تجليات التصوف في شعر أديب كمال الدين: قراءة  في المجلد السادس

Manifestations of Sufism in the Poetry of Adeeb Kamal Ad-Deen:

A Reading of the Sixth Volume

لندة خلفاوي *

جامعة الشهيد الشيخ العربي التبسي، تبسة، مخبر الدراسات الإنسانية والأدبية، الجزائر،

تاريخ النشر: 07/ 06/2025

 

 

ملخص:

تسعى هذه الورقة البحثية إلى تقصي حضور النزعة الصوفية في الشعر العربي المعاصر، وذلك بالغور في أعماق تجربة شاعر الحروف العراقي أديب كمال الدين؛ لرصد تجليات التصوف من خلال تناوله أفكار الصوفية ورموزهم، وكيفية توظيفها في شعره. منتهجة في ذلك منهجا تحليليا للنصوص الشعرية، وسبر أغوارها، وتبيان مضامينها وما تنطوي عليه من دلالات.

هذا، وقد أظهرت أهم النتائج تأثر الشاعر بالتجربة الصوفية، من خلال استحضاره لمواقف شخصيات صوفية كان لها أثر كبير في الثقافة العربية الإسلامية على مر العصور. وكذا مقدرته الفنية في الجمع بين الإبداع الشعري والتصوف في نسقية، تجاوز من خلالها المألوف بتوغله في عمق الذات الإنسانية، واستكناه عوالمها. ومن ثم، الخروج بها من بوتقة الواقع المؤلم وأعباء الحياة، بالترفع عن مادياتها، والارتقاء الروحي إلى ما هو أسمى وأنبل، مما أكسب قصائده صبغة خاصة وشعرية متميزة.

كلمات مفتاحية: الشعر المعاصر؛ التصوف؛ الرمز؛ الواقع.

Abstract:

This research paper aims to explore the presence of Sufi tendencies in contemporary Arabic poetry by delving into the depths of the Iraqi poet Adeeb Kamal Ad-Deen, known for his "Letter" poetry, to trace the manifestations of Sufism. The paper examines how he engages with Sufi ideas and symbols and how he employs them in his poetry. Adopting an analytical approach to his poetic texts, the study seeks to uncover their meanings and the connotations they carry.

The key findings reveal the poet's influence by the Sufi experience, as he evokes the stances of Sufi figures who have significantly impacted Arab-Islamic culture throughout the ages. Additionally, the study highlights his artistic ability to combine poetic creativity with Sufism in a manner that transcends the ordinary. Through this approach, he delves into the depths of the human self, exploring its realms and elevating it from the burdens of painful reality and the material aspects of life, towards a higher and nobler spiritual ascent. This fusion has endowed his poems with a unique character and distinguished poetic quality.

Keywords: Contemporary poetry; Sufism; symbol; reality.

  

المقدمة:

شكل التصوف على مر الزمن تيارا فكريا مهما في الثقافة العربية الإسلامية، وكان له الأثر البالغ في مختلف الفنون بما فيها الأدب؛ حيث حمل في طياته بوادر التغيير والسمو بالأدب إلى نوع من الإبداع الفني الذي له خصوصيته الفريدة. وكان الشعر من بين الفنون التي زخرت بالتراث الصوفي، ونهلت منه الكثير؛ مما جعل هذا الشعر يكتسي طابعا مميزا، يمزج بين التجربة الروحية والتجربة الفنية. وذلك من خلال استثمار الشعراء المعاصرين لأفكار الصوفية العميقة، ورموزهم المستشكلة في قوالب شعرية، تعبر عن أزمة الإنسان في هذا الوجود.

لقد حفل الشعر المعاصر بالكثير من المعاني والألفاظ الصوفية، التي تمزج بين الحقيقة التي يعانيها الشاعر المعاصر، وبين تجربة حية فريدة تعبر أيضا عن معاناة الصوفي في معراجه الروحي. لقد حاول الشاعر المعاصر استلهام التراث وتطويعه للتعبير عما تحمله ذاته من أزمات، يحاول من خلاله البوح عما يكابده من متاعب نفسية، أضحت تؤرق وجوده ككيان له هويته التي باتت مبعثرة بين طيات الأزمات التي ما فتئت تقض مضجعه. فينتابه نوع من النزوع الفني نحو التصوف، ليفرغ أحزانه في قوالب تحمل موهبته وقدرته على الخوض في غمار تجربتين عميقتين، تشكلان المنعطف الحاسم بين ما هو روحي بالطبيعة والفطرة، وما هو فني إبداعي.

ويعد الشاعر العراقي أديب كمال الدين من بين الشعراء المعاصرين الذين أدركوا أهمية التراث، فراح ينهل منه ما يوافق نظرته المعرفية وخياله الجانح، ليؤلف دواوين كثيرة حوت الكثير من التراث الديني والثقافي والحضاري، بما في ذلك التصوف، ويظهر ذلك جليا في عدد من كتاباته التي تناولت موضوعات مختلفة تتعلق بالتجربة الصوفية، وهو ما سنتناوله في هذا البحث، من هنا نلمس الطبيعة الإشكالية للموضوع، المتمثلة في: كيف يمكن للشاعر أديب كمال الدين توظيف الرموز الصوفية بشكل يجعل منها أداة تعبر عن مشاكله الراهنة؟  وتتفرع عن هذه الإشكالية جملة من التساؤلات، منها:

هل تستجيب المعاني الصوفية إلى المتطلبات الفنية عند الشاعر، بحيث لا تفقد أصالتها أو عمقها الروحي الذي وضعت له في الأساس؟ هل استطاع الشاعر أديب كمال الدين أن يوازن بين العناصر التراثية الصوفية، وبين الأساليب الشعرية المعاصرة في بنيتها الفنية؟ هل تمكن بتوظيفه للموروث الصوفي من إثراء تجربته الشعرية، وإبراز هويته الأدبية الخاصة؟

للإجابة عن هذه الإشكالية والأسئلة المطروحة، يتوجب تحليل شعر أديب كمال الدين (الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد السادس) والكشف عن مظاهر توظيف الرموز الصوفية، وكيفية توظيفها، وسنعتمد في ذلك على المنهج التأويلي باعتباره الأنسب لفهم الموروث الصوفي الموظف، والاستعانة ببعض آليات المنهج الوصفي التحليلي بما تقتضيه طبيعة الدراسة.

الوعي بالتراث:

إن الوعي بالتراث هو الوعي بإمكانياته وإدراك لما يمكن أن يعطيه من إنتاجات فنية، وهنا يكون التجديد الحقيقي والحداثة البحتة التي ترتكز على عمود صلب متمثل في التراث، إن المبدع الحقيقي هو الذي يعي تماما، ويدرك كيفية التعامل مع التراث من أجل إثراء أعماله الفنية.

تقوم علاقة المبدع بالتراث على أساس التغيير والتجديد تبعا لاستجابة التراث لمتغيرات العصر، وفي ذلك يقول عز الدين إسماعيل: "الوعي بالتراث، والوعي بالدور التاريخي، هما القدمان اللتان يمضي بهما التراث، واللتان تقودان خطواته وتوجهاتها، ولا يمكن أن تتحقق مسيرة بقدم واحدة، فالوعي بالتراث دون وعي بالدور التاريخي من شأنه أن ينتهي بهذا التراث إلى الجمود، حيث تغيب كل الفعاليات اللازمة لاستمرار حيويته، والوعي بالدور التاريخي دون وعي بالتراث يمثل قطيعة ابستمولوجية ضد تاريخية الإنسان النفسية والعقلية"([1]).

إن الوعي بالتراث يشكل لبنة في بناء مستقبل الأدب، وذلك للعلاقة القائمة بينه وبين الوعي التاريخي الذي يمنحه الاستمرارية والتحول في آن واحد؛ وذلك من خلال توظيفه في سياقات جديدة تعبر عن الواقع الذي يعيشه الأديب بكل تفاصيله، فيمنح التراث بعدا جديدا يشكل الأساس الذي يقوم عليه النص الجديد، فالتراث قد يصيبه الجمود إذا لم يوافقه الوعي بالتاريخ؛ ذلك أنه هو من يحييه ويمنحه أبعادا مختلفة، مبنية على أسس من التجاوز لما هو مألوف في خضم واقع جديد يمثل الحياة بكل تفاصيلها، فينبض مع كل نص جديد ويتخذ روح القديم، وينسجها في شكل حداثي يعطيه نوعا من التنوع والتجدد.

 وبهذا يمكن القول؛ أن الوعي بالتراث هو الوعي بعمق أصالته، وبالتالي توسعة مجالات استخدامه وفق قدرات الكاتب على الخلق والإبداع، و "الأصالة الحقيقية تكمن في قلب المعاصرة دون أن تتنكر للماضي، ومقياسها الحقيقي هو أن تعرف كيف تبتكر حلولا صادقة وملائمة لمشكلاتك التي تعيشها في عصرك، مستعينا بكل ما تحمله من خيرات ماضيك دون أن تخدع  نفسك أو تغالطها أو تنقل عن الآخرين بغير وعي بالاختلاف بين ظروفك وظروفهم"([2]).

 

فالأصالة في عمقها لا تعني أن تكون أفكارك مرتبطة بالماضي مقيدة به ترفض التجديد، بل الأصالة هي التي تدفعك إلى اتخاذ تدابير واقية للخوض في تجارب جديدة، وهي تمنحك القوة والثبات على المضي قدما، إنها لا تعني أن تبقى أسيرا لأفكار ومعتقدات قديمة، ولكن هي التي تعطيك الخيار في أخذ ما يناسب أعمالك. وعلى هذا، يكون وعيك بالتراث وأهميته هو الحاسم والفيصل في ما يمكنك أن تقدمه من أعمال تتوافق وطبيعة عصرك، فالأصالة هي أن تستلهم من تراثك ما يتوافق وطبيعة عملك بالأدوات التي تناسبك؛ حتى تمنحك القدرة على التحرك وفق آليات جديدة تنعش أعمالك وتمنحها حياة إضافية، وبذلك يمكنك أن تستشرف المستقبل الذي ينتظرك وفق ما تراه حافزا ليكون أساسا في تكوين نظرة جديدة، والتحرر من كل القيود؛ حتى يكون لإبداعك نوعا من التميز.

ومن ثمة يمكن القول " إن الوعي بالتراث لا تصبح له فعالية حقيقية إلا إذا ارتبط بوعي مماثل للواقع، لأنه في هذه الحالة وحدها يمكن أن ينشأ جدل عميق ومثمر"([3])، وبحسب درجة الوعي بهذا التراث لا بحسب نوعه يكون توظيف هذا التراث ([4]).

توظيف التراث في الشعر العربي المعاصر:

التوظيف لغة: "وظف، الوظيفة من كل شيء: ما يُقَدَّرُ له في كل يوم من رزق أو طعام أوعلف أو شراب، وجمعها الوظائف والوُظُفُ. ووظف الشيء على نفسه ...توظيفا: ألزمها إياه، وقد وظّفت له توظيفا على الصبي كل يوم حفظ آيات من كتاب الله عز وجل"([5]).

من خلال ما ورد في هذه التعاريف يبدو أن التوظيف في لسان العرب، يعني تخصيص مورد معين بشكل مستمر، كما يعني الإلزام. كأن تلزم نفسك أو غيرك بفعل شيء ما لتحقيق هدف معين.

التوظيف اصطلاحا يعني "تقنية اختيار الرمز أو التجربة السابقة أو إسقاط ملامحها على التجربة المعاصرة شعريا دون أن يطغى جانب على آخر"([6])، بمعنى ألا تكون هناك هيمنة لجانب استخدام التراث الذي يمثل التجارب السابقة على حساب التجربة المعاصرة ، مما يؤدي إلى مشكل عدم التوازن بين الماضي والحاضر في العمل الفني.

"توظيف التراث، بمعنى استخدام معطياته استخداما فنيا إيحائيا، وتوظيفها رمزيا لحمل الأبعاد المعاصرة للرؤية الشعرية للشاعر، بحيث يسقط الشاعر على معطيات التراث ملامح معاناته الخاصة، فتصبح هذه المعطيات معطيات تراثية- معاصرة، تعبر عن أشد هموم الشاعر المعاصر خصوصية ومعاصرة في الوقت الذي تحمل فيه كل عراقة التراث  وكل أصالته، وبهذا تغدو عناصر التراث خيوطا أصيلة من نسيج الرؤية الشعرية المعاصرة"([7]).

التوظيف الفني للتراث يمنحه فرصة جديدة في الانبعاث بحلة جديدة منحها إياه الشاعر المعاصر ليعبر عن انشغالاته وتطلعاته المستقبلية، وبذلك يكسب قصيدته أبعادا نفسية وفنية تزدحم مع هموم الحياة، وتعبر عنها بلغة ممزوجة بين التراث والمعاصرة، وهكذا يكون قد تمكن من بعث الموروث القديم في شكل جديد على اعتبار التطور الذي تشهده الساحة الفنية، حيث أضحى كل شاعر يعبر عن همومه بلغة تتشكل من مزيج ملون بألوان زاهية تضفي على التراث مدلولات معاصرة وتمنحها بالتالي حياة معاصرة.

لقد استطاع الشاعر المعاصر، بإدراكه العميق لأهمية التراث، أن يجعل منه أداة فعالة في تكوين بنية فنية جديدة؛ يتخطى بها المفاهيم المعاصرة للحداثة، وينتج بذلك نصوصا شعرية ذات قوالب فنية إبداعية. حيث إن الأخذ بعناصر مهمة تشكلت عبر أجيال في بوتقة التحدي الذي ساد ذلك العصر، وتطويعها لخدمة المعاصرة، إنما هي بمثابة مجازفة فنية بديعة -إن صح التعبير- لا تتأتى إلا للشاعر الفذ الذي يمتلك من الموهبة الفنية ما يؤهله لخوض هذه التجربة، فينصهر مع التراث في تجربة وجدانية عنيفة وعميقة، تأخذه إلى عوالم جديدة، يبحر من خلالها في غياهب العبقرية الفنية التي تبرز حقيقة شعره وتمنحه الخلود،  و" التراث ليس تركة جامدة، ولكنه حياة متجددة، والماضي لا يحيا إلا في الحاضر، وكل قصيدة لا تستطيع أن تمد عمرها إلى المستقبل لا تستحق أن تكون تراثا. ولكل شاعر أن يتخير من تراثه كما يشاء"([8])، شرط أن يعطي لكل مكانته حتى لا يتسلط الواقع على الماضي فيفقده قيمته التي وضع من أجلها، وبذلك تنحل وتتفكك البنية الفنية للشعر وتفقد جماليتها، كما لا يجب أن يكون توظيفه أكثر فاعلية فيتسلط الماضي على الحاضر ويصبح نصه مجرد نص كلاسيكي لا وجه للإبداع فيه.

إن اهتمام الشاعر المعاصر بالتراث بشتى أنواعه يمكنه من أن يحافظ على الذاكرة الثقافية الاجتماعية لمجتمعه، وكذا يحافظ على العناصر التي تشكل هويته فلا يتنصل منها، هذا إضافة إلى كونه مصدر إلهام له يأخذ منه ما يريده شرط أن يكون في خضم التفاعل المبني على نوع من النزوع نحو التجديد والسعي دائما إلى ما هو أفضل؛ حتى يكون بذلك قد كون نوعا من التحدي المفضي إلى ازدواجية فنية جمالية تبين براعته وقدرته على الخلق والإبداع، انطلاقا من أسس سليمة لا مفر من اعتبارها كيانه الذي يشكل شخصيته الفنية، ذلك لأن الاستلهام من الموروث الفني وتوظيفه ليس بالأمر الهين، بل يتطلب كما سبق ذكره مهارة و خيالا فنيا يجمح نحو التوحد بالأدب .

التصوف في الشعر العربي المعاصر:

يعد التصوف تجربة روحية خالصة، عمادها الدين، تهدف إلى التخلص من أدران العالم المادي، و السمو بالإنسان إلى أعلى المراتب؛ حتى تترقى الروح  في عالمها الباطني لتصل إلى مرتبة القرب، فتتجلى الحقائق، وتتوارد عليها المعارف الربانية. وقد ارتبط التصوف بالدين؛ لذلك تجد شيوخ الصوفية يركزون في تعليم السالكين على ضرورة التقيد بتعاليم الدين والشريعة الإسلامية، لأن التصوف دون شريعة يعد زندقة. وعلى هذا، يعد التصوف «جوهرا فكريا يُمثل مرحلة راقية من مراحل تطور الفكر الديني، حين تتدخل القوى العقلية في إثبات قدرتها على الإدراك إلى جانب النص الديني، إنّها حركة إيقاظ للقدرة التأويلية للتفكير الإنساني في مواجهة مجاهيل الكون وخفايا الإنسان وحقيقة الخالق عز وجل  وسبيل الوصول إليه.»([9]).

هذه التجربة  الروحية السامية التي ترقى بالإنسان إلى مراحل روحانية عالية، نالت اهتمام الكثير من الشعراء، الذين وجدوا فيها نوعا من الخلاص مما يعانونه في واقعهم. فأكبوا على التراث الصوفي لمحاولة فهمه، حتى يتسنى لهم استلهام ما فيه من روحانيات عميقة، وتجارب حقيقية تعكس رحلة الصوفي المضنية في سبيل الوصول إلى الله، والتوحد معه على حد تعبيرهم.

يرى عبد الوهاب البياتي أن "معظم الشعراء العرب المعاصرين لا يمتلكون البنية المادية والروحية التي كان يمتلكها الشعراء المتصوفة؛ ولهذا فإن رحلة بعضهم نحو الداخل أو نحو الذات كانت رحلة نحو العقم والصمت وواجهت اليباب والإحباط؛ لأن هذه الرحلة نحو الداخل تحتاج بجانب البنية الروحية والمادية إلى الرؤيا الفلسفية أيضا، التي تطرح الأسئلة على الذات وأغلب الشعراء العرب الآن لا يمتلكون هذا النفس" ([10]).

صحيح أن هناك من الشعراء من يحتاج إلى رؤية متكاملة تجمع البنية الروحية للتجربة الصوفية والفلسفة، لكن ما لا يمكن إنكاره أن  هناك من الشعراء رغم أنهم ليسوا بمتصوفة إلا أنهم برؤيتهم الشمولية، وامتلاكهم لهذه الأدوات، استطاعوا إثبات مقدرتهم الشعرية في الجمع بين التصوف والشعر، فعبروا بأساليب شعرية مبتكرة ، من أمثال علي أحمد سعيد(أدونيس)، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور وغيرهم، هؤلاء الشعراء تظهر في أشعارهم تأملات صوفية فلسفية عميقة للوجود، وبالتالي تمكنوا من التعبير عن أزمة الإنسان المعاصر.

وقد أثر التصوف بشكل عام في الشعر العربي المعاصر من حيث الأساليب والمضمون، بما في ذلك ظاهرة الغموض، "وقد تسرب هذا الغموض إلى الشعر العربي المعاصر من حيث علاقته بالصوفية وما يقترن بها من تجريد أحيانا وشطحات أحيانا، وما يتصل بلغتها من رموز تتعلق بالباطن ولا تعني شيئا ذا قيمة في المدلول الظاهري للألفاظ"([11])، خاصة بتوظيف المصطلحات والرموز الصوفية، ما فتح المجال واسعا للتأويل، والتفكر فيما يتجاوز المعاني الظاهرة إلى عوالم أوسع من الدلالات.

التوظيف الصوفي في شعر أديب كمال الدين

الشاعر أديب كمال الدين شاعر عراقي عرف بـــ"الحروفيّ"([12])؛ ذلك لأنه "اتخذ الحرف وسيلة فنية وروحية"([13])   في التعبير، وهي سمة بارزة في شعره، وكذلك عند الصوفية، تأخذ الحروف حيزا كبيرا في فلسفتهم؛ إذ تتجاوز كونها رموزا إلى اعتبارها مفاتيحا  لفهم الأسرار الكونية والتواصل مع العالم الروحاني، فلكل حرف قوته وتأثيره الخاص عند كل صوفي. يتجاوز أديب كمال الدين الدلالة اللغوية للحرف ليحمله دلالات  روحانية وفلسفية عميقة، فيجعل الحرف وسيطا بينه وبين الوجود.

الرموز  والمصطلحات الصوفية :

لقد عرفت اللغة الصوفية بأنها لغة معقدة غامضة، يصعب على المتلقي فهمها؛ لغة مليئة بالإشارات الباطنية، ويغلب عليها الطابع الرمزي. وهذا ما أدى ببعض الصوفية إلى وضع تراجم لمؤلفاتهم كما فعل ابن عربي عند ترجمته لكتابه "ترجمان الأشواق"، وألفت العديد من المعاجم الصوفية لشرح مصطلحاتهم، أضف إلى ذلك أنه مع مرور الزمن اصطبغت اللغة الصوفية بصبغة فلسفية مما زاد في تعقيدها. وعليه فإن من يلجأ إلى استعمال المصطلحات الصوفية في شعره، لابد أن يكون على دراية واسعة بهذه المصطلحات وذا ثقافة صوفية بحتة، حتى يستطيع تطويعها لخدمة أغراضه الشعرية .

تتجدد اللغة عند أديب كمال الدين كلما حاول استلهام الموروث الصوفي بتركيبته المعقدة؛ حتى يضفي على شعره نوعا من الميتافيزيقا الكونية، التي تحمل المتلقي على التجديف بعيدا في وسط بحر من الكلمات الرمزية، التي تجوب عوالم خفية حاملة بين طياتها فلسفة عميقة، عمق التجربتين الصوفية والشعرية المرتبطة بواقع الشاعر، كما يبدو ذلك في قصيدته "رَقْصُ الدَّرْوِيش" حيث يقول في مطلعها: ([14])

أَتْعَبَنِي الدَّرْوِيشُ الَّذِي يَسْكُنُ أَعْمَاقِي

فَهُوَ لَا يَكُفُّ عَنِ الرَّقْصِ

آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ

في هذه القصيدة، تعبير عن صراع  داخلي يعاني منه الشاعر؛ صراع بين الروح التي تبحث عن خلاصها في النقاء والتجرد، وبين الواقع المشوه الذي يفرضه العالم المادي. واقع مؤلم تسوده كل أنواع الصراعات والانحلال الأخلاقي في مجتمعه. وقد استخدم الشاعر رموزا مستقاة من هذا الواقع مثل:(السًّكَاكِين، أَيْدِي الْكَرَاهِيَّةِ وَالْحِقْد،وَأَلْسِنَةُ الْبِغَالِ )؛ حيث تعكس هذه الرموز الوحشية والقسوة التي تشوه العلاقات الإنسانية، وتصور العالم المادي المبتذل الذي يستهلك الأرواح. في حين، عندما يعبر عن عالمه الداخلي وروحه النقية التي ترفض كل أنواع الزيف والعبث والابتذال، نجده يستخدم رموزا ومصطلحات صوفية مثل: (الدَّرْوِيش، الرَّقْص، الْغَرِيب، الدَّوَرَان)، وهي رموز تعبر عن حالات وممارسات مرتبطة بالتجربة الصوفية، وسعي الروح في الوصول إلى الحقيقة الإلهية. وبهذا، يرسم الشاعر ثنائية الوجود؛ حيث يواجهه (الخارج) المليء بالكراهية والعداء والظلم، مما يفرض رموزا قاسية ومادية،  بينما يحتفظ (الداخل ) بنقائه الروحي، متشحا بالرموز الصوفية التي تسعى للسلام والانسجام.

"إن رمزية الصورة لا تعني أن تكون تشبيها ينصرف فيه الشاعر إلى المشبه به، ولكنها تعني الإيحاء، والإيحاء ليس عنتا لفظيا أو اقتسارا"([15])، وقد جسد الشاعر في صورة إيحائية حالته النفسية في صورة الدرويش الذي يرقص، فالدرويش هنا ليس شخصية حقيقية تسكن أعماقه، إنما حالته النفسية المضطربة، والدرويش عند الصوفية هو الفقير الزاهد في الدنيا إلا أنه يعرف  بالذكاء والحكمة، الدرويش في رقصه يحاول أن يصل إلى حالة من الانسجام مع الذات والكون، وهو ما يسعى إلى تحقيقه الشاعر في كثير من الأحيان.

بأسلوب رمزي مؤثر، أراد الشاعر في هذه القصيدة أن يصور محنة الإنسان المعاصر الذي يواجه عالما يضج بالعنف والظلم والتيه، فيجد في الروحانية الملجأ الآمن. بتوظيف رمز "الدرويش" برقصته الدائرية المستمرة، يجسد حالة التأمل والصفاء الروحي؛ حيث الحركة تعكس دورة الحياة واتصال الروح بالمطلق. لكنه يبدو غريبا وغير مفهوم وسط مجتمع موغل في الحقد والعنف؛ حيث البشر يبيعون أرواحهم لأوهام الحياة اليومية ويمارسون "لُعْبَةَ الدَّمِ". من خلال هذه الصورة، يبرز الشاعر عزلته الروحانية في عالم لا يقدر قيمتها، لكنه  في الوقت ذاته يعبر عن أمله بالخلاص؛ حيث ينضم في النهاية إلى رقصة الدرويش، متجردا من كل قيود الواقع، في فعل رمزي للتحرر والانتصار للروحانية كملاذ أخير من عبث الحياة.

 وفي قصيدة أخرى  عنوانها "الطَّلْقَةُ الأُولَى"، نجد الشاعر يستخدم مصطلح "العارف" - وهو شخصية روحية صوفية - حيث يقول:([16])

قَالَ الْعَارِفُ لِآلَافِ المُصَلّينَ الْفُقَرَاءِ:

لَوْ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ صَلُّوا مَعَنَا الْجُمُعَةَ

لانْهَارَتْ مَنَارَةُ الْجُوعِ مِنَ الْعَالَمِ.

بَكَى المُصَلُّونَ بِدُمُوعِ الْجُوعِ وَاْلأَلَمِ وَالْحِرْمَانِ

حَتَّى غَطَّتْ دُمُوعَهُمْ الْحَرَّى وُجُوهَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ

فَرَفْرَفَتْ أَجْنِحَةُ الْمَلاَئِكَةِ في السَّمَاءِ

وَتَرَدَّدَ صَوْتٌ ذَهَبِيٌّ مِنَ الْغَيْمَاتِ:

صَدَقَ الْعَارِف.

صَدَقَ الْعَارِف.

صَدَقَ الْعَارِف.

تَحَرَّكَتْ بَنَادِقُ جُنْدِ الطَّاغِيَةِ

وَطَوَّقَتِ الْمُصَلّينَ الْبَاكِينَ مِنْ كُلّ جِهَةٍ

وَبَدَأَتْ تَحْصُدُهُمْ حَصْدًا.

كَانَتِ الطَّلْقَةُ اْلأُولَى مِنْ نَصِيبِ الْعَارِفِ بِالطَّبْعِǃ

هذه قصيدة قوية جدا ومؤثرة، فالعنوان(الطلقة الأولى) يحمل دلالات العنف، الذي يوحي بأن هناك بداية لأحداث مأساوية.

تعكس هذه القصيدة /المأساة، الصراع بين الحقيقة، التي يمثلها "العارف" الذي يرمز إلى الحكمة والقيادة الروحية، والتي تحاول أن تقدم حلولا ورؤى لمعاناة الناس، وبين قوى الظلم والطغيان، ويمثلها الجنود. وذلك بتوظيف الشاعر للرموز الصوفية والدينية والاجتماعية في تصوير المواجهة الشرسة، التي تنقل القارئ من حالة التأمل الروحي -أو بعبارة أخرى من حالة الوحدة والتآلف الروحي في الصلاة- إلى مشهد كله رعب ومأساة، يعبر عن الواقع المؤلم الذي ينطوي على مظاهر القمع والقتل من غير حق، مما يعكس الصدام الأبدي القائم بين الحق والباطل.

لقد ركز الشاعر في قصيدته على شخصية "العارف"  فجعل أول طلقة تصيبه هو دون غيره؛ ليحملها دلالة أن من ينادي بالحكمة ويطالب بالحقوق المغتصبة، هو أول من يسكت في المجتمعات الظالمة، القصيدة هنا تلعب على الوتر الحساس للقارئ لتتغلل في عمق مشاعره، من خلال تصوير الجوع كواقع ملموس، ودموع المصلين للتعبير عن حرمانهم من أبسط حقوقهم الروحية والجسدية، مما يخلق نوعا من التفاعل الحي بين الشخصيات (العارف، والمصلين، والجنود)، فيكون تأثيرها أكثر عمقا. كذلك التجسيد الحسي للملائكة في السماء، وتكرار عبارة "صدق العارف"يمنح الأحداث بعدا سماويا مما يجعل من العارف ليس مجرد ضحية للظلم البشري، بل أيضا شخصية لها مكانتها في العوالم الروحانية السامية، ويعكس إيمان الشاعر بالعدل الإلهي وبأن صرخة المظلومين ستسمع.

تناول الشاعر من خلال هذه الأبيات قضايا الوجود، والظلم الاجتماعي، والجوع الإنساني، ليكشف عن عمق معاناة الإنسان في مجتمعات القهر والاستبداد. يتأمل الشاعر هنا علاقة الدين بالحياة اليومية للبسطاء، ويبرز قوته وتأثيره في إحداث التغيير والتحرك نحو الأفضل، إذا ما جرى تطبيقه بروح جماعية حقيقة.  ويقدم نقدا سياسيا واجتماعيا عنيفا بأسلوب رمزي، محمل بالمعاني الصوفية والإنسانية التي تشكل جوهر تجربته الشعرية كإنسان عانى من مظاهر القهر تحت وطأة الأنظمة الطاغية التي حكمت المنطقة العربية. حيث كانت الشعوب تخرج للتظاهر والمطالبة بحقوقها، فتقمعها السلطة بوحشية. ورغم نهاية القصيدة الحزينة، إلا أنها تحمل في طياتها إيمان الشاعر العميق بأن العدالة الإلهية ستتحقق، فصوت العارف لن يختفي؛ لأن الحق لا يموت ولو تم قمعه على الأرض. وسوف يستمر النضال من أجل الحرية.

في هذه الأبيات من قصيدة بعنوان "حَرْفُ الْقَوْل" تمتزج حروف الشاعر مع الطبيعة فتخلق قصيدة رمزية في أجمل حلة، حيث تتماهى الكلمات مع الحروف، مع الكون ومع أنفاس الشاعر لترسم لوحة جميلة، تختلف في الألوان وتمتزج في صورة عنوانها الوحدة الكونية. يقول الشاعر:([17])

سَأَلَنِي عِنْدَ شَاطِئِ الْبَحْرِ:

مَا ذَا يَكْمُنُ في الْحَرْفِ؟

قُلْتُ سِرَّ الأَبَدِيَّة.

قَال: إِذَنْ، مَاذَا يَكْمُنُ في النُّقْطَةِ؟

قُلْتُ: سِرَّ الْكَوْن.

فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ

وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْمَةِ الَّتِي حَلَّقَتْ فَوْقَ الْبَحْر.

في مشهد تأمل وتفكر قرب شاطئ البحر، الذي يرمز إلى الامتداد واللاتناهي  والعمق والأسرار الخفية، والبحث عن الإجابات الكبرى في الحياة،  يدخل الشاعر في حوار مع سائل حول إمكانات الحرف والنقطة وما يخفيانه من معان. فيجيب بأن الحرف يحمل سر الأبدية، أي سر الخلود؛ فهو الذي يكون الكلمات ويمنحها البقاء والخلود. كما أن الحرف عند الصوفية له خصائصه وأسراره وقوته؛ فهو علم ممتد لا نهاية له. حيث يُعتقد أن الكون خلق بالكلمة(الحرف)، وهو رمز للبداية والإبداع.

أما النقطة فهي أساس الحرف؛ حيث يتكون من مجموعة من النقط. فإذا كان  الخط مستقيما، شكل الألف، وإذا كان منحنيا، شكل بقية الحروف. والنقطة، كما وصفها الشاعر، هي سر الكون. أو جوهره كما في النظرة الفلسفية الصوفية؛ لأنها تمثل مركزه، أو الفيض الإلهي الذي نشأ منه كل شيء.

أراد الشاعر أن يتجاوز المعنى الظاهر للحرف والنقطة، ليدخل بهما إلى عوالم من الأسرار التي تتطلب تأملا عميقا، عمق البحر الذي يجلس أمامه. يريد السائل أن يستكشف حقائق الحرف والنقطة، ويغوص في بحر معانيهما الخفية، ما يدل على أنه يبحث عن جوهر الأشياء. لقد حاول الشاعر أن يرسم لوحة فلسفية من تشكلات الحرف ومعانيه اللامحدودة، ومركزية النقطة في تشكيل الكون؛ حيث تعتبر المركز الذي تدور حوله دوائر الأفلاك، والنواة التي تدور حولها الإلكترونات، و"النقطة التي وسط الدائرة هي معنى الحقيقة"([18])، والأصل الذي انبثق منه الكون. والكون هنا لا يقتصر على العالم المادي فحسب، بل يشمل أيضا العالم الروحي والمعنوي.

أسئلة وجودية بحتة يحاور بها الشاعر ذاته، متجسدة في سائل يبحث عن المعرفة الحقيقية للحرف والنقطة، وما يحملانه من مفاهيم كونية عميقة. هذه الأبيات تحمل في أعماقها معاني مرتبطة بالأبدية والكون والبحث عن المعرفة. لكنها في الوقت ذاته تعكس الواقع المعاصر المؤلم الذي عاشه الشاعر، المليء بالغموض والاضطرابات والحزن، الناتج عن التحولات العنيفة التي شهدها وطنه العراق، ومع ذلك، يجد في الكتابة أبدية وأملا يتجدد مع كل نقطة وحرف، ويؤمن أن هناك دائما غيمة تحمل الأمل، حتى لو كانت تحلق فوق بحر من الألم.

الشخصيات الصوفية:

أراد أديب كمال الدين أن يتخطى حدود الزمن من خلال استحضاره شخصيات صوفية كان لها أثر بالغ في الثقافة العربية الإسلامية في العديد من قصائده. فحاول أن يختار شخصياته بعناية، منها رابعة العدوية وابن عربي، وجلال الدين الرومي وغيرهم. وقد شكلت شخصية الحسين بن منصور الحلاج شخصية محورية في شعره، و يبدو تأثره بها واضحا جدا من خلال تكرارها في عديد من قصائده، لكن بأشكال وأساليب مختلفة. فكل مرة يعطيها بعدا يختلف عما قبله حسب السياق الشعري والفكرة التي يريد أن يعبر عنها، حيث تكتسي طابعا فريدا من خلال الأدوار التي تؤديها، ممتزجة بروح الشاعر وكيانه كإنسان يبحث في الوجود عن الاستقرار والسلام الروحي. في قصائده، التي يجد فيها نوعا من التشدق بالخيال الرادح بين أحضان الطبيعة الخصبة التي تورق أنوارا على الكل، يحاول الشاعر أن يعطي معاني للمفردات الصوفية لكي تبوح بما لها، وما علبها ضمن نسق شعري يحمل الكثير من المعاني العميقة.

يقول الشاعر في قصيدة "لَمْ تَكُن":([19])

ثُمَّ إِذَا عَبَرْتُ الْجِسْرَ

وَجَدْتُ الْحَلاَّجَ مَصْلُوبًا

فَبَكَيْتُ لِمَا حَلَّ بِهِ مِنْ هَوَانٍ عَظِيم.

لَكنَّهَا لَمْ تَكُنْ غَلْطَتي.

- هَكَذَا قَالَ لي-

هَذِهِ فِتْنَةُ الْعِشْقِ أَيُّهَا الْعَاشِقُ،

أَيُّهَا الْمُنْدَهِشُ بِمَا جَرَى لِي أَوْ سَيَجْري.

إِنَّهَا فِتْنَةٌ أَنْ تَرَى مَا لَا يَرَى الآَخَرُونَ

وَتَعْرِفُ مِنَ اللهِ مَا لَا يَعْرِفُون.

فَكَفْكِفْ دُمُوعَكَ

لِأَنّي سَأُحْرَقُ غَدًا

وَسَيُنْثَرُ رَمَادِي بَعْدَ غَدٍ

عِنْدَ نَاصِيَةِ الْجِسْر.

 فَكَفْكِفْ دُمُوعَكَ

رُبَّمَا سَتَبْكِي بِصَمْتٍ أَكْثَرَ مِمَّا بَكَيْتُ

وَتُصْلَبُ سِرّاً عَلَى جِسْرِ مَنْفَى الْحُرُوف.

في هذه الأبيات، يتخيل الشاعر نفسه في لقاء مع الحلاج  عند عبوره الجسر، وعبور الجسر هنا يشير إلى الانتقال من زمن إلى زمن آخر، هو عودة بالزمن إلى الماضي، لكنه زمن افتراضي داخلي ليس حقيقي. عند عبوره الجسر يذهل من قساوة المنظر وهو يرى الحلاج مصلوبا، فيبكي على الحال الذي آل إليه الحلاج كواحد من العارفين، الذين يواجهون العزلة والتهميش، هذا البكاء يعبر عن حزن الشاعر على نفسه وعلى كل من يسعى وراء الحقيقة في زمن يسيطر عليه الزيف والاستهلاك، أديب كمال الدين مثل الحلاج، يشعر بالعزلة في المنفى الروحي، حيث لا يجد من يفهم عمق معاناته الشعرية والفكرية.

يدخل الشاعر في حوار  مباشر خيالي مع الحلاج حول معاناته، حتى يفهم فلسفته في العشق التي أدت إلى صلبه، والعشق هو الإفراط في الحب. هذا الأسلوب يعزز من التفاعل الروحي مع الشخصية كأنها حية، ويطرح تساؤلات حول معنى التضحية الحقيقية، والمعرفة التي أدركها العارف ولا يمكن أن يدركها الآخرون. هذا الحوار يتضمن تساؤلات وجودية حول قدر الإنسان الذي يختار طريق  التصوف والعشق الإلهي.

يحدث الحلاج الشاعر بأسلوب خطابي (أيها العاشق)، (أيها المندهش)، وكأنه يقدم توجيهات حول معاني العشق، هذا النوع من الأسلوب يجعل النص يتجاوز حدود السرد والوصف، ليتحول إلى نوع من الإرشاد والتوجيه الروحي الذي يعتمده الشيخ مع مريديه.

تكرار لفظة(فتنة) يمنح القصيدة إيقاعا تأمليا، ويعزز من وقع هذه المفاهيم الصوفية والفلسفية. وكذلك التكرار في عبارة (كفكف دموعك)، يبرز معاناة العارف بشكل أعمق، ويعمل على تثبيت الفكرة في ذهن القارئ. الشاعر يرى نفسه في الحلاج، وكأنهما يواجهان نفس المصير؛ كلاهما عرف أسرارا لا يحتملها المجتمع، وكلاهما عانى لأن الآخرين عجزوا عن رؤية ما رأوه. الشاعر يدرك أن كل عاشق للحقيقة سيواجه المصير ذاته حيث يصلب على "جسر منفى الحروف"، ولكنه سيصلب سرا أي أن معاناته ستكون داخلية صامتة، مثلما يعاني شعراء العصر في منفى الحروف، حيث تكون الكلمة مقيدة مكبلة، هؤلاء يعيشون في عالم الكتابة والمعاني، يحملون همومهم في صمت ويعانون في خفاء، يشعرون بأنهم يعيشون في زمن لا يفهمهم ولا يقدرهم أحد، الشاعر أيضا مثل الحلاج يبحث عن المعنى العميق للحياة، ولكنه يدرك أن هذا البحث يجعله معرضا للصلب الروحي في مجتمع لا يقبل المختلف.

هذه الأبيات، دعوة للتأمل في المعاني الخفية التي تسكن الحروف والحياة، إنها دعوة إلى التعمق في الذات والبحث عن الله في كل حرف وكل معنى، حتى لو كان هذا الطريق مؤلما ووحيدا. فالحلاج لم يقتل عبثا، بل تحول رماده إلى نور يضيء دروب العارفين، وأديب كمال الدين مثله، يعلم أن كلماته ستبقى رمادا مقدسا يبعثره الزمن عند ناصية الجسر ليجدها من يبحث عن  الحقيقة في منفى الحروف.

يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "الحلاّج": ([20])

في اللَّيْلَةِ الَّتِي صُلِبَ فِيهَا الْحَلاَّجُ

طَلَبَ مِنّي أَنْ أَكْتُبَ مَرْثِيَّةً عَنْ حَمَامَةِ نُوحٍ،

حَمَامَةُ نُوحٍ دُونَ سِوَاهَا،

وَأَنْ أَقْرَأَهَا عَلَى رَمَادِهِ حِينَمَا يُنْثَرُ في دَجْلَةَ

عِنْدَ بُزُوغِ الْفَجْر.

لَكِنْ حِينَ قَرَأْتُ الْمَرْثِيَّةَ عِنْدَ بُزُوغِ الْفَجْرِ

جَاءَتْ حَمَامَةٌ مُذْهِلَةُ الْجَمَالِ

بِجَنَاحَيْنِ مِنْ نُورٍ

وَدَارَتْ حَوْلَ خَشَبَةِ الْحَلاَّجِ

سَبْعَ دَوْرَات.

فَارْتَبَكَ الْجَلاَّدُونَ

وَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً مُرّاً

حَتَّى غَرُبَتْ شَمْسُ الله.

يصور الشاعر في مشهد درامي لحظة لقائه بالحلاج في ليلة صلبه، فيطلب منه أن يكتب مرثية عن حمامة نوح، لحظة رمي رماده في نهر دجلة.

يقال أن سفينة نوح عندما استقرت على جبل الجودي، كشف نوح الغطاء الذي فيه الطيور ، فقام بإرسال الغراب  ليأتيه بالخبر إلا أن الغراب لما رأى جيفة  فوقع عليها فأبطأ، فقام بإرسال الحدأة فأبطأت هي الأخرى، فقام بإرسال الحمامة إلا أنها لم تجد موقفا على الأرض، فعادت بغصن زيتون، فأدرك أن الماء نقص، ثم أرسلها فرجعت هذه المرة وفي رجليها طين فعرف نوح أن الأرض قد ظهرت([21])، لذلك فحمامة نوح هي رمز للخلاص والسّلام في التراث الديني، فطلب الحلاج من الشاعر أن يكتب مرثية عن هذه الحمامة تحديدا يظهر أن الحلاج والشاعر يبحثان عن الخلاص الروحي وسط الدمار والألم.

المرثية تعبر عن الحزن، وقراءتها عند بزوغ الفجر لحظة نثر رماد الحلاج في النهر ترمز إلى الأمل في بداية جديدة بعد معاناة طويلة قاسية، حيث يتبدد الظلام ليحل النور مكانه. بينما حضور الحمامة بجناحين من نور هو تصوير لحضور المدد الإلهي، ودورانها حول الخشبة سبع مرات يشير إلى الطقوس الدينية الإسلامية (الطواف حول الكعبة)التي تعتبر مركزا للنقاء الروحي وتجدد الطاقة البشرية و توحد المسلمين تحت راية التوحيد. أما الجلادون، فيمثلون الأنظمة القمعية التي تحاول إسكات الأصوات الحرة، وارتباكهم يضفي مهابة للمشهد، فهو يشير إلى التأثير العميق للفعل الروحاني والقدسي للحمامة على قسوتهم وبطشهم وجبروتهم. وبكاء الناس،  يعكس تأثرهم العميق بالحدث، وكأنهم يدركون فداحة الخطأ الذي ارتكبوه بصلب من وقف دفاعا عنهم وعن حقوقهم المسلوبة.

الشاعر يخلق مشهدا حيا وقويا من خلال التصوير الدرامي؛ حتى يدرك القارئ حجم المأساة التي تعرض لها الحلاج، وقسوة التجربة التي يعيشها الصوفي في مجتمع لا يقدر العارفين، فالحلاج يمثل أيضا العنصر المثقف في عصره فقد بلغ من المعرفة الإلهية مبلغا عظيما. وهنا يمكن الإشارة إلى أن الشاعر يرمز أيضا الى أزمة المثقف في كل عصر وما يتعرض له من ظلم ومعاناة من قبل السلطة، فقد " كان عذاب الحلاج طرحا لعذاب المفكرين في معظم المجتمعات الحديثة، وحيرتهم بين السيف والكلمة"([22])، وبذلك رسم الشاعر لتضحية الحلاج نوعا من التحول من قضية شخص إلى رمز عام للتضحية المطلقة في سبيل الحق، مما يعطي القصيدة بعدا إنسانيا وعالميا يتجاوز الزمان والمكان.

أراد أديب كمال الدين في هذه القصيدة المشحونة بعواطف الحزن والألم، أن يبث رسالة مفادها أن الأمل لا يموت، والحرية هي نور لا يمكن أن تطفئه يد الظلم، حتى لو غربت شمس الله مؤقتا. مثلما أن حمامة نوح جلبت الخلاص لسفينة مليئة باليأس، فإن كلمات الشاعر وأحلامه بجناحين من نور ستظل تدور حول الحقيقة، مبشرة بمستقبل أكثر حرية وإشراقا، مهما اشتد ظلام الجلادين .

خاتمة:

من خلال قراءة  معمقة للأعمال الشعرية الكاملة (المجلد السادس) للشاعر أديب كمال الدين، وتحليل بعض القصائد التي تحتوي على ظواهر التوظيف الصوفي تم التوصل إلى النتائج التالية:

- يعد الشاعر أديب كمال الدين شاعرا ذو موهبة فنية خاصة، تفرّد في توظيفه الرهيب للرموز الصوفية بطرق تجسد مواقفهم في الحياة، وامتدادا لرؤيته الخاصة للواقع الذي يعبر عنه، ففي كل موقع من حروفه تجده يحلق بعيدا في ثنايا الروح العميقة بحثا عن حياة جديدة تجسيدا لنفسه المتعبة، ورغبة منه في الانعتاق من هذا العالم.

- تتمثل تجربة أديب الشعرية في محاولة تحويل القصيدة إلى مواقف تجسد شخصية الصوفي (الحلاج )الذي بنى له صرحا ممردا بعرفانيته في قصائده. رأى أن ينتقل إلى زمن الحلاج في نوع من التواصل مع الزمن الماضي ليجعل القارئ يعيش اللحظة بكل تفاصيلها، وأضفى عليها نوعا من الخيال الصوفي الخلاق، الذي يسلب ألباب المتلقين وعقولهم، ليبث فيهم نوعا من الدهشة والحيرة، والمتعة في آن واحد، وفي الأخير يجعل من شخصيته رمزا للشخصية المثقفة المستهدفة من قبل الظَّلَمة.

- حاول الشاعر أن يضفي على قصائده نوعا من الغموض المستساغ، ذلك لأنه تحرر من قيد الكلمات العادية لإضفاء مصطلحات صوفية في تراكيب خاصة، مما يجعل المتلقي يبحث عن المعاني الحقيقة والتي لا تتسنى له، فيلجأ بالتالي إلى التأويل والذي بدوره يفتح المجال واسعا لتعدد الدلالات.

- لكن الملاحظ في هذا المجلد هو تكرار مصطلحات صوفية بعينها في العديد من قصائده، إلا أن براعة الشاعر في التوظيف تعطيها كل مرة حمولات من المعاني العميقة تختلف وتتنوع حسب السياقات الواردة فيها لهذا  يعد هذا أمرا إيجابيا يحسب للشاعر.

- تبدو ثقافة الشاعر واسعة في مجال التصوف ويظهر ذلك جليا في محاولة إكساب شعره نوعا من السمو الروحي فتتحرر الحروف عنده من قيد كلماتها، لتُظهر عوالمها الخاصة في نوع من التشظي التشكيلي حتى يعلم المتلقي، أنها كيان ووجود يتحرك وفق قوانين الكون في سياق شعري رفيع المستوى.

المراجع:

- ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، مادة(وظف)، المجلد 6،  د ط، دار المعارف، القاهرة، دت.

- أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، تفسير السمرقندي المسمى  بحر  العلوم، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، الجزء 2، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1993.

- أحمد زهير عبد الكريم رحاحلة، توظيف الموروث الجاهلي في الشعر العربي المعاصر" شعر التفعيلة في مصر والشام أنموذجا"، دط، دار البيروني للنشر والتوزيع، عمان، 2008.

- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة ، المجلد 6، ط 1،  منشورات ضفاف، لبنان، 2020.

- الحلاج، الأعمال الكاملة (الطواسين)، تحقيق: قاسم محمد عباس، ط 1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، لبنان، 2002.

- صلاح عبد الصبور، حياتي في الشعر، دط، دار العودة، بيروت، 1969.

- عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة في شعر أديب كمال الدين،  ط 1، منشورات الضفاف، لبنان، 2016.

- عبد الوهاب البياتي ومحيي الدين صبحي، البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا  حوار ذاتي عبر الآخر، دط، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1990.

- عبد الوهاب البياتي، مقابلة التي أجراها عبد الوهاب البياتي مع محمد مبارك، مجلة أقلام، العدد 11، السنة السابعة.

- عزالدين اسماعيل، توظيف التراث في المسرح، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد1، أكتوبر 1980.

- علي عشري زايد، توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر، فصول مجلة النقد العربي، المجلد 1، العدد1 ، أكتوبر 1980.

- فؤاد زكريا، الأصالة والمعاصرة، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد1، أكتوبر 1980.

- محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط  3، دار المعارف، القاهرة، 1984.

- محمد مصطفى هدارة، النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد 4، 1 يوليو 1981.



* المؤلف المرسل.

([1]) - عزالدين اسماعيل، توظيف التراث في المسرح، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد1، أكتوبر 1980، ص 166، 167.

([2]) - فؤاد زكريا، الأصالة والمعاصرة، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد1، أكتوبر 1980، ص 30.

([3]) - عز الدين اسماعيل، توظيف التراث في المسرح، ص 173.

([4]) - ينظر: المرجع نفسه، ص 168.

([5]) - ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عبد الله علي الكبير وآخرون، مادة(وظف)، المجلد 6،  د ط، دار المعارف، القاهرة، دت،  ص 4869.

([6]) - أحمد زهير عبد الكريم رحاحلة، توظيف الموروث الجاهلي في الشعر العربي المعاصر" شعر التفعيل في مصر والشام أنموذجا"، دط، دار البيروني للنشر والتوزيع، عمان، 2008، ص 25، 26.

([7]) - علي عشري زايد، توظيف التراث العربي في شعرنا المعاصر، فصول مجلة النقد العربي، المجلد 1، العدد1، أكتوبر 1980، ص204.

 ([8])-  صلاح عبد الصبور، الديوان، المجلد 3، ط 2، دار العودة، بيروت، 1977، ص 207.

([9]) - ناهضة ستار، بنية السرد في القصص الصوفي ( المكونات، والوظائف، التقنيات)، دراسة، دط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص 20.

([10]) - عبد الوهاب البياتي ومحيي الدين صبحي، البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا  حوار ذاتي عبر الآخر، دط، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1990، ص 19، 20.

([11]) - محمد مصطفى هدارة، النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد 1، العدد 4، 1 يوليو 1981، ص 119.

([12]) - عبد القادر فيدوح، أيقونة الحرف وتأويل العبارة في شعر أديب كمال الدين،  ط 1، منشورات الضفاف، لبنان، 2016، ص 34.

([13]) -  المرجع نفسه، ص 34.

([14]) - أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة ، المجلد 6، ط 1،  منشورات ضفاف، لبنان، 2020، ص 197.

([15])- محمد فتوح أحمد، الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، ط  3، دار المعارف، القاهرة، 1984، ص 261.

([16])- أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد6، ص 39.

([17]) - المصدر السابق: ص 267.

([18]) - الحلاج، الأعمال الكاملة (الطواسين)، تحقيق: قاسم محمد عباس، ط 1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، لبنان، 2002، ص 176.

([19]) - أديب كمال الدين، الأعمال الشعرية الكاملة، المجلد 6، ص 20، 21.

 ([20]) - المصدر السابق:  ص 54.

 ([21]) - ينظر: أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، الجزء 2، ط 2، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1993، ص 128.

([22])-  صلاح عبد الصبور، الديوان، ص 219.

***********************************

نُشرت في مجلة معارف -  العدد 1 - المجلد 20 بتاريخ 7 جوان - حزيران 2025

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home