عتبة حادية وثلاثون:
قراءة في (شجرة وحيدة) لأديب كمال الدين
دكتورة سهير أبو جلود
يتحوّل النص عند أديب كمال الدين إلى تقنية فنية حين يبدأ بلحظة انتظار (مرّت قرون
طويلة على فراقنا) ، يليه انتظارٌ آخر (غرق مركب نوح ثانية في الطوفان) إلى نهاية
ظلت مجهولة (ولم أزل أنتظر).. ولا فرق بين انتظار وآخر سوى في حجم القلق الذي
يتزايد في كلّ يوم (أستعيد معكِ ذكرى المدن العظيمة التي احترقت بعيداً) واليأس
الذي يتضخم في كلّ لحظة (وأستعيد معك شيئاً من الحلم على سريرنا الضيق)..العلاقة
بين الإنتظارات الثلاثة عارضة إذ إنها ل اتتصف بالحتمية ، لكنها جميعاُ تسهم في
حالتين من الإستمرار: إستمرار البناء التراجعي لزمن الانتظار، واستمرار قراءته
بالمقلوب
..
وإذا كان النص قد ابتدأ بلحظة انتظار فإنه قد انتهى بأن أصبح هذا الأخير فعل خلاص،
من هنا كان اتساع مساحات وعي الشاعر، الأمر الذي جعل من ثيمة الإنتظار رؤية قادرة
على إنتاج دالتين أساسيتين في النص.. دالّة تبالغ في الإلتفات والإنتباه إلى كلّ ما
حولها (مستمتعاً بانتظارك ، مثلما تنتظر شجرة وحيدة في الصحراء صاعقة أقبلت إليها
من السماء مليئة بالنار والموت)، وأخرى تعلن أنّ الوقت ربما لم يحن بعد للكفّ عن
انتظار هذا المُنتَظَر ، مُخَلّصاً جاء أم جاثوماً هابطاُ بهيئة إشارة مشوهة
(ولأشير اليكِ باصبعي الوحيد الباقي حياً في كفي: لم أزل انتظرك).
شجرة وحيدة
شعر: أديب كمال الدين
مرّتْ قرون طويلةٌ على فراقنا.
غرقَ مركبُ نوح ثانيةً في الطوفان
فصارَ على الناجين
أنْ يجرّبوا الصبر
من دونِ نبيّ.
واحترقت المدنُ العظيمة
خلفَ الجبالِ والزمنِ والأمطار
واحترقت الأحلامُ كلّها:
أحلامُ العصافيرِ وأحلامُ الطغاة،
ولم أزلْ أنتظر
أنْ ألتقي بكِ يوماً
لأستعيدَ معكِ
قصةَ رحلتنا الأولى مع نوح،
مع الأمل،
مع الحمامةِ والغراب،
لأستعيدَ معكِ
ذكرى المدنِ العظيمةِ التي احترقتْ بعيداً،
وأستعيدَ معكِ شيئاً من الحلم
على سريرنا الضيّق.
نعم
لم أزلْ أنتظركِ
لأقولَ لكِ ما لم يقلهُ أحدٌ مِن قبل،
ولأشيرَ إليكِ
بإصبعي الوحيد الباقي حيّاً في كفّي:
لم أزلْ أنتظركِ
مُستمتعاً بانتظاركِ
مثلما تنتظرُ شجرةٌ وحيدةٌ في الصحراء
صاعقةً أقبلتْ إليها من السماء
مليئةً بالنارِ والموت.
*********************************************************
نُشرت المقالة في كتاب (عتبات نقدية) للدكتورة سهير أبو جلود، منشورات مكتبة سامراء
للنشر والتوزيع، العراق، بغداد، 2019، تحت
عنوان عتبة حادية وثلاثون. ويُذكر أن نصّ (شجرة وحيدة) قد نُشر في المجلد الثاني من
الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أديب كمال الدين.
All
rights reserved
جميع الحقوق محفوظة