاضر والغائب
واحدة وهي «الرحمن» لکن تغييرا يطرأ
علی النص الحاضر محوّراً النص الغائب
والتحوير يبدأ بتغيير«علّم القرآن»
إلی«خلق الإنسان» ويحتفظ شاعرنا
بالإيقاع الموسيقي في النص الغائب کما
نلاحظ في: (الرَّحْمَنُ
/عَلَّمَ الْقُرْآنَ / خَلَقَ
الإِنسَانَ / عَلَّمَهُ الْبَيَانَ /
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ /
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
/ وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ / أَلاَّ تَطْغَوْا فِي
الْمِيزَانِ / وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا
الْمِيزَانَ / وَالأَرْضَ وَضَعَهَا
لِلْأَنَامِ / فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ /
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ
وَالرَّيْحَانُ / فَبِأَيِّ آلاء
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (سورة
الرحمن/1-13)
يحيلنا هذا المقطع منذ ابتدائه إلى
اسم من أسماء الله الحسنى (الرحمن)
وإلى ملاحظتين مهمتين أولاهما وبشكل
لا يقبل الشكّ أنه مبني على تناصّه مع
سورة الرحمن وهو ما يثبت ملاحظاتنا
بشأن إعلان الشاعر عن مصادره
المتناصص معها وابتداء من غلاف
المجموعة (جيم). والملاحظة الثانية إن
الشاعر في هذا المقطع متوافق تماماً
مع ما جاء بنص (سورة الرحمن). حتّى
كاد يخرج بشعريّته إلى دائرة التأويل
لولا أنّ ذلك منفيّ بالسطر الذي يلي
هذا المقطع مباشرة بقوله (المأساةُ
اتسعتْ، مَن لي يا ذاكرةً خَرِبةْ)
وهو هنا في (إشارة الرؤيا) إذ يستدعي
صيغتين من صيغ النص الغائب (فضلاً عن
لفظ الرحمن)، صيغة (خلق الإنسان
وعلّمه البيان) والأخيرة هي التي
يحاول تأويلها لنا بـ(علّمه ما لم
يعلم.. علّمه ما كانَ يكون.. ما لم
يكُ في الحُسبانْ). والعبارة الأخيرة
من المقطع حملت معها صيغة رابعة على
شكل مفردة لا يمكن إرجاعها من خلال
السياق الذي وردت فيه إلّا إلى (سورة
الرحمن) وبالتحديد الآية
القرآنية (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ). وكما نرى
هنا جاءت الاستعارة محاولة من الشاعر
لتكثيف الصورة الشعريّة
باستدعائه للآية الكريمة على
مستوى عالٍ من الوعي بالحالة التي
بثّها النصّ بدوره على شكل صورة
شعريّة جديدة مختلفة عن ورودها داخل
النصّ: الأصل. (بلاوي، ،2015م:124.)
الإيقاع الموسيقي الموجود في النص
الغائب يحضر وبقوة في النص الحاضر حيث
الشعر يتجه منذ البداية إلی خلق
الإنسان ثم تعليمه ولِما هذا التعليم
وما الغاية منه؟ وهل التعليم موجود
بکنه البشر؟ وإذا کان هذا التعليم
موجود فلماذا يعيش هذا المتعلم يعيش
أبشع من حياة الحيوان الغير متعلم،
ولا ننسی أنّ التعليم الذي أراده کمال
الدين يغلب ظني أنّه (العقل البشري)،
العقل الذي أودعه الله- تبارك وتعالی-
في الإنسان الذي خلقه وعلّمه، لکن
السؤال يطرح نفسه لماذا ينادي بل يصرخ
الشعر بصيحة تصك الآذان
:
المأساةُ اتسعتْ، مَن لي يا ذاكرة
خَرِبةْ/ أنْ أقرأ أوجاعي/ والشاطئ
مهجوراً يهذي بأناشيد الهمِّ./
المأساةُ اتسعتْ، فبأيّ أقترحُ
الليلةْ... ، فلماذا تتسع مأساة
الإنسان المخلوق والمتعلم مِن قِبل
حکيم خبیر.کل ما في الأمر شاعرنا يذمج
صوفية وروحانيته البريئة مع الواقع
المرير وهذا ما نعبّر عنه بالصوفية
الجديدة التي تختلف عن تلك الصوفية
المتخلّفة التي تهجر الإنسان هذه
العرفانية موجودة في صميم الناس وتعيش
معهم. وفي استحضار قصة نبي الله يوسف
عليه السلام یقول کمال الدين:
لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟ /
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟ /لماذا
تركتهم يكذبون، / وأنتَ تعرفُ أنّهم
يكذبون؟ / أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً
جليلاً /
وأنهم
- واخجلتاه- استغلّوا / ضعفكَ البشريّ
/ وبياضَ لحيتِك / ودقّةَ عظمِك. /
أعرفُ هذا / وأعرفُ أنهم تركوني إلى
الموت / قابَ قوسين أو أدنى /وأنّ
الذئبَ كان أرحم من أراجيفهم. /لكنني
كنتُ ضعيفاً./ أصدقكَ القول/لم أستطعْ
أنْ أقاوم سحرَ لثغتها /ولا أنوثتها
الطاغية/فسقطتُ في البئر/وصحتُ:
انتشلْني/يا مَن كُتِبَ عليه ما قد
كُتِب/من عذابٍ عجيب.../كنّا
وحيدين/حين متّ بين يديّ./لم تقلْ
شيئاً./لم تقلْ أيَّ شيء./لماذا لم
تقلْ أيَّ شيء؟/لم أقلْ لكَ أيَّ
شيء./لماذا لم أقلْ لكَ أيَّ شيء؟/لم
نقلْ أيَّ شيء./لماذا لم نقلْ أيَّ
شيء؟
(کمال الدين،2011م:13-14)
تساؤلات عديدة يطرحها شاعرنا کمال
الدين ومن هذه التساؤلات قضية العراق
وأهله و الغربة التي يعانيها الشاعر
في أستراليا ويتناص مع سورة يوسف (ع)
وقصته الشهيرة التي يبدأ فيها عنصر
الکراهية/محاولة القتل/الغربة هذه
العناصر تبدأ عند إخوة يوسف أولاً
وثانيا أما العنصر الثالث فيشترك فيه
الطرفان يوسف غريب في مصر وإخوته
غرباء في نفسيتهما أي: أصبحوا في
ديارهم غرباء وهذا حال العراق عند بعض
جمهوره الأبي ويغلب الظن أنّ الشاعر
يستخدم هذه القصة ليحکي غربة العراق و
مظلوميته و مظلومة شعبه الذي تناهشته
الذئاب والأخطر من الذئاب؛ الشاعر
تناصّ مع النص الغائب التالي:
(لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ
لِّلسَّائِلِينَ/إِذْ قَالُواْ
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ
إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ/اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ
اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ
وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن
بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ/قَالَ
قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ
يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ
الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ
فَاعِلِينَ/قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا
لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ
وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ/أَرْسِلْهُ مَعَنَا
غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا
لَهُ لَحَافِظُونَ/قَالَ إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ
وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ
وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ/قَالُواْ
لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ
عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا
لَّخَاسِرُونَ/فَلَمَّا ذَهَبُواْ
بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ
فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ/وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ
عِشَاء يَبْكُونَ/قَالُواْ يَا
أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ
وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ
بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا
صَادِقِينَ/وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ
بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
عَلَى مَا تَصِفُونَ/وَجَاءَتْ
سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ
فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى
هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ/وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ
وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)
(سورة يوسف/7-20)
هذه الآيات التي استخدمها الشاعر تطرح
أسئلة کثيرة لکن السؤال الرئيسي حول
الضعف، الضعف البشري الذي انتاب يعقوب
(ع) وإبنه يوسف (ع) وإخوته وهذا ما
يُفهم من النص الحاضر ومن کثرة
الأسئلة حول سبب وقوع تلك الحادثة
المريرة التي کادت أن تقتل يوسف (ع)
لولا مشئة الله ف«لا وجود لما نسميه
موتاً بغياب الكائن الحي بل لا وجود
لأيّ منهما بغياب الآخر فهما وجهان
لعملة واحدة يستحيل الفصل بينهما على
الرغم من اختلاف بعضهما عن بعضه الآخر
في التفصيل والجوهر.أحدهما ديدنه
الحركة الدائبة المستمرة التي لم ولن
تتوقف على مرّ العصور والأزمنة.
والآخر ديدنه السكون الذي لا قرار
لسكونيّته على مرّ الأزمان والعصور.
وثمّة تناقض ظاهر يحكمهما ويجعل
الصراع بينهما قائماً لا محالة. ومن
أشكال الغياب التي خزنتها ذاكرتنا
الجمعية "غيابة الجُبّ" في قصة
الصدّيق يوسف وهي من القصص القرآنية
المعروفة التي بيّنت سبب اختيار
الأخوة للبئر مكاناً لتغييب أخيهم وهم
الذين يعرفون أنّ القتل غياب أبديّ،
وأنّ في الجُبّ خياراً آخر مرهونا
بمرور السيّارة والتقاطهم للمُغيّب.
وتشكّل غيابة الجُبّ لأديب كمال الدين
واحدة من أسوأ أمكنة التغييب لعمقها،
وظلامها، وغموض ما فيها، وسريّة ما
تدّخره من الأهوال والرعب والرهبة.
وهي في الوقت نفسه رحم الأرض وحِضنها
الرؤوم المستقر، وسرّتها، وموضع
الأسرار الدفينة، فضلاً عن كونها
التجويف المثير غريزياً. كما تحفظ
ذاكرتنا الطفلية بعض ما سمعناه عن
سكانها من الجن، والأشباح،
و(الطناطلة) وما تزخر به من القصص
العجيبة والغريبة...ومن سياق الأسئلة
يبدو لنا السائل صبياً فطناً عارفاً
بمسؤولية أبيه، وضعف أبيه، وبعدم
قدرته على مقاومة سحر لثغتها،
وأنوثتها الطاغية فهي هنا الأنثى
المشتهاة، وهي خازن الأسرار،
وسَقّاءَة الظمآن، وحاضنة المغيّب
جزئياً أو كلياً. ..في القصيدة ثمّة
اتجاهان متعاكسان يشير الأول إلى
الأعلى وفيه تصعد روح الأب إلى
السماء، ويشير الثاني إلى الأسفل حيث
علقت روح الأبن في غيابة الجُبّ وظلّت
على حالها وهي تترقب العودة والخروج
من قعر المأساة السوداء وزمهريرها
الذي ابتليت به إلى حيث الحياة والدفء
والنور الذي حُرِمتْ
منه.»(الأنباري،2014م:45-46) الشاعر
في تناصّه هذا لم يکن ينوي التناص
الإيقاعي الذي يتصف به النص الغائب بل
تناصّ مع ما جری في حادثة يوسف (ع)
مستخدماً الغربة التي تدور في هذه
القصة و کل مکوّنات القصة لکل مکوّنات
مکنوناته النفسية أو المکوّن العراقي
الحاضر.
النتائج:
في نهاية المطاف يُمکن التوصل إلی
النتائج التالية:
-
التناص القرآني الذي استخدمه الشاعر
يتجه نحو التناص الذاتي الداخلي وذلك
للتناغم التام مع نفسية الشاعر حيث
يستخدم تعابير تخدم المعنی والمتلقي
لا يمکنه المرور عليها مرور الکرام.
يحتاج القارئ إلی المکوث والدقة لما
يقوله الشاعر العرفاني کما يستخدم
شاعرنا تناصه القرآني لتغذية روحه
الشعرية ولإغناء شعره.
-
استخدم أديب کمال الدين التناص لأمور
عدّة ومن أهمّها في بحثنا هذا تناصه
مع قصة نبي الله يوسف (ع) حيث استخدم
عنصر الغياب في تناصه القرآني وأراد
من الغياب عنصر الغربة، غربة يوسف (ع)
و إخوته؛ وغربة أديب کمال الدين وباقي
أبناء الرافدين.
-
لا ننسی أنّ شاعرنا يتصف بصوفية
عرفانية أو بالأحری عرفانية اجتماعية
لا ينسی ولا يتناسی هموم الشعب
المظلوم ولا ينسی أنّات النخيل وصرخات
الفرات ويتناص مع القرآن وقصصه لبیان
ما يجري علی نفسيته أولاً وعلی ما
يجري علی شعبه الأبي ثانياً.
المراجع:
القرآن الکريم
الآمدي، الحسن
بن
بشر (1961م). الموازنة
بين
شعر
أبي
تمام
والبحتري،
تحقيق
السيد
أحمد
صقر، القاهرة، دار
المعارف.
ابن رشيق القيرواني، علي بن الحسن (2001م).
العمدة في محاسن الشعر و آدابه و
نقده. بيروت، المکتبة العصرية،
الطبعة الأولی.
ابن منظور، محمد بن مکرم. 1989م. لسان
العرب، مصر: دار المعارف.
أغا،سمير عبد الرحيم(توظيف الصور
القرآنية في الشعر:
قراءة في مجموعة "مواقف الألف"
للشاعر أديب كمال الدين) مواقع الحوار
المتمدن ومعارج وجدارية وسطور - 28 -
4 -2012م.
الأمین، محمد.(2011م) ، النقد ـ نظریة
الأدب، التناص مفهومه وأنواعه،
الخمیس. مصر.
الأنباري،صباح(2014) إشكاليّة الغياب
في حروفيّة أديب كمال الدين،
لبنان،بيروت، منشورات ضفاف.
بلاوي، رسول،(2015م) آليات التعبير في
شعر أديب کمال الدين،لبنان،
بیروت،منشورات ضفاف.
الجرجاني، عبدالله بن عدي بن عبدالله.
(1988م).
الوساطة بين المتنبي و خصومه.
تحقيق محمّد أبو ابوالفضل و آخر.
بيروت: منشورات المکتبة العصريّة.
الدليمي،سمير علي (1990م) الصورة في
التشكيل الشعري، الطبعة الأولی،دار
الشؤون الثقافية - آفاق عربية.
السمرة، محمود (1985م).
مدخل إلی النقد الأدبي. سلطنة
عمّان: وزارة التربية و التعليم و
شؤون الشباب، الطبعة الأولی.
شبل محمد،عزة، (2007م)علم لغة النص
النظرية والتطبيق،تقديم سليمان
العطار،القاهرة:مکتبة الآداب.
عزّام، محمّد.
(2001م).
النصّ الغائب. تجليّات التناصّ
في الشعر العربيّ. دمشق: منشورات
إتّحاد الکتّاب العرب.
غالي،أسامة (الرمز والفراغ عند الشاعر
أديب كمال الدين: خصائص اللغة
الشعرية وعلاقاتها بالمعنى ومستوياته)
جريدة القدس العربي 4
أيلول - سبتمبر 2014/
http://www.adeebk.com
الغباري،عوض(2003م)،دراسات في ادب مصر
الاسلامية،القاهرة:دار الثقافة
العربية.
الغذامي، عبدالله. (1992م). ثقافة
الأسئلة. مقالات في النقد و النظريّة.
جدّة: النادي الأدبي، الطبعة الأولی.
غريب،أسماء(2013م) تَجلّيات الجَمَال
والعِشْق عند أديب كمال الدين، لبنان،
بیروت، منشورات ضفاف.
فيصل الأحمد، نهلة. (2003م).
التناصيّة و النظريّة و المنهج.
الرياض: منشورات کتّاب الرياض
بالسعوديّة.
قطب،سید(1991م)،
التصوير الفني في القرآن،
مصر،القاهرة،دارالمعارف.
کمال الدين، أديب(2011) أقول الحرف و
أعني أصابعي،ط1، لبنان،بيروت،الدار
العربية للعلوم ناشرون.
کمال الدين،أديب (2015م) جيم شعر:أديب
کمال الدين،ط2،لبنان،بيروت،منشورات
ضفاف.
کريستيفا،جوليا، علم النص،ترجمة فريد
الزاهي،مراجعة عبدالجليل ناظم،الرباط:
دارتوبقال،ط1ف 1991م.
مفتاح، محمد،1992م. تحلیل الخطاب
الشعری ( استراتیجیّة التناص)، ، ط3،
مصر: الدار البیضاء.
1
-
-
اديب کمال الدين:
أديب كمال الدين
Adeeb Kamal Ad-Deen
شاعر معاصر من العراق ولد عام
1953 في محافظة بابل, تخرج من
كلية الإدارة والاقتصاد -
جامعة بغداد 1976 وحصل على
بكالوريوس في الاقتصاد، كما
حصل على بكالوريوس في الأدب
إنجليزي 1999 من كلية اللغات
- جامعة بغداد، وعلى دبلوم
الترجمة الفورية من المعهد
التقني لولاية جنوب أستراليا
2005.وعمل في العديد من الصحف
والمجلات العراقية
والعربية.يعتبر من أهم شعراء
جيل السبعينيات في العراق.
وقد اشتهر بتركيزه على جمالية
الحروف فكان الحرف بالنسبة
للشاعر كينونة متعددة الرموز
والمستويات منها: المستوى
الدلالي، الترميزي، التشكيلي،
التراثي، الأسطوري، الروحي،
الخارقي، السحري، الطلسمي،
القناعي، الإيقاعي، الطفولي.
كُتب عنه عدد كبير من
الدراسات والمقالات النقدية
في مختلف الصحف والمجلات
العربية لنقاد من العراق
وتونس ومصر وسوريا وفلسطين
ولبنان والجزائر والمغرب
وإيران وأستراليا.
www.adeebk.com
**************************
نُشر البحث
في مجلة مركز دراسات الكوفة،
العدد 40 لعام 2017 ص 205 - 220
|