شعريّة النصّ
في مجموعة
)الحرف
والغراب)
لأديب كمال الدين
مُقاربة نقديّة
د.
محمّد فاضل المِشلَب
مدخل
تبتغي هذه الدراسة الوقوف على لغة شاعر عراقي عُرف بوفرة نتاجه
الشّعري وأسلوبه ذي الملمح المأنوس
عند قرّاء قصائده عامّةً، فمنذ نتاجه الأول
(تفاصيل)
العام
1976
واضبَ أديب كمال الدّين على انضاج إصداراته الشعريّة بلغة غير
مُتوحّشة، تنبذُ غرابة الرّصف، وفداحة المعنى، وتنحازُ لتشكيل
المعنى وآفاقه
بلا تلاعب وعر، ودون تقليب
"هذياني"
للمجاز البلاغي، ولا يظن المتلقي أنّه يميلُ للغة العادية، بل
في كونه يكتبُ شعرًا بلغةِ يومه وعصره، إذ يحتفي عموم شعره
بالتشكيل اللفظي الواضح، غير المركون في المقبرة اللسانية لو
صحّ الوصف، بلغة يعيها الشاعر، ويمارسُ غوايته بتشكيلها
أشعارًا وحيوات، أو
كما تعبّر الشاعرة نازك الملائكة بالقول:
((اللغة
إن لم تركض مع الحياة ماتت))([i]).
وكي نحيط بلغة النصِّ الشّعري المُنتخب عينةً هنا، سنتناولها
باستفاضة في مجموعة
(الحرف
والغراب)
على مطالب ثلاثة تختصُّ بمحتويات المجموعة المختارة، يسبقها
مهاد نظري عن اللغة الشعريّة بوصفها الأداة الأولى التي نقرأ
عن طريقها النصوص نقديًا، على وفق منهجٍ قائمٍ على رصدِ قصائد
المجموعة فنيًا، واستنطاقها نقديًا، ووصف موضوعاتها وفلسفتها
الكامنة في كلّ موضوع.
اللغة الشعريّة
/
مهاد نظري:
من البديهي أنّ الشعرَ قوةٌ لغويّة لا تتأتى لأيّ إنسان،
ومقدرة إبداعية لا تتجلى بسهولة، فـ((الشعر
هو طاقة الكلام الثانية، هو سلطة من السحر والافتتان))([ii])،
وهذه الطاقة هي من تميّز الشعراء وتصنّف نصوصهم، فيما تؤول
سلطة الشعر، ولغته إلى تحريك عواطفٍ معينة، في نفسِ المتلقي،
على اعتبار أن
((النصوص
الشعريّة مصمّمة أساسًا لكي تثير فينا القلق قبل كلّ شيء))([iii]).
هذا ما يخصُّ فكرة الشعر، هويته، روحه، أما الألفاظ المُشكّلة
للغة الشعر، فهي كما يرى
عبد القاهر الجرجاني
(ت
471هـ):
((لا
تُفيد حتى تُؤَلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويُعمَد بها إلى
وجهٍ دون وجهٍ من التركيب والترتيب))([iv])،
ولو أردنا وصف اللغة الشعريّة وأن نقارب تشكيلها الاصطلاحي
نذهبُ للقولِ
((بأنها
رسم قوامه الكلمات المشحونة بالأحاسيس والعاطفة))([v])،
وهي كذلك
((تصوير
للانفعال المتأجّج في نفس الشاعر، ومنح الكلمات قوة تعبيرية
خلّاقة تشعّ بمعانٍ جديدة، لم تكن تمثّلها اللّغة في حالة
الاستعمال اليومي)([vi])،
وهي عند دارسٍ آخر أنها
((ليست
هي لغة الحياة المتواكبة مع حاجات الناس، هذه هي اللغة الوضعية
النفعية، اللغة النمطية، بينما لغة الشعر هي تلك اللغة التي
تعنى بالظلال النفسية والدلالات الوجدانية، وتجسيد الأحاسيس
والمشاعر الإنسانيّة))([vii])،
وما يمنح اللغة الشعريّة تلك الطاقة التعبيرية والقوة
المُحلّقة في الفضاء هو الخيال، الذي يمسُّ كيان الشاعر،
ويهبهُ فرصة التجوال فوق أقاليم اللغة، إذ يصبحُ الخيال
((قوّةَ
تصوّرٍ نستطيع بواسطتها إيجاد صور ذهنية نجسّدها بالكلمات))([viii])،
وهذا ما جعل سيسيل دي لويس من الخيال شرطًا أساسيًا لتشكيل لغة
شعريّة.
إذ يمكن القول إنّ الشّعر يكتسبُ هويّته
((من
خلال اللغة، وحياته هي حياتها، هي بذرتها الأولى، وطاقته، وما
يؤجج فيه قابلية الأثر، والفاعلية، ويهبه الأبعاد الأدبية،
الجمالية التي يحيا بمظاهرها))([ix])،
وعليه تنمازُ اللغة الشعريّة عن اللغة اليوميّة
(النفعيّة)،
والعلميّة بأنّها تبتغي تحرير الطاقة الداخلية للغة، وبموطئات
استعارية، تتجاوزُ أفق المألوف، لتحلَّ في المقام السَّامي
(الشعر).
لكلّ شاعر معجمه اللغوي الخاص الذي يُهيئ من خلاله قصيدته،
معجم يُضيف إليه ويعدّل عليه، كلما مرّت السنون، وتغايرت
التجارب الحياتية، والمعرفية ونضجت، فتتغاير لغة النصوص،
وتتنوع على مقاماتٍ صوريّة شتى.
وعليه بعد الاطلاع على مجموعة
(الحرف
والغراب)
للشاعر أديب كمال الدّين أمكن حصرَ حقول اللغة الأدبية الواردة
في المجموعة هذه في اتجاهين هما:
حقل شعريّة الطبيعة، وحقل شعريّة الرثاء، التي نحاولُ مقاربتها
نقديًا والوقوف عليها استنطاقًا لِمَا وراء القول الشعريّ.
أولاً/
شعريّة الطبيعة
تحفلُ مجموعة
(الحرف
والغراب)
بمعجم لغوي ينتمي أكثره إلى مفردات الطبيعة، عن طريق فرعيها
المتحرّك والصامت، فالمتحرّك هي الطبيعة التي تُصنّف بحسب
الطير والحيوان والحشرات، أمّا الصامتة فهي ما تؤول إلى
الأشجار والبحار والأنهار والأحجار وما شابه ذلك([x]).
احتفت لغة أديب كمال الدّين في مجموعة الحرف والغراب،
بالطيبعة، بعناصرها المتعدّدة، بحيث أمكنَ التعبير
((إن
ترديدها ضمن تشكيلة سياقية، يشير إلى حالة نفسية تسكن الشاعر))([xi])،
وعندما نأتي لقراءة أول نصٍّ افتتح به الشاعر مجموعته، كان
عنوانه
(الغراب
والحمامة)،
إذ وضِعا كرمزين يشيرُ فيهما الشاعر إلى ثنائية الشر والخير،
تلك الثنائية التي جُبلَ عليها الإنسان، منذ قابيل وهابيل، وما
انفك ذلك الصراع المرير، الذي عانت منه
-
ولا زالت
–البشريّة،
إذ يقولُ:
((حينَ
طارَ الغرابُ ولم يرجعْ
صرخَ النَّاسُ وسطَ سفينةِ نوح مرعوبين.
وحدي - وقد كنتُ طفلاً صغيراً
-
رأيتُ جناحَ الغراب،
أعني رأيتُ سوادَ الجناح،
فرميتُ الغرابَ بحجر.
هل أصبتُه؟
لا أدري.
هل أصبتُ منه مَقْتَلاً؟
لا أدري.
لماذا كنتُ وحدي الذي رأى
سوادَ الغراب
ولم يره النَّاس؟))([xii]).
فالشاعرُ وضعَ نفسهُ وسط حشدٍ بشري، في مكان عُرف في مختلفِ
الحضارات والأديان أنّه مكان للأمن والنجاة، أعني سفينة نوحٍ،
التي صارت ملجأ الخائفين ممن آمنوا بالنبي نوح
(ع)،
والمكان هذا كان وسط دوّامة ستحلُّ فيها الكوارث، واللعنات،
لأسبابٍ عدّة، فالشاعر تحدّث من خلال القصيدة بلسانِ طفل صغير،
في إشارة إلى البراءة الحقّة، والفطرة الأولى السليمة غير
الملوثة، وهو وفقًا لذلك كان الوحيد الذي شاهد الغراب،
المتدثّر بهالة الشؤم والنحس والكراهية عند الناس([xiii])،
وكأنّما البقية ممن كان في رحلة النجاة تلك، لم يرَ الغراب،
لكثرة آثامهم، وذنوبهم، ولم يقتصر على الطفل المشاهدة فحسب، بل
تعدّى لمحاولة إبعاد الشّر، ومنعهُ من الالتحاق بركبِ
السّفينة، فيما كان المقطع الثاني من القصيدة، يستجلبُ رمزية
السّلام والمحبّة، الحمامة الشقُّ الثاني من العنوان، ومدلوله
للخير والوئام الذي يُراد فرضه على هذه الأرض:
((حينَ
عادت الحمامةُ بغصنِ الزيتون
صرخَ النَّاسُ وسطَ السَّفينةِ فرحين.
لكنَّ الغراب سرعانَ ما عاد
ليصيحَ بي بصوتٍ أجشّ:
أيّهذا الشقيّ لِمَ رميتني بالحجر؟
اقترب الغرابُ منّي
وضربني على عيني
فظهرت الحروفُ على جبيني
عنيفةً، مليئةً بالغموضِ والأسرار.
ثُمَّ نقرَ جمجمتي
فانبثقَ الدَّمُ عنيفاً كشلّال...
فاقتربت الحمامةُ منّي
ووضعتْ على رأسي حفنةَ رماد:
حفنةً صغيرة،
مليئةً بالغموضِ والأسرار))([xiv]).
فأسلوب الشاعر في هذا النصّ امتاز بوصفه سرديًا، يحكي لنا
صورته عن طريق الحكي داخل القصيدة، مع شخصيتي
(الغراب
والحمامة)،
وفعل كلّ منها معه، مع ذاته، واحد سلبي مظهره الدم، والثاني
ايجابي، مظهرهُ التساؤلات والمجازات.
أمّا في قصيدة
(دروس)
فيلجأُ الشاعر إلى أسلوب تقطيع قصيدته إلى مقطوعاتٍ لكل واحدة
منها عنوان، ومنها المقطع الأول
المعنون بـ(درس
الفرات)،
إذ نقرأُ:
((بعد
أن لعبنا معاً
ورقصنا معاً
وأطلقتُ نقطةَ القلبِ فيه لأوّل مرّة،
بعد أن غرقنا معاً
وسكرنا معاً
وسفحنا دمنا الزكيّ معاً
وضعنا معاً
مثل طفلين يتيمين في السُّوق،
قالَ لي الفرات
في لحظةِ صدقٍ عجيبة:
انجُ بنفْسك!
ففائي أكذوبةٌ
ورائي محضُ خيال.
رغم أنّ تائي طويلة،
أطول من سفينةِ نوح!
قالَ لي: انجُ بنفْسك!
فلم تعدْ هناك
فوقَ مائي الذي يمتدُّ من أقصى الخرافة
إلى أقصى الغيمة،
ومن أقصى الشَّمس
إلى أقصى الحرف،
لم تعدْ هناك
-
صدّقني
- أيّ سفينة!
ولم يعدْ هناك - وا أسفاه
- أيّ نوح!))([xv]).
فتحضر العلاقة
الحميمية مع الطبيعة، مع أحد أعظم الأنهار على الأرض، وهو نهر
الفرات، أحد شريانيّ الحياة في العراق، فهو مهبط المشاكسات،
والنزوات البريئة، عبر مفردات
(اللعب،
الرقص، الغرق، السكر)
وكلها مفردات ضاجة بالحياة، أسهمت في تشكيل صورة البراءة
الأول، والطبيعة غير المستباحة، التي سرعان ما أظهر الشاعر
انتهاءها، وبداية زمن صعب، عسير، مليء بالانتهاكات،
والاستبداد، فخاطبه بفعلٍ راسخ في الذاكرة العراقيّة،
(أنجُ)،
الذي لهُ صداهُ عند غير المنتمين أيام النظام الاستبدادي، ومن
لهُ رؤى مختلفة عن أهواء السلطة، الذي لن يكون عندهُ طوق نجاة
فيما لو بقي، وهذا ما عبّر عنه مجازًا باسم النبي نوح
(ع)
منقذ البشرية.
وتساوقًا مع
(درس
الفرات)،
يأتي
(درس
النسيان):
((حينَ
ركبتُ غيمةَ شبابي
جاءَ مَن يسألني أن أبيعها له.
وحينَ رفضتُ بقوّة
جاءت الرِّيحُ فدفعت الغيمةَ مِن تحتي
لأسقطَ إلى الأرض،
لأسقطَ كلّ يوم
دونَ أن أكفَّ عن هذا الدرس.
أعني أن أكفَّ عن تذكّرِ هذا الدرس المخيف،
الدرس العصيّ على نفْسه
وعليَّ وعلى النسيان!))([xvi]).
فوظّف مفردات الطبيعة المتحرّكة
(الغيمة،
الريح)؛
لتدليل على انتهاء الأمل للمفرد، والوقوع في دائرة الاحباط،
والرعب الذي حاق بالإنسان العراقيّ منذ زمن بعيد، وهذا هو درس
في فصاحة القمع، الذي مورس على المجتمع.
الغربة في الطبيعة بوصفها مكانًا، سمة عايشها الشاعر في
قصائده، وعبّر عنها معجمه الشعريّ، عبر ثلاثة أمكنة هي
(بغداد)،
وهي محل نشأته الثقافيّة والدراسيّة، فـ(بابل)
وهي محل ولادة الشاعر، ثمّ
(سدني)،
وهي مستقره الأخير، ومنفاه المُختار، فيجمعُ طبيعة الأمكنة
المذكورة، في نصِّه
(مُبادلة)،
في حواريته التي دأبَ على الاشتغال الرّمزيّ فيها مع الحرف
والنقطة بوصفهما محمولين لهما حضورهما اللافت، في أغلب
مجموعاته، إذ يقول:
(أعطني،
أيّها الحرف،
نقطةَ باءِ بغداد
وسأعطيكَ طابعَ النسر
بمنقاره المعقوف
وذكرى حروبه البشعة)([xvii]).
فالشاعرُ وضعَ مُتلقيًا داخل القصيدة، يخاطبهُ، يحاورهُ،
بصفقةٍ تؤمّن له
–
إن تمّت
–
حياة ما كبيرة، فبينهُ وبين بغداد الحلم، مُبادلة طمحَ لها
الشاعر بوصفها مدينةً للسَّلام، مدينة للحرف والثقافة، وبؤرة
للعالم المُتحضِّر، كأيّام زهوها البعيد، بدلا من محمولهِ
"الموتي"
المستعار له بلفظة
"النسر"
الجاثم على صدرهِ مثل أيقونةٍ ثابتة، دون أن يغادرهُ، وهو ما
شكّل وطأة على ذات الشاعر، وعلى ذاكرته المثقوبة برصاص الحروب
المُتعددة.
فيما طمعَ الشاعر بالمكان بابل محل ولادته، وبواكيره الأولى،
بعدِّهِ حضنًا دافئًا يقيهِ من أرق الزمن، الذي فتّشَ عن
الخلود فيه مثل سلفه
"جلجامش"
لكن دون طائلٍ، ودون أن يصيبَ هدف مطمحه:
((أو
أعطني
نقطةَ باءِ بابل
وسأعطيكَ طابعَ رأسِ كلكامش
وقد قُدَّ من صخرةِ الخيبةِ والخذلان
بعدما سرقت الأفعى
عُشبةَ الرُّوحِ منه
وهو نائمٌ يتوسّدُ حلمَ الخلود))([xviii]).
أمّا الخيار الطبيعي الأخير من المكان، فكان المنفى
الاختياريّ، الذي ارتضاهُ الشاعر؛ هروبًا آمنًا من هولِ
الفجيعة، التي عايشها إبان سنوات الدكتاتوريّة، وحروبها
العبثيّة، إذ صارت ذات الشاعر دريئة تتمرأى عليها طعناتُ
السنين، والزمن الذي مرّ بمراراتٍ وحسراتٍ شتّى، فيقولُ:
((أعطني،
إذن، أيّها الحرف،
نقطةَ نونِ سدني
وسأعطيكَ
طابعَ امرأةٍ من فتنةٍ واشتهاء
بيدها زهرة من هباء،
وطابعَ كهلٍ يهذي قصائده المتشظّية
وهو يقلّب كفّيه
على ما أنفقَ من عمرِه
في شقّتِه الضيّقة))([xix])،
وهذا الاختيار لمكان النفي نرجحهُ الأقرب لنفسيّة الشّاعر.ومن
نصوص المجموعةِ المختلفة في محاكاة الطبيعة، نقرأُ المقطع
الآتي:
((مَنْ
سيصدّقُ أنَّ الأرضَ تمطر
والسَّماء تهتزُّ
ممّا ترى!))([xx]).
إذ عاكس الشاعرُ صور الطبيعة المألوفة، وقلب المعادلة الطبيعية
بالمعنى الشعريّ، فصارت الأرض ممطرة، والسماء متلقية، لكن أيّ
مطر نتساءل هنا؟ هل هو المطر الأحمر؟ الذي أحسن البشر هطوله في
سفك الأرواح، وتبرير انتهاك المحرمات، وتجاوزات لم يضع لها
حدّ؟
إنّ اندماج الشاعر مع الطبيعة المتحركة تشبيهًا واستعارةً،
سنلقاهُ في غير قصيدة، كما في قصيدته ذات العنونة التي تغري
المتلقي على التفاؤل
(بطاقة
تهنئة)
التي جاءت مقسّمة على ثلاثة مقاطع مُرقّمة من
(1)
إلى
(3)،
لكنّ يبدؤها الشاعر بحالهِ في المنفى، وصورة العزلة التي تحيط
به، وكيف غادرت الأشياء الجميلة التي كان يؤمل النفس بلقياها
من جديد، ليدخل في حوار داخلي مع الذات، قرين الشاعر في
القصيدة:
((لا
بأس
هذه المرّة
لا تكتبْ عن الطائر.
أنتَ لستَ بطائر،
فهمتْ؟
ولا عن الجناح.
أنتَ لستَ جناحاً،
فهمتْ؟
ولا عن المنقار.
أنتَ لستَ منقاراً،
فهمتْ؟
ولا
ولا
ولا.
اكتبْ، فقط، عن الريش.
أنتَ ريشةٌ سقطتْ من جناحِ طائر.
سقطتْ فحملتْها الرِّيح
مِن بلدٍ إلى بلد،
ومِن بحرٍ إلى بحر،
ومِن عشٍّ إلى عشّ،
ومِن حرفٍ إلى حرف،
ومِن سماءٍ إلى سماء،
ومِن عبثٍ إلى عبث،
ومِن رعبٍ إلى رعب،
ومِن موتٍ إلى موت،
جحيمٍ إلى جحيم!))([xxi]).
فكلُّ التشبيهات التي حاول الشاعر نسبتها له، لم يتقبلها
قرينه، فالطائر وجناحه موظفّان كناية عن سعة الآفاق المديدة،
والتوق لوصول لسواحل الحرية، لليوتوبيا التي يرسمها في داخله،
كلّ ذي مطمح في تشييد عالمٍ مثاليّ، لكن لم يثمر من كلّ تلك
التشبيهات سوى التشبيه الخاص بالريشة، وما تتصف به من صفات
واهنة، ورهافة يُنتقدُ من يكتسي بها؛ لمرارة الواقع، وبلادة
الزمن.
الطبيعةُ في معجم الشاعر في مجموعة
(الحرف
والغراب)
لم تأخذ بُعدها الموضوعيّ المألوف في تاريخ الشعر العربي، بل
نوّع الشاعر على مقامِ تلك الموضوعة، وغايرها حينًا بسكبِ
مأساته الكبرى، على حروف الطبيعة حيّها وصامتها، إذ يقول:
((حينَ
خرجَ الحرفُ من الحربِ،
دخلَ إلى الصحراء
التي سلّمتْه إلى الجبلِ الذي سلّمه بدوره إلى الغيمةِ التي
سلّمتْه
بدورِها إلى البحر
الذي سلّمه إلى الموتِ الذي قادهُ بدوره إلى نَفْسِه.
وهكذا عادَ الحرفُ إلى الحربِ مِن جديد!))([xxii]).
إذ يمكن القول إنّ الطبيعة مفردة طاغية في معجم الشاعر؛ لكنها
ليست أليفة، في لغة نصّ المجموعة، لا من حيث التشبيهات
والاستعارات أو من حيث الكنايات، فكلها تصبُّ في خانة ما يعتري
قلبَ الشاعر من نكباتٍ واغتراباتٍ، ومساراتٍ مُعْوَجَّة،
وخطوات خانتها الأقدارُ، في الوصول إلى وطن أخضر كبير، فيقولُ
الشاعر في قصيدته
(آثار
أقدام)
التي يوظّف فيها التناسل التركيبيّ للمفردات، أي مفردةٌ تُنجبُ
مفردةً أخرى، وأخرى تُولدُ أخرى؛ وصولاً للمعنى المبتغى:
((ليسَ
هناك من بحر،
فالبحر تحوّلَ إلى شاطئ.
وليسَ هناك من شاطئ،
الشاطئ تحوّلَ إلى رمل.
وليسَ هناك من رمل،
الرمل تحوّلَ إلى آثارِ أقدام.
وليسَ هناك من آثارِ أقدام،
آثار الأقدامِ تحوّلتْ إلى ذكريات.
وليسَ هناك من ذكريات،
الذكريات تحوّلتْ إلى دموع.
وليسَ هناك من دموع،
الدموع تحوّلتْ إلى بحرِ سفينةِ نوح.
ونوح مرَّ مِن هنا بسفينته ومضى!))([xxiii]).
والأسلوب نفسه يُستعمل، أيْ التناسل التركيبيّ، الذي نجدهُ في
قصيدة أديب كمال الدّين المعنونة
(حياة)،
فنقرأ في المقطع الأول من القصيدة:
((شجرةٌ
كبيرةٌ تقفُ في هدوء
وسطَ شارعٍ مزدحم.
خلفَ الشَّجرةِ بناية،
خلفَ البنايةِ مقبرة،
خلفَ المقبرةِ نهر،
خلفَ النهرِ طفل،
خلفَ الطفلِ مرآة،
خلفَ المرآة امرأة))([xxiv]).
إذ رسم الشاعر مُفردات الطبيعة الضَّاجة بالحياة
(الشجرة،
النهر)
وموازاتها وضع مفردات الحركة لتلك الطبيعة ذاتها
(الشارع
المزدحم، الطفل، المرأة)،
وإزاء تلك المفردات الست، التي تكتسى بشريان الطاقة الإنسانيّة
وفورته، كلّها مفردات تكتبُ خطوات الحياة، بموازاة مفردة واحدة
تدلُّ على الانمحاء والخفوت، هي مفردة
(المقبرة)،
التي قد لا تُشكل معطى معنويًّا كبيرًا داخل المقطع المقتبس
هذا، لتعدد التراكيب الباعثة على الحيوية، لا الموتية، ليأتي
في المقطع المرقم بـ
(2)
لتدوين سؤاله الشعريّ حول المرأة
:
((ماذا
تفعلُ المرأةُ خلفَ المرآة؟
هل كانتْ تبكي؟
تهذي؟
تتعرّى؟
تغنّي؟
ترقص حتّى الموت؟))([xxv]).
فالسؤال هذا هو استكناه لفعل الإنسان
(المرأة)،
ووجوديتها التي تتستر بها خلف قناع المرآة، فموقع المرأة في
الخلف يعني الاختفاء، عدم المواجهة مع الذات أولًا ومع الآخر
ثانيًا ومن ثمّ غياب الأجوبة وضمور المعرفة حول فعل العاطفة
(البكاء،
الهذيان، التعرّي، الغناء)
التي تتكرر بطباقٍ صرفي متقارب.
فلا تريدُ تلك المرأة إيتاء فعلٍ متناف في حضرة الذات
(المرآة)،
وما يقابل تلك المرآة من حضور غير ملموس نصيًّا للآخر.
ومع المقطعين الأخيرين من القصيدة ذي الرقمين
(3)
و(4)،
يجدُ المتلقي نهايةَ تلك الحكاية للوجود الإنسانيّ داخل
القصيدة، ختام تلك الحياة، عبر المرأة؛ بوصفها كنايةً عن
النشوء والتجدد الضاج بالحبِّ، فإذا كان آدم هو مبتدأُ الحياةِ
على هذه الأرض، فإنّ حواء هذه القصيدة ستكون هي مختتمُ الوجودِ
كلّه:
((حينَ
ماتت المرأة،
ماتتْ، على الفورِ،
المرآة.
ثُمَّ ماتَ الطفل
ثُمَّ النهر
ثُمَّ البناية
ثُمَّ
الشَّجرةُ الكبيرة
ثُمَّ الشَّارعُ المزدحم.
وحدها المقبرة
بقيتْ تتأمّلُ المشهدَ في هدوءٍ ولا مبالاة))([xxvi]).
ثانيًا/
شعريّة الرّثاء
يرتبطُ الرثاء بحالة الفقد التي تصيبُ الإنسان، فيلجأ إليه
الشاعرُ؛ غرضًا لتخفيف آلامه، ومأساته، والبوح شعريًا عن مكنون
الحزن، الذي يسكنهُ بسبب الموت، وفق رؤيا يقيسُ بها وجوده
ووجود مَن حوله، فلو ذهبنا إلى معنى الرثاء في لسان العرب
لوجدناه بمعنى إطلاق الصفات الإيجابيّة على المتوفّى:
((رَثأتُ
الرجلُ رثْأ مَدحتهُ بعدَ موتهِ))([xxvii])،
وقد وافق عدد من النقاد القدماء ذلك المفهوم، فهذا قدامة بن
جعفر
(ت
337
هـ)
على سبيل المثال يرى الرثاءَ بأنّه صيغة مدحٍ لكن خطابها يتجه
إلى الميّت([xxviii]).
أمّا في الاصطلاح فالرثاءُ هو
((غرض
من أغراض الشعر الغنائي، يعبر الشاعر فيه عن محاسن الحزن،
واللوعة التي تنتابه لغياب عزيز فجع بفقده، أو لكارثة تنزل
بأمة، أو شعب، أو دولة))([xxix])،
وهو عند دارس ثانٍ
((فن
شعري يعد بشكل أو بآخر هو الذات الإنسانيّة الملتصقة بالعواطف
والنزعات الوجدانيّة والتأمليّة))([xxx])،
وفق ذلك يمكن القول إن الرثاء هو في مقدّمة الأغراض الشعريّة
التقليدية صدقًا، وحرارة عاطفيّة، من غير رتوشٍ، أو تزييف في
المشاعر والأحاسيس، وحسب منزلة الإنسان الميّت([xxxi]).
وقد وظّف أديب كمال الدّين موضوعة الرثاء، تجاه عدد من
الشخصيات المعروفة في العراق والعالم، قاربَ عشر شخصيات من
مختلفِ بُقعِ الابداع، مثل يوسف الصائغ، وجان دمّو، ومهنّد
الأنصاريّ، وناظم الغزاليّ، وغاريثيا لوركا، وسيلفيا بلاث
وغيرهم، ومن الملاحظ لعموم هذه القصائد أنّ أغلبها جاءت معنونة
بأسماء المرثيين.
ووفقًا للجرد الحاصل لقصائد الرثاء في مجموعة
(الحرف
والغراب)
تكون هذه القصائد هي الأكثر عددًا، إذ لم يكن ترديد نغمة
الرثاء التقليدي هي الشاغل المؤرق لخيال الشاعر، بل عمل على
توسعة عالم ذلك الرثاء من المدار الضيق
(الشخصي)،
إلى المدار الأوسع
(المجتمعي)،
ومن الآني، أيّ لحظة الاستعادة
"الرثائية"،
إلى لحظة التمسّك بالمُستعاد؛ بوصفه صورةً شعريّةً لقيم عليا
ومُثل للوعي.
فنقرأُ استعادته الرثائية للشاعر الإسباني فيديركيو غارثيا
لوركا:
((سيقتلكَ
فرانكو
أو أتباعُ فرانكو
أو رصاص فرانكو.
وستموت
بل ستشبعُ موتاً
أنتَ الذي لم تشبعْ من الحياة
مثلما الحياة
لم تشبعْ منك.
سيبكي عليكَ القَتَلة
وأشباهُ القَتَلة
وأعداءُ القَتَلة.
سيبكي عليكَ، إذنْ، إخوتُك:
إخوةُ يوسف
مثلما سيبكي الشيخُ الكبير
والمرأةُ التي جُنّتْ بحبِّك
والنِّساءُ اللواتي قطّعنَ أيديهنّ.
حتّى الذئب سيبكي عليك!))([xxxii]).
النصُّ سردٌ واصف للشاعر لوركا انطلاقًا من لحظة مقتله، وهي
اللحظة التي يتجلّى فيها الشاعرُ الشاب، ليصير عمودَ ضوءٍ
شاهقٍ، وأفقَ تحررٍ سامٍ، وتقاسم أسباب موته كلّا من الدكتاتور
وأعوانه، بل سيتناهب الآخرون جوائز موته وتضحيته، الذين وقفوا
ضدّ لوركا أيام حياته، ثمّ تباكوا عليهِ وراء أفول جسده، هؤلاء
استعار لهم تشبيهًا من النصِّ القرآني، عبر قصة يوسف وأخوته
والذئب، وما للقصِّة من حضور في ذهن المتلقي من غدرٍ ونفاقٍ
وسوء تصرّف انتهك قيم الإخوة والإنسانيّة، مضيفًا لصفاتهم
المُراوِغَة، صفة البكاء الشَّكلي، أو دموع التماسيح كتشبيه
للواصلين على دماء لوركا وتضحيته التي قدّمها على مذبح الحرية.
ورغم تلك الصورة المُستدعاة للمتملقين والراكبين موجة البطولة
الفارغة، سيعيدُ أديب كمال الدّين خطابه الشعريّ نحو لوركا
الإنسان والقيمة، وأنّ هاجس مسيرته الوضّاء، سيكون لكل جموع
البشرية على اختلاف دياناتها، وأعراقها، وألوانها، وأنّ ميزة
لوركا اختلاط دمه الغرناطيّ بالدم العربي([xxxiii])،
الذي حكم الأندلس زهاء السبعة قرون فضجّت في نسغِ لوركا قيم
مشرقية أصيلة فضلاً عن قيمه القوميّة الأوربيّة، وكأنّ الشاعر
يريد منح لوركا سمة الكونيّة، وإخراجه من هُويته الضيقة
(الإسبانية)
نحو هُوية لا حدِّ لمداها، يقولُ أديب كمال الدّين:
((لكنْ
لا يهمّ أيّها الغرناطيّ الجميل،
لا يهمّ يا مَن يسيرُ الدَّمُ العربيُّ
في عروقِه المضيئةِ بالشَّوق،
لا يهمّ أيّها القتيلُ دونَ قبرٍ أو شاهدة،
لا يهمّ يا مَن كانَ الهواءُ يجرحُ قلبَه،
فقصائدُكَ الملونّةُ كموعدِ حُبّ
واللذيذةُ كملعقةِ عسلٍ في فمِ طفل،
قد عبرت الأزمنة
وطارتْ فوقَ القارّاتِ والأمكنة
وطارتْ فوقَ الحدودِ ونقاطِ التفتيش
وطارتْ فوقَ غيومِ المستحيل
حتّى صارتْ تشارك أهلَ الأرضِ أحلامَهم
وتضيء لهم وحشتَهم الفسيحة
وتكفكف دموعَهم وحرمانَهم.
هكذا امتلأتَ بالحياةِ إذنْ،
يا أيقونةَ الشِّعْر،
وصارت شمسُ الأنهارِ سفينتك
وقمرُ الفضّةِ دليلك
وشعراءُ الفجر في كلِّ مكان
نوافذَكَ التي تتألقُ بحروفِك
أيّها الغرناطيّ القتيل.))([xxxiv]).
صيغة استعادة الشعراء المتوفّين في مجموعة
(الحرف
والغراب)،
تستمرُ مع نصِّ آخر هو
(قنينة
جان دمّو)،
ليس الغاية منه كما ذكرنا سابقًا الرثاء من أجل الرثاء؛ بل
اختيار شعراء لهم موقف من الوجود كلّه، ظهر في نصوصهم
الإبداعية، ومارسوه في حياتهم، فإنّ كان
(لوركا)
الشّاعر/الثائر
في القصيدة السابق تحليلها، فإنّ
(جان
دمّو)،
هو الشّاعر/
الضمير، الذي رفض إخراس صوته من قبل السلطة في العراق، قبل
العام
2003،
فلجأ للسكر والغيبوبة المُدْرَكَة؛ للنيل من قمع السلطة،
والخلاص من ملاحقتها، عبر ثلاث تراكيب نحتها أديب كمال الدّين،
هي
(أفاعي
بغداد، وعقارب عمّان، وكناغر سدني)،
إذ يُشير التركيبان الأولان لمصدر الرعب والفتك، اللذان هما
سمتا سلطة بغداد آنذاك وعيونها المخابراتية، التي وزّعتها في
غير بقعِ العالم، مثل عمّان العاصمة، فيما آلت سدني ورمزها
الكانغر إلى مثوى اغترابي لجان دمّو، ومستقر لروحه التي بقيت
مطاردة في مدن العراق، وعمّان، وتعبت حتى وصلت لقارة بعيدة لم
يألفها مرافقًا قنينة خمر وضمير ساطع، فتمدَّد في أرضها، جنب
قنينته، ونام إلى الأبد، فالحياة مع وضعاء البشر ليس من
اختياره، وعليه وجدنا أنّ رثاءَ جان دمّو هو رثاءٌ للضمير
المستيقظ:
((ضميرُنا
المُستتر،
ضميرُنا السكرانُ ليلَ نهار،
ضميرُنا الذي يصحو
كي يواصلَ فوراً سكرَه وشتائمه
وفكاهاته التي تشبهُ طيوراً ميّتة،
حتّى ينام في آخر الليل
سعيداً كيتيمٍ طُرِدَ من الملجأ
مفترشاً الرصيفَ أو الحديقةَ العامّة،
وقنينةُ الخمرةِ قربَ رأسه
تحرسُه بشخيرِها العميقِ من الكوابيس
ومن أفاعي بغداد
وعقارب عمّان
وكناغر سدني.
ضميرُنا الذي يكتبُ الشِّعر
دونَ أن نقرأ له قصيدةً واحدة!
ضميرُنا الذي يكرهُ الطغاة
وشعراءَ الطغاة
والشُّعراءَ المرتزقة
والشُّعراءَ السَّفلة،
ويحقدُ على الزمانِ الذي لم يمنحْه
سوى وسام العربدة
...
وجدوهُ ذاتَ يوم
ميّتاً تحتَ جسر سدني.
كانتْ قنّينةُ الخمرة
قد تعبتْ من شدّةِ صراحته
ودموعه الطفوليّة
ووحشةِ قلبه التي عجزت الملائكةُ والشياطين
عن فهمِ وجعِها اليوميّ وعذابِها السِّحريّ.
قنّينةُ الخمرةِ هذه
كانتْ صديقته الوحيدة،
صديقتهُ المخلصةُ التي قتلتْه
بهدوءٍ أسْوَد
وهي تقبّله بشغفٍ أسْوَد
قُبْلةَ الحياة))([xxxv]).
شاعر عراقي آخر هو يوسف الصائغ، الذي تجذابتهُ الأهواء
السياسية، والإيديولوجية، وعانى منها مدة من حياته، حدّ الوصول
للبراءة من انتمائه اليّساري الذي آمن بأفكاره، ونضج فيه،
وسُجن لأجله، لكن مع بداية النسف لتعدديّة الآراء في ظل نظام
حزب البعث في العراق بعد العام
1968،
اضطر الشاعر يوسف الصائغ إلى كتابة مقال بعنوان
(مقدَّمة
لقصيدةِ حبٍّ فاشل)
أعلن فيه براءته من الحزب الشيوعي العراقيّ، حزبه الأثير،
ومبتناه الفكري والثقافي؛ ليلقي نفسه في أحضان الحزب
"الفاشستي"
حزب البعث، في العام
1980،
غصبًا وإكراهًا، واتقاءً من شرِّ الدكتاتور([xxxvi])،
من كلّ تلك التفاصيل المحيطة بحياة الصائغ، كتب أديب كمال
الدّين رثاءه الذي استعاد به شخصية يوسف الصائغ، وما حملته من
إشكالات جعلت أصحاب اليمين والشمال ينظرون إليه برفض، إذ يقولُ:
((حاملاً
على ظهرِك
جثّةَ مالك بن الريب وآلامَه الهائلة،
واقفاً تحتَ لحيةِ ماركس الكثّة
وشوارب ستالين الصخريّة
لتهتفَ بملء الفم
تحتَ لافتةِ النضالِ الأُمميّ
ومقارعةِ الإمبرياليّة.
حتّى إذا طارَ رفاقُ الدربِ عبر الحدود
استبدلتَ بسرعةِ البرق
لحيةَ ماركس الكثّة
بلحيةِ عفلق الحليقة
وشوارب ستالين الصخريّة
بشوارب صدّام المرعبة
لتهتفَ بملء الفمِ أيضاً
تحتَ لافتةِ الطاغية،
تحتَ لافتةِ الحربِ ضد "الفرس المجوس"!))([xxxvii]).
فاستعار أديب شخصية مالك بن الريب التي وظّفها الصائغ سابقًا
في مدونته الأدبية؛ بوصفه قناعًا تتقاطعُ سيرته فيه وسيرة يوسف
الصائغ، هذا القناعُ دال على الاغتراب، والانزواء وحيدًا دون
أهلٍ وأصحاب، هذا ما شعر الصائغ به، فلا رفقاء الأمس من
الشيوعيين العراقيين باتوا طامحين بصحبته وإبداعه، ولا حزب
السلطة الذي قدّم لهم شروط الطاعة، يحسنون العهد بولائه.
وهذا ما حاول النصُّ قوله، فرمز للشيوعيين بأيقونتهم ستالين ذي
السيرة السلطوية العنيفة، التي كانت تسحق كلّ من يفكر بالخروج
عن طاعته، عبر الاستعارة الطريفة
(الشوارب
الصخرية)،
وهي تلميحٌ لجمودِ النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي غير
المرن، الذي صار واجهته
(ستالين)
بزعيقه الإعلامي لتوحيدِ الأمم ضدّ من وصفهم بالإمبريالية
وأطماعها، والشعارات المزيفة، التي وعدت الآخرين بجنةٍ على
الأرض لكن دون طائل لذلك الوعد الحلمي، بمقابل ذلك تأتي صورة
الدكتاتور صدّام حسين، بوصفها أيقونةً للجهة الأخرى التي لجأ
لها الصائغ اضطرارًا، بعد تهديد ووعيد، فضاع ابداعه عند شرائح
واسعة من المتلقين والمثقفين، حتى بخل عليه بلافتة تنعاه في
إتحاد الأدباء في بغداد، الذي هو كان من مؤسسيه([xxxviii])،
فصار الشعور بالخسران يحيطُ به من كل الأركان، فتلقى النكبات
واحدة تلو الأخرى، بدءا بزوجته
(جولي)
التي ماتت بحادث سيارة، وخسارة
"الشرف
الإيديولوجي"
الذي آمن به، وإذلال قلمه لمؤسسة السلطة الإعلامية والثقافية،
فيقول أديبُ في عتابٍ بصيغة الرثاء الحميمي:
((أيّها
الشَّاعرُ اليوسفيّ:
لِمَ خذلتَ نفسَك؟
لِمَ خذلتَ مالكاً معك؟
لِمَ خذلتَ سيّدةَ التُّفَّاحاتِ الأربع؟
لِمَ أيّها اليوسفيّ؟
هل كانَ مشهدُ الذهبِ لا يُحتَمل؟
أم كانَ مشهدُ الرُّعبِ لا يُحتَمل؟
أم أردتَ الذي كانَ فوقَ الجَمل))([xxxix]).
فاتخذ الشاعر من اسم يوسف الصائغ، الأول صفة حميمية، تُنبئ
بوديعة الصائغ، وبشخصيته التي كانت محل إعجاب ومحل تناقض أثار
جميع من عرفه، فكان العتاب الرثائي من خلال الجُمل المصدرة
بلِمَ الاستفهامية التكرارية التي خرجت لمعنى الاستنكار، لما
فعله الصائغ، بعموم شعره عبر مرموزه
(مالك
بن الريب)،
أو زوجته الأثيرة جولي
(=
سيدة التفاحات الأربع)،
واضعًا الشاعر احتمالين لمآل الصائغ، بين اللهاث للإمساك
بالامتيازات التي تمنحها أجهزة السلطة، وبين الرعب الذي عايشه
الشاعر في السجن إبان الستينيات، والذي لا يريد تكرار العودة
إليه التي قد تكون أبديّة هذه المرّة.
الصورة المحزنة التي آل إليها يوسف الصائغ في نصِّ رثائه غير
التقليدي، يتكرر مع مأساة شاعرة أمريكية هي سليفيا بلاث
Sylvia Plath([xl])
المولودة في
1932،
التي حازت على شهرة أدبية مؤثرة في الحركة الأدبية في الولايات
المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، بمقابل تلك الشهرة وذلك
التأثير، فقد نالت زواجًا تعيسًا من شاعر بريطاني مهم وشهير هو
تَد هيوز
Ted Hughes،
أوصلها لحد ارتكابها فعل الانتحار، فهذه النهاية المأساوية
تلقاها النصّ الشعريّ لأديب كمال الدّين بطريقة الرثاء لكن
ليست بقالب جنائزي تقليدي؛ بل من أجل تسليط الضوء على
معاناتها، ومأساتها بوصفها شاعرةً ناجحةً، وزوجةً محطّمةً،
فيبدأ كما في رثاءِ يوسف الصائغ، بمشهد اختتام حياتها،
منتحرةً، إذ يقولُ:
((لم
تكنْ على مائدتِكِ الليلة
كأسُ النبيذ ولا
ملعقةُ العسل،
بل كانتْ على مائدتك
كأسُ الزوجِ الخائن
والطفولةِ المُحَطَّمة،
وملعقةُ الأملِ: العلقم.
أي كانتْ على مائدتِك
كأسُ الحلمِ القاسي
والأبِ الأكثر قسوة،
وملعقةُ الوهمِ التي لا تجيد
سوى تذوّق نفْسها.
بعبارةٍ أكثر وضوحاً،
كانت على مائدتِك
كأسُ السُّمّ
والقصائد المرتبكةِ المتلعثمة،
وملعقةُ القلبِ الذي لوّحَ للحياة
طوالَ ثلاثين عاماً
بيدِ الغريق
وداعاً!
أشربُ نخبَكِ
أيّتها الحمامة التي ضلّتْ طريقَها
إلى العشّ
فانطلقتْ باتجاهِ البحرِ العظيم))([xli]).
فشبهها الشاعرُ بالحمامة، بوصفها إنسانةً جعلت كلماتها رسائلَ
للسّلام والمحبّة والجمال، ولم تلقَ إزاء ذلك سوى الجفاء،
مثل صورة الأب الذي مات وهي صغيرة وبقي يتردد في أحلامها بهيأة
نازي وحشي كما تصفه في قصيدة
"أبي"،
فالقصيدة
((محاولة
للجمع بين الشخصي والأسطوري ثمة طزاجة وحداثة تنزلق منها شرائح
تنساب في عقلك وقلبك.
هي ترنيمة مضطربة وغريبة للنفس المنقسمة وليس ضربا من المزاج
غير المنضبط، مستهدفًا أبيها وزوجها.
يظهر الأب في صورة حذاء أسود، تمثال ضخم، صليب معقوف، وخفّاش))([xlii])،
وسوء المعاملة والخيانة الكارثية من زوجها الشاعر الشهير
(تَد
هيوز)
على الرغم من عشقها له، حدَّ وصولها للانهيار، واكتشاف الحياة
الهشَّة التي تحياها، لتقرّر إنهاء حياتها، في العام
1963،
عن ثلاثين سنة فقط؛ لتصبح أسطورةً بنوع كتاباتها الشعريّة ذات
خاصية الاعتراف التي أصبحت ملمحًا خاصًّا في الأدب الإنكلو
أمريكي، فضلاً عن براءتها وشفافيتها وتفرّدها بالأحاسيس([xliii]).
النمط الآخر من قصائد الرثاء في مجموعة
(الحرف
والغراب)،
خصّها الشاعر لثلاثة من عناصر الفنّ في العالم العربي، ثلاثة
غناءً هم:
(ناظم
الغزالي، وعفيفة اسكندر، وعبد الحليم حافظ)
وواحد في فنّ الإخراج هو العراقيّ
(مهنّد
الأنصاريّ).
ففي قصيدة
(مطرب
بغداديّ)
يُشكّل أديب كمال الدّين صورة لناظم الغزالي المتوفّى في بغداد
تشرين الأوّل العام
1963([xliv])،
صورة لهيأته الشكليّة، ومنها يتدفقُ السّرد الشعريّ للنصِّ،
فيقولُ:
((بجسدٍ
سمين
وبوجهٍ سمين
وبعينين باسمتين،
سيذهبُ هذا الغزاليّ
جيئةً وذهاباً
أمامَ كاميرا التلفزيون
وهو يغنّي بصوتٍ رقيق:
"يَم
العيون السود ما جوزن أنه
وخدّچ الگيمر أنه
تريگ مِنه"))([xlv]).
فوظّف الشّاعر اقتباسًا من أغنيةٍ معروفة للغزالي باللهجة
البغداديّة المحكيّة، بوصفها انعكاسًا لشهرته التي ستجوب بلاد
النهرين والعرب، التي عن طريقها حازَ على محبّة واسعة من
الناس، وَعُدَّ سفيرًا للفنّ العراقيّ، ذلك الزمن، وحين أعطى
الشاعر طيفًا استعاديًا للغزالي في المقطع الأول من القصيدة،
وضع في المقطع الثاني قصّة حبٍّ مُتخيلة شعريًا، بين الغزالي
وفتاة بغدادية وصدّها المتعالي، فيقولُ:
((وإذ
لم تأبه العاشقةُ البغداديّة
لأغنيته القيمريّة
ولا لملابسه الجديدة
ولا لخدوده السّمينة
فسيغنّي لها:
"واگفة
بالباب تصرخ يا لطيف
لاني مجنونة ولا عقلي خفيف.
من ورة التنور تناوشني الرغيف
يا رغيف الحلوة يكفيني سنة".
وإذ لم تأبهْ له ثانيةً
فسيغّني لها ثالثةً عن النخل
ورابعةً عن العيدِ
وهديّةِ العيد
وسابعةً عن الصبا
وعاشرةً مِن مقامِ الصبا.
حتّى إذ تقدّمَ به العمر
فسيصرخُ من لوعةِ العشقِ والهوى:
"عيّرتْني
بالشيبِ وهو وقارُ".
لكنّه هذه المرّة
سيمسُّ وتراً
وسيطلقُ طيراً
يسمعُ تصفيقه الشرقُ والغرب.
بيدَ أنّ العاشقةَ البغداديّة
كانتْ
-
كعادتها
-
تتبغددُ من النافذة.
والمطربُ السّمين
بوجهه السّمين
وبعينيه الباسمتين
صارَ على موعدٍ مع الموت
حتّى إذا تعثّرَ به في صباحٍ غريب،
بكى عليه الدفُّ والكمانُ والناي.
وخرجتْ بغداد كلّها
تودّعهُ إلى الأبد.))([xlvi]).
فتكشف القصيدة عن ذلك الحبِّ الخائب، رغم شهرة الفنان، وملمحه
البغدادي الأنيق، إلا أن ذلك لم يمنح محبوبته البغدادية
الاستجابة له، فظهرت تلك الفتاة عنيدة، قوية الفؤاد، لا
تستجيبُ بسهولة، تتدلّع، وضع الشاعر فيها صفة البغددة بتأثير
طاغٍ، في لغة القصيدة، وما أن شهد الآخرون للفنان بالموهبة
والإبداع والشهرة، سرعان ما أمسك به الموت، وأخذه، وهو في أوج
قوته وألقه الفني، وكأنّ الشاعر يريد تبيان ملحمة الأسى
العراقيّ، الذي لا يريد للفرح أن يعيش مدة طويلة، فاختتم
الموتُ حياة الفنان الجميل، بينما اختتمت الخيبةُ حياة الفتاة
البغدادية، والقصيدة.
أمّا رثاء أديب كمال الدّين للمطربة
(عفيفة
اسكندر)([xlvii])،
فجاء وكأنّه رثاءٌ لزمنٍ جميل كامل غادرنا، حيث لم يستطع
العراقيون الاحتفاظ به؛ لا لبخلِ قلوبهم بالفرح، بل لشغفِ
الغياب بتقليب صفحات حيواتهم بعجالة قد تبدو لا نظير لها،
فيقولُ أديب، وكما شخصّناه أسلوبيًّا في جميع مراثيه في هذه
المجموعة
مبتدئاً من لحظة موت المرثي:
((ماتتْ
تلك التي شكتْ لوعةَ الفراق
وأرادتْ من الله
أن يبيّنَ الحوبةَ في المفارقين حبيباتهم
والغائبين.
ماتتْ وهي تغنّي
من شاشةِ تلفزيونِ بغداد
مثل لُعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح
تماماً دون روح مثل بغداد:
مدينة المُتخَمين والمُعدَمين والأرمن واليهود،
مدينة الملاهي والباراتِ والكنائس والمساجد،
مدينة المعتزلةِ والمتصوّفةِ والملاحدة.))([xlviii]).
جاءت ترنيمة الرثاء لعفيفة اسكندر ممزوجة بواحدة من أشهر
أغنياتها، باللهجة العراقيّة المحكيّة
(أريد
الله يبيّن حوبتي بيهم)،
معطيًا تشبيها لها بمدينة بغداد الجميلة لكن دون روح، حسب وصف
الشاعر، رغم أنها مدينة كونية
Cosmopolite
تضمّ مختلف الطوائف، والأديان، والأعراق، والاتجاهات، والرؤى
المتعددة، لكن لم يُكتب لذلك النسيج بالبقاء موحدًا مزهوًا
بألوانه، بل تفتت وضاع به أنموذج وطن جميل، وكان الشاعر استعار
جملة الدعاء المحكيّة
(أريد
الله يبيّن حوبتي بيهم)
كطلبٍ من كل مظلوم في هذا البلد عسى أن يستجيب الله:
((لم
يستجب الله - بالطبع - لأغنيتِها الجميلة،
فلم تظهر الحوبة
على المفارقين والغائبين أبدا
وبقوا كالأشباحِ سعداء أبدا.
لكنَّ المطربةَ غنّت الأغنية
لسبعين عاماً أو تزيد
شاكيةً لوعة الفراقِ المرّ
للملكِ المسكينِ وقاتله،
ثُمَّ للزعيمِ: مُنقذِ الفقراءِ وقاتله،
ثُمَّ للطاغيةِ: مشعلِ الحروبِ وقاتله.
هكذا بقيتْ تغنّي أغنيةً عذبةً
دونَ روح
حتّى فارقتْها الرُّوح!))([xlix]).
فتغدو الأغنيةُ ورثاءُ صاحبتها المعمّرة، صورةً لتاريخِ حديث
لهذا البلد، إذ عاصرت عفيفة اسكندر، النظام الملكيّ، وشهد
فاجعة سقوطه، وزامنتْ صعود شمس الجمهوريّة العراقيّة، على يد
مؤسسها عبد الكريم قاسم، وأفولها المأساوي المريع في العام
1963،
ثمّ واكبتِ البلد وهو يدخل النفق المُظلم أيام حكم حزب البعث
وطاغيته، فاستمرت الأغنيةُ أغنية للعراقيين المنتهكين، الذين
لم يملكوا سوى لحظة الدعاء، وتكرارها، عسى أن يولد أمل ما.
استمرارًا لرثاءِ ذلك الزمنِ الجميل، الذي يحنُّ إليه الشاعر
في نصوصٍ عدّة، يستدعي-
رثاءًا-
مُثلَه الأثيرة لقلبه، وأيقونات المجتمع الخالدة، وهذه المرة
مع شخصية عبد الحليم حافظ المطرب المصريّ، الذي صنع أسطورته من
المعاناة، والفقدان، فقدان الأمِّ وهو رضيع، وفقدان الأب
بعدها، ومشوار صعب لإثبات صوته، وذاته، حتى بلوغ النجومية،
وأوج المجد، محطّمًا تابوهاتِ الغناء آنذاك، ومانحًا الأغنية
العربيّة المشرقيّة وهجًا، ولزمنه نغمًا تتآلف وإيَّاه بسهولة
أذن الجمهور، رغم ذلك لم يهنأ عبد الحليم، وبقيت المعاناة
رفقيته، دون سواه([l])،
فيقولُ أديب كمال الدّين وعلى غرار بنائه الشعريّ لقصائده في
رثاء المطربين، اعتماده على استدعاء شخصية المرثي لحظة رحيله
عن الدنيا، وبالتساوق مع أغنية شهيرة له، ومزجها مع سيرته،
مازجًا عن طريق ذلك أسلوبًا لرثاءِ الأمكنة والعواطف والشخوص،
رثاءِ لكلّ الزمن ونستولوجياه:
((حينَ
انكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة
ما بين أصابع العندليبِ المرتبكة،
سالتْ روحُه العاشقة ...
كانَ مطربُ قارئة الفنجان
عبقريّاً بما يكفي
ليركبَ درّاجةَ النُّجومِ الهوائيّة
ويغنّي عن القمر، ...
ويفتنَ ألفَ سندريلا وسندريلا بألفِ أغنيةٍ وأغنية ...
لكنَّ قارئ الفنجان الذكيّ
ومطرب قارئة الفنجان العبقريّ
الذي روّضَ الفقرَ والجوعَ والحرمان ...
وروّضَ ألفَ سندريلا وسندريلا،
روّضتْه جرثومةُ البلهارسيا التي لا تَرى ولا تُرى!
كانتْ أذكى من عبقريّته اللامعة
وأعظم حظّاً من نجوميّته الساطعة.
فانكسرَ فنجانُ القهوةِ المرّة
ما بين أصابعه العاشقة
حتّى سالتْ روحُه العذبة،
وهي في قمّةِ الحُبِّ والشَّوق،
وسطَ دموع الناي وأنين الكمان))([li]).
فخطُّ السرد بيّن، ينثال ببكائية غنائية، تناسب إيقاع المرثي،
إذ يقتطفُ الشاعر من حياة حليم المتسعة، محطَّات ليضيء درب
مرثاته الشعريّة، في جملةِ استعاراتٍ وكناياتٍ، مثل ذكره
النصِّ في اشارة للدراجة الهوائية التي ظهر بها مع الفنانة
شادية، في فيلم معبودة
(الجماهير
المُنتج)
العام
1967،
أو قوله:
(ويغنّي
عن القمر)،
في إشارة لأغنية حليم
(مدّاح
القمر)،
وقوله:
(ويفتنَ
ألفَ سندريلا وسندريلا)، في كناية عن حبِّه للفنانة سعاد حسني
المُلقبة بالسندريلا، فيما كانت الجرثومة التي أصيب بها
الفنان، كناية عن قدره المؤلم، الذي سيكون مبتدأه، ومنتاه عن
سبع وأربعين سنة.
ختام قصائد الرثاء في مجموعة (الحرف والغراب)، جاءت عن المخرج
الإذاعي العراقيّ (مهند الأنصاري) المتوفى في العام 2000، إذ
يقولُ:
((أيّها
الموت،
أيّها الوحشُ المُهذّب،
كيفَ تغيّبُ مُكلّمي وتوأم روحي
ومرآةَ حرفي؟
كيفَ تغيّبُ قلباً،
كلّ نبضةٍ فيه حاء،
وكلّ حاءٍ فيه باء،
وكلّ باءٍ فيه بَسْملَة الأنبياء؟
كيفَ تنثرُ رمادَك
فوقَ رأسه الذي كانَ من طمأنينةِ الذهب
أو من ذهبِ الطمأنينة؟
كيفَ تشقُّ قميصَه الذي كانَ بوّابة البحر،
حينَ كانَ البحرُ عيداً حقيقيّاً
لمهرجان الحروفِ السَّعيدة
والمرايا التي ترقصُ حولَ نفْسها
كدوران الطيورِ السَّعيدة؟
إذنْ،
كيفَ تُحطّمُ أيّها الموت،
أيّها الوحشُ المُهذّب،
بوّابةَ المستحيل؟
بل كيفَ تقولُ الذي لا يُقال،
أيّها الموت،
أيّها الوحشُ السليطُ اللسان؟))([lii]).
فتحوّل النصُّ من رثاءٍ مغموس بالحبِّ لمبدع عراقي، إلى مجابهة
للموت، ومساءلته، عن ذلك السّر الذي يجعله يُعجّل في أخذ
الأحبة، فشخصية الأنصاري داخل النصِّ ترقى إلى مصاف أنبل
الشخصيات التي قد يلتقيها الإنسان؛ نظرًا للكيفيّة الشعريّة
التي صاغها أديب كمال الدّين، لمفردة (حبّ)، ومزجها برشاقة
داخل نبض مهنّد الأنصاريّ صنوه وتوأم روحه، إنها حرفية الشاعر
الذي لمس وهج قصيدته ببشر من عملات نادرة كأخلاق الأنبياء،
لينتقلَ إلى ذلك السؤال الصعب، وتلك المساءلة مع الموت، ذلك
المجهول الذي لم تستبطنه التآويلُ، ليرشقه الشاعرُ، بأداة
الاستفهام (كيف)، مصدوم بمفاجأة غياب الأنصاريّ الأبديّة، الذي
عاش الابداع حياةً كاملةً، اختتمتْ بكلمةٍ واحدة هي الموت.
الخاتمة
- بعد هذا التجوال النقدي في نصوص أديب كمال الدّين المعاصرة،
باحثًا عن سمة لغته الشعريّة في عينة من أعماله الشعريّة
الكاملة، وهي مجموعة (الحرف والغراب)، إذ رصدتْ جملة من السمات
الخاصة بنصوص هذه المجموعة:
- هيمنت على نصوص المجموعة اللغة الشعريّة الواضحة، السلسة،
المبتعدة عن التكلّف، وعن الغوص الفادح في الغموض، عن طريق
أسلوب يتَّغيّا الإيحاء حينًا، والتصريح حينًا آخر.
- الوعي بخصوصية لغة الشعر، بوصفها تعبيرًا عن الحياة، وواقعها
الراهن المُعاش، وميل الشاعر لتوظيف أسلوب السّرد بوصفه أداةً
تقنية لانثيال القصيدة وخلق معناها.
-
الطبيعةُ في مُعجم الشاعر في مجموعة
(الحرف
والغراب)
لم تأخذ بُعدها الموضوعيّ المألوف في تاريخ الشعر العربيّ، بل
نوّع الشاعر على سُلّمِ تلك الموضوعة، وغايرها حينًا بسكبِ
مأساته الكبرى، على حروف الطبيعة حيّها وصامتها.
-
لم يكن ترديد نغمة الرثاء التقليدي هي الشاغل المؤرق لخيال
الشاعر، بل عمل على توسعة عالم ذلك الرثاء من المدار الضيّق
(الشخصيّ)
إلى المدار الأوسع
(المجتمعي)،
ومن الآني، أيّ لحظة الاستعادة
"الرثائية"،
إلى لحظة التمسّك بالمُستعاد بوصفه صورةً شعريّة لقيم عليا
ومُثلًا للوعي.
- مزجه الواعي لصور الرثاء الشخصيّ مع صور أكثر اتساعًا، تلمحُ
لرثاءِ زمنٍ غودر بكلّ تفصيلاته.
([i])
لغة نازك الملائكة، أحمد مطلوب، ضمن كتاب:
نازك الملائكة دراسات في الشّعر والشّاعرة، إعداد
وتقديم واشتراك عبد الله أحمد المهنا، شركة الربيعان
للنشر والتوزيع، الكويت، ط1،
1985،
: 601.
([ii])
الكلام السّامي:
نظريّة في الشعريّة، جان كوهن، ترجمة وتقديم وتعليق:
محمّد الولي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1
كانون الثاني
2013،
: 61.
([iii])
النظرية النقدية:
القراءة، المنهج، التشكيل الأجناسي، محمّد صابر عبيد،
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1،
2015 : 76.
([iv])
أسرار البلاغة، أبو بكر عبد القاهر الجرجاني، قرأهُ
وعلّق عليه:
محمود محمّد شاكر، دار المدني، جدَّة،
(د
ت)
: 4.
([v])
الصّورة الشعريّة، سيسال دي لويس، ترجمة:
أحمد نصيّف وآخرون، دار الرشيد للنشر، بغداد،
1982 : 23.
([vi])
الصّورة الشعريّة عند خليل حاوي، هديّة جمعة بيطار،
هيأة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1،
2010 : 20
([vii])
البويطيقيا فنّ صياغة اللغة الشعريّة، علاء الدين
رمضان السيد، مجلة علامات في النقد، السعودية، ج28،
م7،
يونيه
1998 : 263.
([x])
يُنظر:
الطبيعة بين نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب
(دراسة
موازنة)،
سليم أحمد إبراهيم القريشي، رسالة ماجستير، كلية
الآداب، الجامعة العراقية، إشراف د.
منذر محمّد جاسم الديري،
2012 : 19.
([xi])
رماد الشّعر: دراسة في البنية الموضوعية والفنية
للشّعر الوجداني الحديث في العراق، عبد الكريم راضي
جعفر، مكتبة عدنان، بغداد، ط2، 2014 : 218.
([xii])
الأعمال الشعريّة الكاملة المجلّد الرابع:
مجموعة الحرف والغراب، أديب كمال الدين، منشورات ضفاف،
بيروت، ط1،
2018 : 109.
وسنكتفي بالإشارة في الهوامش بـ(الحرف
والغراب).
([xiii])
يُنظر:
الغراب:
التاريخُ الطبيعي والثقافي، بوريا ساكس، ترجمة:
إيزميرالدا حميدان، مراجعة أسامة منزلجي، هيأة أبو ظبي
للثقافة، ط1،
2010 : 9،
10.
([xxvii])
لسان العرب، ابن منظور
(ت
711
هـ)،
تحقيق:
عبد الله علي الكبير وآخرون، دار المعارف،
(د
ت)،
مادة رثأ.
([xxviii])
يُنظر:
نقد الشّعر، قدامة بن جعفر، تحقيق:
كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3،
(د
ت)
: 100.
([xxix])
المعجم المفصل في اللغة والأدب، إميل بديع يعقوب
وَميشال عاصي، دار العلم للملايين، بيروت، ط1،
أيلول
1987 : 1 / 663.
([xxx])
مفهوم الرثاء ودواعيه ونشأته وتكوين قصائده الجاهلية،
أبو الخير محمّد شمس الحق الصديقي، مجلة المجمع العلمي
الهندي، ع2،
1
يونيو
1999 : 71.
ويُنظر:
الرثاء، شوقي ضيف، دار المعارف، ط4
: 7
وما يليها.
([xxxi])
يُنظر:
الإمام الحسين بن علي
(ع)
في الشّعر العراقي الحديث، حسين علي يوسف، العتبة
الحسينية المقدسة، كربلاء، ط1،
2013 : 17.
([xxxiii])
يقولُ لوركا مُجيباً عن سؤال يخصُّ سقوط حكم العرب في
غرناطة:
((لقد
كان يومًا أسود، رغم أنهم يذكرون لنا عكس ذلك في
المدرسة.
لقد ضاعت حضارة مدهشة، وشعر، وفلك، ومعمار، ورقة لا
نظير لها في العالم، وحلّت محلها مدينة فقيرة، خانعة،
تزخر بطالبي الصدقات، وحيث توجد الآن أسوأ طبقة
برجوازية في إسبانيا))،
لوركا شاعر الأندلس
: 3.
([xxxvi])
يُنظر:
أخوة يوسف الإدانة في الثقافة العربية، أزمة هوية،
إشكالية وطن، ج1،
تحرير وتقديم:
أثير محمّد شهاب، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط1،
2011 : 30 - 37.
([xl])
ولدت سليفيا بلاث في مدينة بوسطن في الولايات المتحدة
العام
1932،
درست الأدب في جامعة كمبريدج المرموقة، تزوجت العام
1956
من الشاعر البريطاني تَد هيوز، أنجبت منه طفلين،
وانفصلاً بعد اكتشاف خيانة تد لها العام
1962،
عانت سيلفيا من الاكتئاب لفترات طويلة من حياتها،
وكانت تُعالج بالصدمات الكهربائية وحقن البنسلين، في
شباط من العام
1963
أنهت حياتها الحافلة بالإبداع والمعاناة بعد أن وجدت
في بيتها مُستنشقة غاز ثاني أكسيد الكربون.
يُنظر:
الأعمال الشعريّة الكاملة، سيلفيا بلاث، ترجمة وتقديم:
عابد إسماعيل، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر،
دمشق، ط1،
2020 : 14 – 17 – 18.
([xlii])
قراءة تحليلية في قصيدة
(أبي)
للشاعر سلفيا بلاث، أندرو سبسي، ترجمة مريم سلامة،
مجلة الحوزة الشعريّة، ع4،
شتاء
2017 : 282.
([xliii])
يُنظر:
تَد هيوز وسليفيا بلاث، فاطمة المحسن، ملحق منارات،
جريدة المدى، ع
4063،
الأربعاء
15،
تشرين الثاني
2017 : 3.
([xliv])
هو ناظم أحمد الغزالي ولد العام
1921
في إحدى المناطق البغداديّة القدمية
"الحيدرخانة"
عُرف بصوته الجميل، درس في العاشرة من عمره لمدرسة
المأمونية الابتدائية، ثم ترك دراسته مؤقتًا في معهد
الفنون الجميلة؛ لأجل التوظيف في البريد العراقي، تركَ
مخطوطاتٍ بهيأة كرّاساتٍ دوّن فيها أغنيات لعدد من
المطربات العراقيّات من العام
1910
إلى العام
1950،
وفهرسًا لأغنيات الأستاذ محمّد القبّانجي، ودوّن أيضًا
معلومات عن الأغنيات التي أدّاها فرقة
"الجالغي
البغدادي"
من العام
1870
إلى العام
1940.
يُنظر:
رقصة الفستان الأحمر الأخيرة:
سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء
والموسيقى، علي عبد الأمير، منشورات المتوسط، ميلانو
–
إيطاليا، ط1،
2017 : 234 – 237.
([xlvii])
أبصرت عفيفة اسكندر مع بداية تأسيس الدولة العراقيّة
في مدينة الموصل لأسرة مسيحيّة، غنّت مبكرًا ببلوغها
العاشرة من عمرها، ثم اتقنت العزفَ على آلات عدّة،
وغنّت في عددٍ من أمكنة الترفيه ببغداد، سافرت إلى مصر
أواخر الثلاثينات وعملت مع فرقة
"بديعة
مصابني"
وشاركت الموسيقار محمّد عبد الوهاب التمثيلَ في فيلم
"يوم
سعيد"،
وكان لها حضور في أفلام أخرى هناك، استغلت مدة وجودها
في مصر إلى التعرّف عن كثب إلى المجالس الأدبية التي
كان يحضرها المازني وإبراهيم ناجي، حتّى عادت لبلدها
وقد غدا لها صالونًا أدبيًا يحضره نخبة من
الأنتلجينسيا العراقيّة وقتها، فصارت عفيفة اسكندر
مطربة العهد الملكي، ومع بداية دخول العراق إلى نفقه
المظلم العام
1980
انزوت بصمتٍ نادبةً زمن مضى ومجتمعٍ تغيّرت كثيرًا من
قيمه، يُنظر:
رقصة الفستان الأحمر الأخيرة:
259 – 260 – 261 – 262.
|
All rights reserved
جميع الحقوق محفوظة